دارٌ على النيل
وجلست شجرة الدُّرِّ في شُرفةٍ مُطلَّةٍ على النِّيلِ من قصر الجزيرة، تُسرح الطرف على امتداده، فترى النخيل مُثقلةً بأحمالها تتمايل مع النسيم ولها حفيفٌ يتجاوَبُ، وشمسُ الأصيل مُنبسطةٌ على صفحة الماء في النيل وقد امتدَّت على شاطئيه المزارعُ الخُضرُ الناضرة مرصعةً بألوان الزَّهر، والصحراءُ الممتدة إلى حيث لا يُدرك الطرف غايةً ولا نهاية، قد قامت عليها الأهرام مُنتصبةً شامخة تهزأ بأحداث الزمن، فكأنما أجدَّتْ هذه المناظرُ الفاتنة للأميرة ذكرى بعيدة، فتنفَّست نفسًا عميقًا، وراحت تُدْندن بأغنيةٍ عتيقةٍ قد طال بها العهد:
وتحولت عن الشرفة قليلًا، فرأت بين يديها ماشطتها جهان، قد سَرَحتْ نظرتها إلى بعيدٍ وفي عينيها ظمأٌ وحنينٌ!
وتذكَّرت الأميرة موعدًا بينها وبين الجارية قد طالت عليه السنون، فأخذتها على الفتاة رقةٌ ومالت عليها تربِّت كتفها قائلةً: ليهنك يا جهانُ ما بلغ فَتاك من المجد والحظوة لدى مولاه، وقد حقَّ له ولك — بما بَذلَ وبما صَبرْتِ على الوفاء — أن تقطفا ثمرةَ هذا الحب، فإذا انقضى هذا الشهرُ وحانَ مَوْعدُ وفاء النيل، فسأشهدُ ويشهدُ الملك زفافَ جاريته جهان على الأمير ركن الدين بيبرس، وتكون لكما دارٌ على النيل …
فاغرورقت عينا الفتاة ومالت على يد مولاتها تقبِّلُها وتُبَلِّلُها بالدمع، شاكرةً لها ما حَبتها وحَبتْ فَتاها من النعمة.
ولم تَنم الفتاةُ منذ تلك الليلة إلا على ذكرى، ولم تستيقظ إلا على أمل، وأرَّقها الرجاءُ الدَّاني كما كان يُؤرِّقُهَا اليأسُ البعيدُ، فباتت تَعد اللياليَ وترقب القمر في سُراه، وتستنبئ ماء النيل في مجراه تحت شُرفة القصر عن موعد الوفاء.
•••
واحتجبت شجرة الدُّرِّ في مقصورتها، تبكي حتى تَشرقَ بالدمع على وحيدها الذي كانت تَرْقبُ له أعظم الآمال!
وبكت حاضنته خاتون ما بَكتْ؛ أسفًا على ما كانت تأمل أن تبلغه من الحظوة والسلطان يوم يبلغ الملك الصغير أشُدَّهُ ويجلسُ على عرش أبيه!
وبكى أمراء المماليك؛ لأنَّ مولاتهم التي يضمرون لها الحب والوِلاء ويدينون لها بالطاعة قد مات وحيدها الذي كانت تُهيئه لولاية العهد، وسيكون ولي عهد المملكة من بعده أميرًا آخر من أُمراءِ بني أيوب، لا تربطهم به آصرة وليس لهم عليه يدٌ تقتضيه لهم الوفاء!
وخيَّم على القصر والقلعة والمدينة كلها جوٌّ من الحزنِ والكآبةِ!
•••
وجلس الملك إلى زوجته الثَّكلَى يُحاولُ أن يُواسيها ويسرِّي عنها، وفي قلبه من الهمِّ ما لا يجد عزاءً منه ولا سلوانًا.
قالت شجرة الدُّرِّ: مولاي، ولكن تُراث الخالدين من بني أيوب أمانةٌ بين يديك، فهلا عَهدتَ إلى أحدٍ من أهلِكَ يحفظُ الأمانةَ بعدك؟
قالت مُواسية: عَمَّرَك الله يا مولاي حتى تُنجب وليًّا للعهد تُنشئه على عينك وتُهيئه لحمل أمانتك، ويمتد بك العمر حتى تراه يحكم باسمك فيُحسنُ الحكم والسياسة؛ إنك يا مولاي لم تَزَلْ في ربيع الحياة، وإن الله لأبرُّ بك!