أحلام فترة النقاهة
حلم ١
أسوق درَّاجتي من ناحيةٍ إلى أخرى مدفوعًا بالجوع، باحثًا عن مطعم مناسب لذوي الدخل المحدود ودائمًا أجدها مغلقة الأبواب، وحانت مني الْتفاتة إلى ساعة الميدان، فرأيت أسفلها صديقي، فدعاني بإشارة من يده، فمِلت بدرَّاجتي نحوه، وإذا به على علم بحالي، فاقترح عليَّ أن أترك درَّاجتي معه ليسهل عليَّ البحث، فنفَّذت اقتراحه، وواصلت البحث وجوعي يشتد، وصادفني في طريقي مطعم العائلات، فبدافعٍ من الجوع واليأس اتجهتُ نحوه على الرغم من علمي بارتفاع أسعاره، ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله أمام ستارةٍ مسدلة، فما كان منه إلا أن أزاح الستارة فبدَت خَرَابة ملأى بالنُّفايات في وضع البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج: ماذا جرى؟
فقال الرجل: أسرِع إلى كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطِّب. ولم أُضيِّع وقتًا، فرجعت إلى ساعة الميدان، ولكنني لم أجد الدرَّاجة والصديق.
حلم ٢
دخلنا الشقة … الفتاة في المقدمة، وأنا في أثرها، والبواب يتبعنا حاملًا الحقيبة. الفتاة على صلة بي مؤكَّدة، ولكنها غير محدَّدة. تركنا ترتيب الأشياء، ودلفت إلى الشرفة المطلة على البحر، سابحًا في آفاقه غير المحدودة، منتعشًا بهوائه الرطيب، منتشيًا بهديره المتقطِّع، وإذا بصرخة تنطلق من الداخل، فهُرعت نحوها، فرأيت الفتاة منكمشةً مذعورة، والنار تشتعل في أعلى الباب. وقبل أن أُفيق من الصدمة دخل رجل صلب الملامح كأنما قُدَّت من صخر، وبإشارة من يده انطفأت النار، وتحوَّل ذاهبًا وهو يقول: ربما انقطعت المياه بعض الوقت، وغمرني الارتياح فلم أبالِ بشيءٍ. غادرت الحجرة قاصدًا السوبر ماركت لأبتاع بعض التموين المناسب. ولمَّا رجعتُ وجدت باب الشقة مفتوحًا والبوَّاب واقفًا، فدخلت أنا الحجرة قلقًا، فوجدتها عاريةً إلا من بُقجة منتفخةٍ بالملابس ملقاة على الأرض، وذراع بيجامتي يتدلَّى من فتحة رابطتها، ولا أثر للفتاة، فسألت: ماذا جرى؟
فأجابني البوَّاب: حضرتك أخطأت الطريق وهذه ليست شقتك.
فأشرت إلى ذراع البيجامة وقلت: هذه بيجامتي.
فقال الرجل بهدوء: يوجد من نوعها آلاف في السوق.
ومِلت إلى الاعتقاد بالخطأ، متذكِّرًا أنه توجد ثلاث عمارات متشابهة في صف واحد. وهبطت السلَّم بسرعة، وفي الطريق رأيت الفتاة تسير في طرفه المفضي إلى ميدان مكتظٍّ بالسيارات والبشر، فجريتُ نحوها حتى أُدركها قبل أن تذوب في الزحام.
حلم ٣
هذا سطح سفينة يتوسَّطه عامود مُقيَّد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى أسفل ساقَيه، وهو يحرِّك رأسه بعنف يمنةً ويسرةً ويهتف من أعماقه الجريحة: متى ينتهي هذا العذاب؟
وكان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق ويتبادلون النظر في ذهول، وتساءل صوت: من فعل بك ذلك؟
فأجاب الرجل المعذَّب ورأسه لا يكفُّ عن الحركة: أنا الفاعل.
– لماذا؟
– هو العقاب الذي أستحقه.
– عن أيِّ ذنب؟
فصاح بغضب: الجهل!
فقلت له: عَهدنا بك ذو حلم وخبرة. جهلنا أن الغضب استعداد في كلِّ فرد.
وارتفع صوته وهو يقول: وجهلت أن أيَّ إنسانٍ لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يهن شأنه.
وغلبَنا الحزن والصمت.
حلم ٤
بَهو مترامي الأركان، متعدِّد الأبواب، خالٍ من كلِّ شيء، فوقف ثلاثتنا في ركن مكنون، صاحباي يرفلان في كامل حِليتهما حتى رباط العنق، على حين اكتفيت أنا بالجلباب المغربي. ودون شعور بأي حرج لشدة الألفة التي تجمعنا، سمعت حركة، نظرت فرأيت رجلًا لا أدري من أين جاء، في ملابس رسمية توحي بأنه ممن يُشرفون على الحفلات. تلفَّفت في جلبابي وقلت لصاحبَي: أخاف أن يقام حفل!
فقالا بالتتابع: لا أظن.
– لا أهمية لذلك.
وجدت حركةً أخرى فنظرت فرأيت رجلَين مماثلَين للأول، قد انضمَّا إليه فزال كل شك، وهربتُ إلى أقرب باب وفتحته وكأني وجدت وراءه سدًّا من جدار البَهو، فكرَّرت المحاولة مع الأبواب جميعًا، وخاب مسعاي كالمرة الأولى. رجعت إلى صاحبَي، واندسست بينهما كأنما أستتر بهما.
وطمأنني بعض الشيء أن الرجال الثلاثة لم يُعيرونا أي الْتفات.
وتتابعَت الحركات، وانهمر سيل من المدعوِّين من كافة النواحي.
وأخذوا يملئون المكان دون أن ينظر نحونا أحد، مركِّزين أبصارهم في ناحية واحدة، فلم نملك إلا أن نفعل فعلهم. وبدا فجأةً شخص جليل في هيئة الزعامة، فتعالت قعقعات الهتاف، وكلما تقدَّم الرجل خطوة، اشتدَّ الهتاف، ولكنهم حذَّروه في الوقت نفسه من السير نحو الباب الذي بدا أنه يقصده، وقلت لصاحبَي: سيُفتح الباب عن سد لا منفذ فيه.
وتقدَّم الزعيم وسط هتاف متصاعد وتحذير مستمر، حتى فتح الباب ودخل مختفيًا عن الأنظار.
حلم ٥
أسير على غير هدًى وبلا هدف، ولكن صادفتني مفاجأة لم تخطُر لي في خاطري، فصرت كلما وضعت قدمَي في شارع انقلب الشارع سيركًا.
اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة، وحلَّ محلَّ ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرِّجة وحبالها الممدودة والمدلَّاة، وأراجيحها وأقفاص حيواناتها والممثِّلون والمبتكرون والرياضيُّون، حتى البلياتشو. وشد ما دُهشت وسُررت وكدت أطير من الفرح! ولكن بالانتقال من شارع إلى شارع، وبتكرار المعجزة مضى السرور يفتُر، والضجر يزحف، حتى ضقت بالمشي والرؤية، وتاقت نفسي للرجوع إلى مسكني. ولكم فرحت حين لاح لي وجه الدنيا، وآمنت بمجيء الفرح! وفتحت الباب فإذا بالبلياتشو يستقبلني مقهقهًا.
حلم ٦
رنَّ جرس التليفون وقال المتكلِّم: الشيخ محرم أستاذك يتكلَّم.
فقلت بأدب وإجلال: أهلًا أستاذي وسهلًا …
– إني قادم لزيارتك.
– على الرَّحب والسعة.
لم تمسَّني أية دهشة على الرغم من أنني شاركت في تشييع جنازته منذ حوالي ستين عامًا، وتتابعت عليَّ ذكريات لا تُنسى عن أستاذي القديم في اللغة والدين، وما عُرِف عنه من وسامة الوجه وأناقة الملبس، إضافةً إلى شدته المتناهية في معاملة التلاميذ. وجاء الشيخ بجُبته وقُفطانه الزاهيَين، وعِمته المقلوظة، وقال دون مقدمات: هناك عايشت العديد من الرواة والعلماء، ومن حواري معهم عرفت أن بعض الدروس التي كنتُ ألقيها عليكم يحتاج إلى تصحيحات، فدوَّنت التصحيحات في الورقة وجئتك بها.
قال ذلك ثم وضع لفافةً من الورق على الخِوان وذهب.
حلم ٧
يا له من ميدان مترامي الاتساع مكتظٍّ بالخلق والسيارات! وقفت على طِوار المحطة أنتظر مقدم الترام رقم ٣ والوقت قارب المغيب، أريد العودة إلى بيتي على الرغم من أنه لا ينتظرني أحد. ويهبط المساء، وتغلَّب الظلام على أضواء المصابيح المتباعدة، وشعرت بوحشة، وتساءلت عن آخر الترام رقم ٣، جميع الترامات جاءت وحملت من المنتظرين من حملت، ولكن لا أدري ماذا حصل للترام ٣. وخفَّت حركة الميدان، وقلَّ مرور السابلة حتى كدت أتركه وحيدًا في المحطة في ميدان خالٍ أنتظر ترامًا لا يجيء، وسمعت صوتًا خفيضًا، فنظرت فرأيت على مبعدة يسيرة فتاةً ينطق مظهرها بأنها من بنات الليل، فازداد شعوري بالوحشة واليأس وسألتني: أليست محطة الترام رقم ٣؟
فأجبت بالإيجاب، وفكَّرت في مغادرة المحطة، وإذا بالترام رقم ٣ يقترب في هدوء ولا أحد فيه سوى السائق وقاطع التذاكر، وشيء من داخلي دعاني إلى عدم الركوب فولَّيت الترام ظهري ولبثت على حالي حتى غادر الترام المحطة، ونظرت فرأيت الفتاة بموقفها، ولمَّا شعرَت بعينَي ابتسمَت وسارت نحو أقرب منعطف، فتبعتها على الأثر …
حلم ٨
عندما أقبلت على مسكني وجدت الباب مفتوحًا على ضلفتَيه على غير عادة، وجاءتني من الداخل ضوضاء وأصداء كلام.
دقَّ قلبي متوقِّعًا شرًّا، ورأيت من أحبابي ابتسامات مشفقة، وسرعان ما عرفت كل شيء؛ خلت الشقة من الأثاث الذي كُوم في ناحية داخل المكان … عمال من متفاوتي الأعمار، منهم من دهن الجدران، ومنهم من يعجن المونة، ومنهم من يحمل المياه … وهكذا نُفِّذت المكيدة في أثناء غيابي، وذهبت توسُّلاتي في الهواء.
وهل أطيق هذا الانقلاب وأنا على تلك الحال من الإرهاق؟
وصِحت بالعُمَّال: مَن أذن لكم بذلك؟ ولكنهم استمرُّوا في عملهم دون أن يُعيروني أي اهتمام، وقهرني الغضب فغادرت الشقة وأنا أشعر بأنني لن أرجع إليها مدى عمري، وعند مدخل العمارة رأيت أمي مقبلةً بعد رحيلها الطويل، وبدت مستاءةً وغاضبة، وقالت لي: أنت السبب فيما حصل!
فثار غضبي وصِحت: بل أنتِ السبب فيما حصل وما سوف يحصل …
وسرعان ما اختفت وأمضت في الهرب.
حلم ٩
على أريكة في حديقة المنزل الصغيرة جلسَت أختي تتأمَّل ضفدعًا يسبح في القناة التي تروي الحديقة، وانتشيت بالنسيم الرقيق، وعناقيد العنب المدلَّاة من التكعيبة.
وسألت أختي: ماذا تنتظرين؟
وقبل أن تجيبني قلت: من الأفضل أن نجلس في الحجرة لنسمع الفونوغراف. وتبادلنا نظرة اختيار، ثم انتقلنا إلى الحجرة، وازداد الجو صمتًا، وحتى النسيم لم يعُد معنا.
ونظرت إلى أختي فإذا بها قد تحوَّلت إلى الممثلة السينمائية جريتا جاربو، وهي ممثلتي المفضلة، وطِرت من السعادة بغير أجنحة.
وملأ السرور جوانحي، غير أن ذلك السحر لم يدُم طويلًا، وأردت أن أستعيد المعجزة السحرية مرةً أخرى، ولكن أختي رفضت الذهاب معي، فسألتها عن سبب الرفض فقالت: أمي.
فقاطعتُها قبل أن تتم عبارتها: إنها لا تدري.
فقالت بيقين: إنها تدري كل شيء.
وشعرت بأن الحزن غشي كل شيء كأنه شابورة مفاجئة.
حلم ١٠
جمعتنا الصداقة والنشأة، وتواعدنا في تلك الحارة وذيول الليل تهبط، ولا هدف لنا إلا الانشراح باللقاء، والاستسلام للمزاح، والضحك على طريقة القافية.
وتبادلنا النكات، وأخذنا نتحوَّل إلى أشباح في الظلام، وتعارفنا بأصواتنا، ولم نكفَّ عن المزاح والقافية، وانطلقت قهقهاتنا ترج الجدران وتوقظ النيام. الحارة مُتعرِّجة ونحن نتقارب حتى لا نذوب في الظلمة، وكلما تمادينا في الحيرة غالينا في الضحك، وبدأنا نتساءل حتى نجد خلاصنا في ميدان أو شارع كبير.
وذكَّرنا أحدنا بأن الملكة الفرعونية التي أرادت الانتقام من الكهنة الذين قتلوا زوجها دعتهم إلى مكان يشبه هذا الذي يتخبَّطون فيه، وسلَّطت عليهم المياه، وما كاد يفرغ من حكايته حتى هطلت السماء علينا بقوة غير معهودة، وأسكتَنا الرعد، ومضت المياه ترتفع حتى غطَّت أقدامنا، وزحفنا على سيقاننا، وشعرنا بأننا نغرق تحت المطر في ظلم الليل، ونسينا نكاتنا وضحكاتنا، ولم يعُد لنا من أمل في الخلاص إلا أن نطير في الفضاء.
حلم ١١
في ظل نخلة على شاطئ النيل استلقت على ظهرها امرأة فارعة الطول ريانة الجسد، وكشفَت عن صدرها ونادت، فزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد، وتزاحموا على ثديَيها ورضعوا بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى، وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرَّد على كل تنظيم. وخُيِّل إليَّ أن الحال تقتضي التنبيه أو الاستغاثة، ولكن الناس يغطون في النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء، ولكن الصوت لم يخرج من فمي، وأطبق على صدري ضيق شديد. أمَّا الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدةً على عظم، ولمَّا يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحوَّلت بينهم إلى هيكل عظمي. وشعرتُ بأنه كان يجب عليَّ أن أفعل شيئًا أكثر من النداء الذي لم يخرج من فمي. وأذهلني أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم التحموا في معركة وحشية، فسالت دماؤهم وتخرَّقت لحومهم، ولمحني بعض منهم فأقبلوا نحوي أنا لعمل المستحيل في رحاب الرعب الشامل.
حلم ١٢
في الجو شيء مثير للأعصاب؛ فهو من عدة نواحٍ تبرز رءوس وتختفي بسرعة. وجرت شائعة مثل الشهاب تُنذر بوقوع الحرب. وتردَّدت كلمة «الحرب» على الألسنة، وعمَّت الحيرة والانزعاج، ورأيت من يحمل تموينًا لتخزينه، وجعلت أتذكَّر تلك الأيام المكدَّرة، هل نبقى أم نهاجر؟ ولكن إلى أين؟
ولُذت بمقر المكان الآمن من الخطر، وجاء رجل من الأمن وقال صراحة: إن الدولة تريد أن تعرف طاقة الأسر على إيواء من يحتاجون إلى إيواء لا سمح الله. وتضاعفت الاضطرابات، وأعلنت أمي وهي تعيش وحدها في بيت كبير أنها على استعداد لإيواء أسرة كاملة. أمَّا أنا فوجدت أننا يمكن الاستغناء عن حجرة واحدة تسع لشخصَين، وأصبحت حذرًا عند سماع أي صوت أو الإجابة على أي سؤال. وطرق بابي مخبر ودعاني إلى القسم، ولمَّا سألته عن سبب الاستدعاء أجاب بخشونة أنه لا يعرف، وقطع حديثَنا انطلاق صفارة الإنذار.
حلم ١٣
هذا هو المطار، جوه يموج بشتَّى الأصوات واللغات، وكن قد فرغن من جميع الإجراءات ووقفن ينتظرن، اقتربتُ منهن وقدَّمتُ إلى كلٍّ منهن وردةً في قرطاس فضي وقلت: مع السلامة والدعاء بالتوفيق.
فشكرنني باسمات وقالت إحداهن: إنها بعثة شاقة ونجاحنا يحتاج إلى أعوام وأعوام.
فأدركت ما تعني، وغمر الألم قلبي، وتبادلنا نظرات وداعٍ صامتة، ولاحت لأعيننا مرات الزمان الأول.
وتحرَّكت الطائرة وجعلت أتابعها بعينَي حتى غيَّبها الأفق، وحال عودتي إلى بهو المطار لم أعُد أذكر إلا رغبتي في الاهتداء إلى مكتب البريد.
وكأنني ما جئت إلا لهذا الغرض وحده، وسمعت صوتًا يهمس: أنت تريد مكتب البريد؟ فنظرت نحوه ذاهلًا، فرأيت فتاةً لم أرَها من قبل فسألتها عن هُويتها فقالت بجرأة: أنا بنت رَيَّا. لعلك ما زلتَ تذكر ريَّا وسكينة؟
فقلت وذهولي يشتد: إنها ذكرى مرعبة.
فرفعَت منكبَيها وسارت وهي تقول: إن كنت تريد مكتب البريد فاتبعني. فتبعتها بعد تردُّد غاية في العنف.
حلم ١٤
تريَّضت على الشاطئ الأخضر للنيل. الليلة ندية والمناجاة بين القمر ومياه النهر مستمرة تشع منها الأضواء. هامت روحي حول أركان العباسية المفعمة بالياسمين والحب، ووجدتُ نفسي تُردِّد السؤال الذي يراودها بين حين وآخر: لماذا لم تزرني في المنام ولو مرةً واحدةً منذ رحلت على الأقل لأتأكَّد من أنها كانت حقيقةً وليست وهمًا من أوهام المراهقة؟! وهل الصورة التي طُبعت في خيالي هي الصورة الحقيقية للأصل؟ وإذا بصوت موسيقى يترامى إليَّ من ناحية الشارع المظلم صارت أشباحًا، ثم تجلَّت مع ضوء أول مصباح صادفها في طريقها. أدهشني أنها لم تكن غريبةً عليَّ في الموسيقى النحاسية التي كثيرًا ما استمعت إليها في صباي، ورأيتُها تتقدَّم بعض الجنازات وهذا اللحن أكاد أحفظه حفظًا. أمَّا المصادفة السعيدة غير المتوقَّعة فهي أن حبيبتي الراحلة تسير وراء الفرقة هي هي بطلعتها البهية ومِشيتها السنية وملامحها الأنيقة. أخيرًا تكرَّمَت بزيارتي وتركت الفرقة الجنائزية تسير، ووقفَت قبالتي لتؤكِّد لي أن العمر لم يضِع هدرًا، وقمت واقفًا منبهرًا وتطلَّعت إليها بكل قوة روحي، وقلت لنفسي إن هذه فرصة لا تتكرَّر لألمس حبيبة القلب.
وتقدَّمت خطوة وأحطتها بذراعَي، ولكني سمعت طقطقة شيء يتكسَّر وأيقنت أن الفستان ينسدل على فراغ، وسرعان ما هوى الرأس البديع إلى الأرض وتدحرج إلى النهر، وحملَته الأمواج مثل ورد النيل تاركةً إياي في حسرة أبدية!
حلم ١٥
بهو رُصَّت على جوانبه المكاتب … إنه مصلحة حكومية أو مؤسَّسة تجارية، والموظَّفون بين السكون وراء مكاتبهم أو الحركة بين المكاتب.
وهم خليط من الجنسَين، والتعاون في العمل واضح، والغزل الخفيف غير خافٍ، وأنا فيما بدا من الموظَّفين الجدد ومرتبي على قد حاله، وشعوري بذلك عميق، ولكنه لم يمنعني من طلب يد فتاة جميلة، وهي كموظفة أقدم وأعلى، والحق أنها شكرتني، ولكنها اعتذرت عن عدم الاستجابة لطلبي قائلة: لا نملك ما يُهيِّئ لنا حياةً سعيدة.
وتلقَّيت بذلك طعنةً نفذت إلى صميم وجداني.
ومن يومها تحسَّبت مفاتحة أي زميلة في هذا الشأن على الرغم من إعجابي بأكثر من واحدة، وعانيتُ مرَّ المعاناة من العزلة والكآبة … وأُلحقت بالخدمة فتاة جديدة، فوجدت نفسي في مكانة أعلى لأول مرة؛ فأنا مراجع وهي كاتبة على الآلة الكاتبة، ومرتبي ضعف مرتبها، إلا أنها لم تكن جميلة، بل الأدهى من ذلك أني سمعت همسًا يدور حول سلوكها، وبدافعٍ من اليأس قرَّرت الخروج من عزلتي، فداعبتها فإذا بها تداعبني، ومن شدة فرحي فقدت وعيي وطلبت يدها وقالت لي: آسفة!
فلم أُصدِّق أذني وقلت وأنا أتهادى: مرتبي لا بأس به بالإضافة إلى مرتبك.
فقالت بجدية: المال لا يُهمُّني.
وهممت أن أسألها عمَّا يُهمُّها، ولكنها ذهبت قبل أن أنطق …
حلم ١٦
هنَّأني الطبيب المساعد على نجاح العملية … عقب إفاقتي من التخدير. أشعر بارتياح عميق وبسعادة النجاة الصافية. دخلَت الحجرةَ فجاءت الممرِّضةُ بكرسي، وجلست مقتربةً برأسها من رأسي. تأمَّلتني مليًّا، ثم قالت لي بهدوء شديد: طالما كانت أمنيتي أن أراكَ راقدًا بلا حول ولا قوة.
فنظرت إليها بدوري وقلت لها في ذهول: ولكني أراكِ لأول مرة في حياتي فلماذا تتمنين لي السوء؟
فقالت باحتقار وحقد: جاء وقت الانتقام.
وقامت وغادرت الحجرة تاركةً إياي في دُوامة من الحيرة والقلق والخوف، كيف تتصوَّر تلك المرأة أنني أسأت إليها، على حين أنني أراها لأول مرة في حياتي. وجاء الطبيب الجرَّاح ليُلقي عليَّ نظرة، فتشبثتُ به قائلًا: أدركني يا دكتور فإن حياتي في خطر.
فأصغى إليَّ وأنا أقصُّ عليه ما جرى، وأمر بعرض الممرِّضات المكلَّفات بالخدمة في العنبر عليَّ، ولكني لم أعثر على الممرضة بينهن.
وغادرني الدكتور وهو يقول: أنت هنا في كامل الرعاية.
ولكن صورة الممرضة لم تفارقني ولم تغِب عني الوساوس، وكل من دخل الحجرة نظر إليَّ بغرابة كأنني أصبحت موضع تساؤل وشك، وتراءى أمام عينَي طريق طويل مليء بالمتاعب.
حلم ١٧
تواصلَت أحياء الجمالية والعباسية وأنا أسير وكأنني أسير في مكان واحد، وخيَّل إليَّ أن شخصًا يتبعني، فالتفتُّ خلفي، ولكن الأمطار هطلت بقوة لم نشهدها منذ سنين، ورجعت إلى مسكني مهرولًا، وشرعت أخلع ملابسي، ولكن شعورًا غريبًا اجتاحني بأن شخصًا غريبًا مختفٍ في المسكن. واستفزَّني استهتاره، فصحت به أن يسلِّم نفسه، وفُتح باب حجرة الاستقبال، وبرز رجل لم أرَ مثيلًا في مساحته وقوته، وقال بهدوء وسخرية: «سلم أنت نفسك.»
وملكني إحساس بالعجز والخوف، وأيقنتُ أن ضربةً واحدةً من يده كفيلة بسحقي تمامًا. أمَّا هو فأمرني بتسليمه محفظتي ومعطفي، وكان المعطف يُهمُّني أكثر، ولكني لم أتردَّد إلا قليلًا وسلَّمته المعطف والمحفظة … ودفعني فألقاني أرضًا، ولمَّا قمت كان قد اختفى، وتساءلت هل أنادي وأستغيث.
ولكن ما حدث مهين ومخجل، وسيجعلني نادرةً ونكتة، فلم أفعل.
وفكَّرت في الذهاب إلى القسم، ولكن ضابط المباحث كان من أصحابي، وستذاع الفضيحة بطريقة أو بأخرى.
وقرَّرتُ الصمت، ولكني لم أسلم من الوساوس.
وخفت أن أقابل اللص في مكان ما وهو يسير هانئًا بمعطفي، ونقودي.
حلم ١٨
وتمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري.
بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي.
لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصمَّمت على اللحاق بها …
وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد.
وسرعان ما رجعت إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطًا طويلًا. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحًا عجوزًا متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية.
وقمت لأسأل العجوز عن الجميلة الغائبة.
حلم ١٩
انبهرتُ بالشقة الجديدة بعد تسلُّمها، ففحصت كل موضع بنظراتي. امتلأت جوانحي بالسعادة وقلت لنفسي من الآن يحق لي أن أشغل وظيفة، وعليَّ أن أسعى إليها دون تأخير.
وذهبت إلى السوق، المكان واسع المساحة، مسوَّر بسور من البناء المتين، وأظهرت أوراق ملكية الشقة فسمحوا لي بالدخول.
المكان مكتظ بالخلق. لمحت وجوهًا أحببتها كثيرًا، ولكنهن جميعًا كن متأبطات أذرع رجالهن. وذهبت إلى النافذة المقصودة وقدَّمت أوراقي، وفي مقدمتها أوراق ملكية الشقة الجديدة، وفحصها الرجل وسجلها وقال لي: «لا توجد الآن وظائف خالية، وسوف نتصل بك، في الوقت المناسب.»
شعرت بخيبة أمل، وشعرت بأنني سأنتظر طويلًا، ورجعتُ مخترقًا الجموع، ومتأمِّلًا — بعجلة — الوجوه الجميلة التي أحببتها في الماضي. ولبثت في الشقة وحدي. وفي الطريق سمعت رجلًا يقول بصوت جهير: «لا معنى لأن يملك شخص شقةً دون أن يشغل وظيفة … الأَولى أن يتركها لغيره فيمن يحظَون بفرص أكثر لشغل وظيفة» … وكأنه يعنيني بقوله. وما دامت الفكرة وُجدت، فقد تتحوَّل إلى واقع.
وساورني الشك والهم، وانتظرت ما يُخبِّئه الغد بعينٍ قلقةٍ مؤرَّقة.
حلم ٢٠
خرجنا باحثين عن مكان طيب نُمضي فيه بعض الوقت، ونظرنا إلى الهلال، ثم تبادلنا النظر. ورأيت على ضوء المصباح رجلًا عملاقًا لم ترَ العين مثله، أرسل عمودًا لا مثيل لطوله نحو الهلال حتى بلغ طرفه، وراح بحركة ماهرة يفرد طيات نوره حتى استوى بدرًا. وسمعنا أصوات تهليل فهلَّلنا معها، وقلت إنه لم يحدث مثل هذا من قبل، فصدَّقت على قولي. وانساب النور على الكون رفعني على سطح الماء، فهتفت: «ليلة قمرية.» فقالت: «القارب يدعونا.» وركبنا ونحن في غاية السرور، وغنَّى الملاح: رايداك والنبي رايداك. وأسكرنا الفرح، فاقترحتُ أن نسبح حول القارب. وخلعنا ملابسنا ووثبنا إلى الماء. وسبحنا ونحن في غاية الامتنان، ولكن القمر تراجع فجأةً إلى الهلال واختفى الهلال … انزعجنا انزعاجًا لم نعرف مثله من قبل، ولكنني شعرت بأنه يجب مراجعة الموقف بما يتطلَّبه من جدية، فقلت ونحن غارقان في الظلام: «لنسبح نحو القارب.» فقالت: «وإذا ضللنا الطريق؟» فقلت: «نستطيع أن نسبح حتى الشاطئ.» فقالت: «سنكون عاريَين على الشاطئ.» فقلت: «فلْيُؤجَّل التفكير في ذلك.»
حلم ٢١
الشارع الجانبي لا يخلو من مارة وأناس في الشُّرفات، والسيدة تسير على مَهل وتقف أحيانًا أمام معارض الأزياء.
يتعرَّض لها أربعة شُبَّان دون العشرين، تتجهَّم في وجوههم وتبتعد عن طريقهم، ينقضُّون عليها ويعبثون بها، تقاوم والناس تتفرَّج دون أي مبادرة … الشُّبَّان يُمزِّقون ثوبها ويُعرُّون أجزاءً من جسدها، السيدة تُصوِّت مستغيثة، راقبتُ ما حدث فتوقَّفت عن السير وملكني الارتياع والاشمئزاز، ووددت أن أفعل شيئًا أو أن يفعله غيري، ولكن لم يحدث شيء، وبعد أن تمَّت المأساة وفرَّ الجناة … جاءت الشرطة، وتغيَّر المكان، فوجدت نفسي مع آخرين أمام مكتب الضابط، واتفقت أقوالنا، ولمَّا سُئلنا عمَّا فعلناه كان الجواب بالسلب، وشعرت بخجل وقهر، وكانت يدَي ترتجف وهي تُوقِّع بالإمضاء على المحضر.
حلم ٢٢
كنا في حجرة المكتب مشغولين، ونظر إلى وجهي وقال: إنك مشغول البال. فقلت له بإيجاز وإعياء: سعر الدواء لا أطيقه. فقال: أفهم ذلك وأُقدِّره، وأحمد الله الذي نجَّاني من مخالبه. فسألته: كيف نجا ممَّا لا نجاة منه؟ فقال: «لي صديق له أخ صيدلي»، فلمَّا عرف شكواي أكَّد لي أنه يملك الحل … وعرف مني الأدوية اللازمة لي ولأسرتي شهريًّا، وعرضتها على أخي الصيدلي، فجاءنا بمثيل لها بأقل من عُشر الثمن.
فسألته عن مدى الخطورة في العملية، فطمأنني وحدَّثني طويلًا عن أساليب شركات الأدوية حتى أذهلني وأزعجني، ولم أتردَّد فكتبتُ له قائمةً بالأدوية اللازمة لي شهريًّا وأنا أشعر بارتياح عميق.
وإذا به يقول لي: «ولكني أُريد منك خدمةً في مقابل ذلك.» فأبديت استعدادي لأداء ما يطلب.
فقال: «أنا يزعجني الهجوم على الروتين الحكومي، والبيروقراطية، وتأثُّر الحكومة بما يقال وبما يُكتب، وأُريد منك أن تكرِّس قلمك للدفاع عن الروتين والبيروقراطية.» فدُهشت وسألته عن سر حماسه لمَّا أجمع الناس على نقده ورفضه، فقال غاضبًا: «يا أخي ما قيمة الموظَّف أمام الجمهور من غير الروتين والبيروقراطية؟» ودار رأسي حيرةً بين الأدوية والروتين.
حلم ٢٣
أسير في الشارع وأنا على بيِّنة من كل مكان فيه؛ فهو عملي ونزهتي، وأصحابي وأحبائي، أحيِّي هذا وأصافح ذاك، غير أني لاحظت أن رجلًا يتعدَّاني بمسافة غير طويلة وغير قصيرة، وبين كل حين وآخر يلتفت وراءه كأنما ليطمئن إلى أني أتقدَّم وراءه. لعلي لم أكن أراه لأول مرة، ولكن على وجه اليقين لا تربطني به معرفة أو مودة. وضايقني أمره فاستفزَّني إلى التحدي … أوسعت الخطى فأوسع خطاه، أدركت أنه يُبيِّت أمرًا، فازددت تحديًا، ولكن دعاني صديق إلى شأن من شئوننا، فملت إلى دكانه وانهمكت في الحديث، فنسيت الرجل وأنهيت مهمتي بعد الأصيل، فودَّعته ومضيت في طريق سكني، وتذكَّرت الرجل فالتفتُّ خلفي فرأيته يتبعني على نفس طبيعته … تملَّكني الانفعال، وكان بوسعي أن أقف لأرى ماذا يفعل، ولكني بالعكس وجدت نفسي أسرع وكأني أهرب منه، وأخذ يساورني القلق وأتساءل عمَّا يريد. ولمَّا لاح لي مسكني، شعرت بالارتياح، وفتحته ودخلت دون أن أنظر خلفي، ووجدت البيت خاليًا، فاتجهت نحو غرفة نومي، ولكني توقَّفت بإزاء شعور غريب يوحي إليَّ بأن الرجل في داخل الحجرة.
حلم ٢٤
قرَّرت إصلاح شقتي بالإسكندرية بعد غياب ليس بالقصير، وجاء العمال وفي مقدمتهم المُعلم، وبدأ العمل بنشاط ملحوظ، وحانت مني التفاتة إلى شاب منهم، فشعرت بأنني لا أراه لأول مرة، وسَرت في جسدي قُشَعريرة عندما تذكَّرت أنني رأيته يومًا في شارع جانبي يهاجم سيدةً ويخطف حقيبتها ويلوذ بالفرار، ولكني لم أكن على يقين، وسألت المُعلم عن مدى ثقته بالشاب دون أن أُشعر الشاب بذلك، فقال لي المعلم: إنه مضمون كالجنيه الذهب؛ فهو ابني وتربية يدَي. واستقرَّ قلبي إلى حين، وكلما وقع بصري على الشاب انقبض صدري، وطلبًا للأمان فتحت إحدى النوافذ المطلة على الشارع الذي يعمل فيه كثيرون ممن أعرفهم ويعرفونني، ولكني رأيت حارة الجراج التي تُطل عليها شقتي بالقاهرة، فعجبت لذلك وازداد انقباضي. وجرى الوقت واقترب المساء، فطالبتهم بإنهاء عمل اليوم قبل المساء؛ لعلمي بأن الكهرباء مقطوعة بسبب طول غيابي عن الشقة.
فقال الشاب: «لا تقلق … معي شمعة» … فساورني شك بأن الفرصة ستكون مُتاحةً لنهب ما خف وزنه. وبحثت عن المُعلم فقيل لي إنه دخل الحمام، وانتظرت خروجه وقلقي يتزايد، وتصوَّرت أن غيابه في الحمام مؤامرة، وأنني وحيد في وسط عصابة. وناديت على الُمعلم ونُذر المساء تتسلَّل إلى الشقة.
حلم ٢٥
رأيتها في الحجرة معي، ولا أحد معنا، فرقص قلبي طربًا وسعادة، وكنت أعلم أن سعادتي قصيرة، وأنه لن يلبث أن نفتح الباب ويجيء أحد … وأردت أن أقول لها إن جميع الشروط التي أبلغت بها على العين والرأس، ولكن تلزمني فترة من الزمن، ولكني فُتنت بوجودها فلم أقل شيئًا، وناديت رغبتي.
فخطوت نحوها خطوتَين، لكن الباب فُتح ودخل الأستاذ وقال بحدة: «إنك لا تفهم معنى الوقت.» واقتلعت نفسي وتبعته إلى معهده القائم قبالة عمارتنا، وهناك قال لي: «أنت في حاجة إلى العمل عشر ساعات يوميًّا حتى تتقن العزف.» ودعاني للجلوس أمام البيانو فبدأت التمرين وقلبي يحوم في حجرتي، وسرعان ما انهمكت في العمل.
وعندما سمح لي بالذهاب كان المساء يهبط بجلاله، وبادرتُ أعبر الطريق على عجل، ولكن لم يكن ثمة أمل في أن تنتظرني مدة غيابي.
وإذا برجل صيني طويل اللحية بسام الوجه يعترض سبيلي ويقول: «كنتُ في المعهد وأنت تعزف، ولا شك عندي أنه ينتظرك مستقبل رائع.»
وانحنى لي وذهب وواصلت سيري وأنا مشفق ممَّا ينتظرني في مسكني من وحشة.
حلم ٢٦
جمعنا مقهًى بلدي، وقصَّ علينا صاحبي قصةً بوليسيةً من تأليفه … وقُبيل الختام دعانا إلى الكشف عن القاتل، ومن نجح دفع له صاحبي ثمن طلبه، ووُفِّقت إلى الإجابة الصحيحة، وحدث لي بذلك غاية السعادة. وبعد ساعة استأذنت في العودة إلى بيتي، ولانشغالي بنجاحي تهت فسرت في طرق حتى وجدت نفسي أخيرًا أمام المقهى ممَّا أثار ضحك الجميع، وتطوَّع أحدهم فأوصلني إلى بيتي وودَّعني وانصرف. بيتي مكوَّن من طابق واحد وحديقة صغيرة، وشرعت في خلع ملابسي. ولمَّا صرت بملابسي الداخلية لاحظت أن خطًّا من التراب يتساقط من أحد أركان الغرفة … وكان هذا المنظر قد ورد في القصة التي ألَّفها صاحبنا، وكان نذيرًا بسقوط البيت على من فيه، فبكيت أن بيتي الصغير سينقَض فوق رأسي. وملكني الفزع، فغادرت البيت بسرعة ولهوجة، واستزادةً في الأمان انطلقت بعيدًا عن البيت بأقصى سرعة في الهواء الطلق.
حلم ٢٧
في سفينة عابرة للمحيط، أجناس من كل لون، ولغات شتى، وكنا نتوقَّع هبوب ريح، وهبَّت الريح واختفى الأفق خلف الأمواج الغاضبة. إني ذُعرت ولكن أحدًا لم يكن يُعنى بأحد، وقال لي خاطر إنني وحيد في أعماق المحيط، وإنه لا نجاة من الهول المحيط إلا بأن يكون الأمر كابوسًا وينقشع بيقظة دافئة بالسرور. والريح تشتد، والسفينة كرة تتقاذفها الأمواج. وظهر أمامي فجأةً حمزة أفندي مدرِّس الحساب بخيزرانته، وحدجني بنظرة متسائلة عن الواجب، كان الإهمال الواحد بعشر خيزرانات تكوي الأصابع كيًّا، وازددتُ كرهًا من ذكريات تلك الأيام.
وهممت بدق عنقه، ولكني خفت أن يكون أي خطأ سببًا في هلاكي، فسكت على الذل وتجرَّعته رغم جفاف ريقي، ورأيت حبيبتي فهُرعت نحوها أشق طريقًا بين عشرات المذهولين، ولكنها لم تعرفني، وتولَّت عني وهي تلعن ساخطة، وجرت نحو حافة السفينة ورمت بنفسها في العاصفة، واعتقدت أنها تُبيِّن لي طريق الخلاص، فجريت متعثِّرًا نحو حافة السفينة، ولكن مدرِّس الحساب القديم اعترض سبيلي ملوِّحًا بعصاه.
حلم ٢٨
تتحلَّق المستديرة، والنقود تذهب وتجيء، أمَّا الفتاة الجميلة فكانت تقوم بالخدمة وتقديم المشروبات وأحيانًا السندوتشات. وابتسم لي الحظ فربحت عددًا من الجنيهات، يُعد كبيرًا في مجالنا المحدود، وشعرت بدوار خفيف فأعلنت أنني سأنسحب، وعلى الرغم من أن أحدًا لم يصدِّق عذري إلا أنني انسحبت، وعند ذلك اتهم أحد اللاعبين الفتاة بأنها كانت تكشف لي خُفيةً عن بعض أوراق اللعب، فغضبت الفتاة كما غضبت أنا احتجاجًا على تلك التهمة الباطلة، وقام الرجل ومعه آخران ونزعوا ثياب الفتاة حتى تبدَّت عارية وهي تصرخ وتهدِّد بإبلاغ الشرطة عن الشقة التي تُدار للمقامرة وغيرها من المحرمات، فسرعان ما عاد كلٌّ إلى مجلسه، وساعدتُ الفتاة على ارتداء ملابسها، وغادرت المكان إلى مسكني القريب.
وجلستُ أستريح فإذا بالفتاة تحضر، وأخبرتني أن المجموعة غاضبة وزادها السُّكر غضبًا، وتهدِّد باقتحام مسكني وإشعال فضيحة في الحي كله، ونصحتني أن أرد ما ربحته حلًّا للمشكلة، ولكني قلت لها إنهم سيعتبرون ذلك اعترافًا بجريمة لم نرتكبها، فقالت إن ذلك أهون ممَّا يعتزمون ارتكابه، وأذعنت لرأيها وسلَّمتها النقود وذهبت بها.
وعاد الهدوء للَّيل، ولكني لم أزَل أتوقَّع فضيحةً أو شرًّا من ذلك.
حلم ٢٩
المكان جديد لم أرَه من قبل، لعلَّه بهو في فندق، وقد جلس الحرافيش حول مائدة. وكانوا يناقشونني حول اختيار أحسن كاتبة في مسابقة ذات شأن، وبدا واضحًا أن الكاتبة التي رشَّحتُها لم تحُز أي قَبول، قالوا إن ثقافتها سطحية، وإن سلوكها غاية في السوء، وعبثًا حاولت الدفاع. ولاحظت أنهم ينظرون إليَّ بتجهُّم غير معهود وكأنهم نسوا عِشرة العمر، وتحرَّكتُ لمغادرة البهو فلم يتحرَّك منهم أحد، وأعرضوا عني بغضب شديد. سِرت نحو المصعد ودخلت وأنا أكاد أبكي، وانتبهت إلى أنه توجد معي امرأة في ملابس الرجال ذات وجه صارم، قالت إنها تسخر بما يسمُّونه صداقة، وإن المعاملة بين البشر يجب أن تتغيَّر من أساسها. وقبل أن أفكِّر فيما تعنيه استخرجَت مسدسًا من جيبها ووجَّهته إليَّ مطالبةً إياي بالنقود التي معي، وتمَّ كلُّ شيءٍ بسرعة. ولمَّا وقف المصعد وفُتح بابه أمرَتني بالخروج، وهبط المصعد ووجدتُني في طرقة مظلمة، وقهرني شعور بأنني فقدت أصدقائي، وأن حوادث كالتي وقعت لي في المصعد تتربَّص بي هنا أو هناك.
حلم ٣٠
هذا بيتنا بالعباسية. أدخل الصالة، أمي تذهب إلى المدخل وأختي تجيء فتقف لحظات ثم تلحق بأمها. لم نتبادل السلام ولكني أعلنت عن جوعي الشديد بصوت مسموع، لم يردَّ أحد فكرَّرت الطلب. وسمعت أصواتًا في الحجرة المطلة على الحقل فذهبت إليها، فوجدت أخي الأكبر يجلس صامتًا، ويتربَّع أمامه على الكنبة شيخ بالأزهر، وقال الشيخ كلامًا جميلًا، ولمَّا انتهى قلت له إني جائع، فقال لي إن أحدًا لم يقدِّم له القهوة ولا حتى قدح ماء، فغادرت الحجرة وقلت بصوت تسمعه أمي وأختي أن يقدِّما القهوة لفضيلة الشيخ، وأن يُحضرا لي طعامًا ولو قطعة خبز وجبنة، ولم أتلقَّ إلا الصمت، غير أني سمعت حركةً في الحجرة المطلَّة على الفناء، فأسرعت إليها وذكرت أنها حجرتي وفيها الفونوغراف والأسطوانات التي أحببتها، فوجدت بنت الجيران التي كانت تزورني لتستعير بعض أسطوانات سيد درويش، خصوصًا أسطوانة أنا عشقت، وكانت تبحث عن إبرة لتسمع أسطوانة، فقلت لها إني جائع، فقالت لي إنها جائعة أيضًا. وغلبني الجوع فغادرت الحجرة وصحت طالبًا لقمة، ولمَّا لم أجد أي شيء غادرت البيت والمساء يُظل الطريق والطريق خالٍ، وخفت أن تكون المحالُّ قد أُغلقت، ولكني اتجهتُ نحو المخبز منهوك القوى من الجوع، وثمة أمل يراودني.
حلم ٣١
أمتطي حمارًا يسير بي وسط الحقول. خطوات رتيبة وأنا خالٍ من المشاعر تحت أشعة شمس الخريف. وترامى إلينا نباح كلب فتوقَّف الحمار، فنخسته بكعبي فعاد إلى السير. ويعود النباح ويتنوَّع، فأحددت بصري لأرى الرجل الذي أقصده. وظهرَت امرأة محاطة بالعديد من الكلاب، فهتفَت فيها أن تكف عن النباح، فأذعنَت لها، فسلَّمت وقلت إني قادم لمقابلة الشيخ بناءً على خطابَين متبادلَين، قالت المرأة إنها صاحبة الأمر الأخيرة، وإنها تستطيع أن تقدِّم الخدمات المطلوبة، كما تستطيع أن تُفني من تشاء إن حرَّضَت عليه الكلاب.
فقلت إنني جئت للسلام لا للحرب، وإني أريد عملًا، وأشارت إليَّ فنزلت عن ظهر الحمار ووقفت أمامها في خشوع، وسارت وتبعتها ومن خلفي الحِمار تُحيط بنا الكلاب، ووقفت أمام مبنًى صغير فتوقَّف الركب كله، وأمرَتني بالدخول فدخلت، وقالت لي أن أنتظر في الداخل، وحذَّرتني من الخروج إلى الكلاب التي لا ترحم، فسألتها حتى متى أُلبِّي؟ وماذا عن العمل؟ وأن الشيخ وعدني خيرًا، ولكنها لم تحفل بكلامي، وامتطت الحمار وذهبت تاركةً الكلاب حول المبنى، وكانت تُرسل إليَّ باحتياجاتي مع رجال أشداء، ولكنهم لا ينبسون بكلمة، وأفكِّر أحيانًا في الدخول مع الكلاب في معركة حياة أو موت، ولكن يتغلَّب الأمل فأنتظر.
حلم ٣٢
حدَّثني الزميل القديم فقال إنه ذاهب للعمل في اليمن، وقال لي إن ثمة كلامًا يدور حول دعوتي للعمل في اليمن، وحثَّني على القَبول فوعدتُ بالتفكير في الموضوع دون أن أُبدي أي حماس له. وفي البيت الذي أعيش فيه وحيدًا مع كلبتي فكَّرت في الأمر على غير المتوقَّع، وشجَّعني على ذلك نفوري من كلبتي، الذي تولَّد منذ أخذ وجهها يتغيَّر ويتخذ صورة وجه إنسان. كانت وهي كلبته خالصةً جذَّابةً ومسلية، أمَّا بعد التغيير المذهل فلم تعُد كلبته ولا بلغت أن تكون إنسانًا، وسرعان ما أجد نفسي في حجرة مكتبي في اليمن وسكرتيري الخاص واقف بين يدَي، وكانت الحرارة شديدة، فسألت السكرتير عن حال الجو في هذا البلد، فقال لي إنه دافئ شتاءً وشديد الحرارة بقية فصول السنة، ولكن المبنى مرتفع جدًّا، وكلما ارتفع تحسَّن الجو، وأنه ما عليَّ كلما ضقت بالجو إلا أن أكتب التماسًا للمدير للنقل إلى طابق أعلى. سُررت بعد اكتئاب وقمت إلى النافذة ونظرت إلى أعلى، فرأيت المبنى عظيم الارتفاع حتى خُيل إليَّ أنه يلامس السماء.
ورأيت رءوسًا تُطل من النوافذ العالية، فارتعش قلبي لرؤيتها؛ إذ رأيت فيها وجوه أحبة الزمان الأول. سُررت سرورًا لا مزيد عليه، وحمدت الله على قَبولي الدعوة للعمل في اليمن السعيد.
حلم ٣٣
ماذا حَل بالشارع، بل بالحيِّ كله؟ … على ذاك لم أكن أتوقَّع خيرًا فيما أرى.
الحيُّ كله كأنما هَرِم به العمر فذهب رونقه، وتناثرت القُمامة هنا وهناك، وصادفني أحد العاملين فسألته: ماذا جرى؟
فأجاب وهو يبتسم: البقاء لله وحده، وسبحان مُغيِّر الأحوال.
وقصدت مسكن صديقي متوقِّعًا أن يحيق به ما حاق بالحي كله أو أكثر، ولا أُنكر أنه كان وساطتي للحصول على بعض الأدوية الضرورية من الخارج، كما كانت مكالمة تليفونية منه تحل أعصى المشكلات في المصالح الحكومية، وجدته كاسف البال لا يأمل خيرًا في شيء … فعزَّيته وقلت له إنه صاحب مهنة على أي حال.
فقال متهكِّمًا: ستُثبت لك الأيام أننا لسنا أسوأ من غيرنا.
وساءلت نفسي: تُرى هل يوجد حقًّا ما هو أسوأ؟ وسرعان ما حضر نفر من الشبان والشابات، ومع كلٍّ حقيبته مَلأها بأشيائه المودعة في الشقة؛ مثل البيجامات، والملابس الداخلية، والقمصان النسائية الفاتنة، وأدهنة وروائح عطرية.
وحمل كلٌّ حقيبته وذَهب … نطق كل شيءٍ بما كانت تؤدِّيه شقته من خدمات، كما فطن بتدهوره … وتساءلت في نفسي … تُرى هل كان ينعم بالفخر، أو أنه تجرَّع المذلَّة والقهر؟
حلم ٣٤
عند منعطف من منعطفات الحارة، رأيت أمامي الصديقَين الشقيقَين اللذَين طال غيابهما وأحزنني غاية الحزن، وبُهتنا لحظات، ثم فُتحت الأذرع وكان العناق الحار، وتذاكرنا الأحزان والأفراح والليالي الملاح. وطلبا مني زيارة سكني فمضيت بهما إليه على بُعد أمتار، وتفحَّصاه حجرةً بعد حجرة، وضحكا طويلًا كعادتهما، ثم أعربا عن أسفهما لبساطة المأوى، ثم سخرا مني بلسانَيهما اللاذعَين الجذابَين، وسألاني عن عملي الذي أعيش منه، فأجبت بأنني عازف رباب، وأتغنَّى بعذابات الحياة وغدر الدهر، وعزفت لهما وغنَّيت، فقالا إنها حياة أشبه بالتسوُّل؛ ولذلك فهما لا يدهشان لما يبدو في وجهي من آثار الضعف والبؤس، وقالا لي إنهما بحثا عني طويلًا حتى عثرا عليَّ، وتبيَّن لهما أن قلقهما كان في محله، وأنهما يبشِّرانه بالفرج … حمدت الله على ذلك، ولكن ما الذي يبشِّرانني به، قالا ستهاجر معنا إلى المكان الجميل والرزق الوفير، فسألت كيف يتيسر لي ذلك؟ فقالا إنهما — كما أعلم — يمتان بصلة لأصحاب النفوذ، ولا خير يجيء إلا عن طريق أصحاب النفوذ.
وتأبَّطا ذراعَي وسارا بي إلى الخارج، حتى بلغنا أحد الرجال العظام شكلًا وموضوعًا، واستمع للحكاية بوجه محايد، وقال لي إن الهجرة تحتاج لهمة عالية وصبر طويل، فوعدني خيرًا، وقال الصديقان إنهما يطمئناني … فقال: انتظروني عند الجامع على طلوع الفجر.
حلم ٣٥
في بيت العباسية ونحن نأوي إلى أَسِرتنا للنوم، أيقظني صوت ابن أخي وهو يصيح حريق في السقف، ونهضت فزعًا، وجاء ابن أخي بالسلَّم الخشبي، وأقمناه في الصالة، وصعد كل واحد منا على جانب حاملًا ما استطاع حمله من الماء، وأخذ يرشه على النار السارية بين الأركان. واقتحمت حجرة أختي، وأيقظتها من نومها العميق، ومن عجب أنها قامت متكاسلةً ومتشاكيةً من أننا لا نتركها أبدًا تنعم بالنوم. وعلى أي حال ساعدتنا بملء الأوعية بالماء حتى سيطرنا على النار وأخمدناها. وبدأنا نحقِّق في الأمر، ولكن رجال المطافئ حضروا على أثر استدعاء الجيران لهم، وتأكَّدوا من خمول النار، وفتحوا الشرفات، وتفقَّدوا الأثاث الموجود بها، وانتهى الحريق بعد أن أفعمنا فزعًا. وعندما جلسنا نستعيد بعض هدوئنا دقَّ جرس التليفون، ويلاحظ هذا تداخل الزمان والمكان؛ إذ إن بيت العباسية لم يكن به تليفون، وهكذا أصبحنا في مسكن آخر مع أناس آخرين. دقَّ جرس التليفون وكان المتحدِّث صاحب العمارة التي استأجرنا بها شقةً في الإسكندرية، ودعانا الرجل إلى الإسكندرية دون إبطاء، وأنه شبَّت النار داخل الشقة، وطمأننا أنه استدعى المطافئ، فأخمدوا النار، ولكن حضورنا ضروري بطبيعة الحال. وفي الحال ارتدينا ملابسنا أنا وزوجتي وأسرعنا إلى محطة الباص الصحراوي، وكنا في غاية الكدر والانزعاج، حتى إنني اقترحتُ على زوجتي إخلاء الشقة وتسليمها لصاحبها، خاصةً وأنها تعرَّضت إلى محاولة سرقة قبل ذلك، ولكنها قالت لي انتظر حتى نرى ماذا ضاع منا وماذا بقي.
حلم ٣٦
جمعَنا بهو ما. ثمة وجوه أراها لأول مرة، ووجوه أعرفها جيدًا من الزملاء. وكنا ننتظر إعلان نتيجة يانصيب، وأُعلنت النتيجة وكنت الرابح وكانت الجائزة فيلا حديثة، وحصل زياط وتعليقات وتوهان، ولم تستطِع وجوه كثيرة أن تُخفي كمدها، وقال لي كثيرون إنه فوز ولكنه خازوق، من أين لك المال لتأثيثها، وتوفير الخدم اللازمين لها، واستهلاكات الماء والكهرباء، وخدمة حوض السباحة والتكييف … إلخ؟
الحق أن الحلم ما زال حلمًا، وها أنا أتفقَّد الفيلا كل يوم تقريبًا وأرجع بالخيبة والحسرات. واستغلَّ أناس قلة خبرتي وأقنعوني ببيعها واشترَوها بثمن، فرِحت به ساعات حتى تبيَّن لي أنني خُدعت وسُرقت.
وحدث في ذلك الوقت أن خلت وظيفة مدير عام، وكثر التزاحم حولها والمرشحون، وبطاقات ذوي النفوذ، وقابلت الوزير وقلت له إنني لا وسيط لي سواه، ولكنه قال لي إنك لم تستطِع أن تحافظ على مالك الخاص، فكيف أأتمنك على المال العام؟
وصرت نادرةً ومثالًا، فطلبت ضم المدة الباقية لي في الخدمة إلى خدمتي وإحالتي إلى المعاش، وأخيرًا وجدتُ الطمأنينة في موضع لا يتطلَّع إليه طمَّاع، ولا ينظر إليه ذوو الطموح.
حلم ٣٧
المحمل يتمايل فوق الجمل المزيَّن بالألوان والورود، أمامه رجل يغرس في فيه عامودًا ذا رأس، تدلَّى منه شراشيب، ورأس الجمل في مستوى أول طابق من بيت أُطل أنا من نافذته، وتلاقت عينَي مع عين الجمل، فقرأتُ فيها ابتسامةً وغمزة، وحلَّت لي البركة فطرت من موقعي وراء النافذة، ودرت حول رأس الجمل بجلبابي وشعري المنفوش، وكبَّر الناس وهلَّلوا وذُهلوا لوقوع المعجزة، وتماديت أنا فارتفعت في الجو وتراجعت نحو سطح بيتي وهبطت. وبعد مرور المحمل تجمَّع الناس أمام البيت يريدون مشاهدة الإنسان الطائر، وإذا بهم يتحوَّلون فجأةً من الإعجاب إلى الخوف والحذر، وقالوا إن روحًا شريرةً حلَّت بالشخص الطائر، وأن طيرانه حول رأس الجمل نذير شؤم للناس جميعًا، وإنه يجب أن يبرأ من الشيطان بجلده حتى يتطهَّر تمامًا، فإذا رفض الدواء عرَّض نفسه للعقاب المناسب وهو القتل. وركب الرعب الشاب وأسرته، واستنجدَت الأُسرة بالشرطة، واشترط المأمور أن يرى المعجزة وهي تحدث أمام عينَيه، وذهب إلى البيت ورأى المعجزة، وبُهر بها حقًّا، ولكنه وجد نفسه بين رأيَين؛ الأُسرة تقول إنها كرامة من كرامات الأولياء، والناس تؤكِّد أنه عبث من الشيطان ونذير شر.
وأخيرًا قرَّر المأمور أن يضع الشاب في السجن حتى يُنسى الموضوع برمته.
حلم ٣٨
في حجرتي جالس أستمع إلى أغنية يُذيعها الفونوغراف، دخلَت من الباب المفتوح فتاة في العشرين، جميلة ورشيقة ومثيرة. اكتسحتني دهشة ورغبة، فقمت من مجلسي واتجهت نحوها حتى وقفت قُبالتها. وبهدوء مدَّت يدها بخِطاب فتناولتُه ونظرت فيه، ثم رددته إليها وأنا أقول لها إنني لا أستطيع القراءة لضعف بصري، وطلبت منها أن تقرأه هي، ولكنها اعتذرت بأنها لا تقرأ ولا تكتب، وأن والدها كتبه للأمير المسطَّر اسمه على الظرف، ووصَّاها والدها قبل وفاته بأن تجيئني بالخطاب لأحمله إلى الأمير. وقلت لها ودهشتي تتزايد إنني لا أعرف الأمير ولا أي أمير غيره، وساورني الارتياب من ناحيتها، وحاولت تغيير الموضوع ولكنها ذهبت.
وعندما كنت أعبر جسر قصر النيل في طريقي إلى عملي ظهرت لي عند نهايته، فتجاهلتها ولكنها تبعتني مسافةً غير قصيرة.
وعندما عدت إلى مسكني وجدتها مستقرَّة، حذَّرتها من أن تعود إلى موضوع الخطاب والأمير. ومرَّ وقت طيب ولكني لم أخلُ من الوساوس، والظاهر أنها لم تخلُ كذلك من مخاوف، وكان واضحًا أننا نريد الهرب بطريقة أو بأخرى.
حلم ٣٩
دخلت حجرة الوزير ومعي بيان مكتوب على الآلة الكاتبة بأسماء الموظَّفين المرشَّحين للترقية، اسمي بينهم، وواضح أن الوزير يخصني بالرعاية.
وقَّع الوزير البيان في أعلاه، وذهبت به إلى إدارة المستخدمين لتنفيذه، اتجهت إلى الموظَّف المختص وكانت فتاة شابة وجميلة، نظرت في البيان ولاحظت أن الوزير وضع إمضاءه في أعلاه، وأنه يجب أن يضعه في أسفله، وإلا فإنها لن تستطيع تنفيذ أمر الترقية، أو على الموظفين المسجلين في أعلاه. اغتظت وشكوت ما نلاقي من الروتين، ولكنها أصرَّت على موقفها، فحملت البيان من جديد إلى الوزير، فوقَّع اسمه في الموضع الصحيح وهو يضحك، ورجعت إلى الفتاة وسلَّمتها البيان، وكانت تجلس على يمين مكتبها موظَّفة صديقة معروفة بالمرح، فدافعت عن تصرُّف زميلتها قائلةً إنها تضن بالترقية على الموظَّفين العزَّاب، وترى أن المتزوِّجين أَولى بها. وتظاهرت الموظَّفة بأنها تضايقت من إذاعة هذا السر. ولمَّا قابلتني الموظَّفة المرحة بعد ذلك سألتني عن رأيي في موظَّفة المستخدمين، فصارحتها بأنها أعجبتني، فاقترحتُ أن تبلغها بإعجابي كمقدِّمة لجمع رأسَين في الحلال، فطلبَت مهلةً للتفكير، فقالت إنني لم أعُد شابًّا، وإن عمري يضيع في التفكير، وأصرَّت على إبلاغها، واستسلمت فلم أرفض …
حلم ٤٠
قُبيل المساء وأنا عائد إلى بيتي متدثِّرًا بالمعطف والكوفية، اعترض سبيلي صبي وصبية غاية في الجمال والتعاسة، وطلبا مني ما أجود به لوجه الله، وبحثت في جيبي عن فكة فلم أجِد فأخرجت ورقةً من ذات الجنيهات الخمسة، وطلبتُ من الصبي أن يذهب إلى أقرب كشك ويشتري لي قطعة شوكولاتة ويجيئني بالباقي. وما غاب الصبي عن عينَي حتى بكت الصبية، واعترفت لي بأن أخاها يعاملها بغضب شديد، ويدفعها لارتكاب الأخطاء؛ فهي تزداد كل يوم انحرافًا وشرًّا، وتدعو الله أن ينقذها ممَّا تعاني. تأثَّرت وتحيَّرت، ثم عرفت أن الصبي لن يعود، وأدركت مدى حماقتي لِما أوليته من ثقة، وتذكَّرت كيف يتهمني أهلي بالطيبة والغفلة، ولكني لم أترك له أخته، وأخذتها إلى بيتي لتبدأ حياةً جديدةً مع أهلي. وتحسَّنت أحوالها وبدت وكأنها من الأسرة لا شغالة لها.
وذات يوم جاء لي شرطي ومعه الصبي الأخ، ولمَّا رأى أخته أمسك بها، وعلمتُ أني مطلوب في القسم، وهناك وُجهَت إليَّ تهمة اغتصاب البنت والاحتفاظ بها في بيتي بالقوة، وذُهلت أمام ما يُوجَّه إليَّ، وطلبت من البنت أن تتكلَّم، فبكت ووجَّهَت إليَّ من الكبائر ما لم يخطر لي على بالٍ، وكان المحضر يسجِّل كلَّ كلمة، والدنيا تسوَد في عينَي، وعلى الرغم من إيماني الراسخ فلم تغِب عني خطورة الموقف.
حلم ٤١
قال لي السمسار: لا تضجر ولا تيأس، يلزمك الصبر الجميل. وكنت أعرف أنه على علم بسر قلقي، وأنني مهدَّد بأن أفقد المأوى وأجد نفسي في الطريق. قلت له بأنني رأيت من المساكن عدد شعر رأسي، ولكن الأسعار دائمًا فوق قدرتي، وما هذه المساكن الخيالية التي يقدَّر ثمن الشقة فيها بالمليون. والعجيب أنه أكَّد لي أن أربع زميلات لي يملكن شققًا في هذه المساكن الخيالية، وغبطهن على قدراتهن الخارقة، وقال لي الرجل إن الأمل الأخير في عمارة الحاج علي بحي الحسين، وأن علينا أن ننتظر عودته من الحج، وقلت له إنني أذكره من أيام إقامتنا في الحي العتيق، وإنني كنت أشتري منه الفول أحيانًا بنفسي، فضحك الرجل وقال إن هذا ما يقوله الكثيرون ممن يرجون امتلاك شقة في عمارته الجديدة.
قلت بخوف: إنه الأمل الأخير.
فقال بلهجة مشجِّعة: «عليك بالصبر الجميل.»
حلم ٤٢
السفينة تشق طريقها بين أمواج النيل الرزينة. نحن جلوس على صورة دائرة يقف في مركزها الأستاذ. وضح أننا نؤدِّي الامتحان النهائي، وكان مستوى الإجابات ممتازًا. وتفرَّقنا نشرب الشاي ونأكل الجاتوه. وتسلَّمنا شهادات النجاح، وعند المرسى وقفت السفينة وغادرناها وكلٌّ يحمل شهادته في مظروف كبير، ووجدت نفسي أسير في شارع عريض خالٍ من المباني ومن المارة، ولاح لي مسجد يقوم وحيدًا، فاتجهت نحوه لأصلِّي وأرتاح قليلًا، ولكن تبيَّن لي حال دخولي أنه بيت قديم. هممت بالرجوع، ولكن جماعةً من قطاع الطريق أحاطوا بي وأخذوا الشهادة والساعة والمحفظة، وانهالوا عليَّ ضربًا، ثم اختفَوا في أرجاء البيت.
خرجت إلى الطريق وأنا لا أصدِّق بالنجاة. وبعد مسيرة يسيرة صادفتني دورية من الشرطة فهُرعت إليهم وحكيت لقائدهم ما وقع لي.
وسرنا جميعًا نحو بيت اللصوص، واندفعوا داخلين شاهري أسلحتهم، ولكننا وجدنا أنفسنا في مسجد والناس يصلُّون وراء الإمام، وحصل ذهول وتراجعنا مسرعين، وأمر قائد الدورية بإلقاء القبض عليَّ، وجعلت أؤكِّد ما وقع لي وأُقسم بأغلظ الأَيمان، ولكن وضح لي أنهم أخذوا يشكُّون في عقلي على أني لم أكن دونهم حيرةً وذهولًا.
حلم ٤٣
ليلة زفاف ابن عمي تُقام في بيتنا بالعباسية بين الطبل والأغاني. يتقدَّم ابن عمي تتأبَّط ذراعه عروسه في حُلَّة العرس، وقبل أن يصعدا السلم إلى الداخل يعترضهما مفتش الشرطة، ذُهلنا وتساءلنا عمَّا وراء ذلك، انقضَّ المفتش على العروس فتفحَّص وجهها، وأخذ بصمتها على لوح صغير وفحصه بمنظار مكبِّر، وألقى القبض عليها وسار بها إلى سيارة الشرطة، وأدرك الجميع ما يعنيه ذلك، وأقبلوا على ابن عمي يواسونه، ويحمدون الله الذي نجَّاه من شر أوشك أن يُطَوِّقه، ورغم ذلك فقد مضى الشاب وهو يبكي، وقرَّرت أن أُمضي الليلة في بيت العباسية مع أهلي، ولكني اكتشفت أن جميع مصابيحه الكهربائية معطَّلة، فسألت أختي كيف يعيشون في الظلام، واكتشفتُ أيضًا أن جدرانه تحتاج إلى ترميم ودهان، وضِقت بالمكان ونويت أن أُصلحه، وأُعيده إلى رونقه القديم.
حلم ٤٤
وجدت نفسي جالسًا أمام مكتب وزير الداخلية. منذ أيام قلائل كان زميلي في الجريدة، وكان اختياره وزيرًا للداخلية مفاجأة، وانتهزت الفرصة وطلبت مقابلته، فاستقبلني بمودَّة وترحاب، وعرضت عليه مطلبي وهو توصية لرجل أعمال معروف بصداقته له لاختياري في وظيفة معيَّنة في شركة من شركاته، وكتب بخط يده التوصية المطلوبة، وانتهت المقابلة على أحسن حال. وفي مساء اليوم نفسه وأنا أمشي على شاطئ النيل اعترضني رجل ممن نسمع عنهم في الصحف، وأشهر عليَّ سلاحًا وسلب مني نقودي، كانت في حدود خمسين جنيهًا.
رجعت إلى منزلي مضطربًا، ولكني لم أتخذ أي إجراء يؤثِّر في الميعاد الذي حدَّده لي رجل الأعمال. وعند الضحى كنت في مكتبه، وبعد دقائق سمح لي بالدخول في مكتبه، وقدَّمت التوصية. تجمَّدت في موقفي، وكانت لحظةً غايةً في الحرج، قلت في نفسي: «رباه … إنه اللص الذي سرقني أو أخوه التوأم!» ودارت بي الأرض.
حلم ٤٥
على سطح البحيرة ينطلق قاربي البخاري، وذاك قارب آخر يتبعني أو هكذا خُيِّل إليَّ، وأُسرع فيُسرع، وساورني القلق، ولكن لماذا يتبعني؟
ووجدتني أقترب من مرسًى فخم فرسَوت، وصعدتُ سلَّمًا إلى شرفة واسعة، وعرفت أنها تتبع السفارة الروسية، وكانت الشرفة مليئةً بالمعزِّين الذين جاءوا يعزُّون في وفاة فقيدة عزيزة.
وسلَّمت على السفير وجلست أسمع ما يقال عن الفقيدة، وأنظر إلى البحيرة فلا أرى أثرًا للقارب الآخر، فاطمأن قلبي.
وقمت في الوقت المناسب إلى قاربي، وانطلق بي في اتجاه الشاطئ الآخر، ونظرت خلفي فرأيت القارب الغريب وهو ينطلق ورائي، وكنت بلغت وسط البحيرة فرأيت من الأفضل أن أسير إلى الشاطئ عن الرجوع إلى السفارة، وقلت إنه عند الشاطئ تتضح حقيقة الموقف للمواجهة بكل قوة.
حلم ٤٦
جمعتنا حديقة. درج صاحبنا يغنِّي ونحن نسمع ونطرَب ويعلو منا هُتاف الوجد والاستحسان. وأزعَجنا العباد فشكونا إلى الشرطة. ورأينا الشرطة قادمة، فتفرَّقنا لائذين بالفرار. جريت في الاتجاه الذي اتفق، وكلما نظرت خلفي رأيت الشرطي يجري في أثري بكل قوة وإصرار، وظهر لي شخص يجري أمامي وكأنه يفر مني، من يكون ذلك الشخص؟
ذكَّرتني رشاقته وجميل قَوامه بالحبيبة الغائبة … اطَّرد الجري، الشرطي يريد اللحاق بي، وأنا أرى أن أهرب منه وألحق بالحبيبة. وهكذا صعدنا البرج وفوق سطحه منَّتني النفس باحتضان حبيبتي، ولكنها تخطَّت السور وهوت من ذلك العلو الشاهق إلى الأرض. فقدت عقلي وزاد من تعاستي اقتراب الشرطي، فوثبت من فوق السور وراء حبيبتي.
توقَّعت أفظع ألم، وكان لارتطامي بالأرض دَوِي مثل قنبلة، لكني لم أشعر بأيِّ ألم، وقمت واقفًا في تمام الصحة. تلفتُّ فلم أجد لحبيبتي أثرًا، ونظرت إلى أعلى البرج فرأيتُ الشرطي يُطل علينا وهو يغرق في الضحك.
حلم ٤٧
في الطريق لعب أمامي مجموعة من الصبية، فشعرت أنهم يُضمرون لي السوء، وعجبت لأنه لم يحصل بيني وبينهم ما يدعو إلى ذلك. وسرت في حذر وأنا أتذكَّر بدهشة حالي عندما كنت في سِنهم.
ووجدت أمامي محلًّا كبيرًا يُعد ليكون محلًّا لبيع الحلوى كما فهمت من لافتته الكبيرة. وكان العمل على أشُده في إعداده، فاقتربت منهم وسألتهم: «هل ستقدِّمون ضمن الحلوى بقلاوةً وكنافة؟» وكف العمَّال عن العمل واتجهوا بأنظارهم نحوي، وعلى حين قهقه الصبية وصفَّروا، وجاء من أقصى المحل رجل بدا أنه صاحبه وسأل: «هل حقًّا ما زال يوجد أناس يحبون البقلاوة والكنافة؟» وسرَت بين العُمَّال همهمة، وراح الصبية يرقصون ويصفِّرون ويكوِّرون قبضات أيديهم في وجهي …
حلم ٤٨
أقبلت فوجدت في الحجرة الحرافيش، وسألت عن الغائب الوحيد، فقالوا إنهم أرسلوا إلى الموسيقار سيد درويش في طلب فرقة الباليه الجديدة. ولا أدري كيف فسد الجو بيني وبينهم وتجهَّمَت وجوههم جميعًا. وهممت بمغادرة المكان، ولكن فرقة الباليه وصلت وفي الحال. عزفت الموسيقى، ودار الرقص، وخفَّ التوتُّر بيننا، واندمجنا في الرقص والنغم، بل وصفت القلوب، وانهالت علينا النشوات، وغمرنا الحب والمودة.
وإذا بنا ننضم إلى فريق الراقصين والراقصات، ونشارك في الأناشيد والأغاني، وتعاهدنا دون كلام على أن نؤرِّخ تلك الليلة.
حلم ٤٩
قصدت المبنى الأبيض الأنيق في صدر البهو، جلست السيدة الجميلة، واجتمعنا إليها، فراحت تتحدَّث عن شركة الإنتاج الفني التي قرَّرت إنشاءها، ورحَّبنا بالشركة وصاحبتها، ومضى كلٌّ منا يدلي برأيه في الإنتاج والعمل، ولم نختلف إلا حول الأجور؛ فقد كان رأيها أن يحدَّد الأجر تبعًا للاتفاق معها، وكان رأيي الذي أيَّده البعض أن يحدَّد الأجر بنسبة ثابتة من تكاليف الفيلم أو المسرحية. وأُجِّلت المناقشة إلى جلسة أخرى، وقلت لزملائي إن الأخذ برأيها يجعلنا تحت رحمتها، وإن النسبة توضِّح الأمر وتغلق الباب أمام الانتهازية.
ودعتنا السيدة مع آخرين للعشاء، وبعد العشاء أُقيمت حفلة موسيقية، وما ندري إلا والسيدة تتجرَّد من ثيابها وترقص عاريةً وبصورة غاية في الإثارة.
واستقرَّ رأيي بصفة نهائية، قرَّرت أن أبتعد عن الشركة وصاحبتها.
حلم ٥٠
كنت أتطلَّع إلى امرأة فاتنة تسير في الطريق، فاقترب مني بجرأة وهمس في أذني: إنها تحت أمري إذا أمرت. كان برَّاق العينَين منفِّرًا ولكني لم أصدَّه، واتفقنا على مبلغ، وأصرَّ على أن يأخذ نصفه مقدَّمًا فأعطيته النصف، وضرب لي موعدًا، ولكن عند اللقاء كان بمفرده، واعتذر بتوعُّك المرأة، وكان على أتمِّ استعداد لرد المقدَّم، ولكني صدَّقته وأبقيته معه، وكان يقابلني في حلِّي وترحالي ويطالبني بالصبر. وخشيت أن تسيء هذه المقابلات سمعتي، فأخبرته أنني عدلت عن رغبتي ولن أسترد المقدَّم، ولكن عليه ألَّا يقابلني، ولم يعُد يقابلني، ولكنه كان يلوِّح بها في أكثر الأماكن التي أذهب إليها.
وضقت به كما كرهته، وقرَّرت الانتقال إلى الإسكندرية. وفي محطة سيدي جابر رأيته واقفًا وكأنه ينتظر.
حلم ٥١
وقف القطار دون وجود محطة، فتساءلَت صاحبتي عن السبب، ولكني لم أدرِ كيف أجيبها، وإذا بكتائب من الجيش تطوِّقه وتقتحمه شاهرةً أسلحتها، وساقت إلى الخارج كثيرين من ضُبَّاط الجيش الذين كانوا بالقطار، وعددًا محدودًا من المدنيين، وقُبض عليَّ فيمن قُبض عليهم، فتركت صاحبي منزعجةً خائفة. وجدنا أنفسنا في صَحْراء. أمَرنا الجنود المسلَّحون بخلع بِدَلنا والبقاء بملابسنا الداخلية، ولكنهم وضعوا العسكريين في ناحية، والمدنيين في ناحية، وأخذنا نتهامس أننا ضعنا وانتهى الأمر.
وجاء قائد الجنود ونادى علينا كل واحد باسمه.
وتساءل صوت منا: هل تقتلوننا بلا محاكمة؟
فأجاب القائد بصراحة: الأمر لا يحتاج إلى محاكمة.
وتحرَّك القطار فتذكرتُ صاحبتي.
حلم ٥٢
دُعينا إلى اجتماع في حديقة الأزبكية، وهناك طُرح علينا اقتراح بتكريم أستاذنا الجليل بمناسبة مرور مائة عام على مولده، ولم يتحمَّس أحد، ولكن لم يُبدِ أحد منا اعتراضه، واتُّفق على أن يتم التكريم في وزارة الخارجية التي قضى فيها زهرة عمره وأنجز أكبر مآثره.
وفي اليوم الموعود ذهبتُ مبكِّرًا لأتفقَّد المكان، واتجهت من فوري إلى البهو المختار، كان أنيقًا مَهيبًا كعادته، ولكنه ازدان هذه المرة بوجود الفتيات الحسان اللائي عشقهن على مدى العمر.
جئن في زي موحَّد ليَقمن بالخدمات المطلوبة، وقد اكتسَين برونق الشباب الريَّان. خفق قلبي بشدة، وتحيَّرت بين نداءات الحسن، وجاء قلبي بأقصى قدراته من الحب، وجاش صدري بالمعاني التي سأُلقيها في خطاب التكريم.
حلم ٥٣
سألتُ عن صديقي فقيل لي إن الموسيقار الشيخ زكريا أحمد يسهر في بيته كل ليلة شاديًا بألحانه حتى مطلع الفجر، فقلت يا بخته، ودُعيت لحضور سهرة، فذهبت إلى الحجرة الواسعة المزخرفة جدرانها بالأرابيسك … ورأيت الشيخ زكريا جالسًا على أريكة محتضنًا عوده وهو يغني: «هوه ده يخلص من الله.» وفي حلقة جلست الأسرة نساءً وأطفالًا، وبينهما رجل معلَّق من قدمَيه، وتحت رأسه على مبعدة ذراع طست مُليء بمية النار.
ذُهلت.
وضاعف من ذهولي أن الجميع كانوا يتابعون الغناء دون أدنى التفات إلى الرجل المعذَّب.
حلم ٥٤
في الحجرة المغلقة دار الحوار بيني وبين المذيعة، وكان الحديث عن الموسيقى المحلية والأجنبية. وعند بعض مراحل الحوار أقوم للبيانو وأعزف عليه بعض الألحان، وكلما مرَّ وقت فُتح الباب ودخلَت سيدة من أهل البيت لعلَّها أمي أو أخرى في منزلتها، تُقدِّم مشروبًا وتذهب، ولكن وضح لنا أنها كانت تراقب خلوتنا برِيبة.
وضقت ذرعًا برقابتها، فعزمت على تحدِّيها بصورة غير مسبوقة، فما إن سمعت صوت الباب وهو يُفتح، حتى اندفعتُ نحو المذيعة وضممتها إلى صدري.
ولم أعُد أبالي شيئًا كما لم أجد غضاضةً ما، ولمَّا انتهيت من التحدِّي كانت المرأة قد اختفت من الحجرة، بل ومن البيت كله.
حلم ٥٥
تحتدم المناقشة بين امرأة ورجل وأبنائهما الخمسة حول حق الأم التي تجاوزت الستين في الحب والحياة.
وتخطَّت المناقشة الأسوار فصارت حديث الجيران.
يقول البعض إنه حب زائف من عجوز وشاب في سن أبنائها طمعًا في المال الذي ورثته عن زوجها، ويقول البعض إنه ليس للإنسان إلا ما يقدَّر له من الحياة والحب خاصة، حتى ولو أدى ذلك إلى دفع الثمن غاليًا. وبدا الأمر في نظر الشبان الخمسة مصيبةً لها. وكان ما كان من قتل الأم البائسة. ووقف الأبناء الخمسة في قفص الاتهام، وتوزَّعت التهمة عليهم من التنفيذ للمشاركة للتخطيط.
وكان التحقيق فيها والمرافعات حامية، وإذ كانت مفرداتها الأمومة، والبر، والشرف، والسمعة، والتقاليد. وما زلت أذكر وجوههم وأقوالهم، كما ما زلت أذكر المرحومة أيام كانت تتحدَّى العمر والألسنة، وتسير متبرِّجةً تتبختر.
حلم ٥٦
غادرت البيت الكبير الذي ننتظر فيه كل رجل بذاته، فلا يعرف أحد من الآخرين، وشعرت بشيء من الأمان بعد القلق.
غير أن شعور الأمان لم يدُم طويلًا، فخُيِّل إليَّ أن آخرين يتبعونني، ونظرت خلفي فرأيت عن بُعد جماعةً قادمةً ملوِّحةً بأيديها في الهواء، فأوسعت الخطى حتى أخذت في الجري، ورأيت في الطريق بيتًا، وكان هناك من يدعوني فهُرعت من فوري إليه، ووجدت أهله وكأنهم عائدون من الخارج؛ فهم يُنظِّمون الأشياء ويزيلون عنها الغبار. ولم يُدهش أحد لحضوري أمامهم، فنظروا لوجهي وكانوا ودودين في وجوههم وأحاديثهم وابتسامتهم، ونسيت في تلك اللحظة الزاحفين ورائي.
حلم ٥٧
درت حول الحصن مرَّتَين … حصن حجري نوافذه صغيرة كالثقوب، ومن كل نافذة يُطل وجه أعرفه، بل وأحبه … البعض طال غيابه، والآخر رحل عن دنيانا من أزمنة مختلفة، فنظرتُ بشوق وأسًى، وخُيل إليَّ أن كل وجه يسألني من أعماقه أن أحرِّره. ونظرت إلى باب الحصن الحجري بلا أمل، ثم ذهبت إلى دار السُّلطة وطلبت العون، وغادرتها مجبور الخاطر قابضًا على عمود من الصلب. ورجعت إلى الحصن، ولوَّحتُ بالعمود فتهلَّلَت الوجوه واصطفت على الباب، وضربتُ ضربةً هائلةً فتحطَّم وتهاوى، واختفت الوجوه من النوافذ، وتعالى هتاف فرحة وسرور، ووقفت خافق القلب منتظرًا لقاء الأحبة بلهفة وشوق.
حلم ٥٨
أخيرًا جاء الترام الجديد وأصبح درة المواصلات في حي العباسية، وكنت من أول من استقلوه، وجذبتني إليه ألوانه الخضراء والبيضاء وزخارف جدرانه وفخامة مقاعده. كنت أقعد وأقف وأنا أتعجَّب من جماله، وأقول لنفسي هذا متحف جميل لا ترام، ولكني لاحظت مع مرور الزمن أن سلوك رُكَّابه دون مستوى جماله بكثير.
حلم ٥٩
إنه عجيب لطول قامته … عجيب في سلوكه، أمَّا عن قامته فهي مثل مئذنة الزاوية، وأمَّا عن سلوكه فإنه يعترض سبيل من يختار من أهل حارتنا، ويحني قامته المديدة حتى يوازي وجهه وجهه، ويتفرَّس في أساريره بإمعان، كأنما يبحث عن سر دفين، ويمضي بعد ذلك نحو المقصد حتى يختفي عند المنحنى … وتلقَّاه الناس بدهشة واجمة وامتعاض شديد، بل إن أحدهم تبعه عن بُعد ليكشف أمره، ولمَّا طالت غَيبته خرجت جماعة من الأهل والجيران للبحث والاطمئنان، ولكنها رجعت مخيَّبة الرجاء.
عند ذاك جاء دور شيخ الحارة، فنهض ليؤدِّي واجبه، ورجع الرجل جريح الكبرياء، وانقلب الحادث إلى حكاية على كل لسان، وكثرت حوله الأفكار والظنون، ولكن بلا جدوى؛ فطواه النسيان أو كاد.
وذات يوم كان شيخ الحارة يسامر إمام الزاوية؛ إذ شعر بوجود يحل في وجوده، ورأى أمره العجيب، بل ولمح قبسًا من سره الذي حيَّر الناس، وقرَّر في الحال القبض عليه، وأذاع ما عرفه من سره على الملأ.
وهَمَّ بالقيام، ولكن خانته قواه جميعًا، فلم يستطِع أن يتحرَّك، ولم يستطِع أن ينطق.
حلم ٦٠
دققت جرس الباب، ففُتح عن ثلاث فتيات يقينًا أني لا أعرفهن، لكنني شعرت بأنني لا أراهن لأول مرة، سألت عن السيدة صاحبة الشقة، فأجبن بأنها ما زالت في الحج، ولم يعرفن بعدُ ميعاد عودتها. وسرن بي إلى حجرات الشقة، وعند فتح كل باب أرى جماعةً حول مائدة مستديرة غارقين في مناقشة حادة، ولكني لم أعرف أي موضوع يُناقشون؛ من اختلاط الأصوات وتداخلها. ولم أرغب في الدخول في أي غرفة مفضِّلًا انتظار السيدة صاحبة الشقة. ولفتت نظري إحدى الفتيات بأن السيدة سوف تتأخَّر بضعة أيام، ومن يأسي أجبتها — بعد أن اشتركَت في المناقشات دون جدوى — أنني أفضِّل انتظار عودة السيدة.
حلم ٦١
وصلتني دعوة عشاء في بيت قريب عزيز، ولمَّا اقتربتُ من الباب رأيت أفواجًا من المدعوِّين يدخلون، فأدركت أن الدعوة عامة، ورأيت بين القادمين نخبةً من جيل أساتذة، وأخرى من جيل الزملاء. وتبادلنا التحية وبعض الكلام … كان ممَّا أجمعوا عليه أنهم يقيمون الآن في قرية كرستوفر، وقالوا الكثير عن جمالها وتفوِّقها على جميع القرى السياحية. دخلنا وتفرَّقنا بين الموائد، وكانت جِلستي أمام مائدة صغيرة عارية من كل شيء؛ فلا مفرش ولا طبق ولا أدوات طعام، وقبل أن أُفيق من دهشتي رأيت شكوكو قادمًا نحوي، قابضًا على فخدة خروف محمَّرة، وسلَّمها لي يدًا بيد، وذهب وهو يضحك، صُعقت واستأت، ولكني لم أرَ بُدًّا من قطع اللحم بأصابعي لأتناول طعامي، غير أنني كنت أفكِّر طيلة الوقت في كرستوفر …
حلم ٦٢
أخيرًا عثرتُ على الصورة القديمة العزيزة بين الأشياء القديمة، ولكن فرحتي لم تتم؛ إذ سرعان ما تبيَّن لي أن الصورة تهرَّأت بمرور الزمن عليها، وطُمست ملامح الأعزاء، فلم يبقَ منها بقية تُذكر.
وبقدرة قادر وجدت نفسي في بهو مصلحة حكومية وبيدي ملف خدمة موظف يتتبَّع خطاي ويطالب بالإنصاف، وأدركت بخبرتي أن الموضوع من اختصاص إدارة المستخدمين.
وبحثت فلم أجِد لها أثرًا، وفيما أمُر أمام حجرة المخازن فُتح الباب وخرج منه زميل توفاه الله منذ شهر، خطف الملف من يدي ورجع إلى المخازن وهو يؤكِّد أن الموضوع من اختصاصه، وأنساني مظهره المهمَّة التي كانت تشغلني.
حلم ٦٣
هذه أرض خضراء يُحيط بها سور متوسِّط الارتفاع، لكنه كافٍ لإخفاء ما يجرى داخله عمَّن في الخارج. وتنطلق من وسطها مسلة طويلة في رأسها علم، أمَّا سطحها فيمرح بالشباب والحركة. خِلت بادئ الأمر أنني في نادٍ رياضي، ولكن بعد أن أمعنت البصر غلب على ظني أنني في سيرك؛ فهنا جماعة تسير على أربع، وهنا فريق يتبادل أفراده الصياح والركل، وفريق آخر يتعاقب الحركة ويتبادل الشتائم، أمَّا البقية من الشباب فتشدو بألحان لم يُسمع مثلها، وأردت أن أزداد علمًا فوجدتني خارج السور، في مدينة كبيرة يشقها شارع عملاق تتكتَّل الجماهير على جانبَيه خارج السور، وهي تهتف متطلِّعةً إلى العلم في رأس المسلة. وأخيرًا فُتح الباب الكبير، وتهادى منه الموكب، عربة إثر عربة، وفي كل عربة شاب يجلس جِلسةً ملوكية، ينظر إلى الناس من علٍ، ويرد تحياتهم باستعلاءٍ واستكبار.
حلم ٦٤
من شدة الرعب تسمَّرَت قدماي في الأرض؛ فعلى بُعد ذراعٍ مني شبَّت ثلاثة كلاب ضخمة متوحِّشة تريد أن تنقضَّ عليَّ لتفتك بي، لولا أن قبضَت على أذيالها امرأة باستماتة.
وإلى اليمين وقفت كلبة في ريعان الشباب، آية في غزارة الشعر وبياضه ونعومته، وكانت تشاهد ما يحدث في قلق تجلَّى في اهتزازات ذيلها القصير المقصوص.
وارتفع نباح الكلاب الثلاثة، وتتابع كالرعد، واشتعلت في أعينها الرغبة المتأجِّجة في الفتك بي، ولمَّا تعذَّر عليها الوصول إليَّ استدارت فجأةً ووثبت على المرأة، وعند ذاك اقتلع الرعب قلبي وارتمت عليَّ الكلاب، أمَّا الكلبة الجميلة فتطلَّعت لي مدة، وتردَّدت لحظةً عابرة، ثم ألقت بنفسها في المعركة دون مبالاة بالعواقب.
حلم ٦٥
انقضى العام الدراسي وأعلن عن يوم الامتحان، ولم نكن فتحنا كتابًا ولا حفظنا جملةً توجب التفكير فيما ينبغي عمله، وثمة قِلة كانت ما تزال تحتفظ بشيء من الاحترام لِما هو معقول، فقرَّرَت الامتناع عن حضور الامتحان، أمَّا الأخرى كانت مولعةً بالعبث واللامعقول، فانتهزت الفرصة المتاحة وعزمت على حضور الامتحان. وفي الصباح الموعود انتظمنا الصفوف ولبسنا أقنعة الجدية والاهتمام، وإذا برئيس اللجنة يقوم ويقول بصوت جَهْوري إنه سيوزِّع علينا ورقتَين إحداهما تحوي الأسئلة، والأخرى تحوي الإجابات الصحيحة. وذهبنا حقًّا فلم نكن نتصوَّر أن بين أساتذتنا من يفوقنا في حب العبث واللامعقول.
حلم ٦٦
تمَّ التفاهم بيني وبين المالك، ودعاني الرجل لمعاينة ما تم التفاهم عليه. أراني شقةً ممتازة وزوجته الحسناء وابنها وهو طفل في الثالثة، وطابت نفسي بما رأت، وتحدَّد موعد الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي للتسليم والتسلُّم، لكني في الحقيقة لم أستطِع صبرًا.
ودفعتني قوة لا تقاوَم للذهاب إلى الشقة، فإذا الذي فتح لي الباب هو المالك نفسه، ولمَّا رآني ثار غضبه وصفق الباب في وجهي بغضب ارتجَّت له الجدران، وبت ليلةً مسهَّدةً أتساءل بقلق بالغ عن الصفقة والمصير.
حلم ٦٧
بناء كبير ستجده، في الأصل كان مبنى الوزارة التي كنت موظَّفًا بها، ولمَّا رأيت الشباب يعود إليها، راودتني نفسي عن ارتيادها. في الداخل قابلت نفرًا من الزملاء القدامى، فانشرح صدري للقائهم، وسرنا من حجرة إلى حجرة، ومن ذكرى إلى ذكرى، حتى بعثنا الماضي من مرقده. ومررنا بسُلَّم واسع عجيب، فصعدت من فوري إلى الطابق الثاني، هناك رأيتُ شبابًا كثيرين، كلما رآني أحدهم تجهَّم وجهه، وألقى عليَّ نظرةً مستنكرة. انتفض قلبي وشعرت برغبة في التبوُّل، وبحثت هنا وهناك حتى استقرَّت عيناي على لافتة تُرشد إلى دورة مياه في ممرٍّ بين الحجرات، فهُرعت إليه، ولكني وجدت عُمَّالًا عاكفين على إنجاز مشروعٍ لم يتم تنفيذه لا يصلح للاستعمال. رجعت من حيث أتيت، وسرعان ما اكتشفت بأنه لا سبيل إلى الفرج إلا بالعودة إلى الطريق.
حلم ٦٨
ما أجمل هذا المكان! إن سماءه وأرضه وما بينهما تتألَّق بلون الورد الأبيض. وجوه آية في النقاء والصفاء، أمَّا معجزته الحقيقية فهي أنه جمع أصدقاء العمر الأحياء منهم والأموات، دون أن يثير ذلك دهشة أحد، فلا نحن سألناهم عمَّا وجدوا في العالم الآخر، ولا هم سألونا عمَّا حدث في الدنيا عقب رحيلهم.
ولكننا انغمسنا جميعًا في اللهو متمنِّين أن تدوم الحال، غير أن الحال لم تدُم؛ إذ هبطت من السماء سحابة سوداء، حتى ساد الظلام وفرَّق بيننا، وانهمر مطر مثل الشلالات، وتتابع البرق والرعد دون هدنة، حتى بلغت القلوب الحناجر.
وهنا تسلَّل لأذني أصوات بعض الأصدقاء.
قال الأول: «إنها النهاية.»
وقال الثاني: «إني لمحت عند الأفق قبسًا من الفرج.»
وقال الثالث: «مهما يكن من الأمر فلا مفر من الحساب.»
حلم ٦٩
هذه غابة تتوسَّطها هَضْبة هرمية الشكل، يصعد إليها من خلال ممرَّات حجرية مدرجة مزيَّنة بصفوف النخيل وأحواض الزهور وجواسق العاشقين. خلوت إلى صاحبتي.
وسبحنا معًا في مناجاة غيَّبت عن وعينا الوجود، وبغتةً انتفضت صاحبتي واقفة، وفي غمضة عين غادرَت الجوسق، وقمتُ لألحق بها وأَطمئن عليها، فاعترضني صوت كالرعد ينطلق من مكبِّر صوت، ويحذِّر الناس من وجود قنبلة زمنية، ويدعوهم إلى مغادرة الهَضْبة بلا إبطاء ولا تردُّد. واندفع الناس نحو الممرَّات الحجرية وأنا أتلفَّت. وجمعَنا رجال الأمن في موضع على بُعدٍ آمن، وبحثت عن صاحبتي فلم أعثر لها على أثر. تُرى أين اختفت؟ وهل ثمة علاقة بينها وبين الجريمة؟ وألَا يجرُّني ذلك إلى الاتهام رغم براءتي؟
وسمعت أقرب الواقفين إليَّ وهو يقول لصاحبته إن قلبه يحدِّثه بأن المسألة ليست أكثر من بلاغ كاذب، وسألت الله أن يَصدق حدس الرجل، ولكني لبثتُ ممزَّقًا من التفكير في صاحبتي وتوقُّع الانفجار!
حلم ٧٠
ناداني الشوق لرؤية الأحباب، فتوجَّهت صوب الحي العتيق، وكالعادة قطعت الطريق مشيًا على الأقدام، حتى بدا لي البيت القديم وذكرياته، ولم أضيِّع وقتًا، فأخذت في الصعود نحو الطابق الثالث والأخير، ولكن دهمني إرهاق غير يسير عند منتصف السلم جعلني أفكِّر في تأجيل الرحلة لولا أن طبعي يأبى التراجع. وبجهد جهيد واصلت الصعود حتى بلغت البسطة الثالثة. ومن موقفي الجديد لاح لي باب الشقة غارقًا في الصمت والسكون، فعلمت أنه لم يبقَ من الصعود سوى عشر درجات هن ختام السُّلَّم، لكني لم أرَ درجةً واحدة، ووجدت مكانها هُوةً عميقة، فخفق قلبي خوفًا على آل البيت.
ومع أن الوصول بات متعذِّرًا، إلا أني لم ألتفت إلى الوراء، ولم أفكِّر في التراجع، بل ولم أفقد الأمل. وجعلت أُلصق بصري بالباب الغارق في الصمت والسكون وأنا أنادي، وأنادي، وأنادي من الأعماق.
حلم ٧١
كان أجملَ ما في عهد شبابنا صديق نادر المثال، آية في خفة الروح وحلاوة النكتة ورشاقة القفشة وبراعة القافية وثراء الحكايات والنوادر، وإلى ذلك كلِّه لم يكن يَضِن علينا عند الطلب بالغناء والرقص وسائر فنون اللهو. هكذا أمتعنا دهرًا حتى وقع عليه الاختيار لشَغل وظيفة مرموقة عُرفت في بلادنا بالجلال والوقار. وتوجَّسنا خِيفة، وسرعان ما تحقَّق تخوُّفنا، فقال لنا وكأنه يرد علينا إنه قرَّر تغيير حياته من الألِف إلى الياء، ولم يراجعه أحد، وسلَّمنا أمرنا لله.
وكان إذا قابلنا في مناسبة حيَّانا بوقار شديد يعمِّق شعورنا بالغربة والأسى.
ووهنت العلاقة الحميمة وقاربت التلاشي. ولم نعُد نسمع عنه إلا في نشرة التنقُّلات والترقيات. وأخذنا نتناسى حتى نسيناه أو كدنا. وباعد الزمن بيننا وبينه حتى شاء القدر أن نلتقي على غير ميعاد، ذلك عندما احتفلت البلاد بعيدها القومي الجديد، خرجنا للمشاركة والفرحة.
وعُزفت الموسيقى النحاسية ودُقَّت الطبول، وتقدَّمت فرقة من الجيش تبعتها فرقة من الشرطة، تبعتها سيارات الصفوة، وهنا طالعَنا صديقنا القديم، ولكن على حال لم تجئ لنا في خاطر، رأيناه يمتطي حمارًا، ويتجلَّى التناقض صارخًا بين تفاهة موكبه وفخامة ملبسه. وكان يثير الضحك أينما ظهر، لكنه والحق يقال لم يلتفت يمنةً ولا يسرة، ولا حاد شعرةً عن وقاره.
حلم ٧٢
امتلأ البيت القديم بالعباسية بالطيور المهاجرة من الإخوة والأخوات في اليوم المتفق عليه لزيارة الوالدة، وطلبوا مني إعداد أكلة سمك من سمَّاك العباسية المشهور. ذهبت من فوري إلى المطعم وطلبت الطلب، ووجدت جميع الموائد مشغولة إلا المائدة التي تَلي الباب مباشرة، فذهبت إليها وجلست في طرفها أنتظر، وجاءت سيدة في الستين مصطحبة معها فتاةً في العشرين وجلستا إلى المائدة. وجاء النادل بالأطباق والطواجن. وعلى خلاف المعهود دعتني السيدة لمشاركتهما في الطعام، وبخلاف المتوقَّع لبَّيت الدعوة صامتًا، وبدأت في تناول الطعام، وسرعان ما جاء النادل باللفافة المُعدَّة للمنزل، فتناولتها وانسحبت من المائدة دون اعتذار أو شكر، وخرجت من المطعم فرأيت على بُعد ذراعٍ صديقي المرحوم «ع. ش»، وسُررت برؤياه سرورًا كبيرًا. وعلى سبيل المجاملة قدَّمت له اللفافة، لكنه أخذها بلهفة، ومضى دون أن ينبس بكلمة إلى باب مفتوح فدخله وأغلقه، دُهشت بتصرُّفه، ولكني لم أجِد مناصًا من تجديد الطلب، فرجعت إلى المطعم وجدَّدت الطلب. وكان النادل يحمل الحلوى إلى السيدة والفتاة، ودعتني للمشاركة فذهبت دون تردُّد، وهنا قالت السيدة إنها ترغب في الذهاب إلى شارع «بين السرايات»، ولكنها لا تدري كيف السبيل إليه، فتطوَّعت بتوصيلها. وسار ثلاثتنا في شارع العباسية، وتمَّ التعارف بالشكر، وتنوَّع الحديث بنا حتى إني مررت بشارع «بين السرايات» دون أن أنتبه لذلك، كما نسيت الطعام الذي يُجهَّز لي في المطعم، كما نسيت المنتظرين والمنتظرات في البيت القديم بالعباسية.
حلم ٧٣
وجدتني في البيت القديم بالعباسية، ويبدو أنني كنت متكدِّر المزاج؛ فلم يَسلم من نقدي شيء؛ مثل طلاء الجدران، وخشب الأرضية، والأثاث، حتى جاءني صوت أمي من أقصى الشقة وهو يقول بنبرة باسمة لطيفة إنه آن الأوان كي أبحث بنفسي عن شقة جديدة تعجبني … وانتقلت إلى مكان وزمان آخرين، فوجدتني في بهو متعدِّد الحُجرات والأشخاص، يوحي منظره بأنه مصلحة حكومية، وأكَّد ذلك مجيء زميلي المرحوم «ح. أ» ليخبرني بأن الوزير أرسل في طلبي. وذهبت من فوري إلى حجرة الوزير، واستأذنت ودخلت، رأيت الوزير على غير عادته من البشاشة، وقال لي إنه حلم بنقدي للثورة وزعيمها فساءه ذلك، فقلت له إني أعتبر نفسي متيَّمًا بمبادئ الثورة، ولم أكن من رافضيها، غير أني تمنَّيت دائمًا لها الكمال وتجنُّب العثرات والنكسات. وانتقلت إلى مكان وزمان آخرين فوجدتني صبيًّا يتجوَّل في ميدان بيت القاضي، وجاءني صديق في مثل سني يدعوني لحضور حفل زفاف شقيقه الأكبر، وقال إن شقيقه دعا سعد زغلول ليُشرِّف الفرح ويباركه، وأنه قبل الدعوة ووعد بالحضور. فدُهشت دهشةً كبرى وقلت له بأن سعد زغلول هو زعيم الأمة فضلًا عن أنه اليوم رئيس وزرائها، وأنت لست من أقربائه ولا من زملائه في جهاده، فقال إن سعد هو زعيم الأمة حقًّا، ويخص البسطاء بوافر الحب، وإنني سوف أرى.
وفي الميعاد ذهبت إلى الحفل في درب قرمز، ومضى بي صديقي إلى حجرة فرأيت في الصدر سعد زغلول في بدلة التشريفة يجلس بين العروسَين، ويتبسَّط معهما في الحديث، ويشاركهما في الضحك. بُهرت بما رأيت انبهارًا استقرَّ في أعماقي …
حلم ٧٤
هذا ملعب كبير حل محل بيوت الجيران في الجانب المقابل من الطريق يملؤه الجنود البريطانيون، فيغنون ويرقصون … ونحن نُتابعهم بدهشة وقلق، ثم ينتشرون في شارعنا والشوارع المتفرِّعة منه.
وتشاورنا في الأمر، واستقرَّ رأينا على الانتقال إلى حيٍّ آخر، ولمَّا لم نجد بيتًا مستقلًّا رضينا بشقة في عمارة ضخمة، ولم نضنَّ بجهد حتى جعلناها صالحةً للمعيشة. وما كدنا نركن إلى شيء من الراحة حتى سمعنا صوت خرفشة ممَّا يصدر عادةً عن الفئران، فتعكَّر صفو راحتنا … وقبل أن نفكِّر في شيء ينبغي عمله سمعنا طرقات الباب الخارجي، ولمَّا فتحت الباب رأيت كثرةً من الرجال المسلَّحين بالعصي، قالوا إنهم سكان العمارة يطاردون لصًّا يظنون أنه تسلَّل إلى شقتنا. واقتحموا الشقة وتفرَّقوا في الحجرات وأحدثوا جلَبةً مزعجة، ولكنهم أعلنوا أنهم لم يعثروا على اللص، وغادروا المكان بعد أن قلبوه رأسًا على عقب، بل واكتشفنا اختفاء اللص المتخفِّي. وبينما نحن نتبادل النظر في غيظ وضيق، إذ سمعنا من جديد صوت الخرفشة … فثرت غضبًا وقلت ليكن فأرًا أو لصًّا أو عفريتًا، فلن أفتح الباب للطارق!
حلم ٧٥
أمي ترحِّب بجارة عزيزة وكريمتها الحسناء في حجرة المعيشة بالدور الثالث في بيتنا القديم، ودُعيت للجلوس معهن ثقةً في الأُلفة بين الأسرتَين.
وفي أثناء الحوار استرقتُ إلى الفتاة نظرة، واسترقَت إليَّ نظرة، دون أن يغيب هذا عن أم الفتاة، فلمَّا ذهبت في الابتعاد عن الغرفة همسَت لنا الجارة أن انزلا إذا شئتما إلى الدور التحتاني الآن كعادة أهل البيت، وتلقَّيت الدعوة بذهول وبفرح شامل، وما إن دخلنا الدور التحتاني حتى جذبتها إلى صدري، ولكني لم أخطُ الخطوة التالية لسماع ضجة غريبة، واقتحم المكان نساء ورجال وشباب، وتفرَّقوا في الحجرات. ثم جاء رجل من رجال الأمن ووقف عند الباب زاعمًا الحفاظ على القانون، وكدت أفقد عقلي من الذهول، وضاعف من ذهولي أني رأيتهم يغنون في حجرة، كما رأيتهم يرقصون في حجرة أخرى. ونظرت إلى فتاتي مستغيثًا بها فوجدتها هادئةً باسمة … وعند ذلك قرَّرت الهرب، غير أني رأيت رجل الأمن عند الباب، فتسمَّرت في وضعي فريسةً للذهول وخيبة الأمل.
حلم ٧٦
هذه شجرة مورقة يجلس تحتها صديق الشباب وشهيد الوطنية … وعلى الرغم من مرور عشرات السنين عن رحيله، فإنه بدا أنيقًا في صحة وعافية، فانشرح صدري لمرآه، وهُرعت إليه ولكنه أوقفني بإشارة من عصًا بيده، ذكَّرته بعهد الصداقة فلم يعبأ بكلامي، وقال إنه لم يعد يستطيع صبرًا مع تل القُمامة.
قال ذلك وألقى عصاه، ثم ذهب، التقطت العصا وأنا حزين، ولكنها نفخت فيَّ روحًا جديدة، فانطلقت من فوري إلى تل القُمامة وانهلت ضربًا على أطرافه، وكل ضربة أحدثَت شقًّا، ومن كل شق يخرج رجال ونساء ليسوا على شاكلة جامعي القُمامة، ولكنهم آية في النظافة والوجاهة والفخامة. وكلما لمح أحدهم العصا بيدي فرَّ يركبه الفزع، عند ذلك رسخ يقين بأن الشمس ستشرق غدًا على أرض خضراء وجو نقي.
حلم ٧٧
انعطفت إلى الشارع الجانبي الهادئ حاملًا حقيبتي بيدي، وسرعان ما تلقَّيت من الطريق سيلًا من الذكريات والأشواق المحفوفة بالقلق والخوف.
وتوقَّعت عتابًا على غَيبتي غير القصيرة، واستعددت له بالمعاذير المناسبة.
وبلغت مدخل العمارة، فلاح لي باب في الشقة الأرضية على بُعد أربع درجات من السلَّم، وضغطت على الجرس متطلِّعًا بوجه باسم، وفُتحت الشُّراعة عن وجه رجل غريب في جلباب منزلي يوحي بأنه صاحب المكان، وفجأةً هوى وجداني الملتهب إلى قاعة بحيرة جليدية، وفكَّرت بسرعة في اختلاق كذبة تنتشلني من ورطتي، فادَّعيت أني تهت وأبحث عن سكن فلان أفندي المدرِّس، وأنني ضللت العمارة.
فقال الرجل وهو يتفرَّس في وجهي بارتيابٍ وتحفُّز: هذه شقته وهو في الداخل، فمن حضرتك لأبلغه؟
وأدركت أنني انكشفت وخرست مبهوتًا، فارتفع صوت الرجل وهو يقول: ما أنت إلا كذاب وفاسق مثل جميع من جاءوني قبلك.
ولم أُطق المزيد فهرولت نازلًا وكدت أفقد توازني، فسقطت الحقيبة من يدي وانفتحت، فظهر داخلها زجاجة نبيذ وكيلو كباب في طبق من ورق، ولكني لم أكن أفكِّر إلا في أمرٍ واحدٍ وهو أن أختفي في سرعة البرق.
حلم ٧٨
يا لها من جنازة كبيرة! لا أدري كيف انضممت إليها، فإني لا أعرف أحدًا من المشيِّعين، بل لا أعرف الميت، والأغرب أن الجنازة سلكت طريقًا لم تسلكه الجنازات من قبل؛ فقد اتجهت نحو شبكة من قضبان السكة الحديد، وعبرنا بها إلى الخلاء حيث توقفت عن السير طلبًا للراحة، على حين واصلت القطارات سيرها نحو الشمال ونحو الجنوب، وعلا جدل بين الملتفِّين حول النعش، فريق يرى أن يحمله إلى الجنوب، وفريق يريد أن يحمله إلى الشمال، وكلا الفريقَين يزعم بأنه ينفِّذ وصية الراحل، وصاح أحد العارفين يذكِّر القوم بأن الراحل ولي من أولياء الله الصالحين، وأنه لن يسمح لأحد بحمله إلى جهة لا يرضاها، وأمَّن القوم على قوله، وجرَّب فريق الجنوب حظه، ولكنه عجز عن حمل النعش، وجرَّب فريق الشمال حظه أيضًا، فمُني أيضًا بالفشل، عند ذاك أدرك الجميع أن ولي الله يأبى أن يغادر الموقع الذي هو فيه، وسط بين الجنوب والشمال.
حلم ٧٩
جلست في شرفة الفندق الصغير المطلة على البحر، غاب عني المنظر الجميل لشدة استغراقي في انتظار فتاتي، ولمَّا طال الانتظار جاءني مدير الفندق، وهو أيضًا صديق صباي، واقترح عليَّ أن أعالج حالتي بالمشي. ذهبت إلى الشاطئ، ورحت أسير ذهابًا وإيابًا، وإذا بي ألمح فتاتي في سباق سباحة مع نفر من الشبان، أحدهم مضى بها إلى الصخرة ليستريحا بعيدًا عن الأعين. تلقَّيت طعنةً في القلب، وغرقت في إحباط لا قرار له، وأدركني المدير الصديق وقال: هذا هو حال الدنيا فلا تستسلم للحزن.
فقلت له: أنت تعلم أنني عرفت أشياء كثيرة، ولكني لم أتعلَّم السباحة.
وأخذني إلى ركن هادئ في حديقة الفندق. وبقيت ساعةً في غمٍّ وهم، وإذا بمفاجأة غير متوقَّعة بحال؛ رأيت فتاتي تُقبل نحوي متهلِّلة الوجه بالسعادة، وتوثَّبتُ لإفراغ شحنة من غضبي، وإذا بي أتلقَّى مفاجأةً جديدة غير متوقعة وغير مفهومة وتستعصي على أي إدراك؛ فقد غمرتني بغتةً فرحة شاملة مسحت عن صدري الأحزان كلها وكأن ما كان لم يحدث. وهكذا تقابلنا كما نتقابل كل مرة، وذهبنا للتجوُّل في المدينة كالعادة، ولمَّا مررنا بمحل بيع الهدايا دخلنا دون تردُّد واتجهنا إلى القسم المخصص لهدايا الخطوبة والأفراح، وقلَّبت فتاتي عينها في الهدايا التي لا تُحصَى وقالت: ليس لدينا من الوقت ما يكفي.
فقلت ببراءة: لدينا وقت يكفينا للأبد.
حلم ٨٠
جمعتنا الحجرة القديمة أنا وأمي وأخواتي الأربع، وما إن أغلق الباب علينا حتى تصاعدت الشكوى من الزمان والناس، فأقبلَت أمي عليَّ قلقة، وأقسمَت بكل يمين أنه ما من قول قالته أو فعل فعلته إلا بدافع الحب الخالص، فتساءلَت أصوات: إذن كيف حدث ما حدث؟
فقالت أمي بعتاب: عليكم أن تحاسبوا أنفسكم أيضًا وألَّا تقولوا معي إنه المقدَّر والمكتوب.
حلم ٨١
أخيرًا ذهبت إلى القصر ورجوت البوَّاب أن يُبلغ الهانم أن الفائز بجائزتها حاضر ليقدِّم الشكر بنفسه إذا تنازلت وسمحت بذلك. ورجع الرجل بعد قليل وتقدَّمني إلى بهوٍ راعني جماله وضخامته، ولم تلبث أن عزفت الموسيقى لحن الإقبال، فأقبلَت الهانم تتهادى في أبعادها الفتَّانة، فقمت لأُلقي خطاب الشكر، ولكنها بحركة رشيقة من يدَيها كشفت عن ثديَيها وأخذت من بينهما مسدسًا أنيقًا وصوَّبته نحوي فنسيت الخطاب … وأخذت أنصهر من قبل أن تلمس الهانم زناد المسدس.
حلم ٨٢
أسعدني جدًّا أن يتولَّى شئون المؤسَّسة المدير الجديد على الرغم من أنني لم أشارك في انتخابه، ولكن كلما أثنيت عليه تصدَّى لي إخوان بالسخرية، فسِرت حائرًا بين الإعجاب من ناحية والسخرية من ناحية أخرى، ولكني رفضت اليأس رفضًا تامًّا.
حلم ٨٣
رأيت الكارتة مقبلةً حاملةً فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفت وقفزت إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكبًا مضيئًا.
حلم ٨٤
رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية في الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعيًا إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن عليَّ أن أجد لنفسي مخرجًا.
حلم ٨٥
هذه محطة ترام وأنا حائر بين أبعادها لانتظار مجيء ترام ما، ولكن ترقُّبي لسطوع القمر في النافذة المطلَّة على المحطة، حيث أختلس نظرةً بعد نظرة، وأتمادى في الطلب، وما أكثر الأصدقاء الذين يسألونني حتى متى تبقى وحشتي، ولكن أنا في رحلة لا مفرَّ منها كأنها قضاء وقدر، والحق أنها رحلة شاقة مرهقة وأطول ممَّا تصوَّرت. وعند العودة لم يتبيَّن لي إلا قفص مربع هو النافذة، ووجدتها بموضعها، ولكنها بدت واجمةً لا تستجيب ولا تجيب، وكما كنت بالأمس، ووقفت تحت النافذة منتظرًا غير عابئ بالمارة، وأخيرًا هبط عليَّ صوت حديث كالهمس، يتخللَّه ضحك مكتوم.
ثم سمعت صوتًا يتساءل: ما حكاية الرجل الذي يقف تحت النافذة؟
فأجابه صوت ضحكتها: إنه يبكي عن ذكرى حبيبٍ ومنزل.
حلم ٨٦
كُلفت بحمل رسالة إلى المرحوم الدكتور حسين فوزي، فقلت له إن معي عرضًا لإعادته في الخدمة مع زيادة ملموسة في الراتب وتخصيص حجرة فاخرة لمقامه. ضحك الدكتور وقال إنه لا يهمه الراتب ولا الحجرة، ولكن يهمه احترام فكره وكرامته.
ورجعت وفي يقيني أن مهمتي قد فشلت.
حلم ٨٧
في الصباح الباكر اكتُشفت الجريمة الوحشية، وما لبثت وحشيتها أن صارت حكايةً على كل لسان، ولكني لم أجِد موضعًا للاختباء؛ إذ إن المكان كله يتقاسمه رجال الشرطة وطبيبات المرض النفسي. وأصبحت فريسةً للقلق، حتى استدعتني إلى حجرتها كبيرة الطبيبات، وقالت لي: الأكثرية هنا يفسِّرون وحشية هذه الجريمة بالقسوة الكامنة في طبيعة القاتل، أمَّا أنا فأفسِّرها بقلة خبرته وجهله للأصول العلمية الحديثة لفن القتل؛ لذلك قرَّرت إلحاقه بالمعهد العصري للجريمة، والله ولي التوفيق!
حلم ٨٨
في قريتنا كل فرد ينتظر رسالةً قد تقرِّر مصيره، وذات يوم تلقَّيت رسالتي فقرأت فيها أن الحكم صدر بإعدامي شنقًا. وذاع الخبر كعادة تقاليدنا، فاجتمع أعضاء نادي القرية وقرَّروا الاحتفال بالأمر في حينه، أمَّا في بيتي حيث أعيش مع أمي وإخوتي وأخواتي، فقد انشرحت الصدور وعمَّ السرور. وفي اليوم المنتظر دقَّت في النادي الطبول، وخرجت أنا من بيتي في أحسن زينة محاطًا بأفراد أسرتي، ولكن أمي شذَّت عن حالنا، فدمعت عيناها وتمنَّت لو كان العمر امتدَّ بأبي حتى يشهد بنفسه هذا اليوم السعيد.
حلم ٨٩
من موقفي في الحديقة رأيت سيدةً في الستين مقبلةً نحوي، متجهِّمة الوجه، وقالت بنبرةٍ غاضبة: بسببك خسرت الجائزة.
وتذكَّرت السيدة ووجهها الحزين، ولكني لم أفهم لقولها معنًى، واستمرَّت تقول: اللجنة استبعدت قصتي بحجة أنها نسخة من قصتك المطبوعة منذ أربعين سنة.
وضح كل شيء، وعرفت أن الحظ السيئ ما زال يتعقَّب المرأة، وواصلت حديثها: أقسمتُ لهم أن قصتي لا يجوز أن تتهم بسبب بسيط وهو أنها قصة حياتي.
فقلت بانفعال: صدقت، أنا الذي اقتبست قصتي من واقع حياتك الذي شاركت فيه أسوأ مشاركة.
فقالت وهي تضحك بسخرية: فرصة أن أكون ضحيةً لك في واقع الحياة لا في الخيال …
حلم ٩٠
تمَّ بناء البيت فكان تحفةً معماريةً جاء إليها الناس من جميع الأطراف، وكل يأمل امتلاكها … وكثرت المساومات واشتدَّ الجدل، حتى شقَّ الجموع عملاق وهو يقول بصوتٍ جهير: إن القوة هي الحل. ووجم الناس إلا واحدًا تصدَّى له، فقامت بينهما معركة حامية حتى تمكَّن العملاق من توجيه ضربة إلى رأس خصمه، فهوى فاقد الوعي، ثم اقتحم العملاق البيت وأغلق البيت بإحكام. وتمر الساعات فلا يُفتح في البيت منفذ اتقاءً للانتقام. أمَّا الواقفون في الخارج فلم يأتوا بحركة مجدية وكأنهم في الوقت ذاته لم يتفرَّقوا.
حلم ٩١
في البدء كانت العربة، كنت أدفعها أمامي بقوة ومرح. وذات يوم وجدت على سطح العربة طفلة، فازددت نشاطًا ومرحًا، وتتابع القادمون حتى غطوا السطح فاستنفدوا قوتي ومرحي. وشعر الراكبون بمعاناتي فعزمت على ترك العربة حالما تسنح فرصة طيبة. وبمرور الأيام خلا السطح، رجع إلى أصله، أمَّا أنا فلم أرجع، بل ازددت ضعفًا، وأخيرًا ركنت العربة ورقدت إلى جانبها.
حلم ٩٢
وجدت نفسي في بهو جميل، وبين يدَي وعاء ذهبي مُلئ بما لذَّ وطاب.
فذكَّرني هذا بسمار الليالي من أصدقاء العمر الراحلين، وإذا بي أراهم مقبلين تسبقهم ضحكاتهم المجلجلة، فتبادلنا السلام وأثنوا على الوعاء وما فيه، غير أن سعادتي انطفأت فجأة، وصارحتهم بأنني لن أستطيع مشاركتهم، حيث منعني الأطباء من التدخين منعًا باتًّا، وبدت الدهشة على وجوههم، ثم ركَّزوا أبصارهم في وجهي وتساءلوا ساخرين: أما زلتَ تخاف من الموت؟!
حلم ٩٣
على سطح بيت قريب رأيت أثاثًا يُرتَّب ويُنمَّق، سألت فقيل لي إن صاحب ذلك البيت حوَّل بيته إلى معهد ثقافي بالمجَّان، قانعًا بالمعيشة فوق السطح، فأعجِبت به وأكبرته وعزمت على حضور بعض دروسه، ووجدت المكان غاصًّا بالبشر، وقال الرجل إن درس اليوم سيكون عن الثور الذي يحمل على قرنه الأرض، وصدمني قوله بشدة، ففرَّت مني ضحكة ساخرة، فاتجهَت نحوي الوجوه شاخصةً بالغضب، أمَّا الرجل فرماني بنظرة عابسة وهو يُشير صامتًا إلى باب الخروج.
حلم ٩٤
خمسة انقضوا عليَّ شاهرين المطاوي فسلبوا نقودي وفرُّوا بسرعة مذهلة، ولكن بعض ملامحهم انطبعت على ذاكرتي، ومنذ وقوع هذا الحادث تجنَّبت المشي منفردًا في الشوارع الجانبية، غير أن الشارع الرئيسي لم يكن يخلو من متاعب؛ فذات يوم وجدت المرور متوقِّفًا والناس متكدِّسين على الجانبَين، وما لبث أن جاء طابور من سيارات عديدة، ولما مرَّ أمام ناظري مؤخِّرة الطابور لمحت وجهًا انشق لمرآة قلبي، فجعلت أنطق: «يخلق من الشبه أربعين.»
حلم ٩٥
تمَّت الموافقة على بدء الرحلة، فتلقَّى الأهل الخبر بالرضا، وسارعوا إلى إمدادي بالمال، فذهبت من فوري إلى الترزي لتفصيل بدلة على أحدث موضة، وقام الرجل بعمله كأحسن ما يكون، ولم يكتفِ بذلك، بل جاء بعِمامة أنيقة ووضعها على رأسي وهو يقول: إنه بذلك تصبح البدلة على أحدث موضة.
حلم ٩٦
اشتدَّ العراك في جانب الطريق حتى غطت ضجته ضوضاء المواصلات، ورجعت إلى البيت متعبًا، وهناك تاقت نفسي إلى التخفُّف من التعب تحت مياه الدش، فدخلت الحمَّام فوجدت فتاتي تجفِّف جسدها العاري، فتغيَّرت تغيُّرًا كليًّا واندفعت نحوها، ولكنها دفعتني بعيدًا وهي تنبِّهني إلى أن ضجة العراك تقترب من بيتي.
حلم ٩٧
هذه حجرة السكرتارية حيث أمضيت عمرًا قبل إحالتي إلى المعاش، وحيث زاملت نخبةً من الموظفين، شاء القدر أن أشيِّع جنازاتهم جميعًا. واسترقت نظرةً من داخل الحجرة لأرى من خلفونا من الشباب، فكدت أن أُصعق؛ لم أرَ سوى زملائي القدامى. واندفعت إلى الداخل هاتفًا: «سلام الله على الأحباب»، متوقِّعًا ذهولًا واضطرابًا، ولكن أحدًا لم يرفع رأسه عن أوراقه، فارتددت إلى نفسي محبطًا تعسًا. ولمَّا حان وقت الانصراف غادروا مكاتبهم دون أن يلتفت أحد نحوي، بما فيهم المترجمة الحسناء، ووجدت نفسي وحيدًا في حجرة خالية.
حلم ٩٨
من موقفي على الطِّوار أرسلت بصري إلى الحديقة من خلال قضبان السور الحديدية، وهناك رأيت مالكة فؤادي وهي توزِّع شوكولاتة على المحبين، فاندفعت جهة باب السور حتى بلغت مدخل الحديقة وأنا ألهث، وواصلت الجري في الداخل، ولكني لم أعثر للمحبوبة على أثر، فهتفت بحدة لاعنًا الحب. وحانت مني التفاتة إلى الخارج، فرأيت الفتاة في الموضع الذي كنت فيه وهي تتأبَّط ذراع شاب بدا أنه خطيبها، وهممت بالرجوع من حيث أتيت، ولكن أقعدني الإرهاق وطول المسافة وفوات الفرصة.
حلم ٩٩
هذا فناء مستدير تتوسَّطه نخلة رشيقة، وتقوم في جوانبه بيوت صغيرة، وعند العصاري تُفتح الأبواب وتخرج النساء للسمَر تحت النخلة، ويدور الحديث غالبًا حول البنات والزواج، وأنزوي أنا بعيدًا لأتابع الحديث بشغف، وعندما يهبط المغيب يعضني الجوع، ولم يكن يعلم بحالي سوى صديقة طفولتي تتسلَّل إليَّ حاملةً طبقًا صغيرًا نصفه مملوء بالجبنة البيضاء، والنصف الآخر مفروش بالبقدونس، ونتعاون معًا على معالجة الجوع على أنغام حديث الزواج.
حلم ١٠٠
هذه محكمة وهذه منضدة يجلس عليها قاضٍ واحد، وهذا موضع الاتهام يجلس فيه نفر من الزعماء، وهذه قاعة الجِلسة، حيث جلست أنا متشوِّقًا لمعرفة المسئول عمَّا حاق بنا، ولكني أُحبطت عندما دار الحديث بين القاضي والزعماء بلغة لم أسمعها من قبل، حتى اعتدل القاضي في جِلسته استعدادًا لإعلان الحكم باللغة العربية، فاسترددت للأمام، ولكن القاضي أشار إليَّ أنا ونطق بحكم الإعدام، فصرخت منبِّهًا إياه بأنني خارج القضية، وأني جئت بمحض اختياري لأكون مجرَّد متفرِّج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخي.
حلم ١٠١
زيَّنا البيت ترحيبًا بالابن العائد بعد غياب، أصبح فيه نجمًا من نجوم المجتمع. وأمضينا السهرة في الشرفة التي تمد الشقة بالمنظر الجميل والهواء النقي. وأتحفَنا العائد بالأشعار والألحان حتى انتصف الليل، وفي الصباح وجدت مدخل الشرفة مسدودًا بدولاب عملاق، فخجلت، ولكن الابن لم يَخفَ حزنه؛ إذ ثبت له أن أناسًا من صميم أسرته لا يستلطفون وجوده ويكرهون عمله الجميل.
حلم ١٠٢
أخيرًا اهتديت إلى مأوًى في الدور التحتاني من بيت قديم، ولكن سرعان ما ضقت برطوبته وسوء مرافقه، فسعيت من جديد حتى نُقلت إلى الدور الفوقاني، وهو أفضل من جميع النواحي، غير أن السماء أمطرت بغزارة غير معهودة، فانسابت المياه من الأسقف، فاضطُررنا إلى تكويم العفش وتغطيته بالأكلمة. وغادرنا الشقة إلى بير السلَّم، فشعر بنا ساكن الدور التحتاني الجديد، فخرج إلينا ودعانا بإلحاح وبشدة إلى الداخل حيث الدفء والرعاية.
حلم ١٠٣
ماذا جرى لبيتنا؟ جميع المقاعد تلاصقت وسُمِّرت قوائمها في الأرض، وخلت الأسقف من المصابيح، والجدران من الصور، والأرض من السجاجيد، فماذا جرى لبيتنا؟
قالوا بأنه إجراء لتأمين البيت لتعدُّد حوادث السطو على المنازل، فقلت دون تردُّد إن السطو أحب إليَّ من القبح والفوضى.
حلم ١٠٤
رأيتني في حي العباسية أتجوَّل في رحاب الذكريات، وذكرت بصفة خاصة المرحومة «ع»، فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتي عند السبيل، وهناك رحَّبتُ بها بقلب مشوق، واقترحت عليها أن نقضي سهرتنا في الفيشاوي كالزمان الأول. وعندما بلغنا المقهى خفَّ إلينا المرحوم المعلم القديم ورحَّب بنا، غير أنه عتب على المرحومة «ع» طول غيابها، فقالت إن الذي منعها عن الحضور الموت، فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق الأحبَّة.
حلم ١٠٥
جميع الرجال في حيِّنا يَحلقون رءوسهم في صالون عم عبده انجذابًا للحسناء الجالسة خلف صندوق النقود، وتمنَّينا جميعًا أن تتحسَّن حالتنا المالية فنحلق ذقوننا كل صباح في رحاب الجمال. وذات يوم وجدتني أسير في طريق متألِّق الجمال والنقاء، وإذا الحسناء مقبلة نحوي من بُعد قريب، حتى إذا حاذتني التفتَت إليَّ فجأةً وأخرجت لي لسانها، وبسرعة مذهلة تحوَّل وجهها إلى كتلة خشبية سميكة، فذُعرت وسارعت مبتعدًا، غير أن ترامى إليَّ صوت ضحك، فنظرت ناحيته فرأيت الحسناء تُراقص الأسطى وهما في غاية الحيوية والمرح.
حلم ١٠٦
غزا الوزارة نبأ بأن انقلابًا قد وقع في الصباح الباكر، فتجمَّع الموظَّفون حول التليفزيون، واستمعنا إلى البيان الأول، فقال موظَّف قديم إنه سمع هذا البيان في مطلع شبابه، أمَّا أنا فاكتشفت أن زعيم الانقلاب صديق حميم، ومن فرحتي أعلنت الخبر مسترخيًا في حبور بأن الحياة سوف تضحك لي، فقال الموظف القديم: إنه قد تضحك لي الدنيا، وقد أعدَم بدون محاكمة.
حلم ١٠٧
يا له من تراحم عجيب! ففي حقيقته يرقد نعش كُتب عليه أن هذه جنازة فلان تنفيذًا لوصيته، وفلان زميل كريم اشتُهر بندب حظه السيئ، فعلى كثرة مؤلَّفاته لا يكاد يعرفه قارئ، وجاء المشيِّعون والمتفرِّجون حتى بلغ الكرام المدافن وسط مظاهرة لم تَشهدها جنازة من قبل، وما جاء المساء حتى كان اسم الراحل يتردَّد على كل لسان.
حلم ١٠٨
غادرتُ القطار الجميل وقلبي مفعم بالأشواق، ولكني وجدت نفسي في خلاء مخيف، فأين إذن الحديقة التي لا يوجد مثلها في البلاد؟! وأدركني رجل وجيه. تذكَّرت وجه الرجل الذي تزوَّج من حبيبتي منذ سنوات، فاعتذر عن التأخير في بدء العمل لتعاقب الحروب، وأكَّد أن الرأي استقرَّ نهائيًّا على أن يعود هذا الأسبوع، وعلى أن يتم تمامه في شهر واحد، تعود بعده الحياة لأجمل حديقة في الوجود. وبخلاف المتوقَّع فإنني صدَّقته أملًا أن يجيء يوم تجمع الحديقة بيني وبين حبيبتي، كما جمع بيننا حي واحد في الزمان الأول.
حلم ١٠٩
هذا تلميذي يتلقَّى عني علوم الموسيقى والألحان، وسرعان ما أصبح تلميذي نجمًا ثريًّا، وظلِلت أنا في الظل منسيًّا، فتركت عملي الجميل الشاق، واشتغلت بتهريب الآثار. وكفَّ تلميذي عن التعلُّم والعلم، وأدمن المخدرات وعرض صوته للتلف. وحدث أن جمعَنا حفل ساهر فلا هو عرفني ولا أنا عرفته، وأخذت أتساءل مع كثيرين عن تدهورنا وما جرى لنا.
حلم ١١٠
إنه مشوار مرهق، وعند نهايته وجدت بوابةً مغلقة، فاستجمعتُ قواي وجعلت أرفعها حتى استجابت، فرأيت وراءها بحيرةً تنطلق منها صواريخ، كلما بلغ صاروخ الفضاء في الفجر باعثًا من الظلمة وجهًا عزيزًا محبوبًا، امتلأ الفضاء بالأحبة، ومع ذلك فما زلت أنتظر سطوع الوجه الذي علَّمني العشق وألهمني الخلود.
حلم ١١١
في الجو غيم وفي الصدور قلق يترامى إلينا من بعيد لا يتوقَّف، وقال صاحبي وهو يحذِّرني بأنهم يستهدفون حياتنا، فقلت له إني عرفت أخيرًا سبيل الخلاص، ولا أنكر أنه وعر كثير المقاومة، ولكن ليس عندي خير منه، فاتبعني إن شئت. وتفكَّر صاحبي طويلًا، ثم تبعني وهو يقول إن الأعمار بيد الله وحده!
حلم ١١٢
يا لها من ضوضاء! فثمة أصوات متضاربة، وخطوات تهرول حينًا وتركض حينًا، وصرخة هنا، وصرخة هناك، وطلقات نارية، وامرأة تستغيث بالله. أذهلني التشابه بين صوتها وصوت المرحومة أمي. ومن فُوري هرعت إلى السطوح حيث اجتمع إخوتي وأخواتي، وتحدَّث أخي الأكبر عن الاستغاثة والصوت، فقال لي بتيقُّن بأن الصوت هو صوت أمِّنا دون غيره، وليس آخر يشبهه.
حلم ١١٣
أخيرًا حضر الوزير الجديد فقدَّمت له نفسي باعتباري سكرتيره البرلماني، ولكنه لم يفهم كلمةً من كلامي، فحاولت شرح عملي، ولكنه نهرني بحدة، وأمر بنقلي من وظيفتي، وهكذا بدأت المعاناة في حياتي، ثم شاء القدر أن يجمع بيني وبين الوزير في مكان غير متوقَّع وهو السجن، وبعد أن أفقت من ذهولي أخذت أذكِّره بلقائنا الأول وما جرى فيه، حتى تذكَّر وتأسَّف واعتذر، وانتهزت وجودنا في مكان واحد كي أشرح له عمل السكرتير البرلماني.
حلم ١١٤
جاءت الشغَّالة الجديدة مصحوبةً ببعض أقربائها وكأنهم أرادوا أن يشاهدوا المكان وأهله لتطمئن قلوبهم على ابنتهم الوسيمة، غير أن الوسيمة لم تمكث عندنا إلا نصف يوم، ثم ذهبت تاركةً في النفوس غضبًا وبلبلة. حتى كان ذات مساء فرأيتها تخرج من عمارة قريبة وهي على حال من الانحراف الصارخ، فصعقتني الحقيقة الغائبة، وأدركت عمَّ كانوا يبحثون في اللقاء الأول.
حلم ١١٥
في البدء التهب الخصام حول إصلاح البيت بين الساكنة في الدور التحتاني ومالكة البيت المقيمة في الدور الفوقاني، وترامت الأصوات إلى الحارة الصغيرة، ففُتحت نوافذ وأبواب، وأيَّد البعض مالكة البيت، أمَّا الكثرة فأيَّدت الساكنة. واحتدم الجدل، ثم تطايرت الشتائم حتى أنذر الغضب الأحمر بسفك الدماء.
حلم ١١٦
ذهبت لتهنئة صديق قديم على الوزارة، ولكن بخلاف المتوقَّع قوبلت في المكتب بفتور واضح، ثم طال انتظار المقابلة دون جدوى، فتسلَّل إلى ظني أن بعضهم افترى عليَّ فِريةً أفسدت الود القديم. وأخيرًا غادرت مجلسي لا أرى ما بين يدَي، واستقبلني زميل يُبقي على ودِّه، وقال لي ألَا لعنة الله على ألسنة السوء، فسألته ولِمَ لم يقابلني ويتحقَّق من الأمر، فقال إنه مضى زمن والقانون معطَّل اكتفاءً بأقوال الشهود.
حلم ١١٧
كنت جالسًا في المقهى وإذا بفُتوة الحي يجلس إلى جانبي دون استئذان، فرحَّبت به مرغمًا، فقال إنه اختارني للزواج من ابنته المطلقة، فارتعشَت أطرافي وقلت إنني سأتزوَّج من ابنة عمي في نهاية الأسبوع، فقال ببساطة وثقة أنت ستتزوَّج من ابنتي، وأنا سأتزوَّج من ابنة عمك.
حلم ١١٨
وجدتني في ميدان محطة الرمل المزدحم دومًا بالبشر، ولمحت في ناحيته الرجل الذي تُردِّد كلماته الألوف وهو يغازل غانية، فهمست في أذنه: «إذا بُليتم فاستتروا.» فقال: وهل ثمة ستر أقوى من ملابسها؟!
حلم ١١٩
وصلت إلى المحطة في الوقت الحرج، واتخذت موقعي في الطابور الممتد إلى شباك التذاكر. ظلِلنا بين القاطرة والشباك حتى انطلقت صفارة الإنذار الأخيرة، وما زلت على مبعدة من الشباك، وهكذا فاتني القطار.
حلم ١٢٠
قمنا برحلة إلى المملكة التي تغنَّى بروعتها الشعراء، وهناك انضمَّ كل فرد إلى المرشد الذي اختاره، ينتقل به من مشهد إلى مشهد، ومن جبل إلى بحيرة، ومن متحف إلى مقبرة، وقال المرشد إنه لم يبق من الرحلة إلا الحديقة البللورية، ودعانا إلى شيء من الراحة والتأمُّل كي لا يصدمنا الانبهار، فسألْنا وهل ثمة انبهار يفوق ما شاهدنا من أحياء وأشياء؟ فابتسم المرشد وواصل السير ونحن في أثره …
حلم ١٢١
رأيتني أسير في شارع كورنيش الإسكندرية مستهدفًا العمارة التي أرى في إحدى شرفاتها السيدة الأنيقة بصحبة زوجها وأبنائها الشبان. فلمَّا فتر الهدف ذاب المنظر ذوبانًا سحريًّا ناعمًا، حتى اختفى وحل محله شارع العباسية. وما زلت أسير نحو العمارة الجديدة التي تطالعني من إحدى نوافذها الفتاة التي لا تُنسى، ولكني وجدت النافذة خالية، فقرَّرت الانتظار كالعادة في محطة الترام، ولكني لم أجد للمحطة أثرًا، ولا لقضبان الترام أثرًا على طول الشارع.
حلم ١٢٢
الليل سجى فاحتوتنا غرفة. وهبتنا الظلمة راحةً عابرةً وفرحًا حميمًا، وترامى إلينا من الطريق ضجة، فهُرعت إلى خَصاص النافذة، فرأيت قومًا يحدِّقون بشخص مألوف الهيئة، وينهالون عليه باللعنات واللكمات، وهو مستسلم لم يقاوم، حتى شعرت باللكمات تخرق جسدي.
حلم ١٢٣
هذا ميدان الأوبرا وفيه أسير متجهًا نحو مقهى الحرية، فأدهشني أن أجدها خاليةً من رُوَّادها، اللهم إلا شخصًا منكبًّا على قراءة أوراق مبسوطة بين يدَيه، وسرعان ما تبيَّن لي أنه أستاذي الشيخ مصطفى عبد الرازق، فانشرح صدري واندفعتُ نحوه مشتاقًا إلى لقاء حميم، غير أنه التفت إليَّ متجهِّمًا فهبط قلبي، وأشار الأستاذ نحو الأوراق وقال لي آسف، إنه قرأ اسمي بين شهود الإثبات، فلم أدرِ ماذا أقول ولا كيف أعتذر!
حلم ١٢٤
كثيرًا ما اجتمعنا بمكان يقع بين الحقول من ناحية، والطريق العام من ناحية أخرى، حتى قال لي صاحبي إن هذا الموقع لا يضمن السلامة في كل الأحوال. ومن لحظتها سكن القلق في صدري، حتى استيقظت ذات صباح على ضجة وصياح، فقمت إلى النافذة فرأيت جُموعًا لا يحصرها حصر، وجماهير لم أميِّز فيها سوى الغضب الأحمر.
حلم ١٢٥
توجَّهت إلى مسكني فوجدته يمور بالحركة ولا شيء من الأثاث في موضعه، وثمة غِلمان وبنات لا أعرفهم يلعبون هنا وهناك دون أن يحسوا بحضوري، فانقبض صدري، ودلفت إلى الشُّرفة المطلَّة على حديقة قريبة مني، وفيها شجرة ضخمة تمتلئ أغصانها بالعصافير المزقزقة، وكانت الزقزقة وحركة العصافير قد أنستني كل شيء غير صوت العصافير وهي تغرِّد.
حلم ١٢٦
ذهبنا لتهنئة الوزير الجديد بوصفنا أصدقاء قدامى فرحَّب بنا، ووجدنا أحباء آخرين فرجعنا معهم إلى عهد الصبا، وفي الصباح التالي أذاع الراديو البيان الأول لحركة الجيش، وعندما ذهبنا إلى السكرتارية للترحيب قالوا لنا لا تُسهبوا في الترحيب قبل أن تعرفوا القادم.
حلم ١٢٧
في حديقة هذه الفيلا نجتمع مساءً للسهر والسمر في حرية شاملة، ولكن صاحب الحديقة تغيَّر فجأةً فاستبدَّ بكل شيء؛ فهو يختار موضع الجِلسة وموضوع الحديث والأكل والشرب، وحسبناها دعابة، ولكنه استمرَّ وتمادى، فضقنا به ذرعًا، غير أننا أخفينا مشاعرنا إكرامًا للموقف، إلا واحدًا لم يستطِع إخفاء مشاعره. وذات مساء انفجر غضبه المكتوم وجُن جنونه فصرخ، وأخرج من جيبه مسدَّسًا صوَّبه نحونا بيد مرتجفة، فتفرَّقنا في الحديقة تطاردنا لعناته وشتائمه.
حلم ١٢٨
هذا محل لبيع التحف يتألَّق نورًا وبهجة، وتجلس في خدمة ضيوفه شابة آية في الجمال. وطفت به حتى صادفني مطعم صغير، فتناولت سندوتشًا، ودخَّنت سيجارة، والتفتُّ لرؤية الشابة الجميلة، لكني وجدت مكانها امرأةً طاعنةً في السن، فانقبض صدري، وأرسلت نظري باحثًا عن الجميلة، فمضيت في حَيرة بمرآة فوقها مشهد به صورة عجوز يتوكَّأ على عصًا غليظة، قد أعياه المشي والقلب والذاكرة.
حلم ١٢٩
ما زلت في صباحي مستوصيًا بالصبر والعزم والاستمرار، حتى بلغت مرتفعًا أوحى إليَّ بأخذ شيء من الراحة، وهنا لمحت صبيًّا يكافح للصعود، فرَقَّ له قلبي، ومددت له يدي، ولكنه جذبني بقوة لأجدني أتدحرج ولا أملك لنفسي شيئًا.
حلم ١٣٠
صحوت من نومي على أصوات تناديني غير عابئة بوقار الليل، وسرعان ما عرفت منها أصوات صديقات الزمان الأول، وكن يُذكِّرنني بالميعاد الذي لم أنجزه، فتلفَّحت بالروب وهرولت إلى الخارج، ولكني وجدت الشارع خاليًا والصمت سائدًا.
حلم ١٣١
لقاؤنا في هذا الركن من الغابة، وحياتنا طرب مستلهم من المواويل، وسماؤنا سحب من دخَان رقيق عاطر، ونحن كأننا نائمون أو غافلون. وذات يوم اقتحم هدوءَنا غناءٌ غريبٌ مجنون الإيقاع شديد الصخب، فذُهلنا ورأى بعضنا إسكاته ولو بالقوة، على حين آثر البعض التأمُّل والحكمة، وعلى أي حال فقد استيقظ النائمون وتنبَّه الغافلون.
حلم ١٣٢
هي وأنا ماضيان كالعادة إلى ملهًى من الملاهي. وفي الطريق استأذن دقيقةً ريثما يشتري سجائره، ولمَّا رجع لم يجدها، فغلب على ظنه أنها سبقته إلى الملهى المتفق عليه، فذهب إليه ولكنه لم يجِدها، فراح ينتقل من ملهًى إلى ملهًى باحثًا عنها، وحتى هذه اللحظة لم يكفَّ عن البحث.
حلم ١٣٣
جائزة مقدارها مائة جنيه لم أعرف قبلها من النقود إلا راتبي الصغير، فأمَّلت أن تكون الخطوة الأولى في طريق الثراء، فكم من زميل بدأ من الصفر ثم أصبح من كبار الأغنياء. وسألت أحدهم عن الوسيلة، فضحك وقال لا تسَل عن الوسيلة فلا يجهلها أحد، ولكن سَل عن الشخص والزمن.
حلم ١٣٤
جمعتنا المواعيد في الطريق الزراعية، فجعلنا نُنشد الأشعار ونغنِّي ما طاب لنا من الألحان، حتى سرقنا الوقت، فغاب قرص الشمس ونحن لا ندري، فتذكَّرنا أنه عند هبوط الظلام يترامى إلينا عواء الذئاب من جهات كثيرة.
حلم ١٣٥
اشتقت لرؤية أهلي، فانتقلت من فوري إلى البيت القديم، وهالني أن أجده غارقًا في الظلام كأنهم استأنسوا بالظلمة، فناديتهم معاتبًا رجلًا رجلًا وامرأةً امرأة، ولكن لم يجبني أحد … رجعت أكرِّر النداء حتى دمعت عيناي.
حلم ١٣٦
رقد جثمان أختي على الفراش. وقفت أمامه ومعي حبيبتي خاشعَين، على حين تربَّعَت على الفراش صبيةٌ جميلة تغنِّي غناءً شجيًّا. وجرى الزمن فأصبح الجثمان الراقد على الفراش هو جثمان حبيبتي، ووقفت أنا وأختي أمام الفراش خاشعَين، وواصلَت الصبية في موضعها تغنِّي غناءها الشجي.
حلم ١٣٧
يا لها من حديقة لا أول لها ولا آخر، يقطر من سمائها الصفاء، وتتوارى أرضها تحت الشجر. وجلسنا في ظلِّ شجرة لنأكل ونشرب، وإذا بصوت يخبرنا بأن المغنيات والراقصات آتيات آتيات، وصوت آخر يحذِّرنا من الاستماع إلى الأمثال والحكم التي تذم بصلب الدهر وتَحدِّي الأيام، وقال حسبكم هذه الأشجار المثقلة ثمارها بالهناء والسرور.
حلم ١٣٨
شارع طويل عريق وأنا أسير فيه على مهلٍ غافلًا عمَّا حولي، وإذ بِيد تربت على كتفي، فالتفتُّ أمامي فرأيتُ امرأةً آيةً في الجمال والرشاقة، ودُهشتُ فابتسمَت فابتسمْت، فأسرعَت نحو بيت أنيق أخضر، فاستقرَّ رأيي على أن أتبعها، ولكنني التفَت حولي لحظة ليطمئن قلبي، وفي هذه اللحظة تدفَّق جنود الأمن حتى سدوا الطريق سدًّا، وتعذَّر عليَّ التقدُّم، ولكن عينَي لم تتحوَّلا قط عن البيت الأنيق الأخضر.
حلم ١٣٩
هذا معرض اشتُهر بصوره الفنية التي تتغيَّر شكلًا ومضمونًا كلما اقترب منها المشاهد. وأول ما طالعني صورة غابة آية في الجلال، ولمَّا اقتربتُ خطوةً تلاشت الغابة، وحلَّت محلَّها صورة امرأة عارية متعدِّدة المحاسن، وعند الخطوة التالية غابت المرأة وظهرت محلها صورة معركة حامية الوطيس، اشتعلت فيها كافة أنواع الأسلحة من الأحجار وحتى الإلكترونيات.
حلم ١٤٠
هذه امرأة ثرية المحاسن ما إن رأيتها حتى غازلتها، وإذا بزوجها ينقضُّ عليَّ ويأبى أن يتركني إلا في القسم، ولكن تدخَّل رجل من حيِّنا اشتُهر بين خاصة معارفه بالدعوة إلى الحرية المطلقة، ففررت بعد أن لقَّنني درسًا لا يُنسى، ويتجسَّد لي كلما قابلت امرأة. حتى رأيت نفسي وجهًا لوجه مع المرأة الجميلة فهممت بالجري، ولكنها أقبلَت عليَّ باسمة، وتأبَّطَت ذراعي وهي تهمس بأن زوجها اعتنق أخيرًا دعوة الحرية المطلقة.
حلم ١٤١
هذا حيُّنا القديم الجميل، وهذا أنا أجول في أركانه حاملًا في قلبي ذكرياته، ثم خطر لي أن أقيم في البيت القديم حتى تخف أزمة المساكن، ولكن تبيَّن لي من أول يوم أنه لم يعُد صالحًا للحياة الحديثة.
حلم ١٤٢
هذه القطعة من الأرض الفضاء هي ميراثي الوحيد، وقد أُطلِق عليها اسم الخرابة لطول ما عانت من إهمالها. وما إن رُزقت بعض المال حتى فكَّرت جادًّا في تعميرها، ولكني لم أقدِم لكثرة ما عرفت من حوادث النصب وفساد الذمم، حتى سألت جاري الحكيم ألَا يوجد في الدنيا شخص خيِّر؟ فأجابني بأنه موجود، ولكن يتطلَّب العثور عليه عزمًا وشجاعةً وبحثًا لا يتوقَّف.
حلم ١٤٣
سمعت صوتًا غير مألوف، فمرقت بسرعة إلى فناء العمارة، فرأيت رجلًا غريبًا أثار في نفسي الريب، فناديت البوَّاب ولفتُّ نظره إلى الرجل الغريب، فأخبرني بهدوء أنه موظَّف ويؤدِّي واجبه الرسمي، وهو أخذ الزائد من الأفراد من المساكن المكتظة وينقله إلى مسكن يتسع له، فاعترضت قائلًا إنه يأخذ فردًا من أسرة ويُخلِف حزنًا، وينقله على رغمه إلى مكان لا يرحب به، فقال البوَّاب بأن هذا هو القانون، ونحن لا نملك حياله إلا الإذعان والتسليم.
حلم ١٤٤
نظرت في ظلمات الماضي فرأيت وجه حبيبتي يتألَّق نورًا بعد أن دام غيابها خمسين سنة، فسألتها عن الرسالة التي أرسلتها لها منذ أسبوع، فقالت إنها وجدَتها مفعمةً بالحب، ولكنها لاحظَت أن الخط الذي كُتبت به ينم عن إصابة كاتبه بداء الخوف من الحياة، وبخاصة من الحب والزواج. ولمَّا كنت مصابًا بنفس الداء؛ فقد عدلت عن الذهاب إليها، وفكَّرت في النجاة فلذت بالفرار.
حلم ١٤٥
هذا مِهرجان عظيم جمع العديد من رموز الأمم. وناداني رئيس المِهرجان وسلَّمني كرةً وهو يقول إنها هدية المِهرجان لك، وهي من الذهب الخالص. وانهالت عليَّ التهاني. ولمَّا رجعت أعلنت نيَّتي على التبرُّع بنفس الهدية لأعمال الخير، فجاءوا بمنشار وأخذوا يقسمونها. ولمَّا وصل المنشار إلى باطن الكرة دوَّى المكان بانفجار مزلزل، وتطايرت شظايا الضحايا من الإنسان والحيوان والنبات والجماد.
حلم ١٤٦
انتصر العدو، واشترط لوقف القتال أن يتسلَّم تمثال النهضة الذهبي المحفوظ في الخزانة التاريخية. وذهبت مع فريق لنُحضر مفتاح الخزانة المحفوظ بالصندوق الأمين. ولمَّا كشفنا غطاء الصندوق تبدَّى لنا ثعبان مخيف يُنذر بالموت كلَّ من يدنو منه، فتفرَّقنا وأنا أُداري فرحتي وأدعو للثعبان بالسلامة والتوفيق في حفظ المفتاح.
حلم ١٤٧
دُعيت لاجتماع عاجل لسكان العمارة، وهناك أطلعوني على قرار صادر ضدي بإخلاء الشقة، ورحت أناشدهم العدل وأناشدهم الرحمة، حتى قال لي صاحب العمارة: إنه لم يعقد هذا الاجتماع للبحث عن العدل والرحمة، ولكن للتأكُّد من مطابقة القرار للقانون.
حلم ١٤٨
اشتدَّت المنافسة بين القطارات وبين سيارات الطرق الزراعية، وأخيرًا اجتمع المسئولون عن القطارات، وقرَّروا تخصيص عربة قطار للعربدة والنساء في نطاق الحرية المطلقة، كما قرَّروا إنشاء صالة في كل عربة قطار للشرب والغناء والرقص، ورحت أشرب وأغنِّي وأرقص منتظرًا فرصةً للتسلُّل إلى عربة المسرَّات.
حلم ١٤٩
اجتاحت الثورة المدينة، وقُتل الملك وهو يدافع عن مدينته، وسرعان ما أُولمت وليمة فاخرة لقادة الثورة، ودعت الملكة زعيمها إلى جناحها الخاص، وهناك استقبلته عاريةً تمامًا كاشفةً عن مفاتنها.
حلم ١٥٠
اشتدَّت الأزمة حتى أشفى التاجر الكبير على الإفلاس، ولم يجِد من يقرضه في طبقته التي أنهكتها الأزمة، ولكن تقدَّم بيَّاع العرقسوس بقرض دون فوائد، ولمَّا حان وقت السداد بلغت الأزمة ذروتها، حتى فكَّر التاجر في الانتحار، ولكن أسعفه بيَّاع العرقسوس بقرض جديد، وطلب منه أن يعتبر القرضَين مهرًا لابنته، وقالوا إن التاجر وجد أخيرًا حلًّا لأزمته، فقال بيَّاع العرقسوس في سره إنه أيضًا وجد حلًّا لأزمته التي لم يبُح بسِرها لإنسان.
حلم ١٥١
كنا نجلس حوله للسمر الممتع والمفيد تحت الشجرة. ويومًا استأذن منا دقيقتَين لتناول الدواء، وصعد إلى شقته ولكنه غاب، فأرسلنا أحدنا ليطمئن عليه، فوجد الشقة مغلقةً بالقفل من الخارج، ومن ثم بدأت رحلة البحث غير المجدية عنه في جميع نطاقه، وأخذ يساورنا القلق، يتساوى في ذلك المحبون والكارهون والمستفسرون، أمَّا إمام المسجد فقد دعا إلى أداء صلاة الغائب على روح الغائب.
حلم ١٥٢
ذهبتُ مدعوًّا إلى الدار الشهيرة في الاحتفال بعيدها الذهبي، وهناك وجدت البهو مكتظًّا بمختلِف الطوائف وجميع أصناف الكلاب. ووقف الداعي فرحَّب وشكر ورجع إلى الذكريات التي لا تنسى، حين هجم عليهم كلب متوحِّش وكاد يفتك بهم جميعًا، لولا أن تصدَّى له رجل جسور فألقى بنفسه عليه، ولأول مرة يَعَض آدمي كلبًا حتى امتصَّ منه وحشيته، فتغيَّرت الطبيعة الكلبية، وتغيَّرت معاملة الكلاب للبشر، وها هم يجلسون جنبًا إلى جنب في سلام، ويتناولون الحلوى، وفي الختام وقفوا جميعًا وتغنَّوا بنشيد بلادي بلادي.
حلم ١٥٣
رأيتني في قارب شراعي مع نخبة من صفوة القوم، تحدِّق بنا المياه من كل جانب، فانقبض صدري لجهلي التام بالسباحة، وارتفع الموج من صمت عميق يُنذر بالانفجار، فألقت الصفوة بنفسها في الماء وراحت تسبح بقوة ورشاقة، وازددت أنا انتباهًا، وتذكَّرت الوقت الطويل الذي ضاع في اللهو، وكان بعضه يكفي لتعلُّم السباحة والتدريب على الإنقاذ من الغرق.
حلم ١٥٤
دفعتني أنا وصديقتي المذيعة أمواجٌ متلاطمة من البشر، حتى توقَّفت في ميدان صغير أمام سد من البشر لا يسمح بنفاذ إبرة، ونظرت فرأيت في الجهة المقابلة محل الحلواني الذي اعتدت أن أفطر فيه، ولكني لم أستطِع الحركة، وقلت لصاحبتي إن برنامجها عن النصر سيتعطَّل قليلًا، فقالت: على كل حال أنا عندي خبر مثير؛ فقد مات في الزحام المجاهد الكبير مكرم عبيد، فخفق قلبي حزنًا على موت البطل، وهناك رآني نادل محل الحلواني فوضع بعض الأطعمة في كيس من الورق، ووقف على كرسي ورماه من فوق الرءوس، فتلقَّفته بلهفة وفتحته، ولكن يد صاحبتي سبقتني إليه وهي تهمس بالمعذرة، أنا أكاد أموت جوعًا، ثم مددت يدي داخله فلم أجد سوى بعض المخلل الإفرنجي.
حلم ١٥٥
بلغني أن نزلة برد خفيفة ألمَّت بأستاذي الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق، فقرَّرت أن أعوده، ولكني وجدته واقفًا على باب داري والدموع تنحدر على خدَّيه، فهالني منظره الحكيم إذا بكى، وقلت له: يا مولاي ما هي إلا وعكة خفيفة لا تستحق الدموع. فقال لي: أنا لا أبكي على حالي. فأدركت ما يعني من أن البكاء على حالنا نحن، وانتهزت الفرصة وسألته عن العباد، فقال: عندكم الكثير من الصيدليات مليئة بالأدوية، إضافةً إلى الوصفات الشعبية المُجرَّبة.
حلم ١٥٦
أخيرًا تنمَّرت القطة الوديعة وهاجت رياح الغضب، وتساقط الشرر يشعل الحرائق حيثما وقع، ولم أجد من أكلِّمه إلا الرياح، فقلت لها: عندنا وسائل سليمة كنا على وشك استعمالها، فقالت: ما فات وقته تعطَّل فعله. واستمرَّت زمجرة الرياح وتساقط الشرر.
حلم ١٥٧
لم يبقَ لي في الحياة إلا أسابيع … فهذا ما قرَّره الفحص الطبي، فحزنت حزنًا شديدًا، ثم تملَّكتني موجة استهتار، فأقبلت أتناول الأطعمة التي حرَّمها عليَّ الأطباء من سنين، ولازمت صديقتي «س» وعرضت عليها الزواج، فدُهشت وقالت لي إنك تفقد صداقةً بريئةً عظيمةً ولا تكسب شيئًا، فألححت عليها حتى رضخت. وبعد يومَين جاءني صديق طبيب يخبرني بأن هناك إخصائيًّا عالميًّا سيزور مصر، وأننا حجزنا لك مكانًا عنده … فهنيئًا لك بفرحة الحياة، وغمرني سرور من رأسي لقدمَي، غير أنني تذكَّرت الأطعمة الضارة التي التهمتها، والزواج الذي قيَّدت به نفسي على غير رغبة، فشاب فرحتي كدر وقلق.
حلم ١٥٨
كلَّفني الوزير بالتنقيب في مخزن الفن التشكيلي بالوزارة تمهيدًا لإقامة معرض، فأخذت مجموعةً من الفرَّاشين لإزالة الغبار وقتل الحشرات. ولاحظت وجود لوحة كبيرة مغطاة، فأزحت الغطاء عنها، فطالعتني صورة الزعيم سعد زغلول جالسًا على كرسي الرياسة، وشابكًا يدَيه فوق عصاته، فتأثَّرت لإهمال الزعيم الذي تربَّيت في مدرسته الوطنية، وإذا بالحياة تدب في الصورة؛ فترمش عيناه، ويبدَّل يدَيه فوق العصا، ويتجلَّى في عظمة لا مثيل لها … وسرعان ما جاءت الوفود من أبناء جيله تحيِّيه وتشكو إليه ما أصابها من ظلم، وسرعان ما نسيتُ تعاليم الوزير والمهمة التي انتُدبت لها، وانضممتُ إلى أكبر مجموعة وهي التي كان يتقدَّمها مصطفى النحاس.
حلم ١٥٩
تلقَّى بعض الحرافيش دعوةً من الأستاذ سعد الدين وهبة، فذهبنا إلى مقابلته، وهناك رحَّب بنا وأطلعنا على بيان سيرفعه إلى كبار المسئولين لتطهير الهيئة من الساسة المنحرفين، ودعانا إلى التوقيع عليه بإمضاءاتنا، فاستجبنا بحماس، وعند فجر ذلك اليوم اخترق بيوتَنا زُوَّار الفجر وساقونا معصوبي الأعين إلى المجهول.
حلم ١٦٠
عرفت بمصادفة أني أستطيع الرؤية خلف الأبواب المغلقة، فدُهشت وسُررت، وذهبتُ إلى البهو فوجدتُ الإخوان ملتفِّين حول مائدة القمار، ودعتني الفتاة التي تقدِّم المشروبات إلى كرسي خالٍ، فجلست وأنا مطمئن، ونظرت إلى ظهر الأوراق فرأيت باطنها فضمنت الربح، ولكن صوتًا قال لي: إن الذي أعطاك هذه الموهبة قادر على استردادها إذا استعملتها في الشر. فانسحبت من الجِلسة إلى البوفيه، وفي آخر الليل جاءتني الفتاة لتخبرني أن الذي كسب المائدة وُجد قتيلًا مسروقًا، فدُهشت … ثم قالت الفتاة إنها كرهت هذه المهنة، فمددت لها يدي ومدَّت لي يدها، وسرنا معًا دون مقاومة.
حلم ١٦١
في البدء حامت حولي فتاة صغيرة رشيقة، ثم أخذتني من ذراعي إلى ركن منزوٍ توجد فيه عربة كارو، مركَّبٌ فيها حمار، وصعدت إليها، وأشارت إليَّ فصعدت وتربَّعت إلى جانبها، وتناولت اللجام وحرَّكته بخفة، وسار الحمار يشق طريقه ببطءٍ شديدٍ وسط زحام الناس والمركبات، حتى بلغ الطريق الصحراوي، فأخذ يُسرع ويسرع حتى سبق السيارات والأوتوبيسات وكأنه يطير طيرانًا، فذُهلت وسألت الفتاة: إلى أين؟ فأجابت: إلى المكان الذي تخور فيه قوى الحمار فيتوقَّف.
حلم ١٦٢
قرَّرت أن أسير من جنوب الوادي إلى شماله مشيًا على الأقدام، وقابلتني في أوائل الرحلة رفيقة الطفولة والصبا وقد سمنت سمنةً مفرطة، ونصحتني بأن أتزوَّج عوضًا عن هذه الرحلة العقيم، فشكرتها وواصلت السير حتى قابلت صديقي «م» متربِّعًا على سجادة الصلاة فدُهشت، وذكَّرته بأيام العربدة والإلحاد فقال لي الهداية من الله سبحانه، ودعاني إلى الجلوس إلى جانبه فوعدته خيرًا وواصلت السير. وفي منتصف الطريق أقبلَت عليَّ «ب» وحيَّتني قائلة: إنني طاردتها بنظراتي حتى استجابَت، وانتظرتُ أن تتقدَّم لأبي، ولكنك لم تخطُ خطوةً واحدةً بعد النظر، فما سر ذلك؟ فقلت لها إني ما زلت أتساءل مثلك. وواصلت السير حتى بلغت الشمال منهك القوى متورِّم القدمَين، فرأيت الحبيبة الخالدة نصفها مغموس في مياه البحر الأبيض، والنصف الأعلى يضيء الأمكنة من حوله. وسألتني بصوتها الرخيم: ماذا جنيت من هذه الرحلة الشاقة؟ فسألتها بدوري: كيف يدوم حب بلا أدنى أمل طوال هذا العمر المرير؟
حلم ١٦٣
ميدان المستشفى بالعباسية شاهد أول لقاء لي مع الآنسة «ر». واشتعل الحوار بين الحب واليأس حتى حسمته بقولي: الحب وحده لا يكفي. وكان اللقاء الثاني في جزيرة الشاي، ولكنه كان مع الأرملة «ر» التي قصدتني لخدمة تتعلَّق بوظيفتها. وأيقظ اللقاء العواطف الكامنة، فتطرَّق الكلام إلى حوار بين الحب من ناحيتي واليأس من ناحيتها، حيث كانت ترعى أربعة أبناء، وحسمَت الحوار بقولها: إن الحب وحده لا يكفي!
حلم ١٦٤
هذا بيت صديقتي الست «ح»، وقالت لي ابنة أختها إنها عند الدكتور، وأرادت أن تُعد القهوة فأمسكتُ بيدها وجذبتها إلى جانبي، وأوحى لنا خلو المكان بما أوحى، وإذا بالست «ح» تفاجئنا، فتغيَّر وجهها وقالت للفتاة: ارجعي إلى أمك في الحال. وحدجتني بنظرة حجرية وغادرت المكان. وأمطرت السماء فأشفقت على الفتاة، وغادرت البيت مستهينًا بكل شيء. واخترقت المطر وأنا أناديها، وبعد حين سمعت صوت الست «ح» يناديني … وغرق ثلاثتنا تحت المطر!
حلم ١٦٥
قرأت في المجلة مقال نقد قاسٍ لشخصي وأعمالي بقلم الأستاذ «ع» وإذا به يمثل أمامي معتذرًا ويقول إنه يقصد بالمقال أن يكون أساس حوار بيني وبينه، يُحدث ضجةً تُعيد الغائب إلى الوجود، فقلت له: من يصدِّق هذا الحوار وأنت ميت منذ ١٥ سنة؟ فقال إنه يعتمد على أن الأجيال الحديثة فاقدة الذاكرة.
فقلت له: إن المقال أحب إلى نفسي من الانفعال والخداع!
حلم ١٦٦
وجدتني في القطار الخاص ببلدة النور، وكانت العربة خالية؛ فبثَّ الخلو الرهبة في نفسي، وتحسَّست محفظتي وناوشتني المخاوف. وعند أول محطة أردت النزول، فرأيت على رصيف المحطة رجالًا تنطق وجوههم بالشر والعدوان، فتراجعت إلى مكاني وقد ازدادت مخاوفي، وإذا بفتاة وسيمة تصعد إلى العربة وتجلس غير بعيدة عني، فسألتها هل تحرَّش بها الرجال؟ فأجابت بأنهم في غاية التهذيب والأدب … فذُهلت وساورني شك في أنها متآمرة معهم للإيقاع بي. وذهبت إلى آخر العربة متحفِّزًا للدفاع. ووصل القطار إلى بلدة النور فغادرته إلى أول حديقة من حدائقها التي لا تُحصى، وهناك هفا عليَّ نسيم معطَّر بروائح الورد والفل والياسمين والحناء، فتسلَّل إلى جفوني النعاس، واستسلمت له متناسيًا المحفظة والمخاوف، ونمت نومًا هادئًا عميقًا على أنغام موسيقى تأتي من الداخل!
حلم ١٦٧
هذه شركة إنتاج، وهذا مديرها يخبرني بأن النص الذي قدَّمتُه قُبِل، وأن المخرج قرأه وهو راضٍ عنه، وإليك العقد والشيك، غير أننا جعلنا النص قسمة؛ فاسمك على القصة، واسم الموزِّع على السيناريو، واسمي على الحوار؛ وذلك لصالح الفيلم من الناحية التجارية. وقبلت ذلك على مضض، وهنا دخل المخرج واطَّلع على العقد وصاح أين أنا في هذه القسمة؟ فقال له المنتج يمكن أن تضع اسمك على القصة مع المؤلِّف، فاجتاحني غضب وقلت: أنا متنازل عن القصة كلها. ولكن المدير قال لي إنهم يتعاملون مع الناس على أساس من مبادئ الأمانة والشرف، وعليه فلا نقبل حذف اسمك.
حلم ١٦٨
هذه حجرة مدير المستخدمين، وأنا واقف أمام مكتبه وأسأله كيف تتخطَّاني في الترقية والقانون معي مائةً في المائة؟ فقال لي: أقِم دعوى وستكسب القضية. وذهبت إلى مدير التحقيقات وقدَّمت شكوى، ولكنه أقرَّ عمل الإدارة، ولكن أذهلني أن وجهه نسخة دقيقة من وجه مدير المستخدمين. وذهبت من فوري إلى المحامي وشرحت مشكلتي، فوعدني خيرًا، ودفعت مقدَّم الأتعاب، ولكن ذُهلت أيضًا أن وجهه نسخة أيضًا من وجه مدير المستخدمين ومدير التحقيقات. وذهبت إلى الطبيب ففحصني بدقة، ولكن لاحظت أن وجهه نسخة طبق الأصل من سابقيه. وفي آخر النهار رجعت إلى بيتي، وفي الطريق شعرت بجسم بارد يوضع على رقبتي، وسمعت صوتًا يقول لي من وراء: النقود أو حياتك. فسلَّمته ما معي من نقود، فأخذها وهرب، ولمَّا أفقت من اضطرابي سألت نفسي: تُرى أين سمعت هذا الصوت؛ فمؤكَّد أني لا أسمعه لأول مرة، فأين ومتى سمعته؟!
حلم ١٦٩
وقفت مع المدير العام الأجنبي نشاهد سير الزفة بين الزغاريد والطبول، واصطحبني إلى حجرته في الفندق، وهو يتساءل عن هذه الضجة التي لا شكَّ تؤذي النزلاء من السوَّاح، فقلت له: إنها تقاليد الزفاف المصري، وهي من الموارد الثابتة للفندق. فقال: إذن اشترط في العقد ألَّا توجد ضجة. فقلت: لا أستطيع. فقال غاضبًا: هذا أمر وعليك تنفيذه. وذهبت من فوري إلى الإدارة المركزية، وعرضت الأمر على المدير، فقال: إن هذا الرجل الأجنبي نفعنا كثيرًا بعلمه وتجرِبته، فعليك الاتفاق معه أو إقناعه أو تقديم استقالتك، ورجعت وأنا أفكِّر وأتساءل عن مصيري.
حلم ١٧٠
جدَّدت البيت القديم الذي وُلدت فيه، ولمَّا انتهى العُمَّال ذهبت إليه وتفقَّدت حجراته وتذكَّرت، ثم دخلت الشُّرفة، ومن خَصاص نوافذها رأيت ميدان بيت القاضي وقسم الجمالية وتوابعه، والحنفية العمومية وأشجار دقن الباشا، ثم سمعت ضجةً في الداخل فدخلت، فرأيت زملاء الصبا الذين توفَّاهم الله يُهرعون إليَّ فرحين، ثم ردَّدوا أناشيد الصبا الوطنية، وإذا بضابط ومعه قوة من الجنود يقتحمون البيت، فساد الصمت، وسأل الرجل عن الذين كانوا يغنون، فقلت ليس في البيت سواي، ففتَّشوا البيت ثم قادوني إلى القسم، وهناك وُجِّهت إليَّ التهم بالتستُّر على مجرمين، والتحريض على قلب نظام الحكم، وقال لي المحامي فيما بعد: اطمئن؛ فليس لديهم دليل واحد. ولكني لم أطمئن، فرحت أتساءل عن مصيري؟!
حلم ١٧١
في هذا البهو يستريح الزملاء، وقد جلست أُلاعب مدير مكتبي الدومينو، وفاجأنا الوزير وأعلن أنه عيَّن مدير مكتبي في وظيفتي وأحالني إلى المعاش؛ وارتاع الزملاء وفكَّروا في الأمر، فاتفق الأمر بينهم أن هذا الأمر مخالف للقانون، ولكنهم انقسموا بعد ذلك؛ فرأت فئة الاتصالَ بالوزير بالحسنى، ورأت الفئة الأخرى وجوب إقالة الوزير لاستهتاره بالقانون. واشتدَّ الجدل بينهم، وانحدر إلى تبادل السباب والشتائم والضرب بالأيدي والأرجل، وقلت لهم إن سلوككم هذا قد قضى على قضيتي بالفشل، فدفعوني حتى سقطت على وجهي، وكان الوزير يتابع ما يحدث ويقهقه ضاحكًا!
حلم ١٧٢
ذهبت إلى الحمام العمومي لأزيل عن جسدي وروحي ما علق بهما، ودخلت في حجرة البخار، ووقفت عاريًا أنتظر من يدلِّكني، ولكن دخلَت فتاة وسيمة، وتعرَّت عن مفاتنها وراحت تدلِّكني برقة ورشاقة، واستاء جميع من علم بذلك، ولكني لم أبالِ، وشكرت الحظ على نعمته!
حلم ١٧٣
سار معي موظفو مكتبي، فرأيت أقبح مدينة في الوجود، واقترحوا تحسين الشوارع والميادين وإنشاء الحدائق. ولمَّا اجتمعت بهم في مكتبي قلت لهم: إن ما يهمني هو ما ينفع الناس؛ مثل الصرف الصحي، والصحة العامة، وتوفير المدارس والمياه والكهرباء، ثم دعوة الأعيان إلى تقديم ما يقترحون من تسهيلات لاستثمار أموالهم في البناء والتعمير!
حلم ١٧٤
قال لي صاحبي وهو يُحاورني: إن المصري بطبيعته فلاح أو حرفي، أمَّا التقدُّم في الإدارة والسياسة والعلم والحضارة، فموقعه إلى الأجانب أو المتمصرين. فقلت: لا دخل للطبيعة في ذلك، ولكن الأجانب والمتمصرين شاركوا في السلطة والمال، ووجدوا الفراغ للإبداع، وقد تغيَّر الحال بمشاركة المصري في الثورة ضد الاحتلال الفرنسي والثورة ضد الاحتلال البريطاني، وتأييد عرابي وسعد زعلول وجمال عبد الناصر، فأصبح يشارك في السلطة، وتجلَّت إبداعاته في جميع مناحي الحياة.
حلم ١٧٥
رأيتني مدير قسم الأملاك بوزارة الأوقاف، واكتشفت أن بعض السكان لا يدفعون الإيجار بالاتفاق مع بعض الموظَّفين، فصمَّمت على استرداد المال الضائع وتحويل المسئولين إلى التحقيق، ولكني وجدتني معزولًا ومقدَّمًا للتحقيق بتهمة الإساءة إلى سمعة الوزارة، وكانت معركة.
حلم ١٧٦
رأيتني ضابطًا مكلَّفًا بالقبض على الفنان «ي»، والحق أني كنت معجًبًا به، محبًّا له رغم احتقاري لإدمانه المخدرات. ودُعي الفنان لإحياء حفلة غنائية فذهبت إليها، ولكنني أجَّلت القبض عليه حتى يتم غناءه، وراح هو يجود ويكرِّر:
حلم ١٧٧
أُقيم سرادق كبير للاحتفال بالحزب الجديد، وظهر في المنصة الزعيم مصطفى النحاس واستُقبل بالهتاف، وألقى خطابًا يشرح فيه مبادئ الحزب، وفي مقدِّمتها الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والوحدة الوطنية. ولمَّا رجعنا إلى المكان الذي نجتمع فيه كل مساء، قلت لهم إنني لمَّا رأيتهم يهتفون ذكَّرتهم بفرحتهم يوم حريق القاهرة وإقالة وزارة النحاس، فقال لي أحدهم: إن تلك الفرحة هي خطيئتهم الكبرى، وأنهم كفَّروا عنها في اجتماع اليوم!
حلم ١٧٨
صدر قرار بأن يتولَّى الوظائف الممتازة والعليا المصريون ممن ينتمون إلى أصول تركية أو مملوكية، فوجدت نفسي في الشارع أسير على غير هُدًى، حتى ناداني صديقي صاحب دكان الحلواني، وعرض عليَّ أن أعمل كاتب حسابات في محله، ولكن جاءنا صوت أبيه من مجلسه بركن المحل قائلًا لا تدع العواطف الشخصية تفسد عملك، فواصلت السير على غير هُدًى!
حلم ١٧٩
زارني المرحوم صديقي الحميم وسألني عن أسباب حزني، فقلت له: إن ضعف السمع والبصر حال بيني وبين مصادر الثقافة المقروءة والمسموعة والمرئية. فمضى بي إلى دار نشر يديرها أحد زملائنا في الجامعة، وسأله عن كتاب يجمع الأفكار الحديثة في العلم والفلسفة والأدب، فجاءنا بكتاب ضخم، ثم أهدانا طبعةً أخيرةً من القرآن الكريم قائلًا: إن التفسير الموجود به غير مسبوق. فأخذناها. وفي الطريق قال لي صديقي سأزورك كل مساء واقرأ لك سورةً من القرآن الكريم وفصلًا من الكتاب حتى نختمَهما، فدعوت له قائلًا: يرحمك الله ويُسكنك فسيح جناته!
حلم ١٨٠
رأيت أستاذي الشيخ مصطفى عبد الرازق — وهو شيخ الأزهر — وهو يهم بدخول الإدارة، فسارعت إليه ومددت له يدي بالسلام، فصحبني معه، ورأيت في الداخل حديقةً كبيرةً جميلة، فقال إنه هو الذي أمر بغرسها، نصفها ورد بلدي، والنصف الآخر ورد إفرنجي، وهو يرجو أن يولد من الاثنَين وردة جديدة كاملة في شكلها، طيبة في شذاها.
حلم ١٨١
قال صديقي وأستاذي وهو يودِّعني: رحلة طيبة، وإن شاء الله تعثر على هدفك. وسرت وانهالت عليَّ الخواطر الجميلة التي انعكس جمالها على روحي؛ فحنَّن قلوب المحسنين عليَّ، فلم أشعر بحاجة إلى غذاء أو شراب أو لباس، ولكني لم أنسَ مدينتي طول الوقت، وأخيرًا رجعت إليها، فسألني صديقي وأستاذي: هل وجدت هدفك؟ فأجبته: سأجده هنا بين الآلام والآمال، ولكن ببصيرتي الرحَّالة وبصبري المقيم!
حلم ١٨٢
زارتنا «س» وهي زوجة صديق قديم، وكانت يومًا خطيبتي، وقالت لي: أنت السبب في إفلاس زوجي. فقلت لها إنه أطلعني على فكرة وجدتها صالحةً كأساسٍ لفيلم سينيمائي، ولكنه أبى إلا أن يكتب السيناريو وينتجها بثروته المحدودة، مع جهله التام بكتابة السيناريو والإنتاج؛ فكانت النتيجة الإفلاس، فقالت لي: كان يجب أن تنصحه. فقلت لها: نصحته كثيرًا ولكنه أصرَّ على الخطأ!
حلم ١٨٣
نحن موظفان في مكتب الوزير، ونتطلَّع إلى المزيد من القرب منه، معتمدين على العمل، إضافةً إلى أن زميلي يدس لي بما يسيء إلى سمعتي، ولكني لم أقابل الشر بالشر؛ إيمانًا بأن القرب يقتضي النقاء. وبعد اعتماد الميزانية أصدر الوزير قرارَين؛ الأول بنقل زميلي إلى وظيفة أخرى بالوزارة، والآخر بتعييني سكرتيرًا برلمانيًّا للوزير، وهو عمل يتيح لي مقابلة معاليه أكثر من مرة في الأسبوع، فأدركت أنه عليم بما يجري في مكتبه!
حلم ١٨٤
قرأت مقالة الكاتبة «ك» التي تتضمَّن نقدًا لاذعًا لي، ثم رأيتني أسألها في النادي: ألَا تذكرين كيف وقفتُ إلى جانبك في محنتك؟ فقالت: لا يمكن أن أنساها؛ إذ كنت الوحيد الذي تصدَّى للدفاع عني ضد هجمات النقد الشرسة على كتابي، ولكن بعد فترة هدوء وتأمُّل تبيَّن لي أن النقد كان على حق، وأني استعملت الجنس لأغراض تجارية، ولكنك دافعت عني لغرض في نفسك نلته، فسقطت في نظري. فلقنني قولها درسًا قاسيًا!
حلم ١٨٥
هذه الإسكندرية واليوم وقفة العيد الصغير، وأنا أتنقَّل من سمسار إلى سمسار، فلم نعثر على حجرة خالية، فقرَّرت يائسًا الرجوع إلى القاهرة، وفي محطة الرمل قابلت صديقي «أ»، فلمَّا علم بمشكلتي دعاني للنزول في شقته حتى تنقضي أيام العيد، وهي شقة في شارع سعد زغلول، وتقوم على نظافتها أم زينب، فقبلت دعوته وشكرته، وقلت له إنني قابلته مصادفة، ولكنها أسعد مصادفة في حياتي. وتمر الأعوام حاملةً عجائبها، وعندما أخلو إلى نفسي أتذكَّر تلك المصادفة التي أثبتت الأيام أنها أتعس مصادفة في حياتي!
حلم ١٨٦
أراني أسير في جنازة لصديق عزيز، ورأيت بين المشيِّعين صديقي «ب» بعد غياب سنوات في الخارج، فسلَّمت عليه وهو واسع الثقافة، غير أنه غريب الأطوار ومغرم بالحداثة في الفنون والحياة، وسألته عن حرمه التي كانت تماثله في كل شيء، فأجابني بأنه طلَّقها، وتوقَّفَت الجنازة أمام المسجد، وحُمل النعش إلى الداخل للصلاة عليه، ونودي للصلاة بين المشيِّعين، وإذا بصديقي يدخل مع الداخلين، فلم أصدِّق عيني، وذُهلت ذهولًا شديدًا!
حلم ١٨٧
عندما رأيت الآنسة «ب» خفق قلبي كما خفق عند أول حب، وتابعتها أنهل من عذوبة الحب ولوعة الحرمان ولا أزيد، وأراني مع ابنة أختي وهي تسألني: حتَّى متى تبقى أعزب يا خالي؟! ورشَّحَت لي الآنسة «ب» زميلتها في المعهد العالي، فأيقنت أن وساطتها جاءت بعد اتفاق مع «ب»، وأسعدني ذلك، ولكني شعرت بخوف لا أدري كُنهه دفعني للهروب، فغيَّرت طريقي مختفيًا حتى سمعت أنها خُطبت إلى شاب لائق، وأراني واقفًا أمام معرض مصوِّر أشاهد الفتاة مع زوجها في ثوب العرس، فرجعت إلى النهل من عذوبة الحب ولوعة الحرمان، ولكن في إطار من الأمان!
حلم ١٨٨
رأيتني أسير مع الشيخ زكريا أحمد نحو هَضْبة مغطاة بخمائل الأزهار، وتقف في مركزها أم كلثوم ووفدُ أهل الفن: الحامولي، وعثمان، والمنيلاوي، وعبد الحي حلمي، وسيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، ومنيرة المهدية، وفتحية أحمد، وليلى مراد. وغنَّت أم كلثوم قائلة: سمعت صوتًا هاتفًا في السحر. وأخذت تكرِّره حتى ساد القلق بيننا، ثم أخذ صوتها ينخفض رويدًا رويدًا حتى تلاشى، وغنَّت منيرة المهدية قائلة:
وغنَّى سيد درويش:
وغنَّى الشيخ زكريا:
أمَّا أنا فتلوت الفاتحة! …
حلم ١٨٩
رأيتني وزيرًا في وزارة يرأسها مصطفى النحاس، وجعلت أفكِّر في مشروع إنشاء مدارس أولية وابتدائية وثانوية بلا مصروفات ولا رسوم للمتفوِّقين والمتفوِّقات من أبناء الفلَّاحين والعُمَّال، على أن نتابعهم بالرعاية في الجامعات والبعثات. وعرضت الموضوع على الزعيم، فرحَّب به، وأضاف إليه تعديلًا بأن تخصَّص تلك المدارس للمتفوِّقين والمتفوِّقات من أبناء الأمة كلها، وطلب مني أن أقدِّم المشروع في مجلس الوزراء القادم ووعد بتأييده!
حلم ١٩٠
علمت أن صديقي «ج» معتصم بحجرته ويهدِّد بالانتحار، فانتقلت إلى بيته ووجدت إخوته وأخواته مجتمعين في الصالة الكبيرة، وهو يُطل عليهم من الشُّرَّاعة في حجرته العليا، والحبل يطوِّق رقبته، فقلت له أنت مؤمن والمؤمن لا ينتحر، فقال لي: لقد سُدَّت النوافذ في وجهي، إذا قلت لهم تحرَّكوا لا يتحرَّكون، وأعلنت عن رغبتي في أن أموت شهيدًا فمنعوني من الخروج، فلم يبقَ لي إلا هذا. فقلت لهم دعوه وشأنه؛ فالاستشهاد خير مليون مرة من الانتحار.
حلم ١٩١
قال لي قريبي الدكتور «م» إنه يرغب في الزواج من «ع»، ولمَّا كنت جارًا لها وصديقًا لإخوتها فأنا خير من يحدِّثه عنها، وأنا أحب «ع» بدون أدنى أمل، فتماسكت وقلت له: أمَّا عن جمالها … فقاطعني: دع هذا فهو في متناول عيني، وحدِّثني عن الأمور الأخرى. فقلت له: إنها في كمالها لا تقل عن جمالها. فقبَّلني في رأسي. ووجدتني في بهو يموج بالكثير من رموز المجتمع وفيه غناء ورقص، فسمعت وشاهدت، وتوقَّع قلبي الضربة القاضية.
حلم ١٩٢
هذه حديقة الحرية التي تُروى أزهارها بدموع العاشقين، وأنا أتجوَّل في جنَباتها بين آهات الحب وهتاف المناضلين، وقد عاهدت نفسي على أن ألوذ بالنسيان عن الحب والنضال!
حلم ١٩٣
هذه هَضْبة الأهرام، وهذا هو سِير ريدر هجارد، فهُرعت إليه ورحَّبت به، وقلت له إنه كان فردوس طفولتي وصباي برواياته الفاتنة عن عائشة وكليوباترا وصلاح الدين وكنوز الملك سليمان، ثم سألته عن كنوز الملك، ألها أصل في الواقع، أم أنها من صنع الخيال وحده؟ فرأيتني أسير إلى جانبه في غابة أفريقية، وفي موضع منها أخرجَ من جيبه مفتاحًا وانحنى حتى غاب في الحشائش، وإذا بباب ينفتح عن معرض طويل عريض مليء بالجواهر، وسقطت أشعة الشمس على سبائك الذهب، فانعكست نورًا أضاء لي عالم الغيب.
حلم ١٩٤
من أمواج الضياء انبثق المرحوم صديقي «ط» فسلَّمت عليه، وقلت له إنه مات فلا نُشر له نعي، أو أقيم له عزاء مناسب. وجاء العُمَّال وأقاموا السرادق، ولكن لم يحضر أحد للعزاء ولا جاء المقرئ، فصعد صديقي إلى أريكة وتلا بصوت عذب سورة الرحمن.
حلم ١٩٥
أعددت المائدة الصغيرة بما لذَّ وطاب، ولمَّا دقَّ الجرس فتحت الباب فاندفعَت صديقتي إلى الكنبة، وما لبثت أن مَال رأسها على المسند واسترخت ذراعاها؛ فهُرعت إليها وربت خدَّيها وجسست رسغَيها، ثم قلت بفزع: يا إلهي! إنها ميتة … وتخايل لعينَي شبح الفضيحة والجريمة، ولكني حملتها بذراعي وسرت إلى المطبخ وألقيتها من النافذة المطلة على فناء المنزل، ووقفت أرتجف من رأسي إلى قدمَي. وفي ضحى اليوم التالي وجدتني واقفًا مع بعض السكَّان وصاحب البيت يحدِّثنا عن الست التي نُقلت إلى المستشفى، فقلت: إنها ميتة. فقال: كلا، والطبيب قال لي: إن الأمل كبير في إنقاذها، والنيابة تنتظر اللحظة المناسبة للتحقيق؛ فعاد يتخايل لعينَي شبح الفضيحة والجريمة.
حلم ١٩٦
دعانا أستاذنا للغداء، وبعد تناول الطعام جلسنا حوله نطرح الأسئلة ونناقش الأجوبة، وإذا بالشرطة تقتحم المنزل وتسوقنا إلى المعتقل، حيث مكثنا ستة أشهر دون محاكمة، ثم أُفرج عنا دون أن نعلم السبب الذي اعتُقلنا من أجله، وحتى اليوم وكلما تذكَّرت عذاب المعتقل تساءلت عن السبب الذي من أجله اعتُقلنا.
حلم ١٩٧
بيوتنا تقع على حافة الصَّحْراء، وكل بيت له فناء، نضع فيه زِيرًا للمياه العذبة، فيدخل العطشان يروي ظمأه ويدعو لنا … ويومًا اندسَّت عصابة بين الداخلين وهاجمت بيتًا، فقتلت وسرقت وهربت، فأغلقنا الأبواب، ولكن علمنا أنهم يحفرون نفقًا للوصول إلينا. وعند إحدى الحفريات تفجَّر ينبوع ماء وتدفَّق حتى غطَّى الصَّحْراء، وبشَّر بالخير العميم، وهتف حكيم بيننا أن افتحوا الأبواب وانعموا بحسن الجوار.
حلم ١٩٨
كلَّفني المنتج السينمائي بكتابة قصة كوميدية، فتصوَّرت مدينةً يكافح أهلها في سبيل لقمة العيش، ويَشْقون بما بينهم من خصومات، ويعانون الأمراض والحوادث، ثم يجيء بعد ذلك زلزال مدمِّر فيقضي على البقية الباقية منهم، ويمحو من الوجود ذكرياتهم، فكأنهم لم يوجدوا، فضحك المنتج وقال: حقًّا إنك فارس الكوميديا!
حلم ١٩٩
رأيتني أتجوَّل في حديقة الحيوان مع صديقة، ثم جلسنا في ركن خالٍ بجزيرة الشاي، وكلما ترامى إلينا زئير أو خُوار أو عواء؛ ازددنا التصاقًا حتى ذُبنا ذوبانًا!
حلم ٢٠٠
قال لي صديقي «ص» إن قوانين الإصلاح الزراعي أصابت والده بانهيار في وعيه، وهو يريد مقابلة وزير المالية، وأنا اخترتك لتمثِّل دور الوزير بوصفك أعز أصدقائي. ووجدتُ الإقطاعي الكبير في حالٍ يُرثى لها، واستقبلني قائلًا: يا معالي الباشا هل حقًّا ستصادرون أراضينا؟ فنفيت ذلك كليةً وقلت له: إن هي إلا شائعة تركناها لكسب قلوب الناس. وعندما خرجنا من السراي شكرني صديقي وهو يجفِّف دموعه، فقلت له مواسيًا: إن كل تقدُّم في المجتمع يقتضي ثمنًا، ولا تنسَ أنك كنت من دعاة الاشتراكية، فقال بحدة: إن الكتابة شيء والتطبيق الفعلي شيء آخر!
حلم ٢٠١
يا له من بهو عظيم يتلألأ نورًا ويتألَّق زخارف وألوانًا! وجدتني فيه مع إخوتي وأخواتي وأعمامي وأخوالي وأبنائهم وبناتهم، ثم جاء أصدقاء الجمالية وأصدقاء العباسية والحرافيش، وراحوا يغنون ويضحكون، حتى بُحَّت حناجرهم، ويرقصون حتى كلَّت أقدامهم، ويتحابون حتى ذابت قلوبهم، والآن جميعهم يرقدون في مقابرهم مخلِّفين وراءهم صمتًا ونذيرًا بالنسيان. وسبحان من له الدوام!
حلم ٢٠٢
تأبَّطَت الجميلة الشابة ذراعي، ووقفنا أمام بيَّاع الكتب الذي يفرش الأرض بكتبه، ورأيت كتبي التي تشغل مساحةً كبيرة، وتناولت كتابًا وقلبت غِلافه؛ ففوجئت بأنني لم أجِد سوى ورق أبيض، فتناولت كتابًا آخر، وهكذا جميع الكتب لم يبقَ منها شيء، واسترقت النظر إلى فتاتي فرأيتها تنظر إليَّ برثاء!
حلم ٢٠٣
رأيتني أقرأ كتابًا وإذا بسكارى رأس السنة يرمون قواريرهم الفارغة، فتطايرت شظايا، وأخذوا يُنذرونني بالويل، فجريت إلى أقرب قسم شرطة، ولكني وجدت الشرطة منهمكةً في حفظ الأمن العام، فجريتُ إلى فتوة الحي القديم، وقبل أن أنتهي من شكواي هبَّ هو ورجاله وانقضُّوا على الخمَّارة التي يشرب فيها المجرمون، وانهالوا عليهم بالعِصي حتى استغاثوا بي!
حلم ٢٠٤
رأيتني مديرًا لشئون السينما، وجاءتني الفنانة «ف» تطلب إعفاءها من العمل مع الممثل «أ»، فانزعجت وقلت لها: إن هذا سيغيِّر الخطة كلها! ولكنها أصرَّت على موقفها، ثم جاءني الممثل «أ» وطلب مني الضغط عليها فاعتذرَت، وراحت هي تقول للوسط الفني إنني أضغط عليها لتعمل مع الممثل «أ» صديقي على رغم إرادتي، وراح يقول إنني سهَّلت لها التحرُّر من العمل لغرض في نفسي، فلعنت اليوم الذي تولَّيت فيه هذا المنصب.
حلم ٢٠٥
رأيتني أشاهد دوريةً من الجنود الأجانب، فضربتها بحجر وصعدت إلى السطح، وعبرت إلى سطح الجيران، وهبطت السلَّم لأهرب من باب البيت، فوجدته مسدودًا بجنودٍ شاهري السلاح.
حلم ٢٠٦
رأيتني أعدُّ المائدة، والمدعوُّون في الحجرة المجاورة، تأتيني أصواتهم أصوات أمي وإخوتي وأخواتي. وفي الانتظار سرقني النوم، ثم صحوت فاقد الصبر، فهُرعت إلى الحجرة المجاورة لأدعوهم، فوجدتها خاليةً تمامًا وغارقةً في الصمت، وأصابني الفزع دقيقة، ثم استيقظَت ذاكرتي، فتذكَّرت أنهم جميعًا رحلوا إلى جوار ربهم، وأنني شيَّعت جنازاتهم واحدًا بعد الآخر!
حلم ٢٠٧
جلجل الهتاف بالانتخابات، فسَرَت النشوة في قلب المطرب الشعبي، وصاح مرشِّحًا نفسه، فأقبلَت عليه الجماهير حتى رفعوه على الأكتاف لنجاحه، وطلبوا منه الكلمة، فوقف على المنصة وعزف بالربابة وغنَّى:
حلم ٢٠٨
نجح الأستاذ «ل» في الانتخابات، فذهب إلى أُسرته وقال إنه لا يُشرِّفه الانتماء لهؤلاء القوم، وإنه ينوي الاستقالة، فقالت له سيدة: «الاستقالة معناها العداوة، وسوف ينكِّلون بك وبنا، فافرح أو تظاهر بالفرح، وألقِ كلمتك.» فوقف «ل» على المنصة وقال: «إن تاريخ مصر يظهر بظهوركم على المسرح، وما قبل ذلك فظلام في ظلام.»
حلم ٢٠٩
وجدتني مع صديقي «ت» في حجرة الفندق، واقتحمها علينا بعض الجنود وساقونا لنقف أمام ضابط أجنبي، الذي سأل صديقي لماذا لم يجنَّد؟ … فأجاب لأنه يرفض الحرب، فأمر بتجنيده وقال لي: الزم الحجرة؛ فقد تقتضي الظروف تجنيدك رغم شيخوختك!
حلم ٢١٠
رأيتني ضمن المجموعة التي انتُدبت لتقوية الجسور أمام الفيضان الثائر، ونحن كُمَال الوعي بأن أي إهمال أو تراخٍ يعني اكتساح الفيضان لنا، جارًّا وراءه المجاعة والفوضى!
حلم ٢١١
هذه مدرسة فؤاد الأول الثانوية، واليوم الاحتفال بوفاء النيل، وقد ملأ الفناءَ التلاميذُ وأولياءُ الأمور، وعلى المنصة جلس الضيوف وفي مقدمتهم ملكة إنجلترا، ونحن — فرقةَ الأغاني — في الناحية الأخرى.
وقام خطيب يروي حكاية النيل مع عرائس العذارى منذ القِدَم، وحتى آخر عروس، وهي التي ترك رحيلها لوعةً في قلبي لا تنطفئ. وبعد الخطابة غنَّينا تواشيح «يا زمان الوصل بالأندلس».
وانفضَّ الاجتماع، وسارت الملكة نحو الباب، ولمَّا وضحت معالمها تبيَّنتُ أنها الملكة فيكتوريا جاءت تحيةً للنيل!
حلم ٢١٢
الظلم تمادى حتى فاحت رائحة خانقة … فسافرتُ مع صحبة إلى حيث يُرجَم الشيطان، ولمَّا رجعت صدمتني «الريحة» الخانقة … وقال الزملاء إن لجنة الشر منعقدة في حجرتها، وإن مصيرنا يتقرَّر، فقمت من فوري إلى الحجرة، فوجدتني وجهًا لوجه مع رئيسها، وحدجني بنظرة قاسية، فاستخرجت من جيبي بعض الأحجار ورميته بها، وغادرت الغرفة … ودوَّى الانفجار ليصم الآذان.
حلم ٢١٣
بينما أسير في الطريق إذ رأيت نارًا تشتعل في بدروم مخزن الأدوية، ومع أن النيران لا تهدِّد بيتي تهديدًا مباشرًا إلا أنني أبلغت عنها عملًا بتعاليم إدارة المطافئ، وبعد فترة وجيزة وصلَت سيارات المطافئ، وحاصرَت النيران، ثم أخمدَتها، وعرفت الأسباب، وحوَّلت المسئولين إلى التحقيق.
حلم ٢١٤
أسير في الشارع الكبير … فأرى عن بُعد صديقي المرحوم وفي صحبته امرأة جميلة، وسارا نحو المنعطف، وخطر لي سؤال: هل المرأة من دنيانا أم هي روح من العالم الآخر؟ وسرت إلى المنعطف لكنني لم أجدهما، وبالتالي لم أعرف الجواب، ومازال السؤال يلح عليَّ.
حلم ٢١٥
اليوم آخر العطلة الصيفية … وفي صباح الغد نسافر إلى القاهرة، ولكن أُسرتي فاجأتني بإعلان عزمها على الإقامة في الإسكندرية لمواءمة جوِّها لصحتهم … فلم أصدق أذني، ولكنها عادت لتأكيد عزمها … فقالت لي اذهب أنت من أجل أعمالك، وزُرنا كل نهاية أسبوع. وضاع اليوم في جدل عقيم، وثار غضبي، وفكَّرت في أكثر من وسيلة للانتقام، ولكني في الصباح حملت حقيبتي إلى التاكسي المنتظر، الذي انطلق بي إلى الطريق الصَّحْراوي، وهنا شعرت بوحشة، كما شعرت بأن وحدتي تتفاقم.
حلم ٢١٦
على موجة الأشواق في الليلة الغرَّاء ركبت إلى العباسية، حيث وجدت نفرًا من الأصدقاء، فرحَّبوا بي جدًا، وجلسنا في الحديقة التي شهِدت شبابنا الضاحك، ودار الحديث بغير ضابط: ماذا عن فلان؟ تعيش أنت … وفلان؟ علمي علمك … وفلان؟ لا ندري عنه شيئًا منذ أن انتقلت أسرته إلى مصر الجديدة منذ نصف قرن. وذكرنا يوم قامت حركة يوليو، وأصدقاؤنا من الضباط الذين أصبحوا حُكَّامًا في غمضة عين، وتحدَّثنا عن وعن وعن إلى آخره، ثم ودَّعتهم في آخر الليل ومشَيت نحو الميدان، وفي وسط الطريق مررت بين مسكنَين متقابلَين؛ أمَّا الأيمن فشهد حبي الأول، وأمَّا الأيسر فشهد حبي الثاني، وجاش صدري وخفق قلبي، ولولا العجز لبشَّر ذلك بمولد رواية جديدة.
حلم ٢١٧
رأيتني حائرًا في ممر الحديقة، حاملًا باقة ورد لأحضر عقد قران، وعند الشرفة نظرت فرأيت عين المعبودة، فتوقَّفت ورميت بالورد تحت الشرفة، وتطلَّعت إليها، فقالت لي إنه تبيَّن لها أن أحدًا لا يذكرها سواي، فجاءت لتشكرني فقلت لها إن حضور لحظة خيرٌ عندي من ألف شكر، فابتسمَت وأشارت إلى اليمين، واختفت تاركةً الشرفة خاليةً والورد تحتها مبعثرًا.
حلم ٢١٨
اكتظَّ الفندق بالخلق بلا نقود ولا مواد، فانحشر في كل غرفة أكثر أسرة، ووجدتني في حجرتي عاريًا مع أسرة مكوَّنة من أم وثلاث فتيات وهن عرايا. ولمَّا اشتدَّ الحرج حالت الأم بيني وبين بناتها مضحيةً بنفسها.
حلم ٢١٩
أراد رجل الأعمال الإسرائيلي أن يُمضي سهرةً معنا، فطلب من صديقه الخواجة أن يتوسَّط له، والخواجة «د» صديق صديقنا المحامي «ع»، ووافَقْنا إذ كانت العلاقات مع إسرائيل في ذلك الوقت تبشِّر بالخير. وجاء الرجل وأخذ في عرض سلع إسرائيلية، وتابعناها في صمت … أمَّا الخواجة فأثنى عليها ثناءً كبيرًا، وذلك الإسرائيلي راضٍ، وهو يقول للخواجة نحن على أية حال أقارب. ومضَّينا بقية الليل في تأمُّل ما رأينا وما سمعنا!
حلم ٢٢٠
رأيتني داخلًا محل القاهرة لبيع الأقمشة لأشتري بدلةً جديدة، وهذا محلي منذ الصبا لصداقة صاحبه بوالدي، والآن تديره زوجته، فقدَّمت لها نفسي وترحَّمتُ على والدي وزوجها، وتساءلْت: أين أيام الوفد؛ فقد كان زوجها وأبي يقومان بالدعاية لمرشَّح الوفد؟ وسألتني ألم توحشك الانتخابات الحرة … فقلت لها أمنيتي أن أعيش حتى أشهد انتخابات حرةً مرةً أخرى.
حلم ٢٢١
رأيتني مديرًا لإحدى المؤسَّسات، ودخل حجرتي رئيس قطاع، وقدَّم مذكرةً لطلب تعيين موظفين، ولكن لاحظت أن المدير الحالي لن يؤشِّر؛ لأن اعتمادات التعيين غير متوفرة، فرددتها إليه؛ وإذا بالحجرة تمتلئ بمظاهرة، ينذرونني بالموت إذا لم أوقِّع بالموافقة، وفي هذه اللحظة الحرجة دخلت قوة شرطة أفضى إليها رجل ذو ضمير بالمكيدة التي دبَّرها رئيس القطاع … فساقت المتظاهرين ورئيس القطاع للتحقيق.
حلم ٢٢٢
الإسكندرية … بعد غياب طويل مع صديقي الدكتور «ص»، وطبعًا دار الحديث عن السيدة «خ» وتدهورها الصحي، وقال لي إنه كان يتجنَّب تذكيري بها حتى لا يسيء إلى عواطفها، ولكن في اللقاء الأخير قبل وفاتها كلَّفتني أن أحمل إليك الشكر لطول رعايتها أثناء مرضها، فعلمت أنك من الذين يصنعون الخير ويخفونه كأنه عيب من العيوب.
حلم ٢٢٣
وجدتني أجاوز الأربعين من عمري. ورأيت جارةً على شيء من الجمال، فغازلتها واتفقنا على الزواج، ولكن الأهل لم يجدوا فيها شيئًا مناسبًا؛ فهي في الأربعين وفقيرة ومطلقة. وتحدَّث أصحابي عن سوء سلوكها، فتراجعت، ولكن إخوتها وأقاربها غضبوا وهاجموا شقتنا، ونشروا فيها الفزع والتخريب، فاستنجدنا بالجيران، ودارت معركة حامية، ثم ذهبوا وهم يتوعَّدون تاركين وراءهم تلًّا من الخرائب.
حلم ٢٢٤
رأيتُني ضابط شرطة جديدًا، في طريقه إلى القسم لأول مرة، وهناك وجدت متَّهمًا يحقِّقون معه بعنف، دخلتُ بينه وبينهم وأنا أقول: «الشرطة في خدمة الشعب.» وأخذني الضابط إلى حجرته وقال لي: إنه حقًّا الشرطة في خدمة الشعب، ولكنك ينقصك تدريب طويل.
حلم ٢٢٥
جاء دوري في سلسلة الدراسات عن الأدب المعاصر التي يلقيها الأستاذ «ع» في دار الوفد أسبوعيًّا. وقد استُقبلت بحماس شديد كوفديٍّ قديم، وألقى الرجل محاضرته وهي في غاية الروعة، ولكن بعض الأدباء اتهموه بالتحيُّز لوفديته، ودافع هو عن نزاهة أحكامه، وشبَّت معركة، وأصابني اعتداء كاد يودي بحياتي!
حلم ٢٢٦
وجدتني ضمن أعضاء المؤتمر العام المكوَّن من جميع الأحزاب والنقابات والهيئات والجمعيات الأهلية. ويتبارى الخطباء. وعند مناقشة القرارات يشتد الجدل والاختلاف، ويُعلن عدد لا يستهان به الانسحاب من المؤتمر، وأصدرنا القرارات، وصفَّقنا طويلًا، ولكن آلمني شعور خفي بالخيبة.
حلم ٢٢٧
دعاني مديري إلى العشاء في مسكنه، واستقبلني هو وكريمته الصحفية، وكان الطعام عبارةً عن ملعقتَين من المكرونة وتفاحة، قسَّمتها الفتاة ثلاثة أقسام متساوية. وقد ظننت عندما قُدم أنه فاتح شهية، ولكن تبيَّن أنه العشاء كله، وقالت الفتاة وهي توصلني إلى الباب: أين تُمضي سهرتك؟ فقلت لها: سأبحث عن مطعم لأتناول العشاء.
حلم ٢٢٨
هذه السيدة هي أستاذة أولادي، وإضافةً إلى ذلك تحاورهم في شئون الدنيا والدين، فمالوا جميعًا إلى التديُّن، فقلت للسيدة: إني سعيد بتدينهم، ولكني أخشى أن ينحرفوا إلى التطرُّف، فقالت لي: إن التديُّن الصحيح أقوى سلاح ضد التطرُّف.
حلم ٢٢٩
أخيرًا تولَّيت المنصب المرموق وسط زوبعة من الحسد والاعتراضات، فعاهدت الله على الجد والاستقامة مهما كلَّفني ذلك من تضحيات، والواقع أني خسرت كثيرين من الأصدقاء وذوي القربى، ولم أجد من يعذر أو يقدِّر، ولمَّا انتهت مدة خدمتي وجدتني في جزيرة نائية تلطمها رياح الشماتة وأمواج اللعنات.
حلم ٢٣٠
دُعِيت الأحزاب إلى السباق، فأقام كل حزب سرادقه وركَّب مكبرات الصوت، وراحوا يتسابقون في إلقاء الخطب وتحذير الناس من عملاء أمريكا وإسرائيل، واشتدَّت حرارة الجدل، ثم تبادلت السرادقات إطلاق النار، ثم لم يعُد يُسمع إلا صوت الرصاص.