خطبة الكافي
وأسأل الله التوفيق لما يرضى من قول وعمل.
الطريقة الأولى: طريقة الإمام الأوحد الخليل بن أحمد في كتاب «العين»
وهو أول كتاب أُلِّف في اللغة، وسُمِّيَ بذلك لابتدائه بحرف العين؛ فإنه رتب كتابه على الحروف، وهي مسوقة على هذا الترتيب:
ع | ح | ﻫ | خ | غ | ق | ك | ج | ش | ض | ص | س | ز | ط |
د | ت | ظ | ذ | ث | ر | ل | ن | ف | ب | م | و | أ | ي |
ولا إشكال في كتابه من جهة هذا الترتيب وإن خالف ما أَلِفَهُ الجمهور في ترتيب حروف المعجم، ألا ترى أن حروف المعجم قد اختَلَف في ترتيبها المشارقة والمغاربة، ولم يَعُق ذلك أحد الفريقين عن الانتفاع بكتب الفريق الآخر فيما رتب على حروف المعجم، كما لم يعقهما عن الانتفاع بالكتب التي رتبت على نسق أبي جاد؟
وإنما أتى الإشكال فيه من جهة أخرى وهي أنه يذكر الكلمة وما ينشأ عنها بالقلب في موضع واحد؛ فيذكر «الضرم» في حرف الضاد، ويتبعها بذكر «الضمر» ثم «الرضم»، ثم «المضر»، ثم «الرمض»، ثم «المرض»، فإن أُهمِلَ شيء من أنواع القلب أشار إلى إهماله، وزاد على ذلك أنه ذكر كل نوع من الصحيح والمضاعف والمهموز والمعتل على حدة؛ ليمتاز كل نوع عن غيره، وقد جرى طريقته بعض اللغويين ومنهم الأزهري وابن سيده، ولصعوبة هذه الطريقة على الجمهور الذين ليس لهم مأرب في غير معرفة أبنية الكلم ومعانيها قال صاحب «لسان العرب»: «ولم أجد في كتب اللغة أَجَلَّ من تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، ولا أكمل من المحكم لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن سِيدَه الأندلسي رحمهما الله؛ فإنهما من أمهات كتب اللغة على التحقيق، وما عداهما بالنسبة إليهما بنيات الطريق، غير أن كلًّا منهما مطلب عَسِر المدرَك ومنهل وعر المسلك، وكأن واضعه شرع للناس موردًا عذبًا وحلَّأهم عنه، وارتاد لهم مرتعًا مربعًا ومنعهم منه، قد أخَّر وقدم، وقصد أن يعرب فأعجم. فرق الذهن بين الثنائي المضاعف والمقلوب، وبدد الفكر باللفيف والمعتل والرباعي والخماسي فضاع المطلوب. فأهمل الناس أمرهما، وانصرفوا عنهما، وكادت البلاد لعدم الإقبال عليهما أن تخلو منهما، وليس لذلك سبب إلا سوء الترتيب وتخليط التفصيل والتبويب، ثم ذكر «صحاح الجوهري» ونوَّه بحسن ترتيبه وجرى عليه.»
واعلم أن طريقة الخليل لها موقع عند الذين يرون أن الكلمات التي تشترك في الحروف وإن اختلفت في الترتيب لا بد أن يكون لها معنى مشترك بينها هو جنس لأنواع موضوعاتها، وذلك مثل: «كلم» و«كمل» و«مكل» و«ملك» و«لكم» و«لمك»؛ فإن لها معنى يجمع بينها وهو القوة والشدة.
الطريقة الثانية: طريقة الجوهري صاحب «الصحاح»
فإنه رتب كتابه على حروف المعجم على النسق المعروف في المشرق، غير أنه جعل الآخر للباب والأول للفصل، فكل كلمة يكون آخرها ألف؛ مثل: «بدا» يذكرها في الباب الأول وهو باب الألف، ويسميها بالألف المهموزة احترازًا عن الألف اللينة التي هي أحد حروف المد، وكل كلمة يكون آخرها باء مثل: «أب» يذكرها في الباب الثاني وهو باب الباء، ولم يزل يجري على هذا الترتيب حتى وصل إلى الحرف الأخير وهو حرف الياء، وقد جعل كل باب ثمانية وعشرين فصلًا، جعل الفصل الأول منها لما يكون أوله همزة، والفصل الثاني لما يكون أوله باء إلى أن وصل إلى الآخِر. غير أن بعض الأبواب قد تكون فصولها أقل من ثمانية وعشرين وهو الأكثر؛ كباب الراء، فإنه لا يوجد فيه فصل اللام لعدم وجود كلمة في العربية أولها لام وآخرها راء، وأقل الأبواب فصولًا باب الظاء؛ فإن فصوله ستة عشر، إذا عرفت هذا تعرف أن مثل «بري» و«بغي» يذكر في فصل الباب من باب الياء، وذلك في آخر الكتاب، وإن مثل «برء» و«بطء» يذكر في فصل الباء من باب الألف، وذلك في أول الكتاب، وقد جرت عادته في الفصل أن يراعي ما بعد الأول في الترتيب فيقدم «سأر» على «سبر» وهي على «ستر»، ويقدم «خردل» على «خزعل»، و«عبقر» على «عبهر»، وقد أشار الجوهري إلى طريقته في خطبة الصحاح فقال: «الحمد لله شكرًا على نواله، والصلاة على محمد وآله.
أما بعد: فإني قد أودعت هذا الكتاب ما صَحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف الله تعالى منزلتها، وجعل علم الدين والدنيا منوطًا بمعرفتها، على ترتيب لم أُسبق إليه، وتهذيب لم أغلب عليه، في ثمانية وعشرين بابًا، وكل باب منها ثمانية وعشرون فصلًا على عدد حروف المعجم وترتيبها، إلا أن يهمل من الأبواب جنس من الفصول، بعد تحصيلها بالعراق رواية، وإتقانها دراية، ومشافهتي بها العرب العاربة في ديارهم بالبادية، ولم آلُ في ذلك نصحًا، ولا ادخرت وُسعًا، نفعنا الله وإياكم به.»
وعلى طريقته سلك الإمام رضيُّ الدين الحسن الصغانيُّ في «العباب» و«التكملة»، والإمام جمال الدين في «لسان العرب».
الطريقة الثالثة: طريقة الجمهور
وقد رتَّب السالكون عليها كتبهم على حروف المعجم معتبرين فيها أوائل الكلم؛ فيذكرون في الباب الأول وهو باب الألف — ويراد بها هنا الهمزة — كل كلمة في أولها ألف، مثل: «أب» و«ألو» و«أبي»، وفي الباب الثاني وهو باب الباء كل كلمة في أولها باء، مثل: «بر» و«بري»، ولا يزالون على هذا النهج إلى أن يصلوا إلى النهاية وهي باب الياء، وقد جعلوا كأصحاب الطريقة الجوهرية في كل باب فصولًا ناظرين فيها إلى ثواني الكلم؛ فيذكرون الفصل الأول ما يكون ثانيه همزة، وفي الثاني ما يكون ثانيه باء، وفي الفصل الثالث ما يكون ثانيه تاء، ولا يزالون على ذلك إلى أن يصلوا إلى النهاية؛ فالحرف الأول عند هؤلاء كالحرف الأخير عند الجوهري، والحرف الثاني عندهم كالحرف الأول عنده؛ فمثل «أبي» تذكر عندهم في أول الكتاب في فصل الباء من كتاب الألف، وتذكر عند الجوهري في آخر الكتاب في فصل الألف من كتاب الياء، ويُقَدِّمون بعض كلمات الفصل على بعض بالنظر إلى ما بعد الحرف الثاني؛ فيذكرون «برج» مثلًا قبل «برح»، و«برنج» قبل «برزخ»، و«عندل» قبل «عندم»، و«سنبك» قبل «سندس»، وعلى هذه الطريقة جرى ابن فارس في «المجمل»، والهروي في «الغريبين»، والراغب الأصفهاني في «المفردات»، والزمخشري في «أساس البلاغة»، وابن الأثير في «النهاية».
قال صاحب «المجمل» في أوله مبينًا لسبب أمن قارئه المتدبر له من التصحيف: «وذلك أني خرَّجته على حروف المعجم، وجعلت كل كلمة أولها همزة في كتاب الهمز، وكل كلمة أولها باء في كتاب الباء، حتى أتيت على الحروف كلها، فإذا احتجتَ إلى كلمة نظرت إلى أول حروفها فالتمستَها في الكتاب الموسوم بذلك الحرف؛ فإنك تجدها مصوَّرة في الحاشية ومفسَّرة من بعد.» وقد تسمى الألف هَهنا همزة.
وقال صاحب «الغريبين» في كتابه وهو موضوع على نسق الحروف المعجمة: «نبدأ بالهمزة فنفيض بها على سائر الحروف حرفًا حرفًا، ونعمل لكل حرف بابًا، ونفتتح كل باب بالحرف الذي يكون أوله الهمزة ثم الباء ثم التاء إلى آخر الحروف، إلا أن لا نجده فنتعداه إلى ما نجده على الترتيب فيه، ثم نأخذ في كتاب الباء على هذا العمل إلى أن ننتهي بالحروف كلها إلى آخرها؛ ليصير المفتِّش عن الحرف إلى إصابته من الكتاب بأهون سعي وأخف طلب، وقد جعل بعض المؤلفين بدل قولهم: باب كذا، قوله: كتاب كذا، وبدل قولهم: فصل كذا، قوله: باب كذا، وربما ترك بعضهم ذكر لفظ الفصل في العنوان، واكتفى بقوله: الألف مع الباء مثلًا، والخطب في ذلك سهل.»
هذا، ويجب على من أراد البحث عن كلمة في كتب اللغة أن يجردها أولًا من الزوائد إن كان فيها زائد، ويعيدها إلى أصلها الأول إن عراها تغيير، ثم يبحث عن الموضع الذي هو مظنة أن توجد فيه؛ فيراجع: «أقبل» «تقبل» و«استقبل» في: «قبل»، و«إثمد» في: «ثمد»، و«منسأة» في: «نسأ»، و«مبراة» في: «بري»، و«وهبة» في: «وهب»، و«سعة» في: «وسع»، و«هدى» في: «هدى»، و«أب» في: «أبو»، و«ابن» في: «بنو»، و«يد» في: «يدي».
ومعرفة الحرف الزائد والأصل الأول وإن توقَّف على معرفة علم الصرف، إلا أن أناسًا عرفوا ذلك بالممارسة، وقد مرَّن بعض المعلمين في مدارس المبتدئين تلاميذهم على ذلك فصاروا في أقل مدة يراجعون ما يورد عليهم من الكلمات في كتب اللغة بدون تلكؤ، وجرى لهم نحو ذلك في رسم الخط؛ فتراهم يرسمون مثلًا: علا بالألف، وأعلى بالياء، ومن عرف سر التعليم لم يستبعد أعظم من ذلك أن هنا شيئًا، وهو أن بعض الكلمات قد اختلف فيها رأي اللغويين، مثل: «هبلع» وهو الأكول؛ فإن بعضهم يحكم بأن الهاء زائدة فيُذكر في مادة «بلع»، وبعضهم يحكم بأنها أصلية، ومثل: «إبَّان» فإن صاحب «الصحاح» ذكره في «أبن» بناء على أن النون فيه أصلية؛ فيكون وزنه فِعَّالًا، وصاحب «أساس البلاغة» ذكره في «أب» بناء على أن النون فيه زائدة، كنون وجدان ونحوها؛ فيكون وزنه فعلانًا.
وقد رُتب هذا الكتاب على أشهر ترتيب متداولًا، وأسهله متناولًا، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه.
وجرى على مثل ذلك المُطَرِّزِيُّ في «المغرب» فقال فيه: «وربما فسرت الشيء مع لفقه موضع ليس بوفقه؛ لئلا ينقطع الكلام، ويتضلع النظام. ثم إذا انتهيت إلى موضعه الذي يقتضيه، أثبتُّه غير مفسر فيه؛ كل ذلك تقريبًا للبعيد وتسهيلًا على المستفيد.»
وممن جرى على ذلك مجد الدين المبارك ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث والأثر»؛ فإنه قال بعد أن ذكر كتاب «الغريبين» للهروي، وكتاب أبي موسى الأصفهاني في استدراك ما فات الهروي: «وسلكت طريق الكتابين في الترتيب الذي اشتملا عليه، والوضع الذي حوياه من التقفية على حروف المعجم بالتزام الحرف الأول والثاني من كل كلمة وإتباعهما بالحرف الثالث منها على سياق الحروف، إلا أني وجدت في الحديث كلمات كثيرة في أوائلها حروف زائدة قد بُنِيَتِ الكلمة عليها حتى صارت كأنها من نفسها، وكان يلتبس موضعها الأصلي على طالبها، لا سيما وأكثر طلبة غريب الحديث لا يكادون يفرقون بين الأصلي والزائد؛ فرأيت أن أُثبِتَها في باب الحرف الذي هو في أولها وإن لم يكن أصليًّا، ونبهت عند ذكره على زيادته؛ لئلا يراها أحد في غير بابها فيظن أني وضعتها فيه للجهل بها؛ فلا أُنسب إلى ذلك ولا أكون قد عرَّضت الواقف عليها للغيبة وسوء الظن، ومع هذا فإن المصيب في القول والفعل قليل بل عديم، ومَن الذي يأمن الغلط والسهو والزلل! نسأل الله العصمة والتوفيق.»
وقد أكثر صاحب «القاموس» من تعقُّب الجوهري في مواضع الكلم، وذلك كقوله: في «زرج»: «و«الزرجون»، كقربوس شجر العنب أو قضبانها والخمر وماء المطر الصافي المستنقع في الصخرة، وذكره الجوهري في النون ووهم.» وكقوله لدى لغة في «لدن» و«اللدة»، كعِدة الترب جمع «لدَّات» … هنا يذكر لا في «ولد»، وقد اشتدَّ إنكار العلماء على صاحب «القاموس» في ذلك؛ لما عرفت أن عادة كثير من اللغويين أن يذكروا الكلمة في الموضع الذي يظن أن الطالب يطلبها فيه، وأنهم قد يذكرون الكلمة مع لفقها في موضع ليس بوفقها تسهيلًا عليه؛ مع أن أكثر ما انتقده عليه هو مذكور في موضعه على أصول أئمة الصرف الذين كان الجوهري يُعد منهم، غير أنهم أفرطوا في ذلك حتى كادوا أن لا يقيموا لاعتراض من اعتراضاته وزنًا، مع أن مَن كثُر خطؤه يمكن أن يخطئ الخطأ ولو مرة، ولم يفده كونه من الجماعة وكون الجوهري من أهل الاعتزال؛ لما أن أهل الأدب لا تؤثر فيهم غالبًا هذه العصبية، وعلى كلٍّ فليس لنا إلا أن نشكر مسعى كل من خدم هذه اللغة على أيِّ وجهٍ كان، أجزل الله ثوابهم وجعل إلى دار السعادة مآبهم.
واعلم أن طريقة الجوهري يؤمَن فيها التصحيف في الأول والأخير البتة؛ لدلالة الباب والفصل عليهما، وفيما عداهما في الغالب؛ لدلالة ما سبق أو ما يأتي على ذلك، وحيث لم يؤمَن التصحيف صرَّحوا بما يرفع الإشكال، ولا يبقى مجالًا للاحتمال كقول الجوهري: «الشبادع: العقارب، واحدتها: شِبدعة بالكسر والدال غير معجمة.»
وطريقة الجمهور يؤمَن فيها التصحيف في الأول والثاني البتة وفيما عداهما في الغالب، ويصرحون بما يرفع الإشكال في المواضع التي يكون له فيها مجال؛ فإن قلتَ: أيُّ الطريقتين أرجح؟ قلتُ: لا فرق بينهما في بادئ الرأي؛ لأن الباحث يحتاج على كل حال إلى تجريد الكلمة من الزوائد وإرجاعها إلى أصلها، وإذا تيسر له ذلك سَهُل عليه معرفة موضعها من كتب الفريقين، وإذا دقَّقَ النظر وجد طريقة الجمهور أسهل مسلكًا؛ وذلك لأن طريقة الجوهري تتوقف على معرفة الآخر فإذا لم يعرف لم يمكن أن يعرف باب الكلمة، ومعرفة الآخر أصعب من معرفة ما سواه غالبًا. فإذا أراد المبتدئ أن يبحث عن مثل «إبَّان» و«برهان» و«عرجون» لم يدرِ هل النون فيها أصلية؟ فيراجعها في باب النون؟ أم زائدة فيراجعها في غيره؟ والحيرة في مثل هذا أقل من الحيرة في مثل «يد» و«دم» و«ابن» و«أب» و«أخ»، مما حُذف آخره، وفي مثل «خبأ» و«ذرأ» و«برأ» مما يُحتمل أن يكون مهموزًا فيرجع فيه إلى باب الهمزة في أول الكتاب، أو ناقصًا فيُرجع فيه إلى باب الواو أو الياء في آخر الكتاب، ولنذكر لك أمثلة أخرى.
فمن ذلك: «الجُفاء» بالضم، وهو ما نفاه السيل؛ فإنه من: جفأ الوادي إذا رمى بالقذى والزبد، فإنه يُذكر في باب الهمز، وأما «الجَفاء» بالفتح وهو خلاف الصلة، فإنه يُذكر في باب الواو؛ لأنه مصدر جَفَوْتُهُ إذا هجرتُه، ومن ذلك «الداء» و«الدواء»؛ فإن الداء يُذكر في باب الهمز؛ لأنه من ذوات الهمزة، ويُجمع على «أدواء»، و«الدواء» يُذكر في باب الياء؛ لأنه من ذوات الياء، ويُجمع على «أدوية»، وأما الكتب الموضوعة للجمهور فإن مثل «برا» و«برأ»، و«ذرا» و«ذرأ»، و«جُفاء» و«جَفاء»، يُذكر في باب واحد في فصل واحد.
نعم، قد يقع الإشكال في الأول في مثل «ابن» و«إثمد» و«أصبع»؛ فإن الهمزة فيها زائدة غير أن الإشكال فيه أقل.
والظاهر أن الذي دعا الجوهري إلى المسلك الذي سلكه مع أنه أصعب من المسلك الآخر هو رعاية جانب أهل الأدب؛ فإنه إذا جُمعت الكلمات المتحدة الأواخر في باب تيسر لهم أن يقصدوه لمعرفة الكلم التي على رويٍّ واحد من غير مَشَقَّةٍ ونصَب، وذلك من المهمات في النظم والنثر الذي ينحى به منحاه، وقد جرت عادة كثير من الشعراء أن يُعِدوا القوافي قبل النَّظم، وأكثر ما يُشكَل في الشعر من الكلم في الأكثر: الكلم التي ترِد في القوافي، ولا يخفى أن للقوافي شأنًا غير شأن غيرها؛ حتى تغاضَوْا فيها عن ورود الغريب الذي لم يتجاوز الحد في الغرابة لمكان الاضطرار إليها، ويكفيك ما شاع من قول الناس: «هذا مما جرَّته القافية.» ويُذكر أن بعض أهل الأدب عمل أبياتًا في وصف مُدامة شربها وذكر فيها أنها جعلته في العيِّ يحكي فلان بن فلان، فسمع بذلك المهجوُّ فقال له: لمَ هجوتني وأنا من أصدقائك؟ فقال: لأنك قعدت على طريق القافية.
وقد رأيتُ كتابًا كبيرًا في اللغة العربية رتبه صاحبه على القوافي إلا أنه فسَّر الكلمات فيه بالفارسية لإفادة الفرس، وإذا عرفت ما اختُصَّت به الطريقة الجوهرية فلنذكر لك ما اختُصَّت به الطريقة الجمهورية: وهي جمع الكلمات المتقاربة في اللفظ والمعنى في فصل واحد، وذلك أنه قد ثبُت عند علماء الاشتقاق أن التقارب بين اللفظين يدل على التقارب بين المعنيين نحو: «قسم» و«قصم» و«قدر» و«قتر»، مما اتفق فيه الأول والثالث، واختلف فيه الوسط، ونحو: «صعد» و«سعد» و«قضم» و«خضم» مما اتفق الثاني والثالث واختلف الأول، ونحو: «أبد» و«أبق» و«بتر» و«بتك»، مما اتفق فيه الأول والثاني واختلف فيه الثالث، قال بعضهم في هذا النوع: وهو الذي يُجمع في طريقة الجمهور في فصل واحد إذا أمعنت نظرك في التراكيب اللغوية وجدت بين كل كلمتين اتفقتا في الفاء والعين اتصالًا؛ فإن تقارب اللامان في المخرج كان التقارب بين المعنيين أشد، وإن تباعدا كان التباعد بين المعنيين بقدر ذلك.
وأما أصل الاتصال فلا بد منه يظهر ذلك عند إمعان النظر، وذلك المعنى هو الجهة الجامعة لهما وإن خفيت، وقد ظهر من البحث والنظر أن تركيب الهمزة مع الباء يدل على النفور والبعد والانفصال، ويظهر ذلك في: «أبَّ» و«أبد» و«أبق» و«أبى» ونحوها؛ فإن كل واحد منها لا يفارقه ذلك المعنى، يقال أبَّ إذا تهيأ للذهاب، وأبدت البهيمة إذا نفرت وتوحشت، وأبق العبد إذا هرب من سيده، وأبى الرجل إذا امتنع، وإن تركيب الهمزة مع الزاي يدل على الضيق والشدة؛ ويظهر ذلك في: «أزَّ» و«أزق» و«أزل» و«أزم» ونحوها، وأمثلة ذلك كثيرة وقد أوردوا ما يكفي للتدريب، وباقيه يحتاج إلى من يثيره من مكامنه، وكأن القائلين بهذا القول يذهبون إلى أن الأصل في هذا الباب هو حرفان وُضِعَا لمعنًى، ثم زيد عليهما حرف آخر ليدل على معنى آخر يكون بمنزلة النوع للمعنى الأول الذي هو بمنزلة الجنس لأنواع معاني الألفاظ التي نشأت عنه بالزيادة، وهذا بحسب الظاهر يخالف ما قرَّروه؛ فإنهم ذكروا أن ما كان على ثلاثة أحرف لا يحكم على حرف منه بالزيادة، وهذا كالمتفق عليه، قال سيبويه في كتابه: «وأما ما جاء على ثلاثة أحرف: فهو أكثر الكلام في كل شيء من الأسماء والأفعال وغيرهما مزيدًا فيه وغير مزيد فيه؛ وذلك لأنه كأنه هو الأول فمن ثَمَّ تمكَّن في الكلام، ثم ما كان على أربعة أحرف بعده، ثم بنات الخمسة وهي أقل، لا تكون في الفعل البتة، ولا يكسر بتمامه للجميع؛ لأنها الغاية في الكثرة فاستثقل ذلك فيها.»
فالكلام على ثلاثة أحرف وأربعة أحرف وخمسة لا زيادة فيها ولا نقصان، والخمسة أقل الثلاثة في الكلام؛ فالثلاثة أكثر ما تبلغ بالزيادة سبعة أحرف وهي أقصى الغاية والمجهود، وذلك نحو: «اشهيباب»، فهو يجري على ما بين الثلاثة والسبعة، والأربعة تبلغ هذا نحو: «احرنجام»، ولا تبلغ السبعة إلا في هذين المصدرين، وأما بنات الخمسة فتبلغ الزيادة ستة، نحو «عَضْرَفُوط»، ولا تبلغ سبعة كما بلغتها الثلاثة والأربعة؛ لأنها لا تكون في الفعل فيكون لها مصدر نحو هذا، فعلى هذا عدة حروف الكلم، فما قصر عن الثلاثة فمحذوف، وما جاوز الخمسة فمزيد فيه.
وكأنَّ علماء الصرف أجمعوا على أن الاسم المتمكِّن والفعل لا يبنيان من أقل من ثلاثة أحرف، واحترزوا بالمتمكِّن عن غير المتمكن وهو المبنيُّ؛ فإنه لمشابهته للحرف قد يُبنى من أقل من ثلاثة أحرف كالحرف، وذلك مثل «من» و«هي»، فإن وجد اسم متمكن على أقل من ثلاثة أحرف «كأب» و«أخ» حكموا بأنه قد حُذف منه شيء، وأصلهما عندهم: «أبو» و«أخو»، ويدل على ذلك أنه يقال في تثنيتهما: «أَبَوَان» و«أَخَوَان»، وقد استقرءوا الكلم فوجدوا أن الأبنية الثلاثية أكثر مما سواها، وحكموا بأنه أعدل الأبنية، وأن الأصل في كل كلمة أن تكون على ثلاثة أحرف: حرف يُبتدأ به، وحرف يُوقف عليه، وحرف يكون واسطة بينهما.
إذا عرفت ما ذكرنا ربما عرض لك الإعراض عن القول السابق متعللًا بأن إجماع علماء الصرف حُجَّة فإنهم صرفوا أعمارهم في هذا الفن، ووجهوا أنظارهم إلى دقائقه، فإذا اتفقوا على شيء منه ولا داعي لهم على ذلك من رغبة أو رهبة لم يكن ذلك إلا لكونه صوابًا؛ إذ يَعسُر الحكم بخطئهم أجمعين بعد إعطائهم النظر حقه، لكن إذا أمعنت النظر ربما ظهر لك ذلك القول ربما لم يكن مصادمًا للإجماع؛ لأن كثيرًا من المسائل يختلف الحال فيها باختلاف الفن، ألا ترى أن النحوي المنطقي يجزم بأن عبد الله — إذا كان عَلَمًا — مفردٌ؟ هذا إذا كان يبحث في المنطق؛ لأنه لا فرق بينه وبين زيدٍ في كونه لا يدل جزءُ لفظِه على جزء معناه، فإذا كان يبحث في النحو يُرَجح كونه مُرَكَّبًا رعايةً لجانب اللفظ، فحكمه عنده حكم قولك: أنا عبد الله، إذا لم يكن ذلك اسمك لوجود جزأين فيه قد أُعرِب كل واحد منهما بإعراب، ولعلك تقول إن هذا ليس باستدلال بل هو من قبيل إيراد المثال، وهو لا يزيل ما حاك في صدري من الإشكال، فهل عندك أقرب من هذا إلى الفهم وأبعد منه عن الوهم؟!
فأقول: إن علماء الصرف إنما يبحثون عن الكلمات باعتبار الزمن الأخير الذي وصلت إليهم فيه، وحكمهم في ذلك صحيح لا مِريَةَ فيه، وعلماء سر اللغة إنما يبحثون عنها باعتبار الزمان الأول وهو زمن ظهورها شيئًا فشيئًا، وحكمهم في ذلك وإن كان في الغالب بطريق الظن إلا أنه لا يصادم حكم أولئك، فكم من زائد في أول الأمر حكم له من بعدُ بالأصالة! وكم من مركَّب في الابتداء صار مفردًا في الانتهاء! وانظر إلى ميم «مكن»، فإنه لا يتوقف أحد من أهل الصرف عن الحكم بأنها أصلية، فإنها نظير ميم «مرن» و«مكث»، مع أن بعضهم قال: إنها مأخوذة من المكان وميمه زائدة، فهو مَفْعِلٌ من الكون، لكن لكثرته في الكلام توهموا أن ميمه أصلية؛ فأجروه مجرى فعال كزمان، وجُمع على أمكنة، ثم أخذ منه «مكن» و«تمكَّن».
وانظر إلى همزة «إمَّعة»، وهو الذي يتابع كل أحد على رأيه ويقول له: «أنا معك.» ومنه قول ابن مسعود: «لا يكوننَّ أحدكم إمَّعة.» وقد جاء في الأثر: «اغْدُ عالمًا متعلمًا ولا تكن إمَّعة.» فإنهم حكموا بأنها أصلية فوزنه فِعَّلة، مع أن الظاهر أنها زائدة دخلت على لفظ «مع»؛ فيكون وزنه أفْعلة، قالوا: لأن أفعل وأفعلة لا يكونان وصفًا.
ومثل ذلك تاء «تخذ»، فإنهم حكموا بأنها أصلية مع أنها كانت في الأصل زائدة، قال علماء اللغة: يقال اتخذوا في القتال بهمزتين؛ أي أخذ بعضهم بعضًا، و«الاتخاذ» افتعال أيضًا من الأخذ، إلا أنه أُدغم بعد تليين الهمزة وإبدالها بالتاء، ثم لما كَثُر استعماله توهموا أن التاء فيه أصلية كتاء «اتبع»: فبنوا منه فعِلَ بالكسر فقالوا: «تخذت زيدًا صديقًا.» إذا جعلته كذلك، ومصدره «تخذ» بفتح الخاء وسكونها، واستبعد بعضهم ذلك فجعل «تخذ» أصلًا، وجعل «اتخذ» مأخوذًا منه فهُما بمنزلة «تبع» و«اتبع»، ومن دقَّق النظر تبين له أن البناء على التوهم لا يحصى في اللغة، وأن معظم اتساعها نشأ عن ذلك؛ ومغزى الكلام هنا أن الحكم على كلمة بكونها كانت مجردة ثم زيد فيها شيء لا ينافي الحكم عليها بأنها ليس فيها زائد؛ نظرًا إلى الحال الحاضر.
ويظهر لك هذا الأمر ظهورًا لا خفاء بعده بأمر النحت، وهو جعل الكلمتين كلمة واحدة بعد إزالة ما يمنع التئامهما، نحو: «حيعل المنادي» أي قال: حيَّ على كذا، قال الشاعر:
وقد ذكروا أن أكثر الكلمات التي تجاوزت حروفها الثلاثة منحوت، ولا يخفى أن المنحوت مفرد مع أنه كان في الأصل مركبًا؛ فليس يسوغ لمن لا يعرفه أو ينكره أن يعترض على القائل به بأن الألفاظ المدَّعى نحتها مفردة، مع أن قاعدة النحت تقتضي أنها مركبة؛ لأن المدعي للنحت لا يخالفه في كونها الآن مفردة وقد ذكرنا في كتاب «أصول اللغة» أنه قد يعرض في بعض المواضع أن تختلف أنظار كل من علماء الصرف وعلماء اللغة وعلماء الفقه فيها ويكون لكلٍّ وجهة. والواجب على كل فريق منهم أن يعطي فَنَّهُ ما يستحقه من النظر والاعتبار غير متعرِّض لما لا يعنيه من الاعتراض على غير أهل مذهبه؛ فإن ذلك أقرب للسلامة من الخطأ والخطل، وإن كان مليًّا بها كلها كان أجدر أن يعطي كل فنٍّ ما يستحقه من النظر والاعتبار لإشرافه عليها من علٍ، إلا أن يبدو له شيء يضطره إليه البرهان فيقول به، فإن أصاب فله مع الأجر جميل الذكر، وإن أخطأ لم ينح عليه بالملام؛ لأنه تكلم فيما له به إلمام، وعلى كل حال فليكن متمثلًا بقول من قال:
هذا، والإمعة بكسر الهمزة وتشديد الميم المفتوحة، وقد تفتح الهمزة، والهاء فيه للمبالغة، ولا أستبعد أن يكون الإمعة منحوتًا مما يقوله لكل من يلقاه، وهو: إني معه، حُذفت النون الثانية؛ ليتيسر المزج ثم قُلبت النون ميمًا، ثم أُدغِمت في ميم «مع»، فصار «إمَّع»، ثم زيدت فيه الهاء للمبالغة فصار: «إمَّعة»، ويقال أيضًا: «إمَّع» بدون هاء.
ولعلَّ قائلًا يقول: كيف يحكمون بأن الأصل في الكلم العربية أن تكون على ثلاثة أحرف فما زاد على ثلاثة يكون إمَّا من المزيد فيه أو مما ركب من كلمتين صارتا بعد بطريق النحت كلمة واحدة، وما نقص عن ثلاثة أحرف يكون ممَّا حُذف منه شيء، إلا أن تكون الكلمة من قبيل الحرف ﮐ «هَل»، و«قد»، أو من قبيل الأسماء المشابهة للحرف ﮐ «من» و«هو»، فإن هذا النوع يُحكم فيه بأنه قد نشأ كذلك لعلَّة يذكرونها، والخليل بن أحمد يسمي مثل: «در» و«رد» ثنائيًّا، ويفتتح في العين كل حرف من الحروف به، وناهيك قول مثل صاحب «مفتاح العلوم» في مبحث النواصب وهو من العدلية المعروفين بالاعتزال، والخليل من الجماعة الموصوفين بالاعتدال: وأما الناصبة للأفعال فالأصل فيها أن عند الخليل — قدَّس الله روحه — وقول الخليل يغني عن الدليل:
على أن كثيرًا من الباحثين عن أصول اللغات في هذا العصر قد أفضى بهم البحث إلى أن الكلم في اللغات السامية كانت ثنائية في أول الأمر.
فنقول: إن الخليل إنما سمى مثل «در» و«رد» بالثنائي المضاعف؛ وفي لفظ «المضاعف» ما يدل على أنه لم يرد بلفظ الثنائي المعنى الذي تشير إليه، ألا ترى أنه لما ذكر «در» في أول حرف الدال في نوع الثنائي المضاعف منه أتبعه بذكر «دردر» و«دردور»؟ ولا شك أن «دردر» ذو أربعة أحرف، ولكن سماه هو ثنائيًّا لعدم وجود غير الدال والراء فيه، وهما حرفان وإن كان منهما قد ضوعف، وذكر بعده «الدرد» وهو ذو ثلاثة أحرف، غير أن فاءه ولامه من جنس واحد، و«الددن» وهو ذو ثلاثة أحرف غير أن فاءه وعينه من جنس واحد، ثم لما انقضى الثنائي المضاعف انتقل إلى ذكر الثلاثي الصحيح فذكر فيه ما ذكر من نحو: «دثر» و«درن» و«دفر» وما قلب منها على عادته … وعلى ذلك جرى في سائر الحروف.
وههنا أمر جدير بأن يُنظر فيه، وهو أنهم قالوا إن الأصل في أواخر الكلم أن تكون ساكنة، قال في «المفتاح»: «إن اعتبار أواخر الكلم ساكنة ما لم يعرف عن السكون مانع أقرب لخفة السكون بشهادة الحس، وكون الخفة مطلوبة بشهادة العُرف، ولكون السكون أيضًا أقرب حصولًا لتوقفه على اعتبار واحد، وهو جنسه دون الحركة لتوقفها على اعتبارين: جنسها، ونوعها. فتأمل!»
وعلى هذا يكون المضاعف على حرفين حين الوضع؛ وذلك لأن الكلمات قبل التركيب تُبنى على الوقف، وإذا وقف عليه بقي على حرفين فتقول في «قَدَّ»: «قَدْ» بسكون الدال، وفي «هَلَّ»: «هلْ» بسكون اللام؛ فتصير قد حين الوقف على صورة قد في قولك: «قد قام»، غير أن بينهما فرقًا يُشعر به السامع مثل ما يشعر به المتكلم؛ وذلك أن الحرف المشدد إذا وقف عليه يكون الاعتماد عليه أكثر، فيبقى فيه شيء من آثار التشديد، فيشعر السامع بأنه كان قبل الوقف مشددًا.
ومن أراد أن يتجاوز هذا الحد عسر عليه ذلك، إلا أن يأخذ بالمذهب الذي تَقَبَّلَهُ ابن جني بقبول حسن، وهو ما ذكره في «الخصائص» بقوله: «ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات؛ كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي … ونحو ذلك، ثم وُلِدَت اللغات عن ذلك فيما بعد.» وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبَّل.
فإن حكاية الأصوات تظهر في المضاعف أكثر مما تظهر في غيره، وإذا استقرأت المضاعف وجدت جُلَّهُ مما يُشعر بحكاية صوت، وكثير من ذلك يظهر بأدنى التفات إليه، وكثير منه يحتاج إلى قوة حس وحدس فيبدو لأناس ويخفى على آخرين؛ حتى إن بعض المنكرين يتخيل أن هذا من تأثير التخيُّل، ويقول: إن هؤلاء لما اعتقدوا أن المضاعف نشأ عن حكاية الأصوات صاروا يتخيلون في المضاعَف صوتًا يشاكل ما أخذ عنه وإن لم يكن ثَمَّ مُشَاكَلَة.
قال ابن جني بعد أن أفاض في بيان مناسبة اللفظ للمعنى: «ووراء هذا ما اللطف فيه أظهر والحكمة أعلى وأصنع، وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف تشبيه أصواتها بالأحداث المعبَّر عنها بها ترتيبها وتقديم ما يضاهي أول الحدث وتأخير ما يضاهي آخره وتوسيط ما يضاهي أوسطه؛ سوقًا للحروف على سَمت المعنى المقصود والغرض المطلوب.
ومن ذلك قولهم: «شدَّ الحبل»، فالشين لما فيها من التفشِّي تشبه صوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العَقْد، ثم يليها إحكام الشد والجذب وتأريب العَقْد فيعبر بالدال التي هي أقوى من الشين، لا سيما وهي مدغَمة فهي أقوى لصيغتها، وأدلُّ على المعنى الذي أريدها بها ويقال: شدَّ وهو يُشِدُّ، فأما الشدة في الأمر فإنها مستعارة من شد الحبل.، ومن ذلك قولهم: «جرَّ الشيء يجره.» قدم الجيم؛ لأنه حرف شديد، وأول الجر مشقة على الجارِّ والمجرور جميعًا، ثم عقبوا ذلك بالراء وهي حرف تكرير، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جُرَّ على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها واضطرب صاعدًا عنها ونازلًا إليها، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق؛ فكانت الراء لما فيها من التكرير، ولأنها أيضًا قد كررت في نفسها أوفق بهذا المعنى من جميع الحروف، فإن رأيت شيئًا من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه، ولا يتابعك على ما أوردناه؛ فذلك لأحد أمرين: إما أن يكون لم تُنعم النظر فيه فيقعدك فكرك عنه، أو لأن لهذه اللغة أصولًا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا.»
وعلى ما ذكر من أن اللغات إنما نشأت عن الأصوات، وأن حكاية الأصوات تظهر في المضاعف أكثر مما تظهر في غيره، وأن الأصل في أواخر الكلم السكون يقوِّي القول بأن الكلمات كانت في أول الأمر ثنائية، وأن أول ما وُضِعَ من الكلم هو المضاعف ثم تلاه غيره، قال ابن جني: «الصواب: رأي أبي الحسن الأخفش، سواء قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد؛ بل وقعت متلاحقة متتابعة.»
في أن ذلك لا ينافي قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا
واعلم أن الذين قالوا بحدوث اللغات عن الأصوات، وبكونها لم توضع كلها في وقت واحد، يقولون إن هذا لا ينافي قوله سبحانه: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا؛ لأن غاية ما في القول الأول ثبوت المناسبة بين اللفظ والمعنى، وفي ذلك دلالة على حكمة الواضع، وغاية ما في القول الثاني أن بعض الأشياء لم يوضع لها اسم إذ ذاك لعدم الاحتياج إليها حينئذٍ. إما لأنها لم توجد بعدُ أو لأنها وإن وُجدت فإن الحاجة لم تدعُ إليها؛ فإن وضع الاسم للشيء إنما تكون له فائدة إذا كان ممَّا يُحتاج إليه ليدل به حين الحاجة عليه.
ويدل على أن ما لم يوجد حينئذٍ لم يوضع له اسم تتمة الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قال المفسرون: الضمير في عرضهم عائد إلى المسميات المدلول عليها ضمنًا؛ إذ التقرير وَعَلَّمَ آدَمَ أسماء المسميات كلها، ثم عرض المسميات على الملائكة، وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء، وأما التأكيد ﺑ «كل» هنا فأجابوا عنه بأن كل قد يأتي للتكثير دون الإحاطة، كقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا، والتزم بعضهم التخصيص في الأسماء فقال التقدير: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ المسميات التي احتاج إليها كلها، وعليه فتكون «كل» هنا على ظاهرها من الدلالة على الإحاطة، وعلى كل حال فإيراد الأسماء وهو جمع مُحَلَّى بالألف واللام، وهو مما يدل ظاهره على العموم، وتأكيد ذلك ﺑ «كل» يدل على أن ما علمه آدم — عليه السلام — من ذلك أمر عظيم لا يحاط بكُنهه، ولا يخفى أن معرفة الأسماء على الحقيقة لا تكون إلَّا مع معرفة المسمى وحصول صورته في النفس؛ ولذلك كان القصور في اللغة أو التقصير فيها موجبًا في الأكثر للتقصير في كثير من العلوم، وكفى بهذه الآية دليلًا على شرف علم اللغة.
في سر تقديم بعضهم المضاعف على غيره
ولنرجع إلى أول الكلام، فنقول: قد عرفت أن طريقة الجمهور يتحد فيها الأول والثاني في كل فصل من فصول الأبواب، إلا أن ترتيب الكلمات في الفصل الواحد يكون بالنظر إلى ما بعد الثاني؛ فما كان فيه مقدَّمًا قُدِّم لا فرق بين المضاعف وغيره، وقد التزم الراغب الأصفهاني أن يبدأ بالمضاعف إن كان ثَمَّ بمضاعفه، ثم يعود إلى الترتيب المشهور فيذكر في فصل الراء من باب الباء: «برَّ» و«بربر»، ثم يأخذ في ذكر «برأ» فما بعده.
- أحدهما: أن عنوان الفصل ينطبق على المضاعف أكثر من انطباقه على غيره؛ فإن دخول «برَّ» في فصل الباء مع الراء أظهر من دخول «برأ» ونحوه فيه؛ لوجود زيادة فيه على عنوان الفصل، ولأنه ثنائي في بادئ الرأي، والثنائي مقدَّم على ما فوقه، وهذا سبب لفظي لا مانع من مراعاته.
- والثاني: ما أشير إليه سابقًا وهو أن المضاعف هو الأصل في كل فصل، وهذا سبب معنوي جدير بالمراعاة.
وقد ذكر بعضهم مثل: «رأب» في «راب، ومثل: «صبأ» في «صبا» لانقلاب الهمزة في كثير من المواضع إلى حرف العلة.
وقد قدَّم بعضهم الهاء على الواو موافقةً للمغاربة في هذا الموضع، وهذا موافق للحكمة؛ لأن الواو والياء أختان لا ينبغي أن يُفصل بينهما بفاصل لا سيما وكثير من ذوات الواو قد وردت في بعض اللغات بالياء نحو «محوته» فقد ورد «محيته» من باب نفع في لغة، ونحو «فاح» «يفوح» «فوحًا»، فقد جاء فيه «فاح» «يفيح» «فيحًا» في لغة، وكثير من ذوات الياء قد وردت في بعض اللغات بالواو نحو: «كنيت» عنه، فقد ورد «كنوت» عنه في لغة، ونحو «تاه» «يتيه» فقد جاء «تاه» «يتوه» في لغة.
طريقة كل من المشارقة والمغاربة في ترتيب حروف الهجاء
هذا، وقد أحببنا أن نذكر لك طريقة المغاربة في ترتيب حروف الهجاء؛ فإن ذلك ينفعك حين مطالعة كتبهم المرتَّبة على حروف المعجم ككتب اللغة والتاريخ، وقد وافقوا المشارقة في الألف فما بعدها إلى حرف الزاي، وخالفوهم فيما فوق ذلك، وها هي مسوقة على ترتيبهم، وتحتها حروف المعجم مسوقة على ترتيب المشارقة، وهي بخط دقيق:
ا | ب | ت | ث | ج | ح | خ | د | ذ | ر | ز | ط | ظ | ك |
ا | ب | ت | ث | ج | ح | خ | د | ذ | ر | ز | س | ش | ص |
ل | م | ن | ص | ض | ع | غ | ف | ق | س | ش | ﻫ | و | ي |
ض | ط | ظ | ع | غ | ف | ق | ك | ل | م | ن | و | ﻫ | ي |
طريقتهم في ترتيب الحروف في حساب الجُمَّل
وخالفوهم أيضًا في ترتيب الحروف في «أبجد»؛ وترتب عليه الاختلاف في أعدادها حين الحساب بها على الطريق المعروف بحساب الجُمَّل إلا أن الاختلاف إنما وقع فيما بعد النصف الأول وهو ما بعد «كلمن»، وها هي مسوقة إليك على النهج السابق:
أ | ب | ج | د | ﻫ | و | ز | ح | ط | ي | ك | ل | م | ن |
أ | ب | ج | د | ﻫ | و | ز | ح | ط | ي | ك | ل | م | ن |
١ | ٢ | ٣ | ٤ | ٥ | ٦ | ٧ | ٨ | ٩ | ١٠ | ٢٠ | ٣٠ | ٤٠ | ٥٠ |
ص | ع | ف | ض | ق | ر | س | ت | ث | خ | ذ | ظ | غ | ش |
س | ع | ف | ص | ق | ر | ش | ت | ث | خ | ذ | ض | ظ | غ |
٦٠ | ٧٠ | ٨٠ | ٩٠ | ١٠٠ | ٢٠٠ | ٣٠٠ | ٤٠٠ | ٥٠٠ | ٦٠٠ | ٧٠٠ | ٨٠٠ | ٩٠٠ | ١٠٠٠ |
فإن قلت: إن الذي ذكرته من مزية طريق الجمهور موجود في طريقة الجوهري؛ فإن الجمهور جمعوا في كل فصل بين الكلمات التي تماثل أولها وثانيها، وهو جمع في كل فصل بين الكلمات التي تماثل أولها وآخرها؛ فالاتفاق في حرفين حاصل في الطريقتين، قلت: إن التقارب بين الألفاظ وإن كان موجبًا للتقارب بين المعاني إلا أن درجات التقارب مختلفة اختلافًا بيِّنًا؛ فإن التقارب بين: «كنَّ» و«كند» و«كنز» ممَّا يجتمع في فصل على طريقة الجمهور، أبين من التقارب بين «ركن» و«زكن» و«سكن»، مما يجتمع في فصل على طريقة من رتب كتابه على القوافي؛ فإنه يلتزم رعاية ما قبل الآخر رعاية لمن يلتزم من الأدباء ما لا يلزم. والتقارب فيها أبين من التقارب بين «كمن» و«كان» و«كهن» مما يجتمع في فصل على طريقة الجوهري، وإن كانت هذه الكلمات كلها متقاربة لوجود الكاف والنون فيها أجمع، غير أن الأخيرة قد فصل فيها بين الحرفين حرف أجنبي بخلاف الأولى والثانية، غير أن الأولى قد جعل الحرفان فيها في مبدأ الكلمة، وهي أول ما يقرع السمع، فإذا فرضنا أن «كن» المركَّبة من الكاف والنون هي أصل هذه المواد المختلفة يكون ظهور معناها في القسم الأول أقوى من الثاني، وفي الثاني أقوى من الثالث.
مثال قريب المنال يتعلق بسر اللغة
ولنتم البحث في هذا المثال؛ فإنه فيما يظهر قريب المنال، فنقول: «الكِن» بالكسر: السترة، والجمع: «أكنان»، و«كنَّ» الشيء و«أكنَّه»: ستره، و«استكن» الشئ: استتر، ومعنى الستر موجود في كل كلمة وُجدت في أولها هذه المادة، تقول: «كند» فلان إذا كفر النعمة فهو كنود، وأصل الكفر تغطية الشيء، والكنز: المال المدفون، وقد كنزه من باب ضرب، ويقال: كنزه إذا جمعه وادَّخره، وكنس الظبي كنوسًا: دخل في «كناسه»، وهو مستتَره في الشجر؛ لأنه يكنس الرمل حتى يصل، والذي يظهر أن كنس الدار مأخوذ من كنوس الظبي، و«كنع» «كنوعًا»: انقبض وانضم وذل وخضع، وكنع عن الأمر: جبُن عنه، والكنيف: هو ما يستر من بناء أو حظيرة، ويقال للترس: كنيف؛ لأنه يستر صاحبه، ويقال: كنفت الرجل إذا قمت بأمره وجعلته في كنفك أي حرزك، وكنه الشيء: حقيقته ونهايته وغايته ووقته، يقال: عرفته كُنْهَ المعرفة، ولا يشتق منه فعل، وكنيت عن الأمر وكنوت عنه إذا ورَّيت عنه بغيره، وتَكَنَّى: تَسَتَّر، ومنه قول بعضهم: رأيت علجًا يوم القادسية قد تكنَّى، وقيل: تكنى بمعنى ذكر كنيته، وهو من شعار المبارزين في الحرب، يقول أحدهم: أنا فلان وأنا أبو فلان، فالنظر إلى ظهور معنى الستر في أكثر هذا الفصل ظهورًا بيِّنًا، وأما ما تأخرت الكاف والنون فيه نحو: «تكن» و«ركن» و«زكن» و«سكن» و«عكن» و«لكن» و«مكن» و«وكن»، فيقل ظهور ذلك المعنى فيه إلا في قليل منها نحو: الثُّكنة بالضم فإنها جاءت بمعنى القبر، وبئر النار، والحفرة التي تكون بمقدار ما يواري الشيء، والنية من إيمان وكفر، ومركز الأجناد ومجتمعهم تحت لواء صاحبهم وإن لم يكن هناك لواء ولا علَم، ونحو: «الوكن» و«الوكنة» فإنهما بمعنى «عش الطائر»، وأما «الدكان» وهو الحانوت فإنه مُعرَّب، والمعرب لا مدخل له في هذا الباب، فإن وجد فيه المعنى كان من قبيل الصدفة، وأما ما فصل فيه بين الكاف والنون بحرف نحو: «كبن» و«كتن» و«كفن» و«كمن» و«كان» و«كهن»؛ فظهور ذلك فيه أقل ممَّا قبله كما نحو «كفن» و«كمن»، وأما «كبن الشيء»: إذا غيَّبه، فلعله مأخوذ من خبن، تقول: خبنت الطعام إذا غيبته، والخبنة: ما تحمله في حضنك.
في أن لغة حمير تخالف لغة مضر في كثير من أوضاعهاوتصاريفها وحركات إعرابها
واعلم أن هذا المبحث صعب المسلك؛ فيجب على سالكه أن يكون شديد الانتباه كثير الاحتراز؛ لئلا يدخل عليه كلمة مُعرَّبة أو ناشئة من غيرها بطريق القلب أو الإبدال ونحو ذلك، والأَوْلى له أن لا يتعرض لغريب اللغة، فربما كان فيه ما هو من لغة حمير وما جرى مجراها، ولغة حمير تخالف لغة مضر في كثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، وقد حاول بعض من لم يشعر بذلك أن يشتق بعض كلماتها كالقيل من لغة مضر فأغرب، والقيل: الملك من ملوك حمير.
قال بعضهم: أصله قيِّل بالتشديد كميت، سمي به لأنه يقول ما شاء فينفذ، والقياس في جمع قيِّل: أقوال، مثل: ميت وأموات، وروي في الحديث: «إلى الأقيال العباهلة.» والقياس الأقوال في جمع فيعل من القول، ويجوز أن يكون الأقيال جمع قَيِّل الذي هو فيعل، من قولهم تَقَيَّلَ أباه: إذا أشبهه، كأن كل ملك يشبهه الآخر في ملكه، كما قيل تبَّع لما كان يتبع الآخر، قال أبي عمرو بن العلاء: «ما لسان حمير وأقاصي اليمن لساننا، ولا عربيتهم عربيتنا.»
قال ابن جني في «الخصائص»: «لسنا نشك في بُعد لغة حمير ونحوها من لغة ابني نزار؛ فقد يمكن أن يقع شيء من تلك اللغة في لغتهم فيُساء الظن بمن سمع منه، وإنما هو منقول من تلك اللغة، ودخلت يومًا على أبي علي — رحمه الله — خاليًا في آخر النهار، فحين رآني قال: أين كنت؟ أنا أطلبك، قلت: وما ذلك ما تقول فيما جاء عنهم من حَوْرِيت، فخضنا معه فيه فلم نحل بطائل منه، فقال: هو من لغة اليمن، ومخالف للغة ابني نزار، فلا ينكر أن يجيء مخالفًا لأمثلتهم.»
وقال ابن دريد في كتاب «الاشتقاق»، وهو كتاب في اشتقاق أسماء المشهورين من العرب بعد أن ذكر أسماء مهرة بن حيدان: «وقد تقدم قولنا في أن هذه الأسماء المستشنعة مشتقَّة من أحرف قد أميتت.»
ومهرة قد انقطعوا بالشحر فبقيت لغتهم الأولى الحميرية لهم يتكلمون بها إلى هذا اليوم.
وقال في أسماء قبائل ذي الكلاع: «قد عرَّفتك آنفًا أن هذه الأسماء الحميرية لا نقف لها على اشتقاق؛ لأنها لغة قد بعدت، وقدم العهد بمن كان يعرفها.» ومن وقف على القلب والإبدال والنحت، وبرع في إرجاع المواد المختلفة إلى مادة واحدة على الطريقة التي أشرنا إليها، وعرف مع ذلك الأصل الأول في المادة الواحدة؛ فقد أشرف على اللغة، ووقف على أسرارها، وقوي أُنسه بها.
في أن معرفة الأصل الأول في المادة الواحدة أمر مهم الاتباع
ومعرفة الأصل الأول في المادة الواحدة أمر مهم، وقد قال به بعض علماء الاشتقاق، مثال ذلك مادة «ش ج ر» فإنهم ذهبوا إلى أن الأصل فيه «الشجرة» المعروفة ذات الأغصان، وكل ما في هذه المادة راجع إليها، تقول: «شجر الأمر بين القوم.» إذا اختلف واختلط، وتأويله اختلف واختلط كاختلاف أغصان الشجرة واختلاطها، واشتجر القوم وتشاجروا إذا اختلفوا أو تنازعوا، وشجره بالرمح إذا طعنه به، وتأويله أنه جعله فيه كالغصن في الشجرة، وشجر بيته إذا عمده بعمود، وشجر الشجرة إذا رفع ما تدلى من أغصانها، إلى غير ذلك. فكل ما تفرَّع من هذه المادة فأصله الشجرة عندهم، وقس على ذلك ما لا يحصى من الكلم، مثل مادة: «ظ ﻫ ر» فإن الأصل فيه الظهر، ومثل مادة «ب ط ن» فإن الأصل فيه البطن، وقد أنحى عليهم بالملام قوم هم أحق بذلك منهم؛ فإن الأمر في نفسه صحيح لكن الطريق إليه قد تخفى معالمه، فخذ ما صفا ودع ما كدر.
ومن الغريب إطلاق العقيرة على الصوت في قولهم: رفع فلان عقيرته، والعقيرة: الساق المقطوعة، وأصله أن رجلًا قُطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ؛ فقيل بعدُ ولكل رافع صوته: قد رفع عقيرته. قال ابن جني في الخصائص: «توقَّف أبو بكر عن كثير مما أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق، واحتج أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن بأن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها ولم ندرِ ما حديثها، ومثَّل له بقولهم: «رفع عقيرته.» أي رفع صوته، قال له أبو بكر: فلو ذهبنا نشتق لقولهم: «ع ق ر» من معنى الصوت لبعُد الأمر جدًّا، وإنما هو أن رجلًا قُطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته، فقال الناس: رفع عقيرته، أي رجله المعقورة، قال أبو بكر: فقال أبو إسحاق لست أدفع هذا. ولذلك قال سيبويه في نحو من هذا أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر.» ولا يخفى أن مثل هذا قليل، ولو سددْنا باب البحث خشية من وقوع الخطأ في بعض المسائل لانسد باب العلم، وبقيت أكثر الفنون في حال الكمون. نعم، في مثل ذلك زاجر لمن لا يتروَّى في المسائل ولا يعد في الاستنباط ما يلزمه من الوسائل، ومن هذا النوع كذب في الإغراء، فإن ظاهره يبعد عن ذلك، يقال كذب كذا أي عليك به، قال عنترة:
أي: عليك بالعتيق، قال محمد بن السري: «إن مضر تنصب به واليمن ترفع.» ومعنى كذب عليك البزر أي الزمه وخذه، ووجه ذلك أن الكذب عندهم في غاية الاستهجان، ومما يغري بصاحبه، ويأخذه المكذوب عليه؛ فصار معنى كذب فلان الإغراء به؛ أي الزمه وخذه فإنه كاذب، فإذا قرن بعليك صار أبلغ في الإغراء كأنك قلت: افترى عليك فخذه، ثم استعمل في الإغراء بكل شيء وإن لم يكن ممَّا يصدر منه الكذب، كقول بعضهم لمن شكا إليه المعص، وهو التواء في عصب الرجل: كذب أي عليك العسل؛ أي وهو بالعسلان وهو مشي الذئب، أي: عليك بسرعة المشي.
- أحدهما: أن يكون للثاني معنى ظاهر نحو هنيئًا مريئًا.
- وثانيهما: أن يكون له معنى أصلًا، ولكن ضُمَّ إلى الأول لتزيين الكلام لفظًا وتقويته معنًى، وإن لم يكن له في حال الإفراد معنى.
- وثالثهما: أن يكون معنى متكلَّف غير ظاهر، نحو: خبيث نبيث، فالنبيث يمكن أن يكون بمعنى: الذي ينبث أمور الناس؛ أي يستخرجها، من نبثت البئر إذا أخرجت نبيثتها، وهو ترابها، وكان قياسه أن يقال: خبيث نابث لكن قيل نبيث لموازنة خبيث.
ولاعتنائهم بتقارب اللفظين قلبوا واو بوص ياء؛ وذلك في قولهم: «وقعوا في حيص بيص.» قال بعض اللغويين: «الاتباع: هو أن تتبع الكلمة كلمة على وزنها أو رويها تأكيدًا.»
وقد ألَّف ابن فارس فيه كتابًا قال في أوله: «هذا كتاب «الاتباع والمزاوجة»، وكلاهما على وجهين؛ أحدهما: أن تكون كلمتان متواليتان على رويٍّ واحد، والوجه الآخر: أن يختلف الرَّوِيَّان. ثم تكون بعد ذلك على وجهين؛ أحدهما: أن تكون الكلمة الثانية ذات معنى معروف، والآخر: أن تكون الثانية غير واضحة المعنى ولا بيِّنة الاشتقاق إلا أنها كالاتباع لما قبلها.» رُوي أن بعض العرب سُئِلَ عن هذا الاتباع فقال: «هو شيء نَتِد به كلامنا.»
ثم إن الكلمات التي لها معنى معروف قد تكون بمعنى ما قبلها، وقد يكون لها غير معناه، وقد كان بعض اللغويين لا يسمي بالاتباع إلا ما لا يكون له معنى إذا جيء به وحده، نحو: «نطشان» في قولك: «عطشان نطشان»، بخلاف قولهم: فلان «قسيم وسيم»؛ فإن «وسيم» قد جاء دون «قسيم»، يقال: رجل «وسيم» أي «جميل»، وامرأة «وسيمة»، والمِيسم: الحسن والجمال.
وقال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن معنى قولهم «بسن»؛ فقال: لا أدري ما هو. وقد توهم بعضهم من عبارة أبي حاتم أنه يرى أن ذكره من قبيل العبث، فرُدَّ عليه بأنه يفيد التقوية، وليس ذكره سدى، ولا يخفى أن أبا حاتم إنما قال: لا أدري ما هو بالنظر إليه وحده، وأما إفادته التوكيد عند مجيئه تابعًا لحسن فهو أمر لا يخفى على أحد من أهل اللغة، ونظير ذلك اعتراض بعضهم على نحاة في قولهم: هذا الحرف زائد، وما بعد إذا زائدة، فظنوا أن قولهم بذلك يدل على أن في اللغة ما هو من قبيل العبث، مع أنهم قد صرَّحوا في الكتب المبسوطة بأن معنى قولهم: «إن هذا زائد.» أنه إنما جيء به لتوكيد الكلام ولم يحدث معنى؛ وذلك ﮐ «ما» من قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم وعَمَّا قَلِيلٍ، مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ والباء في قوله: أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ، ومَن أكثر التتبع تبين له أن أكثر الاعتراضات التي يوردها بعض أرباب الفنون على ما ليس من فنهم تكون واهية؛ وكأن بعضهم ارتاع من اعتراض مثل هؤلاء فحاول أن يوجد ﻟ «بسن» معنى، فقال: الأصل في «بسن» «بسَّ»، و«بس» مصدر بسست، حُذفت إحدى السينين تخفيفًا وزيدت فيه النون، وبُني على مثال حسن، ومعنى بسن: حسن كامل الحسن، ويمكن أن يقال وهو الأحسن: أُبدلت السين الثانية هنا نونًا ولم تُبدل ياء على ما هو المألوف في المضاعف رعاية للاتباع؛ لأن مذهبهم فيه أن تكون أواخر الكلم على لفظ واحد مثل القوافي والسجع، وقد خلص أبو حاتم بقوله: لا أدري من التعسف، وفي مثل هذه المجاهل ينبغي أن يقال إن «لا أدري» نصف العلم من غير أن يوصل بعض المستدركين، لكنه من النصف الذي لا ينفع. ومن الاتباع قولهم: هو همزة لمزة، الهمزة والهماز: العياب، والهمز مثل الغمز والضغط، ومنه الهمز في الكلام، تقول: همزت الكلمة همزًا، وهي كلمة مهموزة؛ لأن الهمز لا بد فيه من ضغط، وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة؟ فقال: السنور يهمزها. واللمزة واللماز كالهمزة والهماز، وأصل اللمز: الإشارة بالعين ونحوها.
عبارة الخليل في العلل التي يذكرها النحويون
قال أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي في كتاب «إيضاح علل النحو»: «ذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد سُئل عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها، وعرفت مواقع كلامها، وقامت في عقولها علله وإن لم ينقل ذلك عنها، وعللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته به، فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست، وإن يكن هناك علة غير ما ذكرت فالذي ذكرته محتمل أن يكون علة له.»
ومثلي في ذلك مثل حكيم دخل دارًا مُحكَمة البناء عجيبة النظم والأقسام، وقد صحَّت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو البراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل الداخل الدار على شيء منها قال: إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا، وسبب كذا لعلة سنحت له وخطرت محتملة أن تكون علةً لتلك، فجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنحت لغيري علة لما عللته من النحو هي أليق مما ذكرته فليأتِ بها. وهذا كلام مستقيم وإنصاف من الخليل.
هذا، والمراد باللغات السامية فيما سبق ذكره: اللغات المنسوبة إلى سام بن نوح — عليه السلام — وسبب هذه النسبة: كون أكثر المتكلمين بها من نسله، وأشهرها: العربية، والعبرانية، والسريانية. وقد نشأت هذه اللغات الثلاثة من أصل واحد هو لهن بمنزلة الأم، وهي اللغة الآرامية نسبةً إلى آرام أحد أبناء سام، وقد عُدَّت هذه اللغات الثلاث أخوات لِما ذُكر، ولكثرة التشابه بينهن، وقال بعض العلماء: كانت لغة العبرانيين في أول الأمر هي السريانية؛ إذ كان جدهم إبراهيم — عليه السلام — سريانيًّا مولدًا وموطنًا، فلما هاجر إلى أرض كنعان، واختلط بنوه بالكنعانيين سكان تلك الأرض تغيرت لغتهم تغيُّرًا ما ونشأت عنها اللغة العبرانية، والكنعانيون هم أولاد كنعان، أحد أبناء سام، وقد عرَّفهم بعض اللغويين بقوله: «الكنعانيون أمة تكلمت بلغةٍ تُضارع العربية.»
عبارة في اللغة العربية وأخواتها منقولة من كتاب الإحكام
قال الإمام ابن حزم في كتاب «الإحكام لأصول الأحكام»: «لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علِموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها، ولا ندري أي لغةٍ هي التي وقف آدم — عليه السلام — عليها أولًا، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها، وأبينها عبارةً، وأقلها إشكالًا، وأشدها اختصارًا، وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عَرَض لقول الله عزَّ وجلَّ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلناه، وقد قال قوم هي السريانية، وقال قوم هي العبرانية، وقال قوم هي العربية، والله أعلم، إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينًا أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة لا لغة حِمْير لغة واحدة تبدَّلت بتبدل مساكن أهلها؛ فحدث فيها جرس كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتهما، ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط — وهي على ليلة واحدة من قرطبة — كاد يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة، وهكذا في كثير من البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة لأخرى تتبدل لغتها تبدُّلًا لا يخفى على من تأمله.
ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلًا هو في البُعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق؛ فتجدهم يقولون في «العنب»: «العينب» وفي «السوط»: «أسطوط» وفي «ثلاثة دنانير»: «ثلاثًا»، وإذا تعرَّب البربري فأراد أن يقول «الشجرة» قال: «السجرة». وإذا تعرَّب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول: «مهمد» إذا أراد أن يقول «محمد» ومثل هذا كثير، فمن تدبَّر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبدُّل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل، وإذ قد تيقَّنَّا ذلك فالسريانية أصلٌ للعربية وللعبرانية معًا، والمستفيض أن أول من تكلَّم بهذه العربية إسماعيل — عليه السلام — فهي لغته ولغة ولده، والعبرانية لغة إسحاق ولغه ولده، والسريانية بلا شك هي كانت لغة إبراهيم — صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم — بنقل الاستفاضة الموجب لصحة العلم؛ فالسريانية أصل لهما.»
الألف ومعناها
هذا، ولنعد إلى أصل الكلام فنقول: إن كل كتاب رُتِّب على حروف المعجم ابتدأ بالألف، وإنما قُدِّمَت لتَقدُّمها في حروف أبجد التي هي الأصل، ولتقدُّم مخرجها على سائر المخارج؛ فإنها من أقصى الحلق، ولكثرة ورودها في الكلام، وقد قيل: إن جميع أهل اللغات المشهورة يبتدئون بالألف عند تعداد الحروف إلا الحبشة، والمراد بالألف هنا: الهمزة لا ألف المد؛ لأنها لا توجد في أوائل الكلم حتى عند الذين يجوِّزون الابتداء بالساكن؛ لأنها لا تحدث إلا إذا سبقها حرف متحرك بالفتحة إذا مد، فمن ثَمَّ لم توجد إلا في الوسط أو في الآخر، على أن الألف في أصل الوضع كان اسمًا للهمزة، وأما ألف المد كألف قال، فلم يجعل لها الواضع اسمًا لعدم استقلالها بنفسها، وإنما يطلق عليها الألف مجازًا حيث تظهر بصورته في الكتابة، وإنما كتب بصورة الألف لأن الألف كثيرًا ما تقلب إليها حين التخفيف، وذلك في مثال «سأل» و«قرأ»، قال المحققون: إن الواضع لأسماء الحروف قد راعى أمرًا بديعًا؛ وهو أنه جعل مسمى كل حرف في صدر اسمه، ولا يخفى أن أول الألف هو الهمزة، وقد وهم من ظن أن الألف كانت في الأصل اسمًا لذلك الحرف الذي لا يقوم بنفسه، فقال: إن الذي يُذكر في حروف التهجي هو الألف لا الهمزة، وكل الحروف قد صدر فيها المسمى بالاسم إلا الألف؛ فإنه لا يتأتى فيه تصدير الاسم بالمسمى.
في أن الهمزة اسمٌ حدَثَ فيما بعد
وأما الهمزة فهو اسمٌ حدَثَ فيما بعد، ولما شاع كثر إطلاقه على الألف وكثر إطلاق الألف على ذلك الحرف الذي لا يستقل بنفسه؛ حتى صار لفظ الألف كأنه خاص به، وهذا في عرف المتأخرين.
وأما المتقدمون فإطلاق الألف على الهمزة شائع عندهم ذائع؛ فيقولون: هذه ألف قطع، وهذه ألف وصل، وهذه ألف استفهام، وأما لفظ الهمزة فلم يطلقه أحد على ألف المد أصلًا، وفرَّق بعضهم بين النوعين فسمى ألف المد بالألف اللينة والهمزة بالألف اليابسة، وقد أطلق بعضهم الألف المتحركة على الهمزة مع أنها قد تكون ساكنة اعتمادًا على فهم المقصود من ذلك؛ لأنها في مقابلة ألف المد التي لا تقبل الحركة، وينبغي أن لا يذكر الألف مطلقًا في موضعٍ يقع فيه التباس، والذي حَمَلنا على إطلاقها هنا ما ذكرنا من أن ألف المد لا توجد في أوائل الكلم فارتفع اللَّبس، ولأنه الاسم الأول للهمزة، ولأن حروف المعجم لا يُذكر فيها غيره؛ ولذا التزم كثير ممن رتب كتبهم على حروف المعجم أن لا يطلق غير هذا اللفظ في العنوان، ولأنه الوارد في الكتاب العزيز، قال تعالى: الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ، نعم، يقع الالتباس في هذا الموضع في كتب اللغة التي جعلت الباب معقودًا لآخر الكلمة كالصحاح؛ فإن أواخر الكلم كثيرًا ما توجد فيها الألف اللينة، غير أن صاحب «الصحاح» قد رفع اللبس بقوله: باب الألف المهموزة.
في الألف اللَّيِّنة
واعلم أن الألف اللينة لا تكون أصلًا في الأسماء المتمكِّنة والأفعال، وإنما تكون فيهما زائدة كألف «قتال» و«قاتل»، أو منقلبة عن واو أو ياء كألف «قال» و«باع» و«غزا» و«رمى»، وأما الحروف ﮐ «ما» و«لا» والأسماء المتشابهة لها ﮐ «ذا» و«مهما»، والأسماء المعربة ﮐ «الدانق» فالألف فيها أصلية، وقد عرفت أن أرباب اللغة لا يعتبرون الحرف الزائد، وأما الحرف المنقلب عن غيره فيعتبرون الحرف الذي انقلب عنه؛ فيذكرون «غزا» في «غزو» و«رمى» في «رمي»، وقد عقد صاحب «الصحاح» للألف اللينة بابًا على حِدَة جعله في آخر الكتاب إتمامًا للمقصود، قال فيه: باب الألف اللينة. لأن الألف على ضربين: لينة ومتحركة؛ فاللينة تسمى ألفًا، والمتحركة تسمى همزة، وقد ذكرنا الهمزة وذكرنا أيضًا ما كانت الألف فيه منقلبة من الواو والياء، وهذا الباب مبني على ألفات غير منقلبات من شيء فلهذا أفردناه. فإن قلت: إن الجمهور قد جعلوا الباب معقودًا لأول الكلمة والفصل لثانيها فكان يمكنهم أن يجعلوا في كل باب فصلًا للألف اللينة، فلِمَ لم يفعلوا ذلك؟ قلت: تركوا ذلك لقلة الكلمات التي ثانيها ألف لينة أصلية، وأما الأسماء المعربة ﮐ «دانق» و«آب» ونحو ذلك فذكروها في أشبه المواضع بها؛ وهي المواضع التي يُظن أن الباحث يتحراها فيها، فذكروا دانق في «دنق» وآب في «أوب» واستبرق في «برق» وقس عليه غيره، واختُلف في الهمزة والألف فقيل: هما متحدتان بالذات غير أن في الهمزة شدة رفعتها للحلق، فالفرق بينهما كالفرق ما بين النون الساكنة والمتحركة فإنهما متحدتان مع أن بينهما فرقًا، وهي أن النون الساكنة تخرج من الخيشوم بدليل أنك لو أمسكت بأنفك ثم نطقت بها لوجدتها مختلفة بخلاف النون المتحركة، وإن كان فيها بعض غُنَّة تخرج من الأنف، وقيل هما مختلفتان بدليل اختلاف المخرج؛ فإن الهمزة من الحلق والألف من الجوف، وعلى الحالين فلا ينبغي أن يخلط بينهما كما فعل بعض اللغويين حين أراد ذكر معناهما، بل يجب ذكر كل واحدة منهما على حدة.
الهمزة وما يتعلق بها من المباحث
وقد أفاض العلماء في أمر الهمزة، وما ذكروه فيها يبلغ سِفرًا ضخمًا؛ لكثرة ما لها من الأحوال، ولقد أحببنا أن نُورِد هنا أقل ما يمكن إيراده في مثل هذا المقام؛ فنقول: إن الهمزة قد تكون من حروف المعاني، وقد تكون من حروف المباني؛ فإذا كانت من حروف المعاني فقد تكون للنداء إذا كان المنادى قريبًا، كقول امرئ القيس:
وقد تكون للاستفهام، ومعناه طلب الفهم، نحو: «أزيد قائم؟» و«أرأيت عمرًا؟» ويجوز مدها إذا جاء بعدها همزة، نحو: أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا، قال ذو الرمة:
فصل بين الهمزتين بالألف فرارًا من ثقلهما، قال بعض العلماء: هذا إذا لم تكن الهمزة الثانية ممدومة، فإن كانت ممدودة امتنع مدُّ الأولى؛ لِما في اجتماع همزتين وألفين من الثقل الشديد نحو: أآسيت زيدًا وأآخيت عمرًا.
وقد تخرج الهمزة عن الاستفهام فترد لنحو ثمانية معانٍ مذكورة في كتب النحو، وإذا كانت من حروف المباني فهي ثلاثة أضرب: أصل وبدل وزائدة؛ ومعنى كونها أصلًا أن تكون فاء الفعل نحو: «أمر» و«أمن» و«أنف» و«أذن» و«أبره». أو عينه نحو: «سأل» و«سئم» و«ضؤل» و«بأس» و«ذئب» و«بؤس». أو لامه نحو: «قرأ» و«وطئ» و«وطؤ» و«مرء» و«ردء» و«رزء»، ولم تجئ كلمة فاؤها وعينها همزة، ولا عينها ولامها همزة؛ لما في النطق بالهمزة من التكلُّف، فإذا كرهوا الهمزة الواحدة فهم بكره الثنتين — لا سيما إذا كانتا مصطحبتين غير مفترقتين — أحرى، فليس في الكلام لفظة توالت فيها همزتان وهما أصلان البتَّة. وقد جاءت أسماء محصورة وقعت الهمزة فيها فاءً ولامًا نحو: «آءة» و«أجأ» لوجود الفصل بينهما.
وذهب سيبويه في «ألاءة» و«أشاءة» و«أباءة» إلى أنهما فعالة، ولامها همزة، و«الألاءة» واحدة «الألاء» وهو شجر مر يدبغ به، والإشارة واحدة «الأشآء» وهي صغار النخل، والأباءة واحدة «الأباء» وهي الأجمة من القصب، وكلها بالفتح، وذهب أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج إلى أن الإباءة من ذوات الياء؛ فهي من «أبيت» وأصلها عنده أباية، وإنما حملها على معنى أبيت لما أن الأجمة ممتنعة بما ينبت فيها من القصب وغيره من السلوك فكأنها أبت وامتنعت على سالكها.
ومعنى كون الهمزة زائدة: أن لا تكون فاء الفعل ولا عينه ولا لامه؛ وذلك نحو همزة «أكرم» و«إثمد» و«إكليل» و«شمأل» و«ضهيأ».
ومعنى كونها بدلًا: أن تقوم مقام حرف إما ضرورةً وإما استحسانًا، وقد أُبدلت من خمسة أحرف، وهي: الألف والواو والياء والهاء والعين.
وأما إبدالها من الألف ففي العالم في قول العجاج:
فقد روي أنه كان يهمز «العالم»، وأما إبدالها من الواو والياء ففي «أقِّتت» في «وقِّتت»، وفي «أديه» في قولهم: «قطع الله أديه.» يريدون: يديه، وفي مثل: قام، وأصله: «قوم»، وباع، وأصله: «بيع»، وفي مثل: «قائم» و«بائع»، وفي مثل: «علاء» و«كساء» و«قضاء» و«سقاء»، وأصلها: «علاو» و«كساو» و«قضاي» و«سقاي»؛ لأنها من «علوت» و«كسوت» و«قضيت» و«سقيت»، وقد أبدلت الواو همزة بدلًا مطَّردًا إذا ضمت ضمًّا لازمًا، وذلك نحو: «أثؤب»، قال في «الصحاح»: «الثوب واحد الأثواب والثياب، ويُجمع القلة على أثوب، وبعض العرب يقول: أثؤب، فيهمز لأن الضمة على الواو تستثقل، والهمزة أقوى على احتمالها، وكذلك «دار» و«أدؤر» و«ساق» و«أسؤق»، وجميع ما جاء على هذا المثال.» ونظير ذلك: قئول وما أشبهه.
قال سيبويه: «واعلم أن هذه الواو إذا كانت مضمومة فأنت بالخيار إن شئت تركتها على حالها، وإن شئت أبدلت الهمزة مكانها؛ وذلك نحو قولهم في «وُلد»: «أُلد»، وفي «وجوه»: «أوجُه»، وإنما كرهوا الواو حيث صارت فيها ضمة كما يكرهون الواوين، فيهمزون نحو: «قئول» و«مئون»، وأما الذين لم يهمزوا فتركوا الحرف على أصله كما يقولون: «قئول» فلا يهمزون، وإذا التقت واوان في أول الكلمة لم يكن بُدٌّ من همز الأولى؛ وذلك «كالأواقي» في جمع «واقية» وأصلها «وواقي» لأنها فواعل، إلا أنهم كرهوا اجتماع الواوين فقلبوا الأولى همزة، وقد أبدلت الهمزة من الياء الزائدة في نحو قولهم: «حرباء» و«علباء»، وأما إبدال الهمزة من الهاء ففي قولهم: «ماء» وأصله «موه» لقولهم في الجمع: «أمواه»، وفي قولهم: «آل» وأصله «أهل» أُبدلت الهاء همزة، فتوالت همزتان، فأبدلوا الثانية ألفًا، كما أبدلوها في «آخر» و«آمن» ثم خصوه بأشرف المواضع التي يستعمل فيها «أهل»، ولم يستعملوه في كل موضع يستعمل فيه «أهل»، وأما إبدالها من العين فقد وقع في «أباب» بحر أي: في عبابه، وهو شاذ، وقال ابن جني: «هو من أبَّ إذا تهيَّأَ، وذلك أن البحر يتهيأ لما يزخر به؛ فلهذا كانت الهمزة أصلًا غير بدل من العين، وإن قلت إنها بدل منها فهو وجه وليس بالقويِّ، ومن أراد استيفاء هذه المباحث وما شاكلها فلينظر في كتابه المسمى: ﺑ «سر الصناعة».»
ولنرجع إلى إبدال الهمزة من الألف؛ فإنه أهم في هذا الموضع من غيره، فنقول: قد همز بعضهم «الضالِّين» و«شابَّة» و«دابَّة»؛ وعلة ذلك أنهم كرهوا اجتماع الساكنين، فحركوا الألف لالتقائهما فانقلبت همزة؛ لأن الألف حرف ضعيف واسع المخرج لا يتحمل الحركة، فإذا اضطروا إلى تحريكه قلبوه إلى أقرب الحروف إليه وهو الهمزة، وذكر بعض العلماء: أن أصل «اطمأن» «اطمان» مثل: «ادهام»، لكنهم همزوا على غير قياس فرارًا من الساكنَيْن، وقيل أصله: «طأمن» لكن أخرت في «اطمأن» على غير قياس بدليل قولهم: «طأمن» ظهره إذا خفضه، وجاء الشعر «ادهأم» بالهمزة في «إدهام» بالألف، وقد قلب بعض العرب كل ألف وقعت في آخر الكلمة همزة في الوقف، قال ابن جني: «حكى سيبويه في الوقف هذه «حُبلأْ» يريد «حبلى»، ورأيت «رجلًا»، والهمزة في «رجلأ» إنما هي بدل من الألف التي عوض من التنوين في الوقف، ولا ينبغي أن تُحمل على أنها بدلٌ من النون لقرب ما بين الهمزة والألف، وبُعد ما بينها وبين النون، ولأن «حبلى» لا تنوين فيها، وإنما الهمزة فيها بدل من الألف البتة فكذلك همزة «رأيت رجلأ»، وحكي أيضًا: «هو يضربهأ» وهذا كله في الوقف فإذا وصلت قلت: «هو يضربها» يا هذا ورأيت حبلى أمس.»
والمشهور عند السريانيين كما ذكر بعضهم تخفيف الهمزة، فإن كانت متحركة وكان ما قبلها ساكنًا نُقلت حركتها إلى ما قبلها ثم حُذفت هي، وإن كانت ساكنة قُلبت حرف مد يجانس حركة ما قبلها. وبهذا تعلم أن المختص باللغة العربية هي الهمزة الساكنة، نحو همزة: «رأس» و«بؤس» و«بئس»، واقرأ عند من يحققها دون من يقلبها حرف مَدٍّ كالسريان.
هذا، ولما كان العرب أكثر الأمم تفنُّنًا في الهمز وهو حرف فيه ثقل؛ حاولوا الخلاص منه فتفننوا في تخفيفه، وأكثرهم محاولة لذلك أهل الحجاز لا سيما قريش؛ ولذلك كان أكثر ما يرِد في القراءات من تخفيف الهمزة إنما جاء من طرقهم كابن كثير من رواية ابن فليح، وكنافع من رواية ورش، وكأبي عمرو فإن مادة قراءته عن أهل الحجاز، وأما ما يُروى من أنه قيل للنبي — عليه السلام — يا نبيء الله فقال: «إنا معشر قريش لا ننبر.» فهو منكر، قال علماء اللغة: «النبر همز الحرف.»
- النقل: وهو نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ثم حذفها نحو: «قَدَ افْلَحَ» بفتح الدال، وبه قرأ نافع من طريق ورش.
- والإبدال: وهو أن تُبدل الهمزة الساكنة حرف مدٍّ من جنس حركة ما قبلها؛ فتبدل ألفًا بعد الفتح نحو: «وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ»، وواوًا بعد الضم نحو: «يُومِنُونَ»، وياء بعد الكسر نحو: «جِيتَ» وبه يقرأ أبو عمرو سواء كانت الهمزة فاءً أو عينًا أو لامًا إلا أن يكون سكونها جزمًا نحو: «ننسأها»، ونحو: «أَرْجِئْهُ»، أو يكون ترك الهمز فيه أثقل وهو: «تُؤْوِي إِلَيْكَ»، أو يوقع في الالتباس وهو: «رئيًا».
- والتسهيل: وهو أن تأتي بالهمزة بين الهمزة وبين حرف حركتها، وتجعل الحركة التي عليها مختلسة سهلة بحيث تكون كالساكنة، فإن كانت مفتوحة كهمزة «سأل» جعلت بين الهمزة والألف، وإن كانت مكسورة كهمزة «سئم» جُعلت بين الهمزة والياء، وإن كانت مضمومة كهمزة «لؤم» جُعلت بين الهمزة والواو، ولا تقع الهمزة المخففة أولًا أبدًا؛ لقربها بالضعف من الساكن، وهي مع كونها ليس لها تمكُّن الهمزة المحققة بمنزلتها في الزنة، قال الأعشى:
فلو كانت الهمزة الثانية ساكنة بسبب جعلها بين بين لانكسر وزن البيت.
والإسقاط بلا نقل: وبه قرأ أبو عمر، وقال سيبويه: «واعلم أن الهمزتين إذا التقتا، وكانت كل واحدة منهما من كلمة؛ فإن أهل التحقيق يخففون إحداهما ويستثقلون تحقيقهما لمل ذكرت لك كما استثقل أهل الحجاز تحقيق الواحدة، فليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتحققا.»
ومن كلام العرب: تخفيف الأولى وتحقيق الآخرة، وهو قول أبي عمرو، وذلك قولك: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا، ويَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ.
ومنهم من يحقق الأولى ويخفف الآخرة، سمعنا ذلك من العرب، وهو قولك: «فقد جاء اشراطها»، و«يا زكرياء انا».
هذا، ولما رأى بعض الباحثين في اللغات السامية كثرة الهمز في العربية وقلته في أختيها؛ أشار إلى أن الظاهر أنه كان شائعًا فيهما، إلا أنه قلَّ فيما بعد لسبب من الأسباب، غير أن ما ذكرنا من قلته في لغة قريش التي هي أقرب لغات العرب إلى العبرانية والسريانية يدل في بادئ الرأي على أن الأصل في هذه اللغات قلة الهمز.
وقد نقل في الإتقان فائدة مهمة عن ابن مجاهد فيها ما يتعلق بالهمز، قال: إذا شك القارئ في حرفٍ هل هو بالتاء أو بالياء؟ فليقرأه بالياء فإن القرآن مذكر، وإن شك في حرف هل هو مهموز أو غير مهموز فليترك الهمز، وإن شك في حرف هل يكون موصولًا أو مقطوعًا فليقرأ بالوصل، وإن شك في حرف هل هو ممدود أو مقصور فليقرأ بالقصر، وإن شك في حرف هل هو مفتوح أو مكسور فليقرأ بالفتح؛ لأن الأول غير لحن في موضع، والثاني: لحن في بعض المواضع.
وأشار بقوله: فإن القرآن مذكر إلى ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود قال: «إذا اختلفتم في ياء وتاء فاجعلوها ياء، ذكِّرُوا القرآن.» وقد فهم منه ثعلب أن ما احتمل التذكير والتأنيث فتذكيره أجود، قال بعض العلماء: مراده أنه إذا احتمل اللفظ التذكير والتأنيث ولم يحتج في التذكير إلى مخالفة المصحف ذُكِّر، نحو: «ولا تقبل منها شفاعة»، ويدل على ذلك أن أصحاب عبد الله بن مسعود من قُرَّاءِ الكوفة كحمزة والكسائي ذهبوا إلى هذا فقرءوا ما كان من هذا القبيل بالتذكير نحو: «يوم يشهد عليهم ألسنتهم»، وهذا في غير الحقيقي.
قال ابن السيد في «الاقتضاب» عند قول صاحب «أدب الكتاب: باب الأفعال التي تُهمز والعوام تدع همزتها» ذكر في هذا الباب: «أطفأت السراج»، «وقد استخذأت له» «وخذأت» و«خذيت» لغة، وذكر فيه هذا موضع «ترفأ فيه السفن»، فأنكر على العامة ترك الهمز في هذه الألفاظ، ثم أجاز في باب ما يهمز أوسطه من الأفعال ولا يهمز بمعنى واحد: أرفأت السفينة وأرفيتها، وأطفأت النار وأطفيتها. ثم قال: وقد حكي أن من العرب من يترك الهمز في كل ما يهمز إلا أن تكون الهمزة مبتدأً بها، حكى ذلك الأخفش.
طريقة المتأخرين في ضبط الكلم
هذا، وقد جرينا في ضبط الكلم في هذا الكتاب على طريقة المتأخرين؛ فإنهم ضبطوا كل لفظ يُخشى فيه الاشتباه على الجمهور إما بذكر مثال له مشهور، وإما بذكر حركاته التي يقع فيها اللبس.
مثال الأول قولهم: «النُّور» بالضم الضوء، و«النورة» حجر الكلس، و«النَّور» بالفتح: الزهر، والواحدة: «نَوْرة»، و«النُوَّارُ» بالضم والتشديد مثله، والواحدة «نوارة»، ونورت الشجرة، وأنارت: أخرجت نَوْرها، و«المنار» بالفتح: علم الطريق، و«المنارة» ما يوضع فوقها السراج.
ومثال الثاني قولهم: «النَّمِر» ككتف سبع معروف، و«أبو قبيلة» وهو النمر بن قاسط، والنسبة إليه نمري بفتح الميم، وماء نمير كسمير: ناجع، عذبًا كان أو غير عذب، ونِمْرَى: كذكرى، قرية من نواحي مصر.
وكثيرًا ما يضمُّون إلى المثال ذكر بعض الحركات مع كون المثال كافيًا في المرام خشية أن يكون ذلك المثال مجهول الضبط عند بعض الناظرين في كتبهم أو مضبوطًا عندهم لكن على وجه يخالف الصواب، مثال ذلك قولهم المضِيعة: الضياع، يقال: فلان بدار مضيعة، وهي بكسر الضاد وسكون الياء مثل: معيشة، ويجوز فيها سكون الضاد وفتح الياء مثل مسلمة، وقولهم المشورة اسم من شاورته، وفيه لغتان؛ إحداهما: سكون الشين وفتح الواو، والثانية: ضم الشين وسكون الواو وزن معونة.
طريقة المتقدمين في ذلك
وأما المتقدمون فأغفلوا ذلك في كثير من المواضع لا سيما ما يستغني عن ضبطه الخواص واقتصروا فيها على الشكل، فإن كان في الكلمة لغات كرَّرُوها بعددها ليتيسر شكلها بالأوجه المختلفة، كقول الجوهري: «قلب النخلة لبها.» وفيه ثلاث لغات: «قَلب» «قِلب» «قُلب»، والشكل وإن كان كافيًا في الضبط إلا أنه كثيرًا ما يُغفله النساخ، فإن لم يغفلوه لم يخلُ غالبًا من خطأ يتطرق إليه، إما عن جهل أو غفلة، وإنما حملهم على الاقتصار على الشكل فيما لا يعم الإشكال فيه ما كان لهم من العناية بكتب اللغة؛ فإنها كانت تُروى كما تُروى كتب الحديث، وتُقابل على الأصول المعتمدة، وكان كثير منها جامعًا بين صحة الضبط وحسن الخط، فلما فترت الهمم وخشي من شيوع التصحيف في اللغة تدارك علماؤها ذلك، وسلكوا طريقًا يؤمَن فيه من العثار، وهو الطريق الذي أشرنا إليه أولًا.
واعلم أنهم قد يعينون موضع الحركة وقد يوهمونه، فإذا عيَّنوه فالأمر ظاهر؛ كقول بعضهم: «المغرِب» بكسر الراء على الأكثر وبفتحها، والنسبة إليه «مغربي» بالوجهين.
وكقوله: الغرفة العلية والجمع غرف، والغرَفات بفتح الراء: جمع الجمع عند قوم، وهو تخفيف عند قوم، وتُضم الراء للاتباع، وتُسكن حملًا على لفظ الواحد، والمِغرفة بكسر الميم: ما يُغرف به الطعام.
وإذا أبهموه فإن لم يكن ثَمَّ قرينة كان موضع تلك الحركة هو الحرف الأول، مثال ذلك: قول الجوهري «اللُّعبة» بالضم لعبة الشطرنج والنرد، وكل ملعوب به فهو لعبة لأنه اسم، ومنه قولهم: اقعد حتى أفرُغ من هذه اللعبة، وقال ثعلب: من هذه بالفتح أجود؛ لأنه أراد المرة الواحدة من اللعب، و«اللِّعبة» بالكسر: نوع اللعب مثل: الرِّكبة والجِلسة.
فإن وجدت قرينة تدل على غيره كان موضعها ما دلَّت عليه، مثال ذلك قوله: القالَب بالفتح: قالب الخف وغيره، والقالِب بالكسر: البسر الأحمر، وقوله الطابَع بالفتح: الخاتم، والطابِع بالكسر: لغة فيه؛ فإن الحرف الأول لا يُتصور فيه هنا غير الفتح لوجود الألف اللينة بعده فتعيَّن أن يكون الفتح والكسر راجعًا إلى اللام في القالب، والباء في الطابع، وممَّا يتعين فيه الحرف الثاني الفعل الماضي من الثلاثي؛ لأن الأول والثالث لا يحتاجان إلى ضبط، مثال ذلك قوله: «الحُلم» بالضم ما يراه النائم، تقول منه: «حلَم» بالفتح واحتلم، و«الحِلم» بالكسر: الأناة، تقول منه: حلُم الرجل بالضم، والحلم بالتحريك أن يفسد الإهاب في العمل تقول: منه حلِم الأديم بالكسر، فموضع الحركة في قوله: حلَم بالفتح وحلًم بالضم وحلِم بالكسر، إنما هو اللام الذي هو عين الفعل بخلاف قوله: الحُلم بالضم والحِلم بالكسر، فإن موضع الحركة فيهما إنما هو الحرف الأول وهو الحاء، وأما قوله: والحلم بالتحريك، فإنه يشير به إلى فتح الحرف الأول والثاني وهما الحاء واللام، وإنما دل قوله: بالتحريك على فتح الثاني؛ لأن الحرف الأول لا يكون إلا محرَّكًا، والأصل فيه أن يكون محركًا بالفتحة؛ ولذلك لا يشيرون غالبًا إلى حركة الحرف الأول إذا كان محركًا بها؛ لأنه جاء على الأصل، والأصل في حرف الثاني في كثير من المواضع أن يكون ساكنًا؛ ولذا لا يشيرون إلى سكونه في الغالب؛ لأنه جاء على الأصل، فإذا كان محركًا فإن كان محركًا بالضمة أو الفتحة نصُّوا على ذلك، وإذا كان محركًا بالفتحة اكتفوا بالإشارة إلى كونه محركًا؛ لأن الفتحة هي الأصل في الحركات، وكثير من اللغويين يستعمل عوض قوله: بالتحريك أو محركًا، قوله: بفتحتين، نحو قول بعضهم: الكَبَد بفتحتين: المشقة من المكابدة للشيء. وقوله: الكَتَم بفتحتين: نبت فيه حُمرة يخلط بالوسمة ويختضب به للسواد، وقوله: «الكَثَب» بفتحتين القرب، تقول هو «يرمي من كثب».
هذا، ومثل ماضي الثلاثي مضارعه؛ فإن موضع الحركة فيه هو العين، غير أن العين فيه تكون هي الحرف الثالث، فإذا قيل: يكتب بالضم كان موضع الضم فيه هو الثالث وهو التاء، إلا في مثل «يقرُّ» فإن موضع الحركة فيه يكون هو الثاني لانتقالها من الثالث إليه، وقد جرت عادتهم في الأبواب الثلاثة الأُوَل من الثلاثي إذا ضبطوها بالحركات أن يذكروا الماضي والمضارع، ويكون الضبط فيه للمضارع؛ لاستغناء الماضي حينئذٍ عن الضبط؛ إذ يعلم بذلك كونه مفتوح العين، مثال ذلك قول الجوهري: «الخلَابة»: الخديعة باللسان، تقول منه: خلبه يخلُبه بالضم واختلبه مثله، وقوله: نسبت الرجل أنسُبه بالضم نسبةً ونسبًا إذا ذكرت نسبه. ونسب الشاعر بالمرأة ينسِب بالكسر نسيبًا إذا شبَّب بها، وقوله: «اللُّغوب»: التعب والإعياء، تقول منه: لغب يلغُب بالضم لغوبًا، ولغِب بالكسر يلغب لغوبًا لغة ضعيفة فيه، وكثيرًا ما يذكرون الماضي، ويُتبعونه بالمضارع مكرَّرًا من غير إشارة إلى ضبط، وهذا في الغالب يكون من الباب الأول والثاني، مثال ذلك قوله: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفًا، ومنه قوله تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا، يقال ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس، وعكف على الشيء يعكف ويعكف عكوفًا: أي أقبل عليه مواظبًا. وأما السكون والتشديد فلا يقعان في أول الكلمة، فإذا عُيِّنَ موضعهما فالأمر ظاهر، وإن لم يعين فالغالب أن يكون موضعهما الحرف الثاني إلا أن تدل قرينة على غيره فيرجع إليها، مثال ذلك قول الجوهري: «زهرة الدنيا» بالتسكين غضارتها وحسنها، وزهرة النبات أيضًا نَوْره، وكذلك الزهَرة بالتحريك، وقوله: «عثر» مخففًا بلد باليمن، وعثَّر بالتشديد: موضع، وقوله: «القمطر» و«القمطرة» ما يصان فيه الكتب، قال ابن السكيت: لا يقال بالتشديد وينشد:
وكثيرًا ما يطلق التخفيف ويريد به التسكين، مثال ذلك قوله: «طرسوس» اسم بلد، ولا يخفف إلا في ضرورة الشعر؛ لأن فعلولًا ليس من أبنيتهم، وقوله: «القربوس» للسرج، ولا يخفف إلا في الشعر مثل: «طرسوس»، وعبارة «القاموس» «قربوس» كحلزون، ولا يسكن إلا في ضرورة الشعر حِنْوُ السرج، وهما قربوسان.
مقدمة مختار الصحاح وهي مما يتعلق بذلك
وكل ما أهمله الجوهري من أوزان مصادر الأفعال الثلاثية التي ذكر أفعالها، ومن أوزان الأفعال الثلاثية التي ذكر مصادرها؛ فإني ذكرته إمَّا بالنص على حركاته أو بِرَدِّهِ إلى واحد من الموازين العشرين التي أذكرها الآن إن شاء الله تعالى، إلا ما لم أجده من هذين النوعين في أصول اللغة الموثوق بها والمعتَمَد عليها فإني قفوت أثره — رحمه الله تعالى — في ذكره مهملًا، لئلَّا أكون زائدًا على الأصل شيئًا بطريق القياس، بل كل ما زدته فيه نقلته من أصول اللغة الموثوق بها، وأبواب الأفعال الثلاثية محصورة في ستة أنواع لا غير:
- الباب الأول: فَعَلَ يفعُل بفتح العين في الماضي وضمها في المضارع، والمذكور منه سبعة موازين: نصرَ ينصرُ نصرًا، دخلَ يدخلُ دُخولًا، كتبَ يكتبُ كتابةً، ردَّ يردُّ ردًّا، قالَ يقولُ قولًا، عدَا يعدو عدْوًا، سما يسمو سموًّا.
- الباب الثاني: فعَل يفعِل بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، والمذكور منه خمسة موازين: ضرب يضرِب ضربًا، جلس يجلِس جلوسًا، باع يبيع بيعًا، وعد يعِد وعدًا، رمى يرمي رميًا.
- الباب الثالث: فعل يفعَل بفتح العين في الماضي والمضارع، والمذكور منه ميزانان: قطع يقطع قطعًا، خضع يخضع خضوعًا.
- الباب الرابع: فعِل يفعَل بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، والمذكور منه أربعة موازين: طرِب يطرَب طرَبًا، فهِم يفهَم فهْمًا، سلِم يسلَم سلامةً، صدِئ يصدَأ صدَأً.
- الباب الخامس: فعُل يفعُل بضم العين في الماضي والمضارع، والمذكور منه ميزانان: ظرُف يظرُف ظرافةً، سهُل يسهُل سهولةً.
- الباب السادس: فعِل يفعِل بكسر العين في الماضي والمضارع، كوثِق يثِق وثوقًا ونحوه وهو قليل؛ فلذلك لم نذكر منه ميزانًا نردُّهُ إليه بل حيث جاء في الكتاب تنص على وزانه ووزان مصدره، وإنما خَصَصْتُ هذه الموازين العشرين بالذكر دون غيرها؛ لأني عتبرتها فوجدتها أكثر الأوزان التي يشتمل عليها هذا المختصر.
قاعدة أولى
اعلم أن الأصل والقياس الغالب في أوزان مصادر الأفعال الثلاثية أن «فعَل» متى كان مفتوح العين كان مصدره على وزن: «فعْل» بسكون العين إن كان الفعل متعديًا، وعلى وزن «فُعُول» إن كان الفعل لازمًا، مثاله من الباب الأول: نصر نصْرًا، قعد قُعُودًا، ومن الباب الثاني: ضرب ضربًا، جلس جلوسًا، ومن الباب الثالث: قطع قطعًا، خضع خضوعًا، ومتى كان «فعِل» مكسور العين و«يفعَل» مفتوح العين كان مصدره على وزن فعل أيضًا إن كان الفعل متعديًا، وعلى وزن فَعَل بفتحتين إن كان لازمًا، مثاله: فهِم فَهْمًا، طرِب طرَبًا، ومتى كان فعُل مضموم العين كان مصدره على وزن فَعالة بالفتح أو فُعولة بالضم أو فِعَل بكسر الفاء وفتح العين وفعالة هي الأغلب، مثاله: ظرُف ظرافةً، سهُل سهولةً، عظُم عظمًا، هذا هو القياس في الكل، وأما المصادر السماعية فلا طريق لضبطها إلا السماع والحفظ، والسماع مقدَّم على القياس فلا يصادر إلى القياس إلا عند عدم السماع.
قاعدة ثانية
اعلم أن الأبواب الثلاثية الأُوَل لا يكفي فيها النص على حركة الحرف الأوسط من الماضي في معرفة وزن المضارع؛ لاختلاف وزن المضارع مع اتحاد الماضي، فلابد من النص على المضارع أيضًا أو رده إلى بعض الموازين المذكورة، وأما الباب الرابع والخامس فيكفي فيهما النص على حركة الحرف الأوسط من الماضي في معرفة وزن المضارع؛ لأن مضارع فعِل بالكسر عند الإطلاق لا يكون إلا يفعَل بالفتح، كذا اصطلاح أئمة اللغة في كتبهم؛ لأن اجتماع الكسر في الماضي والمضارع قليل، وكذا اجتماع الكسر في الماضي مع الضم في المضارع قليل أيضًا؛ لأنه أيضًا من تداخُل اللغتين، مثل: فضل يفضل ونحوه، فمتى اتفق نصوا عليه فيهما، ومضارع فعُل بالضم لا يكون إلا يفعُل بالضم.
ففي الباب الرابع والخامس لا نذكر إلا الماضي المقيَّد والمصدر فقط طلبًا للإيجاز، ومتى قلنا في فعل مضارع بالضم أو بالكسر فاعلم أن ماضيه مفتوح الوسط لا محالة — وكذا أيضًا لا نذكر مصدر الفعل الرباعي مع ذكر الفعل إلا نادرًا؛ لأن مصدره مطَّرِد على وزن الأفعال بالكسر لا يختلف — وكذا نسند كل فعل نذكره إلى ضمير الغائب غالبًا؛ لأنه أخصر في الكتابة إلا في موضع يفضي إلى اشتباه الفعل المتعدي باللازم اشتباهًا لا يزول من اللفظ الذي نفسِّر به الفعل، أو يكون في إسناده إلى ضمير المتكلم فائدة معرفة كونه واويًّا أو يائيًّا نحو: غزوت ورميت؛ فيكون إسناده إلى ضمير المتكلم دالًّا على مضارعه، أو يكون مضارعًا فيكون إسناده إلى ضمير المتكلم مع النص على حركة عين الفعل دالًّا على بابه نحو: صددْت ومسسْت ونحوهما، أو فائدة أخرى إذا طلبها الحاذق وجدها فحينئذٍ نسنده إلى ضمير المتكلم، ونترك الاختصار دَفْعًا للاشتباه أو تحصيلًا للفائدة الزائدة، وإنما نذكر في أثناء المختصر لفظ الماضي مع قولنا: إنه من باب كذا؛ لفائدة زائدة على معرفة بابه، وهي: كونه متعديًا بنفسه أو بواسطة حرف الجر وأي حرف هو، وأما ما عدا الثلاثي من الأفعال فإنَّا لم نذكر له ميزانًا؛ لأنه جارٍ على القياس في الغالب، فمتى عُرف ماضيه عرف مضارعه ومصدره إلا ما خرج مضارعه أو مصدره عن قياس ماضيه فإنا ننبه عليه، وكذا أيضًا لم نذكر الفعل المتعدي بالهمزة أو بالتضعيف بعد ذكر لازمه؛ لأن لازمه متى عُرف فقد عُرِفَ تعديه بالهمزة والتضعيف من قاعدة العربية، كيف وإن تلك القاعدة مذكورة أيضًا في حرف الباء الجارَّة من باب الألف اللينة في هذا المختصر. فإن اتفق ذكر الفعل لازمًا أو متعديًا بواسطة، فذلك لفائدة زائدة تختص بذلك الموضوع غالبًا.
قاعدة ثالثة
- إحداهما: عسر الترتيب بالنسبة إلى الأعم الأغلب.
- والثانية: قلة الضبط فيها بالموازين المشهورة وقلة التنصيص على أنواع الحركات اعتمادًا من مصنفيها على ضبطها بالشكل الذي يعكسه التبديل والتحريف عن قريب، أو اعتمادًا على ظهورها عندهم فيهملونها من أصل التصنيف.
وهنا تمَّ ما أردنا إيراده في شرح خطبة الكافي من الفوائد التي لا يستغني عنها من أحبَّ أن يكون على بصيرة في علم اللغة، وقد آثرنا الإيجاز في كثير من المواضع، ونسأل من لا يخيب راجيه أن يقيلنا العثرة، وأن يجعلنا ممن يُجزى بالحسنى.
وأحمد هو الذي يُحمد أكثر ممَّا يُحمد غيره لزيادة خصاله المحمودة على غيره ممن تُحمد خصاله، وعندي أن مذهب البصريين أقوى. وأما أحمد فقد ورد عن العرب استعماله بالوجهين، ومنه قولهم: «العود أحمد.» فإن معناه الابتداء محمود، والعود أحق بأن يُحمد، ويجوز أن يكون المعنى ابتداء المعروف جالب للحمد إلى نفسه والعود أجلب له، قال زيد الخير:
«النوع الأول» الكتب التي اقتصر فيها مؤلفوها على الجواهر الصحاح.
«والنوع الثاني» الكتب التي ذكر فيها مؤلفوها النوعين، غير أنهم ميَّزوا أحدهما عن الآخر؛ فلم يقع في كتبهم التباس، وهؤلاء كأرباب النوع الأول ممن استوجب الثناء الجم من الناس، وإلى هذين الفريقين تشير هذه الفقرة.
«والنوع الثالث» الكتب التي مزج مؤلفوها بين النوعين؛ فكدروا على الناظر مورد العين، وهؤلاء لم يُخلِهم من ملام من أُولع بتهذيب الكلام.
قال الإمام جمال الدين محمد بن مكرم بن أبي الحسن الأنصاري الإفريقي نزيل مصر في كتابه المسمى «بلسان العرب» بعد أن ذكر تنافس أهل عصره في اللغة الأعجمية وعدهم من المثالب النطق بالعربية: «فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفُلك وقومه منه يسخرون.» وكان مولده سنة ٦٣٠، وتوفي سنة ٧١١ﻫ.
ومنها: أن يكون ذلك الغريب قد ورد مثل أو قصة غريبة، أو ذكره علماء الصرف أو اللغة شاهدًا لشيء ممَّا لا يسع الأديب جهله، وفي كتب اللغة المتداولة كثير من الكلمات الغريبة قد اتَّخذت ميزانًا لغيرها؛ فيضطر إليها لا لذاتها بل لمعرفة ما وُزِن بها، فإذا ذكر ضبطها لزم بيان معناها بطريق العرض؛ إذ لا يسوغ للطالب أن يزن الكلمات المحتاج إليها بكلمة لا يعرف معناها وإن عرف مبناها، وذلك «كصرد» و«جمزى» و«زبرج»، قال الخليل: «لا يصل أحد من الناس إلى ما يحتاج إليه من العلم إلا بتعلُّم ما لا يحتاج إليه.» فقال بعض الواعين: «لهذه الحكمة الباهرة إن كان لا يوصل إلى ما يحتاج إليه إلا بما لا يحتاج إليه؛ فقد صار ما لا يحتاج إليه مُحتاجًا إليه.»
ومنها أن تذكر الكلمة الغريبة للإشارة إلى أنها نشأت عن غيرها بطريق القلب أو الإبدال أو نحو ذلك، ومثل هذا لا يُحتاج فيه إلى إسهاب يحرج به صدر من لا يحتاج إلى ذلك، ولمثل هذه النكتة قد ذكرت كلمات من الغريب للإشارة إلى أن مادتها موجودة في اللغة العربية مع عدم الإسهاب فيها.
وهنا أمر مهم، وهو أن كثيرًا من الكلم يتجاذبها مواضع يناسبها كل واحد منها من وجه وهناك الحيرة، ولا مخلص من ذلك إلا بترجيح أحد المواضع بوجه من وجوه الترجيح التي تظهر للمؤلف؛ إذ لا طريق هنا للوقف.
تنبيه: إذا قرئت كلمة من كلمات الكتاب العزيز بوجهين فأكثر، وكان ذلك ثابتًا عن الأئمة الذين يرجع إليهم في ذلك عُدَّ ذلك كله فصيحًا، ولا يسوغ ترجيح أحد الوجهين أو الأوجه على غيره ترجيحًا يكاد يُسقط الآخر، قال أبو جعفر النحاس: «السلامة عند أهل الدين إذا صحت القراءتان أن لا يُقال إن إحداهما أجود.»
- فالنوع الأول منهما: موضوع لمن شعر باللفظ؛ كمن سمع لفظ الشفق أو رآه في كتاب، ولكن جهل معناه أو هيئة مبناه، والكتب في هذا النوع لا يحصى، وهي مرتبة على حسب المباني؛ ليتيسر للطالب أن يجد الكلمة في الموضع المعقود لذلك المبنى؛ ليقف فيه على المعنى.
- والنوع الثاني منهما: موضوع لمن شعر بالمعنى كمن رأى الشفق في السماء ولكن جهل اللفظ الدال عليه، والكتب في هذا النوع قليلة لقلة عناية غير الخواص بها، وهي مرتبة على حسب المعاني.