هزيمة البطل!
وتلبَّثَ الجيشُ فترةً في قبرص حتى يستكمل أهبته قبل أن يستأنف سيره إلى دمياط، وبلغتْ أنباؤه الملكَ الصالح أيوب، فأسرع عائدًا إلى مصر، واتخذ المنصورة مركزًا للقيادةِ العامَّةِ، وبعث بالأمير فخر الدين بن الشيخ إلى دمياط على رأس جيشٍ كبيرٍ لتدبير أسباب الدفاع.
ولم تكن هذه أولى حملات الصليبيين على دمياط؛ إذ كان موقعها على مصبِّ الفرع الشرقي للنيل، مُغريًا لهؤلاء الغزاة على قصدها، ليركبوا النِّيل منها إلى القاهرة فلا يعترضَ سبيلهم شيءٌ — فيما يزعمون — دون امتلاك البلاد.
•••
كان الأمير فخر الدين هو كل مَن بقي من ذوي الحسب الرفيع من أُمراءِ دولة بني أيوب في مصر، وكان أميرًا مهيبًا له وقارٌ وسَمْتٌ، وفيه أريحيةٌ ونخوةٌ، وله مُشاركة في العلم والأدب، وماضٍ في الجهاد، ووجاهةٌ بين الناس، وكان إلى ذلك كله أثيرًا لدى الملك الصالح؛ إذ كان أخًا بالرضاع لأبيه الملك الكامل، وله عليه يدٌ؛ إذ هيأ له السبيل لاعتلاء العرش بعد خلع أخيه العادل، وقد أدْنَتْهُ مكانته تلك من الملك؛ فلا يُوصَد دونه باب، ولا يعترض سبيله حجاب، وكان يتمتع من الجاه والحظوة لدى شجرة الدُّرِّ بمثل ما يتمتع به لدى مولاها؛ إذ كانت تُقَدِّر له بلاءه في خدمة الدولة وتعرف مكانه، فلمَّا بَرَّحَ الدَّاءُ بالملك الصالح واقترب موعدُه، لم تجد شجرةُ الدُّرِّ حولها من الأمراء من تُؤَهِّلُهُ صفاته لمؤازرتها فيما تَضطلع به من الأعباء غير الأمير فخر الدين، فكأنما أرادت أن تُمهِّدَ له السبيلَ إلى أملٍ تأمُلُ أن يبلغه في يومٍ قريبٍ، فأشارت على الملك أن يُولِّيهِ قيادة الجند.
وكأنَّما أحسَّ فخرُ الدين بما يصطرعُ حوله من نوازع الخير والشَّرِّ، فامتطى فرسه على رأس الجيش إلى دمياط وفي نفسه قَلقٌ وريبةٌ، لا يدري أين تنتهي به المقاديرُ، ولا كيف تكونُ عاقبةُ أمره وأمر الدولة، وهذه صحة الملك تزدادُ كلَّ يومٍ سُوءًا، فلولا ثباتُ جنانه وقوةُ نفسه لأثبتهُ المرضُ في فراشه لا يملك أمرًا ولا نهيًا، وحقَّت على البلاد الهزيمة!
•••
ونزل العدو على الساحل، فما كانت إلا كرَّةٌ بعد كرَّةٍ حتى تقهقرت قوات الدفاع وأُلقيَ الرعبُ في قلوب الحامية، فلم تَثبت لهجوم الفرنجة وأخلتْ معاقلها!
وجاسَ العدو خلال الديار يهتِكُ ويفتِكُ ويسفِكُ، ومضى الجيش المصري على وجهه موليًّا أدباره لا يقف في سبيله شيء، ووراءه الآلاف من أهل المدينة رجالًا ونساءً وأطفالًا يتخطفهم الموت على الطريق، وقد امتلأت الأرض بجثث القتلى وأجساد الجرحى، تَطؤُها أقدامُ الفارِّين وتحطمها سنابكُ الخيل، واستولى الفرنجةُ على دمياط بلا كبير عناء، لم يحمها بنو كنانة ولا جيش فخر الدين!
وبلغ الفارون المنصورة وشاعت أنباء الهزيمة القاصمة وتناقلتها الطيرُ إلى مُختلف البلاد.
وارتاع الملك ولكنه لم يَفقدْ ثباته، فأمر بأُمراءِ الجندِ فَعُلِّقُوا على الأعواد، وشنق خمسين أميرًا من بني كنانة، وأمر أن يُحمل إليه رأسُ الأمير فخر الدين.
قالت شجرة الدُّرِّ: وماذا كان يملكُ فخرُ الدين أن يفعل يا مولاي وقد انخزل بنو كنانة وانفضَّ عنه عسكره؟
قال الملك: كان يملك أن يثبت على فرسه وحيدًا حتى يُدرِكَهُ الموت!
قالت: ذلك حقٌّ يا مولاي، ولكن مَنْ تُراه يقوم مقامَ فخر الدين من أُمرائِكَ إن هَلك، أفلا يشفع له بلاؤه في خدمة الدولة منذ كان، وما خاضه من المعارك الدَّامية؟
قال الملك: فقد وهبتُ لك دمه يا شجرة الدُّرِّ!
قالت: عَمَّرَك اللهُ يا مولاي حتى تقتضيه ثمنَ هذه المنَّة.
ولكن الملك الصالح لم يُعمَّرْ طويلًا حتى يشهد بلاء فخر الدين في دفاع العدو، فمات في ليلة النصف من شعبان سنة ٦٤٧.