الفصل الحادي عشر
حساب الماضي
– ماذا تقول يا حسام الدين؟
– هو الحق يا مولاي، فليس في خزانة الدنانير إلا دينارٌ واحدٌ، وليس في غيرها من الخزائن
إلا ألفُ درهمٍ، ذلك كلُّ ما بقي في خزانة الدَّولةِ يا مولاي.
قال الملك مَغيظًا حنقًا لا يكاد يُصدِّقُ ما سمعته أُذُناه: انظر جيدًا يا حسام
الدين؛
فقد كان في خزائننا منذُ قريبٍ يوم مات الكامل، ستةُ آلاف ألف دينار — ستةُ ملايين —
وعشرون
ألف ألف درهم — عشرون مليونًا — فأين يذهب كل ذلك في بضعة عشر شهرًا؟!
١
قال صاحب بيت المال: ذهب كله يا مولاي إلى بيوت أصحاب العادل، وقد رأيتُ عُمَّال الخزانة
لعهده يحملون المال إلى أصحابه في الأقفاص على رءوس الحمالين.
– إذن؛ فادْعُ لي كل من تعرف ممن ناله شيءٌ من مال السلطان لندبر أمرَنا وأمره.
•••
ومضى يومان، والتأم في القاعةِ الكبرى من قصر القلعة مجلسٌ حافلٌ يضُمُّ عديدًا من
الأمراء والقضاة ورؤساء الجند ومُقدَّمي المماليك وكل ذي جاهٍ ومالٍ من بطانة العادل،
وتوسَّط الملك الصالح المجلس، فدار بعينيه في وجوههم فردًا فردًا قبل أن يتوجَّه إليهم
بسؤاله في لهجة التأنيب والملامة: لماذا خلعتم سلطانكم وكان له في أعناقكم حق
الطاعة؟
ونظر المجتمعون بعضهم إلى بعض، كأنما يَعجبون أن يؤنِّبهم على أن أتاحوا له بخلع أخيه
أن
يرتقيَ إلى العرش، ولكنهم كان لا بدَّ أن يجيبوا، فقال قائلهم: قد خلعناه؛ لأنه سفيهٌ
لا
يُحسن تدبير الأمر ولا سياسةَ الملك!
قال الملك باسمًا: فهل علمتم — وفيكم الفقهاء والقضاة وأصحابُ الرأي — أن تصرُّفَ
السفيه يَنفذ؟
٢ فَرُدُّوا على الدولة ما أخذتم من يَده؛ إذ كان السفيه لا يملك أن يهب ولا أن
يشتري ويبيع!
وعاد المجتمعون ينظر بعضهم إلى بعضٍ، ثمَّ أذعنوا راضين أو مُكرهين!
وأحصى الملكُ ما ردوا إلى الخزانةِ من المالِ، فإذا هو قد بلغ ثمانمائة ألف دينار،
وألفي
ألف وثلاثمائة ألف درهم.
•••
قالت شجرةُ الدُّرِّ: بَلى، قد أذْعنوا يا مولاي لأمرك وأعطوكَ مقادَتَهم، وكانوا
من قبلُ
أصفياءَ العادل وبطانته، فانفضُّوا عنه حين زال عنه الجاه والسُّلطان، فلا يملكُ لهم
نفعًا
ولا مضرةً؛ وإني لأخشى هؤلاء الكردَ
٣ أن يُخامرُوا عليك كما خامروا على أخيك من قبل، وكانت في أعناقهم له البيعة،
وهؤلاء أبناءُ عمومتك في الشَّامِ لا يُريدون أن يدخلوا في طاعتك راضين، فلا يزال فيهم
مَن
يُحاربك طمعًا في الاستقلال بما تحت يده من بلاد الدولة، وإنَّ منهم مَن يستنصر بالصليبيين
ليكسرَ شوكتك ويَفلَّ جُندك؛ وقد رأيتَ يا مولاي بلاءَ الترك من مماليكك في حرب العدو،
٤ فإن شئتَ كان لك جيشٌ منهم لا يثبت له جيشٌ في الأرضِ، وتثبتُ دعائمُ مُلكك فلا
تخشى من بَعدُ تَمرُّدَ الأيوبيين ولا انتقاض الكرد.
قال نجم الدين: نعم الرأي ما أشرتِ به يا أمَّ خليل، وسأشرع منذ الغد في بناء قلعة
بالجزيرة
٥ تتَّسعُ للآلافِ من المماليك، يكونون للدولة سَندًا وقوةً.
•••
ولم يتمهل الملك في تنفيذِ ما اعتزمَ، فبنى قلعة الجزيرة، واتخذ له ثمة قصرًا،
٦ وحشد في بُرج القلعة من المماليك جيشًا ذا عددٍ وقوةٍ، وجعلهم طبقات وفِرقًا،
على كلِّ فرقةٍ منهم مقدم من خاصَّة مماليكه يتولَّى أمرهم وينظر في مصالحهم، وأقطع هؤلاء
المقدمين أرضًا ورتب لهم ألقابًا ووظائف، ومنحهم سلطة الأمراء.
وقوي شأن الترك في الدولة بقدرِ ما ضَعف شأن الكرد، وأثبت جيش المماليك قوته وبأسه
في
عدَّةِ معارك مظفَّرة، وبرزتْ أسماءُ الأمراء: فارس الدين آق طاي، وركن الدين بيبرس،
وسيف
الدين قلاوُون، وعز الدين أيبك الجاشنكير، إلى عشراتٍ من الأمراء ذاع لهم صيتٌ وجاه،
وكانوا
منذ قريب أرقَّاء في يد النخاس يُساوَم عليهم بالمال!
واختفت أسماء الأمراء العظام من بني أيوب، فلا يكاد يذكرهم ذاكر، وكان لهم الجاه
والعز والكرامة!
٧
وثبتت دعائمُ الدولة، وقويَ شأنُ الملك الصالح نجم الدين أيوب، لولا بعضُ الفتن التي
يُثيرها أمراءُ الأيوبيين في الشام، وفلول الصليبيين على السَّاحلِ.