مُساومة على الموت!
جلس الأمير ركنُ الدين بيبرس ساهمًا قد توزَّعه الفكر وضاقت به مذاهبهُ؛ أكلما خُيِّل إليه أنه قاب قوسين أو أدنى مما يأمل، تنكَّرَ له حظه واعترضت سبيله المقادير؟!
إنه لم يَزلْ منذ سنين يرقُب ذلك اليوم الذي يُزَفُّ فيه إلى فتاته ليسعدَ إلى جوارها فترةً من العمر في دارٍ على النيل، تُغنِّي له ويستمع إليها هانئًا نشوان، ولكن ذلك اليوم لا يريدُ أن يأتي، ولعلَّه لا يأتي أبدًا؛ فكلما بدا له أنه قريبٌ قريبٌ على مدِّ يده، أو على مد عينيه، ماجتْ من حوله الأحداثُ فاحتملته أمواجها إلى بعيدٍ، لا تناله يدٌ ولا تمتدُّ إليه عينان، فلا يزالُ مُقبلًا مُدْبِرًا بين الرجاء واليأس، وفتاته المحبوبة من دونها أسوارٌ وحُجُبٌ، قد حالت غيرةُ الأمير وتقاليدُ القصر بينه وبينها، فلا يكاد يراها أو يتحدَّثُ إليها ويستمعُ إلى حديثها إلا في النُّدرة النادرة، وفي العام بعد العام!
فبينما هو في مجلسه ذاك ساهِمًا يفكِّر، إذ مثل بين يديه الأمير عزِّ الدين أيبك، يدعوه إلى مُقابلة شجرة الدُّرِّ.
ووقف بباب مقصورتها مُستأنيًا حتى تأذن له، ثم دخل.
وكانت جهان إلى جانب مولاتها.
قالت شجرة الدُّرِّ: لأمرٍ ما دعوتك يا أميرُ رُكنَ الدين.
ثم نَقلتْ عينيها بين الأمير وصاحبته، ولكن الأمير وصاحبته مما غلبهما من الوجد لم يكونا يريان أو يسمعان.
فابتسمت الأميرة واستأنفت: قد كنتُ أرجو يا بيبرس لو أنَّ القدر قد وَفى لي ولكما؛ ولقد حملتَ يا أميرُ كثيرًا من همِّ الدولة، فلستُ أكلفك إلى ذلك أن تحمل همَّ من بقي ومن مات، فإن شئتَ جلوتُ عليك عروسك غدًا أو بعد غدٍ إن طاب لك التعجيل!
رفرف قلب جهان بين أضالعها رفرفة الطائر، وأنغضَ بيبرس رأسه حياءً وهو يقول في تلعثُمٍ: لا زلتِ وليةَ النعمة يا مولاتي، وما كان لي ولا لجهانَ أن نلتمس أسباب المسرَّةِ وما تزالُ في القلبِ حسراتٌ على فقد مولانا الملك المنصور خليل!
وبرق الدمع في عيني الأميرة، وعضَّ بيبرس على شفته، وطأطأت الفتاة رأسها في انكسارٍ.
قالت شجرة الدُّرِّ: فليكن زفافكما إذن غداةَ مَقدمكَ مُظفَّرًا من حرب صاحب دمشق، ويومئذٍ أسأل مولاي الملكَ الصالح أن يُوليك إمارةً من إمارات الشام تتمتَّعُ فيها أنت وعروسك جهان بما تأملان من النعمة والسلام؛ جزاءَ ما بذلتَ وما صَبرَتْ.
قال بيبرس هادئًا: في طاعتك يا مولاتي وطاعة مولاي الملك الصالح، يطيبُ لي أن أبذُلَ دمي.
ثم حَيَّا واتخذ طريقه إلى الباب، وبين قلبه وعقله صراعٌ تكادُ نظرةُ عينيه تكشف سِرَّهُ!
•••
وتهيَّأَ الملك الصالح للخروج بجيشه إلى الشَّامِ ليقضي على ما بقي من فتنةِ أصحاب المطامع ويوطِّئ لعرشه؛ وصحبتْه شجرةُ الدُّرِّ وزيرةً ومُشيرةً ومُؤنسة؛ وما كان له أن يخليها في القاهرة ويمضي إلى سفرٍ بعيدٍ.
وكان مُقدم جيشه فخر الدين بن الشيخ، يُؤازره من أمراء الجند: عز الدين أيبك، وفارس الدين آق طاي، وركنُ الدين بيبرس، وسيف الدين قلاوُون، وتَرك في القاهرة نائبه حسام الدين مفوضًا في الحكم حتى يعود.
وتوالت هزائم العدو وتهاوتْ معاقلهم معقلًا وراء معقلٍ، وأوشكت أن تَطهُرَ الشامُ من فلولِ المتمردين على عرش الملك الصالح أيوب.
قالت شجرة الدُّرِّ مترفِّقة: متَّعك الله يا مولاي بالصِّحة وأنعمَ بك، فهلا أخبرتني ماذا بك؟
قالت: هوِّن عليك يا مولاي، فوالله لا يكونُ إلا ما تَقرُّ به عينًا، ويبوءون بالخسران في حملتهم هذه كما باءوا في كلِّ ما سبق من حملاتهم الغاشمة، وإنَّ دمياط لأمنعُ مما يؤمل هؤلاء الصليبيون، وإنَّ بها من الجند والعتاد وأسباب الحرب ما يدفعُ عنها، ويردُّ إلى البحر كلَّ من تحدثه نفسه باقتحامها، وحسبكَ مَن فيها من بني كنانة الأنجاد.