ضيافة في سجن
ومشت السيدة يسبقها شابان ويتبعها شابان، كأنما يقيس كل منهم خطوته حتى لا يتأخَّر عن موضعه من زملائه، على أنَّ السيدة — فيما يبدو — لم تسلك ذلك الطريق من قبل مُنفردة ولا مُصاحَبة؛ فقد كانت حركة رأسها في ذلك الطريق تُنبئ عن رغبتها في أن تحقِّقَ النظر في كلِّ ما تقع عليه عينها من صور الطريق، أو لعلَّ ذلك كان مظهرًا من مظاهر القلق النفسي الذي يبدو في نظرة عينيها.
•••
وكان لويس التاسع جالسًا في جانبٍ من الغرفةِ على حشية منصوصة على بساطٍ ذي تصاوير، وقد أُسند ظهره إلى وسادةٍ على الحائطِ، حين سمع على الباب طرقًا خفيفًا، فقال في صوتٍ خافتٍ كالهمس: ادخل.
فدخلت السيدة وخلفت الشابين ينتظران خلف الباب، فلم تكد تتوسط الحجرة حتى رفعت عن وجهها اللثام، ونضتْ عن جسدها ذلك المعطف السابغ، فلم يكد يراها لويس حتى صاح في لهفةٍ وقلقٍ: مرجريت! ما جاء بك؟
وهبَّ واقفًا، ثم اندفع إلى زوجته مشوقًا قلقًا قد توزَّعته الخواطر واختلطت به مذاهبُ الفكر.
قالت مرجريت في هدوء: جئتُ لأُقيم معك في هذا الأسر يا لويس، حتى يأذن الله بالفرج!
– رُوَيدَك يا لويس؛ فما قادني أحدٌ إلى الأسر، وإنما استأسرتُ لهم طائعةً لأُونس وحشتك يا حبيبي!
– أنتِ! تستأسرين لهؤلاء الكفار طائعةً من أجلي يا مرجريت؟
– من أجلك يا لويس، فما تطيبُ لي الحريةُ وأنت في وحشة الأسر لا تجدُ من يُؤنسك ويُسرِّي عنك؛ فهل يسوءك يا لويس أن تشاطرك زوجتك آلامك، لتنال معك من نعمة السماء أجرَ الجهاد والصبر؟!
– الآلام والجهاد والصبر؛ ما أعظم ما تصفين يا مرجريت، وما أقلَّ ما نستحق من الأجر؛ لو لم تكن هذه الخاتمة لأمَّلتُ أن يكون ما تصفين من الأجر، أما وقد كان ما تريْن فإنني لم أفعل شيئًا إلا أن سفكتُ دم عشرات الآلاف من أهل الصليب، فعلى رأسي تلك الدماءُ جميعًا يا مرجريت!
– تلك إرادة السماء يا لويس! وماذا كنتَ تملك أن تفعل غير ما فعلت؟
– كنتُ أملك أن أموت على صهوة جوادي وفي يدي سيفي يقطر من دم هؤلاء الكفار!
– ومن يثأر لك ولأولئك الآلاف إن كان ذلك يا لويس؟
– وهل تأمُلين يا مرجريت أن أعود إلى الحرية فأثأر لأولئك الآلاف؟
– ستعود إلى الحرية يا لويس، وتعتلي صهوة جوادك، وتُرْوي ظمأ سيفك من هؤلاء الكفار، وتثأر لمن قتلوا من الشهداء!
– هيهات يا مرجريت أن يُطلق هؤلاء المسلمون لويسَ ملكَ فرنسا وقد حَصَل في أيديهم، إنهم ليعلمون ما يحمل لهم في صدره من البغضاء وما يتمنَّى لهم من أماني السوء.
– بل سيطلقون سراحك يا لويس إذا أديتَ لهم ما يطلبون من مال؛ فهل جاءك أنهم قتلوا مليكهم، ولم يستقرَّ على عرشه بضعة أسابيع؛ لأنه همَّ أن يسألهم فيمَ أنفقوا ما خلف أبوه من المال؟ المال يا لويس هو الذي أغراهم بمليكهم فقتلوه شابًّا في عنفوانه، وهو الذي يُغريهم بأن يردُّوك إلى الحرية لتتهيأ للثأر!
– يا ليت يا مرجريت! ولكن من ذا يدفع عني ما قد يطلبون من الفدية ويداي مغلولتان؟
– سيتبارى رعاياك من أبناء فرنسا، والمسيحيون في شتَّى بقاع الأرض، ليدفعوا فديةَ القديس لويس، ويردوا إليه حريته.
– آه! ما أطيبَ قلبك يا زوجتي المحبوبة! إنَّ المسيحيين وأبناءَ فرنسا على السواء يا مرجريت، لا يحبون لويس إلا حين يقودهم إلى المغانم، أمَّا لويس الأسير في دارٍ موحشةٍ من بلاد الكفر، فليس يخطر على بال أحدٍ أن يفتديهُ بدمٍ أو مالٍ. أم حسبت كل هؤلاء الآلاف الذين يقودهم لويس من مرسيليا إلى قبرص، فدمياط فالمنصورة، كانوا يتبعونه لشيء غير طلب الغنيمة والمجد؟
– أوَّه! أذلك قولُك يا لويس؟
طأطأ الملك الأسير رأسه في انكسار وهو يقول في صوتٍ خافتٍ كأنَّه بين يدي قسيسه يعترف بما أسلف من خطايا: نعم يا مرجريت، لقد خرجنا باسم الصليب نطلبُ المجد في الأرض، فتحقَّقت فينا مشيئةُ الرب وانتهينا إلى الأسر والهوان والمذلة!
قالت الملكة في همسٍ: لله شجرةُ الدُّرِّ! كأنما كانت تقرأ من لوحٍ مسطورٍ وراء الغيب ما سمعته أذناي الساعة!
– ماذا قلتِ يا مرجريت؟
– لا شيء يا لويس.
– ولكن كلمات هامسةً كانت تبرق على شفتيك.
– كنتُ أعيد ما وعته أذناي من حديث شجرة الدُّرِّ.
– شجر الدُّرِّ؟
– نعم، ملكة مصر والشام ووارثة عرش صلاح الدين.
– أَوَصارت ملكة؟
– نعم، وإنها لأهلٌ لما بلغت؟
– وماذا وعته أذناك من حديثها؟
– ما كنتَ تقوله لي الساعة يا لويس.
– لم أفهم ما تعنين ما مرجريت.
– قالت لي: إنَّما خرجتم باسمِ الصليب تطلبون المجد والغنيمة، فحقَّ عليكم أن تنتهوا إلى الأسر والهوان والمذلة!
– كذا قالت؟
– نعم، وكدتُ أردُ عليها قولها وأتركُ مجلسها غير معتذرة!
– ثم ماذا؟
– ثم كظمتُ غيظي واحتملتُ اللطمة من أجلك يا لويس!
– من أجلي أنا؟
– نعم، فما سعيتُ إلى لقائها إلا لأسألها بما جُبلتْ عليه كلُّ أنثى من العطف والرحمة، أن تأذن لي في لقائك والتحدث إليك ساعة، وقد أذنت لي في أن أحضر إليك تحت الليل، في حراسةٍ اثنين من فرسان الداويَّة، وأصحبتني اثنين من حُراسها ليدلَّانا على الطريق ويدفعا عنَّا ما قد يعترضنا من شرِّ العامة، فإن شئتَ يا لويس بقيتُ إلى جانبك في هذا المعتقل حتى يأذن الله بالفرج.
صمت الملك برهة يُفكِّرُ، ثم رفع رأسه قائلًا: ولكنني لا أشاء يا مرجريت!
– لماذا يا حبيبي؟
– لأنك تستطيعين في حريتك أن تُسدي إليَّ يدًا، إذا رضي المسلمون أن أفتديَ نفسي بمال.
– وإذن؛ فأنتَ ترى أن أعود إلى دمياط لأحتال في جمع ما قد يطلب المسلمون من مال الفدية؟
– نعم، وإلى اللقاء يا مرجريت!
– إلى اللقاء يا لويس.
وعادت الملكة أدراجها، وعاد الملك فجلس على حشيته مُستندًا إلى وسادةٍ على الحائطِ يُفكِّرُ، وانصفق الباب وراء الثلاثة، وتقدَّم الحرسيان السيدة الملثمة على الطريق، وتبعها الفارسان حتى انتهوا إلى شاطئ النيل، وهبطت السيدة إلى الزورق ثم تبعها الشابان، فانساب الزورق على سطح الماء مُبحرًا إلى الشمال.