الفصل الثامن عشر

غدر وثأر

وبلغ الملك المعظم توران شاه مصر، فنزل بالصالحية،١ واستقبله الأمير حسام الدين نائب السلطنة مُهنِّئًا، فخلع عليه الملك وردَّه إلى نيابته.

وأُذيعَ يومئذٍ نَعيُ الملك الصالح نجم الدين أيوب — في منتصف ذي القعدة — بعد مهلكه بثلاثة أشهر، ونُودي بتوران شاه سلطانًا على البلاد.

ورحل السلطان إلى المنصورة، فنزل بدارِ أبيه، وخلا بأصحابه يدبِّرُ أمره.

وكان توران شاه — كما وصفه أبوه — فتًى طيَّاشًا٢ سفيهًا ضعيف الرأي مُنقادًا للشهوات، ليس له همةٌ ولا مروءة، فاستطاع أصحابُ السوء أن يغلبوه على إرادته ويستبدُّوا بالأمر دونه؛ وزينوا له أن يبطش بأصحاب أبيه لينفردوا بالرأي والمشورة ويتخذوه في يدهم أُلعوبة، وأوغروا صدره٣ على امرأة أبيه شجرة الدُّرِّ، وعلى أمراء المماليك.

وغدر توران شاه بآق طاي، وكان قد وعده في الطريق أن يُقطعه بعض البلاد.

وعزل حسام الدين عن نيابته، ولولاه ما دعاه داعٍ إلى عرش مصر.

وأقصى قلاوُون وأيبك وبيبرس وكل التركمانية من مماليك أبيه، وكانوا دعاتَه وحزبَه.

وأرسل رسله إلى دار الأمير فخر الدين بن الشيخ، فاحتملوا إليه كلَّ ما فيها من مالٍ ومتاعٍ ورقيقٍ، فلم يدعوا فيها شيئًا يقوَّم بمال!

وبعث إلى شجرة الدُّرِّ يُناقشها حسابَ ما أنفقتْ وما أبقتْ من تركة أبيه، ويسألها أن تردَّ إليه ما تحت يدها من مالٍ وجواهرٍ.

وجاس خلال غُرفات القصر يُعابث الغلمان المُرْدَ٤ والجواري، واقتحم على حظايا أبيه خدورهن، فلم يترك على وجهٍ حجابًا، وأسفر عن وجهٍ وقاح.٥
وأهرعتْ جهانُ ذات صباح إلى مولاتها وقدْ قُدَّ قميصها:٦ الحماية يا مولاتي!

– ماذا بك يا جهان؟

– السلطان يا مولاتي!

– مالك وللسلطان؟

– لا يريد أن أكون لبيبرس!

– وما شأنه ببيبرس؟

– لا شأن له به يا مولاتي، ولكنه يدعوني إلى ما لا أُطيقه ولا يُطيقه بيبرس.

– أتعنين …

– نعم يا مولاتي، وقد قدَّ قميصي ففرتُ من بين يديه ألتمس حمايتك.

– وإذا أعاد محاولته يا جهان؟

– أقول له إنني لبيبرس، ولن أكون لغيره!

– وإنَّ أبى أن يستمع إليك؟

– لن يغلب إِباؤه إِبائي!

– فإذا اغتصبك يا جهان؟

– أذودُ عن نفسي بيدي حتى أموت، ولا أخونُ أمانةَ بيبرس!

– حَماك اللهُ يا جهان!

•••

ووَفتْ جهان بما وعدت، فلم تخن أمانة بيبرس، ذلك أنَّ الملك العابث لم يكفَّ عن مُحاولته تلك الدنيئةِ، ولم يعفَّ حين أُتيحت له الفرصة، فجدَّ في أثر الفتاة البريئة يُريدُ أن يغتصبها، فأبت عليه الفتاة ما أراد، تصوُّنًا ووفاءً،٧ ولكن كبرياء الملوكية أبت عليه أن يتراجع، فاصطرع الشرف والكبرياء، وحدثت المأساة المروِّعة!

وكان بيبرس يدفع بسيفه في أقفية المنهزمين دفاعًا عن بلاده ومليكه، حين كانت جهان تدفع بيدها في وجه ذلك المليك مُستبسلة لا تُريدُ أن تخونَ أمانة بيبرس.

وحُملت على أعناق الرجال عذراءَ طاهرةً لتُوارَى الثرى، وحُمِلَ النَّبأُ إلى بيبرس غداةَ عودته مُظفَّرًا من أعظم معركةٍ خاضتها مصر ضد الغزاة، وكان هو بطلها المجلَّى.

وأقسم بيبرس أن يثأر لفتاته ولو تخضَّبَ العرش بالدم!

•••

وأسرف توران شاه في الشراب واحتجب، ولم يَدَعْ أحدًا من الأمراء والسادة إلا ناله بمساءة، وانتزع السلطات من أيدي الأكفاء ليضعها في أيدي الأراذل من مماليكه وندمانه،٨ وكأنما بدا له وقد صار إليه العرش أنَّ من حقِّهِ أن يفرض على أهل البلاد جميعًا أن يستأسروا له٩ طائعين ويملِّكوه أموالهم ودماءهم وأعراضَهم أيضًا.

وضاق به الشعب والأمراء والمماليك جميعًا، ولم يجلس على العرش إلا بضعة أسابيع.

وتدانت الرءوس، وتهامست الشفاه، وتبادل المؤتمرون الرَّأيَ بينهم طويلًا ثم انتهوا إلى فكرةٍ.

وكان الملك المعظم في فارسكور قد أمر، فنصب له على شاطئ النيل دهليزٌ سُلطانيٌّ، وأُقيم إلى جانبه بُرجٌ من خشبٍ، وهيئت له أسبابُ القصف والمسرة، فمُدَّ السماط، وأوقدت الشموع ورُصَّت القناني والكئوس.

ونال منه الشرابُ فاستلَّ سيفه وأخذ يطيح رءوس الشمع وهو يصيح في نشوة: كذلك أفعل بالمماليك البحرية!

وتسلَّل إليه بيبرسُ وفي يده سيفٌ مسلولٌ، فأهوى به عليه وهو يقول في انفعالٍ وغيظٍ: بل كذلك نفعل نحنُ بك!

ونال السيف يدَه ولم يُصب منه مقتلًا، فخرج صائحًا والدمُ يقطر من يده: ما فعل بي ذلك إلا البحرية،١٠ والله لا أبقيتُ منهم بقية!

فكأنما كانت كلمته تلك إغراءً للبحرية بالإجهاز عليه، فثاروا مُندفعين إليه، فلجأ إلى البرج الخشبي يحتمي به، فحصروه في البرج وأشعلوا فيه النار!

وعاين الموتَ، فصاح من أعلى البرج: من يَصْطنعني١١ فينقذني وله عرشي!

ولكن الريح قد حملت صيحته فلم يستمع إليها أحد، وحصرته النار حتى شَوتْ جلده، فألقى بنفسه إلى النيل وهو يصيح في يأسٍ: ليس بي حاجةٌ إلى ذلك العرش، دعوني أرجع إلى حصن كيفا!

وابتلع اليم كلماته فلم يستمع إليها أحد، كما لم يستمع أحد إلى كلمته تلك.

وألقى آق طاي بنفسه وراءه في اليم فأجهز عليه بسيفه في الماء؛ فمات طعنًا وحرقًا وغرقًا، ثم حُملت جثته إلى الجسر حيث ظلَّت ثلاثة أيام حتى جَافَت،١٢ فلم تُدفَن إلا بشفاعة رسول الخليفة العباسي،١٣ فوُوريت الترابَ بلا احتفالٍ!
١  مدينة في مديرية الشرقية على الطريق البري إلى القاهرة، بناها الملك الصالح نجم الدين أيوب — على أنقاض مدينة كانت قائمة من قبل في مكانها — ولذلك سميت «الصالحية».
٢  كثير الطيش.
٣  ملئوا صدره حقدًا.
٤  الغلام الأمرد: الناعم الخد، الذي لم تنبت لحيته بعد.
٥  كشف وجهه بغير حياءٍ!
٦  تمزق قميصها!
٧  صيانة لنفسها ووفاء لصاحبها!
٨  الندمان: جمع نديم، وهو الذي ينادم على الشراب.
٩  أن يكونوا أسرى له.
١٠  يعني المماليك البحرية، وانظر التعليق السابع [الفصل الحادى عشر: حساب الماضي].
١١  من يصنع معي جميلًا؟
١٢  أنتنت!
١٣  كان في مصر يومئذٍ رسول من قِبل الخليفة العباسي ليشهد بيعة السلطان، كما كانت العادة في عهد الأيوبيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤