نبوءة أبي زهرة
بَلى، إنَّه رجلٌ ليس له شأنٌ ولا خطر في ذلك الحصن، ولكنه مما يتخايل لعينيه من بعض الأوهام والأماني في همٍّ مقيم مقعد.
رقيقٌ من الترك، قذفت به المقاديرُ إلى ذلك الحصن في مجموعة من الأرقاء والجواري، فزم الخدمة في مطبخ الأمير جاشنكيرًا، يُشرفُ على إعداد الطعام، ويتذوقه قبل أن يمدَّ الأمير إليه يده؛ ليستوثق من جودة طهيه وطيب مذاقه، فأتاحت له هذه الفرصة أن يكون أدنى إلى الأمير منزلةً وأحظى لديه من عامَّة المماليك، وقد كان سعيدًا بهذه المنزلة التي بلغ، لولا حديثٌ جرى منذُ أيَّامٍ بينه وبين أبي زُهرةَ المنجم، فردَّه من السلام والطمأنينة إلى حالٍ من القلق واشتغال الفكر، لا طاقة لمثله باحتمالها؛ فهو منذ سمع ذلك الحديث في هَمٍّ وفكرٍ ووحشةٍ، لا يكادُ يتحدَّثُ إلى أحدٍ أو يستمعُ إلى حديثِ أحدٍ؛ وما ظنُّك بمملوكٍ مُمتَهَنٍ بين الأوعية والقدور، يقعُ في وهمه أنْ سيصيرُ يومًا ملكًا يجلسُ على العرش، وتأتمر بأمره الملايين!
ولم يكن همه الجديد عبثهم وسخريتهم؛ فإنه لأرْحبُ صدرًا من أن يستفزَّهُ الغضبُ لمثلِ ذلك، ولكنه يخشى أن يمتدَّ الحديث حتى يبلغ الأمير فتكون الطامَّة، وهل يقع في وهم أحد أن يطمع مثل أيبك في العرش والإمارة إلا إذا كان منطويًا لأميره على نيَّةِ الغدر!
فإنهم لفي حديثهم وعبثهم به ذات يوم، إذ قال قلاوُون: فإن كان أيبك قد خيلتْ له أوهامه أنه سيصيرُ يومًا ملكًا تأتمرُ الملايين بأمره، فإنَّ من حق تلك الفتاة التي التقطها الجندُ منذ أسابيع في سنجار أن تكون ملكةً على عرش بني أيوب!
قال بيبرس عابثًا: وإنها لأهلٌ لذاك.
فانتفخت أوداج أيبك واحمرَّت عيناه غضبًا لرجولته، وهتف مَغيظًا: بالله ماذا تعني يا بيبرس؟!
ثم أردف باسمًا وهو يُقلِّبُ وجهه بين أيبك وقلاوُون: ولم يبعد قلاوُون حين بدا له أنها أدنى منزلةً إلى العرش من أيبك، وإن كانت أُنثى؛ إلا أن يكون أيبك أكثرَ إدلالًا بحظوته عند الأمير!
وأغرق المماليك الثلاثة في ضحكٍ عريضٍ واحمرَّ وجه أيبك، ولكن شفتيه لم تنبسا بحرف؛ فقد آثر أن يتوقَّى الهلكة وقد عَرضَ ذكرُ مولاه، ثمَّ لم يلبث أن نهض ليشرف على إعداد مائدة العشاء للأمير، وسَرَح كلُّ واحدٍ من أصحابه في واديه!