مَلِك في قفص
لم يجد الملك الكامل ما كان يأملُ من الطمأنينة والسلام، فلم يكد يقضي على أسباب الفتنة التي أشعل نارَها أمراء الأيوبيين في الشام حتى بَغته الموت؛ ثم لم يكد يُوارَى الثرى في دمشق حتى تجدَّدَت مطامع الأمراء في عرش بني أيوب.
وبلغ النعيُ الملك الصالحَ نجم الدين في حصن كيفا، فأعدَّ عُدته للمسير إلى مصر.
واستأثر العادلُ سيفُ الدين بالملك، وتَبَوَّأ عرش أبيه في قلعة الجبل، ووضع يده على خزائنه وما خلف من مال ومتاع، واتَّخَذَ له حاشيةً وبطانةً.
وبدأ زحفُ الصالح نجم الدين أيوب من المشرق ليستخلص لنفسه العرش، وكان على رأس جُنده بيبرس وأيبك وقلاوُون وآق طاي، وإلى يمينه وشماله مُشيران أمينان: شجرةُ الدُّرِّ أم خليل، والصاحبُ بهاءُ الدين زهير.
وتتابعت الرسل من القاهرة تستحثُّهُ على الإسراع، فأغذَّ السير مُغربًا وقد طفحت نفسه بالآمال، ولكن كمينًا كان قد أعدَّهُ بدر الدين لؤلؤ عند سنجار قد برز فجأةً في طريقه، فتبعثر جنده واقتيد أسيرًا إلى قلعة سنجار، ليس معه إلا زوجه وقليل من صحابته وحيل بينه وبين أمانيه.
فهزَّ نجم الدين رأسه وارتسمت على شفتيه ابتسامة وهو يقول: ومن أين لنا الخلاص ومن دوننا هذه الأسوارُ وهؤلاء الحراس، وليس لنا من الجند قوة تُغني في اقتحام هذا الحصن!
فجاوبته ابتسامةً بابتسامةٍ وقالت: دَعْ تدبير ذلك لي يا مولاي؛ فوالله لا يكون إلا ما تُريد!
وأصبح منذ الغد على الطريق إلى سنجار جيش من الخوارزمية يقوده حسام الدين، وغبارُه يحجب وجه الشمس!
ومضى نجم الدين يجوس خلال القلعة قَلقًا حيران، فإذا جماعة من صحابته في الأسر قد تحلَّقوا حول شيخٍ مكفوفِ البصر يستمعون إليه خاشعين مُستغرقين في الفِكر، فلم ينتبهوا إلى موقف الأمير منهم على مقربة.
ذلك أبو زهرة المنجِّم، وكان قد خَرَجَ في ركبِ الأمير يقصد مصر، فاقتيد أسيرًا مع الأسرى، وأولئك أصحاب الأمير يستمعون إلى ما يحدِّثهم به من أنباء الغيب؛ ليصرفهم ذلك عن بعض ما يلقَون من الضِّيقِ والقلق والملال.
ووجد الأمير في حديثه ما يصرفه عن بعض ما يلقى، فدعاه إلى خلوته وجلس يستمع إليه.
وكان جُندُ الخوارزمية يقتربونَ من القلعةِ وقد سبقهم الغبار؛ فأسرعت شجرة الدُّرِّ إلى الأمير تُنبئه النبأ، ورأت أبا زهرة في مجلس الأمير فقالت ضاحكة: لعلَّ المنجم يا مولاي قد سبق إليك بالبُشرى!
فرفع الأميرُ إليها رأسه وقال في لهفةٍ: ما وراءك يا شجرة الدُّرِّ؟
قالت: الخير يا مولاي كلُّ الخير.
ثم صحبته إلى حيث يَرَى.
وانفتح باب القلعة وخرج الملك الصالح وأصحابه يستأنفونَ السَّيرَ إلى مصرَ، ووراءهم من الخوارزمية جيشٌ لَجِب، وانفسح أمامهم المَدى!