ريبة وقلق
وعلى امتدادِ الطريقِ بين الموصل والشَّام، كان إلى جانب مَرْكب الأميرة مركبٌ آخرُ يضمُّ طفلًا بين يدي حاضنته، وليدٌ لم يبلغ سنَّ الفطام، مهزولٌ ضعيفٌ، ولكنه من عِظَمِ الشَّأنِ بحيثُ لا تكادُ الأميرةُ شجرة الدُّرِّ تُفكِّرُ إلَّا فيه أو تحملُ إلا همَّه، ألم يحدثها أبو زهرة المنجِّم أنَّها ستبلغُ باسمه العرش، فتملك وتحكم وتبلغ من المجد ما لم تبلغه امرأةٌ في تاريخ المشرق والمغرب؟
ولكنَّ أبا زهرة لم يُفصح عن كل ما في نفسه، فلم ينبئها ماذا سيكون شأن ذلك الصبي، وإنَّما حدَّثها عمَّا سيكون شأنها هي باسم الصبي!
ما معنى هذا؟ وما دِلالته؟
على أنَّ ثمة إشارات أُخرى غامضةً كانت تتخلَّلُ حديث ذلك المنجِّمِ لا تكادُ تفطن إلى مفهومها، ولكنها تملأ نفسها قلقًا وريبةً؛ وإنها إلى ذلك لتحسُّ أنَّ في نفس الملك الصالح من القلقِ والرِّيبةِ مثل ما بها، منذ بَغَتَتْه ذات يومٍ يتحدَّثُ إلى ذلك المنجم في قلعة سنجار.
أتُراه قد أسرَّ إليه حديثًا عنها وعن ولدها ممَّا يُقلق ويَريب؟
وأوتْ إلى زوجها ذات ليلةٍ فاحتضنت عُودها وجلست تُغنيه صوتًا بعد صوتٍ، وتتنقلُ به في مجالي الأنس مرحلةً بعد مرحلةٍ، وغنَّت:
فاستضحكتْ وقالت: لأنني من ذلك الصدر يا مولاي في أرحب مكان!
وسُرِّيَ عن الملك ما كان ينتابه من القلق والريبة منذ استمع إلى حديث أبي زهرة المنجم في قلعة سنجار، فساء ظنًّا بولده وبزوجته وبحاشيته جميعًا، وعَجب لنفسه كيف اطمأنَّ إلى حديث ذلك الشيخ المكفوف، وأنكر ما تراهُ عيناهُ في زوجِهِ من صدقِ الإخلاص وحسن المودة وكريم التقدير، ألِأنها — فيما زَعم المنجم المكفوف — تسعى إلى العرش وتلتمس الأسباب إلى السلطان وتصطنع من بطانته من تصطنع لهذه الغاية باسم ولدها؟ وماذا يريبه في ذلك وهي زوجه وأُمُّ ولده؟
وعاد ما بين الزوجين إلى الصفاء والمودة!