الخاتمة
كان الملك المعز قد هجر القلعة وأقام في مناظر اللوق منذ أيَّام؛ إذ فسد ما بينه وبين شجرة الدُّرِّ، فليس بينهما حين يجتمعان إلا الخلف والمشاجرة، فلمَّا اطمأنت شجرة الدُّرِّ إلى تدبيرها، بعثت إليه رسولها يدعوه ويتلطَّفُ في الدعوة؛ فكأنَّما خُيِّل إلى المعزِّ من غفلته أنَّ شجرة الدُّرِّ قد فاءت إلى طبيعة الأنثى حين يهجرها الرجل، فتهفو إليه نفسها؛ فأجاب دعوتها نشيطًا راضيًا.
واستقبلته فَرحَةً طيبةَ النفس قد أخذتْ زينتها وتَجمَّلتْ، وبذلتْ له ما تبذل كلُّ أنثى لمن تُحبُّ، حتى ثاب إلى الأمان والطمأنينة، ثم قام إلى حَمامه ليغتسل.
لقد جَرَحَ هذا الرَّجلُ منها كبرياءَ الملكة وغِيرة الأنثى؛ فليكن انتقامُها إذلالًا لكبريائه ولرجولته في وقتٍ معًا، وكذلك كان تدبيرها؛ فقد وثب عليه غلمانها في الحمام فانهالوا على رأسه ضربًا بالقباقيب وهم ينزعون أنثييه، ليموت حين يموتُ وقد تحطَّمت كبرياؤه وذلَّتْ رُجولته!
وصاح الملك تحت العذاب: الغوث يا شجرة الدُّرِّ! الغوث!
وعاد الغلمان يدقُّون رأسه بالقباقيب ويشدون أنثييه!
وأفلت الزِّمامُ من يدي شجرة الدُّرِّ، فسترت عينيها باكيةً وهي تهمس في إشفاقٍ ورحمةٍ: أيبك!
ولكن أيبك لم يكن يسمعُ هتافها وقتئذٍ، فقد زَهقتْ رُوحه قبل أن تُصافح أذنيه كلمةُ الحنان تلفظها شفتاها، وقد عاش ما عاش من عمره على أمل كلمة حنانٍ تَلفظها شفتاها!
واستدارتْ الملكةُ الأرملُ على عَقبيها وقد سترتْ وجهها بكفيها وتتابعتْ على خديها الدموع.
هذا ملكٌ ثانٍ يموتُ تحت عينها ولا تَدْري كيف تُواري سَوْءَته.
وعاوَدها حنانُ الأنثى، فحملته على صدرها إلى مخدعه، ثم أسبلت أجفانه، وشدَّت لثامه، ومدَّت على وجهه الغطاء؛ ثم أغلقت من دونه الباب وأوت إلى غرفتها تفكِّرُ.
امرأةٌ في رونَقِ الصِّبَا قد فقدتْ رجلها!
ملكةٌ ذاتُ سلطانٍ تُوشكُ أن تنزل عن العرش!
قائدٌ في المعركة قد أُحيط به ويُوشك أن يتخلَّى عنه عسكره!
كذلك كانت منذ بضع سنين يوم دهم الموتُ الملك الصالح بالمنصورة، وكذلك هي الليلة؛ ولكنها الليلة لا تملك تدبيرًا ولا فكرًا؛ لأنَّ في نفسها رُوحَ الجريمة!
وأوشكت أن تصرخ مُستغيثة، ثم تماسكتْ وتخبَّطها الشيطانُ فلم تُحسن تدبيرًا أو تُحكم فكرةً.
وأشرق الصباح على جسدٍ مسجًّى في فراشه وإلى جانبه امرأةٌ باكيةٌ، وعرف كلُّ مَن في القصر أن الملك المعز قد مات!
وبلغ النبأ «أمَّ عليٍّ» بنت الأشكري، زوجة أيبك الأولى، فصحبت فتاها يُهرولان إلى قصر القلعة.
•••
وقالت المرأة وقد وقفت إلى جانب ولدها بإزاء سرير الميت: لا، إنه لم يمت حتف أنفه، لقد قتلته شجرة الدُّرِّ.
– من أين لك علمُ هذا يا سيدتي؟
– لأنه أراد أن يَرُوعَها بِضَرَّتين!
– ولماذا لم تقتليه أنت يوم راعَكِ بزواج شجرة الدُّرِّ؟
– كنت أتربَّصُ به!
وأمسك السَّائلُ فلم يَنبس بحرفٍ.
ونظر عليُّ بن أيبك إلى أمِّهِ مُنكرًا ما تقول، فرأى دُموعًا تنحدر على خديها.
هذه امرأة أخرى تبكي رَجُلها وكانت تتربَّصُ به، كذلك النساءُ جميعًا، تَهيجهنَّ الغيرة فلا يعرفن فرق ما بين الحب والبغض، ولا ما بين القصاص والجريمة، ثم يبتدر الموت إلى من أبغضنَه بُغضَ الغيرة، فيعرفن وقتئذٍ أين مكانه من قلوبهن، ولا يذقن طعمَ الحبِّ إلا مبلَّلًا بالدمع!
•••
وأرادت أُمَّه أن تقبض على شجرة الدُّرِّ؛ ولكنها احتمت بالبرج الأحمر في القلعة ومنعها مماليكها.
أكانت تُحاول القبض عليها لتثأر لنفسها من ضَرَّتها، أو لتثأر لزوجها من قاتلته؟
من يدري؟!
وأيقنت شجرةُ الدُّرِّ أن مماليكها لن يمنعوها طويلًا ووراءها ضَرَّتُها تطلب الثأر، فلم تخشَ الموت، ولم تفكِّر في الهرب؛ لأنَّ شيئًا آخر غيرَ الموت وغيرَ الهرب كان يستأثر بتفكيرها؛ كانت تفكر في جواهرها وحليِّها وأسباب زينتها؛ فإنها لتخشى أن تقع تلك الجواهر والحلي وأسباب الزينة في يد ضَرتها حين تموتُ، وإنها لتغارُ أن يكون لضرَّتها بعد موتها حلي وجواهر وزينة؛ ذلك هو كل ما تفكِّرُ فيه السَّاعة، والموت يتربَّصُ بها!
وجمعت شجرة الدُّرِّ كلَّ ما كانت تملِكُ من حُليٍّ وجواهر فسحقته في هاون وأذرَتْه في الريح، ثم أسلمت نفسها!
•••
وماتت شجرة الدُّرِّ، ولكن قبرها في القاهرة ما يزال مثابةً للزائرين والزائرات، وما تزال صحائفها تُتلى على توالي القرون.