ملوكٌ أربعةٌ!
– سترتقي إلى العرش يومًا أيها الفتى، وتبلغ من المجد والسلطان ما لم يخطر لك على بال، ولكن …
– ماذا يا أبا زُهرة؟
– لا شيء، أفليس يكفيك أيها المملوك أن تبلغ العرش؟ أفتطمع فوق ذلك في مَزيدٍ من السَّعادةِ؟
– بلى، ولكنَّك لم تُفصح لي عن كلِّ ما في نفسك، أثمة ما تخاف أن تُفضِيَ به إليَّ من أنباءِ الغد؟
ابتسم أبو زُهرة المكفوفُ وهزَّ رأسه هزَّاتٍ دائريَّةً مُتتابعةً، ثمَّ تنفَّسَ نَفسًا عميقًا، وراح يمشط بأصابع يُسراه لحية مُسترسلة على صدره وهو يقول ساخرًا: نعم، نسيت أن أقول: إنَّك ستتزوَّج، ثم تموت!
ردَّد أيبك في بلاهة: أتزوج، ثم أموت؟
قال أبو زهرة وهو يتحسَّس موضع عصاه إلى جانبه لينهض: ألا تُصدق هذا؟ أتظنُّ أن تموت أولًا ثم تتزوج بَعد؟!
•••
ذلك كل ما جرى من الحديث بين أيبك الجاشنكير وأبي زهرة المنجِّم، ولا يزال أيبك منذ سمعه في همٍّ وقلقٍ، ولا يزال أصحابه منذ حدَّثهم بخبره يركبونه بالعبث والدعابة والسخرية، لا يكاد يُطالعهم وجهه حتى يجدوا من تشقيق ذلك الحديث مادة للضحك والفكاهة.
على أنَّ حديث ذلك المنجم لم يلبث أن فَقد سحره بين هؤلاء النَّفر من المماليك، فقد أسرَّ أبو زهرة إلى بيبرس، كما أسر إلى قلاوُون، حديثًا مثل حديثه إلى صاحبهم أيبك أو قريبًا منه، فإن صحَّ ما حدثهم به، فسيكونون جميعًا ملوكًا ويتزوَّجُون ثمَّ يموتون! وأين البلد الذي يتَّسِعُ عرشه لثلاثة ملوكٍ، أو أربعةٍ!
فضحك بيبرس وقال: أفلستَ تُريد أن تستنبئه مثلنا أنباءَ غدِكَ، فلعله أن يُبايعك مثلنا ملكًا رابعًا!
قال آق طاي: حَسبه أنْ يسخرَ منكم، أمَّا أنا فلستُ أريدُ أن أكون ملكًا، وليس يعنيني أن أتزوج قبل أن أموت، أو أموت ثم أتزوج!
وأغرق المماليك الأربعة في الضحك، ثم تفرَّقُوا فذهب كلٌّ منهم إلى وجه.
•••
ومضت أيام قبل أن يتجدَّد حديثُ أبي زهرة بين المماليك، ذلك أنَّ أيبك الجاشنكير قد أشرف على الموت، ولم يتزوَّج ولم يبلغ العرش، وهؤلاء أصحابه قد تَحلَّقوا حول فراشه مُشفقين جَزعين، وهو يئنُّ ويتلوَّى، قد احتقن وجهه وتقلَّصَ جبينهُ، وهذا رسولُ الأمير نجم الدِّين يسألُ عن حاله قَلقًا مثلهم، مُشفقًا أن ينالَ ذلك المملوكَ المخلص سوءٌ.
وظلَّ أيبك في الفراشِ أيَّامًا، يتوقَّع أصحابه في كلِّ لحظةٍ أن ينتزعه الموتُ من بينهم، ثم زايله الخطرُ ونجا، وزُفَّت البشرى إلى الأمير نجم الدين فسُرِّي عنه واستبشر، فما كانت نجاة أيبك إلا نجاةً للأمير من شرٍّ كان يتربَّصُ به؛ فقد كان الأمير جالسًا إلى مائدته ذات مساء وقد قُدِّم إليه عَشاؤه، وتذوَّقَ الجاشنكير الطعامَ على عادته قبل أن يمُدَّ الأميرُ إليه يدًا، فلم يكد يُحس مذاقه حتى صاح عَجلًا: في الطعام سمٌّ يا مولاي!
وَغثيتْ نفسه ودار رأسه، فلولا أنه استند إلى الجدار لهوى بين يدي مولاه، ونهض الأمير عن المائدة لم يُصِبْ منها شيئًا، وحُمل أيبك الجاشنكير إلى فراشه والسُّمُّ يمزِّق أحشاءه.
•••
قال بيبرس لصاحبه ضاحكًا: هذه نبوءة من نبوءات أبي زهرة قد تحقَّقت يا أيبك، وتزوَّجتَ قبل أن تموت!
قال آق طاي: ولكن نبوءة أبي زهرة لم تبلغ به العرش، وكان حقيقًا بأن يبلغه قبل أن يتزوج، لو صَدق المنجِّمُ!
قال قلاوُون ساخرًا: بل أراه قد بلغ أو كاد، أليست زوجتهُ من بنات الأشكري فيما تزعم؛ فقد أوشك أيبك أن يجلس على عرش أبيها في القسطنطينية!
قال أيبك مُسترسلًا فيما بدأ أصحابه من الدعابة: ويكون من وزرائي آق طاي وبيبرس وقلاوُون!
فصاح آق طاي مصطنعًا هيئة الغضب: إخسأ! أيكونُ مثلي وزيرًا لك؟!
قال قلاوُون: أما أنا فقد رضيتُ أن أتوزَّر لك، على أن تجعل لي العرش من بعدك!
قال بيبرس: بل يكون لي العرش من بَعده، وتكونُ وزيري وولي عهدي يا قلاوُون.
قال آق طاي: اقتسموها بينكم على أيِّ وجهٍ شئتم، أمَّا أنا فلن أطلب العرش قبل أن أطلب زوجةً من بنات الملوك لم تدخلْ تحت رقٍّ قط!