كبير الأمناء
العدوُّ على الأبواب قد ملك ناصيةَ الطريق، ورابطتْ سفنه في النيل، وتُوشك خيله أن تطأ أرض الوادي فتحوزَه من أطرافه.
والملكُ مسجَّى في فراشه قد أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة فلن يفتحهما أبدًا، ولم يُوَلِّ عهدَه أحدًا يحمل راية الجهاد من بعده.
وولدُه الوحيدُ بعيدٌ في حصن كيفا على حدود المشرق، وليس له من الحزمِ وحُسنِ التدبير ما يُؤهِّله لولاية العرش في هذا الوقت العصيب.
وأمراءُ بني أيوب في الشام يتواثبون تواثُبَ الضفدع: يُخيَّلُ إلى من يراهُ أنه نشاطٌ وجهادٌ، وما هو من ذلك في شيءٍ، وكلهم يطمعُ في العرش، وما فيهم أهليةٌ لحمل تبعات العرش.
وهؤلاء أمراء المماليك لا يزالُ في دمهم من طباع الأرقاء، قد بلغوا مرتبة الإمارة، فإنَّ كلًّا منهم لا يزالُ ينظرُ إلى زميله نظره إلى الرَّقيقِ المجلوب ولا ينظر إلى نفسه.
فأين يبلغ شأنُ هؤلاء وأولئك جميعًا إذا عرفوا أنَّ العرش قد خلا من سيِّده، وأنَّ ربَّ التَّاج قد مات؟ وماذا يفعل العدو ولم يزل في نشوةِ انتصاره الأُولى؟
وأسبلت شجرة الدُّرِّ أجفان الملك الشهيد، وشدَّت لثامه ومدَّت على وجهه الغطاء، ثم أغلقت من دُونه الباب وأوَتْ إلى خلوتها تُفكِّرُ …
امرأةٌ في رونق الصبا قد فقدت رجُلها …
ملكةٌ ذات سلطان تُوشك أن تنزل عن العرش …
قائدٌ في المعركة قد أُحيطَ به، ويُوشك أن يتخلَّى عنه عسكره …
كل أولئك شجرة الدُّرِّ!
الرجل والعرش والنصر؛ ثلاثة أهداف بعيدة يجب أن تحرص على بلوغها.
وازدحمت الصور على عينيها مُتتابعة لا تعرف ما تأخذُ منها وما تدعُ، واحتضرها الماضي القريبُ والبعيدُ، وذكرت فقيدَها الصبي الملك المنصور خليلًا، آه لو كان اليوم حيًّا!
وتذكرت إلى ذلك حديثَ أبي زهرة المنجم: «ستبلغين به العرش يا مولاتي، وتهتف باسمه الخلائق في شرق الأرض وغربها.»
أين تَذهب بها خواطرُها الساعة؟ ما لها ولهذا الحديث، وإنَّ عليها أن تدبِّرَ الأمر قبل أن يدريَ العدو بمهلك الملك، فيشتدَّ أزره ثم تكون الطامَّة، وتفقد الزوج والعرش والمعركة جميعًا، ومَن يدري! فقد تفقد حياتها أو تفقد حريتها، فتعود جاريةً كما بدأتْ، يساوَمُ عليها في سوقِ السَّبايا!
وأجمعتْ نيَّتها على أمرٍ، فبعثتْ تدعو إليها الأمير فخر الدين.
•••
– هذا العدو قد تجاوز باب الدار يا فخر الدين، ولا مَلكَ على العرش، وقد دعوتك لترى رأيكَ قبل أن يعرف العدو وتَقعَ الكارثة.
– الرأيُ ما تَرَيْنَ يا مولاتي، وإنَّك لأعلى عَينًا وأخبرُ بسياسة هذه الدولة، وقد عاصرتِ أحداثها بضعَ عشرة سنة، ولقد فقدتْ مصرُ ملكها الشهيدَ، ولكنها لم تفقد حُسن تدبير شجرة الدُّرِّ.
– ماذا تعني يا فخر الدين؟
– لستُ أعني إلا ما قلتُ يا مولاتي؛ فإنك لَأهلٌ لاحتمال تبعاتها حتى تنجلي هذه الغمة.
– ولكنني امرأة يا أمير، فمن أين لي أن أبلغ هذه المنزلة؟
– ولكن صفية خاتون يا أمير، كانت تحكم باسم حفيدها الصبي صلاح الدين.
– وباسم ولدك الشهيد الملك المعظم خليل، تجلسين على عرش مصر وتحكمين!
اغرورقت عينا الملكة الشَّابة وقالت في صوتٍ يختلج: ولكن خليلًا يا فخر الدين قد مات، لم يجلس على العرش ولم يوصِ به لأحدٍ من بعده.
– ولكننا في مصر يا أمير — لا في الهند ولا في خراسان — حيثُ تجدُ من أمراء آل أيوب أو من أشياعهم من يقول في غير تعريض: هل كانت شجرة الدُّرِّ في قصر الملك الصالح إلا جارية، ارتقى بها السعدُ حتى بلغتْ منه منزلةَ الزوج وأُمِّ الولد؛ فكيف تطمعُ في أن تجلس على عرش فرعون؟ ويَنسوْن يا أميرُ ما أفاضتْ شجرة الدُّرِّ من بِرِّها عليهم، وما بذلتْ للدولة، وما تُضمر من نيَّةِ الإصلاح والخير.
أشرق وجه الملكة بابتسامة رضا، وهي تقول: صدقتَ يا أمير، وإنَّ شجرة الدُّرِّ بما بذلتْ للدولة وما تُضمِرُ من نِيَّةِ الإصلاحِ لأدنى منزلةً إلى العرش من مثل كافور، ولكن …
– مولاتي!
– إنَّنِي امرأةٌ ذاتُ حجابٍ يا فخرَ الدين، وليس يَجملُ بي ولا ينبغي لي — بعد الملك الصالح — أن أَبْرُزَ إلى الرجال أو أشهدَ مجلس الحكم والمشورة.
أنغضتْ المرأة رأسها من حياءٍ، ثمَّ رفعته شامخة الأنف وقالت في كبرياء: فقد اخترتُك كبيرًا لأُمنائي يا فخر الدِّينِ إن طاب لك أن تحمل هذه التبعة!
تعاقبتْ على وجه الأمير ألوانٌ شتَّى، واصطرعتْ في رأسه خواطرُ جَمَّة، وحضرتْه ذكرياتٌ وأمانيُّ، وانبهرتْ أنفاسُه فلم يملك جوابًا سريعًا!
واستطردت الملكة: ولكن علينا قبل ذلك كله يا أمير أن ندبِّر أمرنا وأمرَ رؤساء المماليك وأُمراء الجند، فإنه ليبدو لي أنهم — وقد مات مولاهم ووليُّ أمرهم — قد يَرَوْن من حقهم أن يُستشاروا، وقد بلغوا من الجاهِ والقُوَّةِ مبلغًا ينبغي أن يُحسبَ حسابه.
قال فخر الدين: وماذا يعني هؤلاء المماليك يا مولاتي من ذلك الأمر، وإنما هم جندٌ وحاشية، ليس عليهم إلا أن يسمعوا ويُطيعوا!
– بلى، إنهم جندٌ وحاشيةٌ، فهل نسيتَ العدو الذي يتربَّصُ بنا يا أمير؟ فإنَّ علينا أن نسترضيَ هؤلاء الجندَ قبل أن نقتضيهم حق الولاء والطاعة، لنطمئنَّ إلى صدق بَلائهم في قتال ذلك العدو.
ثم أطرقت الملكةُ هنيهة تُفكِّرُ، وعادت تقولُ: وإني لأخشى إلى ذلك أن يدريَ أولئك الصليبيون بمهلك الملك الصالح، فيهتبلوا الفرصة قبل أن يستتب لنا الأمر، ويتوغلوا في البلاد فلا نستطيعُ لهم دفعًا، والرأي عندي أن نكتم ذلك النبأ، فلا يدري به أحدٌ ولا يعرفه العدو حتى نستطيع تدبير أمرنا معه.
قال الأمير مُرتابًا: ويُمكن ذلك يا مولاتي؟!
قالت: لا عليكَ من ذلك يا فخر الدين، ودعْ لي تدبيرَ الأمر كله.
•••
واسْتسرَّ النبأ فلم يدرِ به إلا بضعة نفر: شجرةُ الدُّرِّ وفخر الدين والطبيبُ هبةُ الله والخادم سُهيل، ثم الأمير حسام الدين بن أبي علي نائب الملك في القاهرة.
وحُنِّط جُثمان الملك الصالح وأُودِعَ صُندوقًا من خشبِ الصندَل، ثمَّ حُمل في سفينةٍ على النيل إلى القاهرة لا يدري أحدٌ من مَلَّاحيها ماذا تحملُ؛ وأرسيت السفينةُ على ساحل جزيرة الروضة، وحُمل الصندوق مُغلَّفًا بأسراره إلى القصر.
واستمرَّت الرسوم في القصر الملكي بالمنصورة جاريةً على عادتها، لم تتغيَّر منها شيءٌ مما يألفه الناس: تُرفع الكتب والأحكام إلى القصر ليرى الملك فيها رأيه، فتخرج وعليها توقيعُ الملك برأيه وخطه، لا يشكُّ مَن يراها أنَّ الملك قد قرأها وجرى قلمه عليها بما جَرى.
ويُعد طعامُ الملك في موعده، ويُمد سماطُه ثم يُرفع، لا يشكُّ مَن يرى ذلك أنَّ الملك قد أكل طعامه وشرب شرابه.
وتَصدر الأوامر إلى الأمراء والقادرة ورؤساء الجند وعليها طابعُ الملك وخطِّهِ، لا يشكُّ من تَصدُرُ إليه أنها أوامر الملك الذي يدين له الجميع بالولاء والطاعة.
ويستأذن عليه من يستأذن من أهله وخاصته وأصحاب الرأي في دولته؛ فيخرج إليه الحاجبُ مُعتذرًا بأنَّ الملك مُتعبٌ ولا يستطيع أن يَلقى أحدًا.
شيءٌ واحدٌ أثار الريبة في نفوس بعض ذوي الإدلال من الخاصَّةِ، هو كثرة تردُّد الأمير فخر الدين على القصر مُصبحًا ومُمسيًا، كأن له وحده الحظوةَ من دون الأمراء، وكان منذُ قريبٍ متهمًا يطلبُ الملك رأسه؛ لأنه لم يُحسن الدفاع عن دمياط!
ماذا تغيَّر من الأمر فَدَنا وحظيَ حتى ليس لأحدٍ غيره من الأمراء في القصر حُظوة ولا مكان؟
وتذكَّر مَن تذكَّر ما كان من مرض الملك وشكواه من علَّةٍ في الصدر وقُرحةٍ في المأبض، ولحظ من لحظ أن الطبيب هبة الله يلزم القصر، ولكنَّه لا يكاد يخفُّ إلى عمل أو يغادرُ حجرته.
وهمس هامسٌ في أذن صاحبه: أحسب أن الملك قد مات.
– بلى، إنِّي أكادُ أستيقنُ ذلك يقينًا.
– فما هذه الكتب التي تخرج كل يومٍ وعليها توقيعُ الملكِ بخطِّهِ؟
– عِلمُ ذلك عند شجرة الدُّرِّ وخادمها سهيل، وكلاهما كاتبٌ يُحسن إمساك القلم.
– وتراها تجرؤ؟
– وممَّ تخاف؟
– ولماذا تُخفي؟
– عِلمُ ذلك عند الأمير فخر الدين!