غدر وثأر
وأُذيعَ يومئذٍ نَعيُ الملك الصالح نجم الدين أيوب — في منتصف ذي القعدة — بعد مهلكه بثلاثة أشهر، ونُودي بتوران شاه سلطانًا على البلاد.
ورحل السلطان إلى المنصورة، فنزل بدارِ أبيه، وخلا بأصحابه يدبِّرُ أمره.
وغدر توران شاه بآق طاي، وكان قد وعده في الطريق أن يُقطعه بعض البلاد.
وعزل حسام الدين عن نيابته، ولولاه ما دعاه داعٍ إلى عرش مصر.
وأقصى قلاوُون وأيبك وبيبرس وكل التركمانية من مماليك أبيه، وكانوا دعاتَه وحزبَه.
وأرسل رسله إلى دار الأمير فخر الدين بن الشيخ، فاحتملوا إليه كلَّ ما فيها من مالٍ ومتاعٍ ورقيقٍ، فلم يدعوا فيها شيئًا يقوَّم بمال!
وبعث إلى شجرة الدُّرِّ يُناقشها حسابَ ما أنفقتْ وما أبقتْ من تركة أبيه، ويسألها أن تردَّ إليه ما تحت يدها من مالٍ وجواهرٍ.
– ماذا بك يا جهان؟
– السلطان يا مولاتي!
– مالك وللسلطان؟
– لا يريد أن أكون لبيبرس!
– وما شأنه ببيبرس؟
– لا شأن له به يا مولاتي، ولكنه يدعوني إلى ما لا أُطيقه ولا يُطيقه بيبرس.
– أتعنين …
– نعم يا مولاتي، وقد قدَّ قميصي ففرتُ من بين يديه ألتمس حمايتك.
– وإذا أعاد محاولته يا جهان؟
– أقول له إنني لبيبرس، ولن أكون لغيره!
– وإنَّ أبى أن يستمع إليك؟
– لن يغلب إِباؤه إِبائي!
– فإذا اغتصبك يا جهان؟
– أذودُ عن نفسي بيدي حتى أموت، ولا أخونُ أمانةَ بيبرس!
– حَماك اللهُ يا جهان!
•••
وكان بيبرس يدفع بسيفه في أقفية المنهزمين دفاعًا عن بلاده ومليكه، حين كانت جهان تدفع بيدها في وجه ذلك المليك مُستبسلة لا تُريدُ أن تخونَ أمانة بيبرس.
وحُملت على أعناق الرجال عذراءَ طاهرةً لتُوارَى الثرى، وحُمِلَ النَّبأُ إلى بيبرس غداةَ عودته مُظفَّرًا من أعظم معركةٍ خاضتها مصر ضد الغزاة، وكان هو بطلها المجلَّى.
وأقسم بيبرس أن يثأر لفتاته ولو تخضَّبَ العرش بالدم!
•••
وضاق به الشعب والأمراء والمماليك جميعًا، ولم يجلس على العرش إلا بضعة أسابيع.
وتدانت الرءوس، وتهامست الشفاه، وتبادل المؤتمرون الرَّأيَ بينهم طويلًا ثم انتهوا إلى فكرةٍ.
وكان الملك المعظم في فارسكور قد أمر، فنصب له على شاطئ النيل دهليزٌ سُلطانيٌّ، وأُقيم إلى جانبه بُرجٌ من خشبٍ، وهيئت له أسبابُ القصف والمسرة، فمُدَّ السماط، وأوقدت الشموع ورُصَّت القناني والكئوس.
ونال منه الشرابُ فاستلَّ سيفه وأخذ يطيح رءوس الشمع وهو يصيح في نشوة: كذلك أفعل بالمماليك البحرية!
وتسلَّل إليه بيبرسُ وفي يده سيفٌ مسلولٌ، فأهوى به عليه وهو يقول في انفعالٍ وغيظٍ: بل كذلك نفعل نحنُ بك!
فكأنما كانت كلمته تلك إغراءً للبحرية بالإجهاز عليه، فثاروا مُندفعين إليه، فلجأ إلى البرج الخشبي يحتمي به، فحصروه في البرج وأشعلوا فيه النار!
ولكن الريح قد حملت صيحته فلم يستمع إليها أحد، وحصرته النار حتى شَوتْ جلده، فألقى بنفسه إلى النيل وهو يصيح في يأسٍ: ليس بي حاجةٌ إلى ذلك العرش، دعوني أرجع إلى حصن كيفا!
وابتلع اليم كلماته فلم يستمع إليها أحد، كما لم يستمع أحد إلى كلمته تلك.