مُزحة الفيلسوف
عن نفسي أنا لا أصدق هذه القصة. لدى ستَّة أشخاص قناعة بصحتها، ولديهم كذلك أمل بإقناع أنفسهم بأنها كانت مجرد هلوسة. لكن ثمَّة مُشكلة واحدة تعترض سبيلهم، وهي أنهم ستة أشخاص. وكل فرد منهم يُدرك بوضوح استحالة أن يكون ما حدث هلوسة. ولسوء الحظ، هم أصدقاء مُقربون، ولا يُمكن لبعضهم تجنُّب البعض؛ وعندما يَلتقون وينظر كلٌّ منهم في أعيُن الآخرين تتجسَّد تلك الواقعة مجددًا في أذهانهم.
كان مَن حكى لي القصة، ثم تمنَّى فور انتهائه من سَردها لو لم يكن قد أفصح عنها، هو آرمتيدج. ففي إحدى الليالي، عندما كنتُ أنا وهو الجالسَين الوحيدَين في غُرفة التدخين بالنادي، أخبرني بما حدث. وقد كان سردُه لي عفو الخاطر، حسبما أوضح لي لاحقًا. كان الموقف يلح على ذهنه طوال ذلك اليوم بإصرار غريب؛ وبينما كنتُ أدخل الغرفة خطَرَ له أن عقلًا بليدًا مثل عقلي — دون أن يقصد إهانتي بتلك الكلمات طبعًا — من المؤكَّد أن ينظر إلى تلك المسألة بتشكُّك هزلي، ما قد يُساعد على توجيه انتباهه نحو الجانب غير المعقول منها. وأظنُّ أنني فعلت ما أراده. إذ شكَرني عندما رفضت تصديق القصة برمَّتها واعتبرتها وهمًا وليد عقلٍ مُشوَّش، ورجاني ألا أجيء على ذكر تلك المسألة لأيِّ كائن كان. وعدته بذلك؛ وربما يَجدُر بي هنا التنبيه على أنني لا أَعتبر القصة التي سأَشرع في سردِها الآن ذِكرًا لتلك المسألة. فاسم الرجل الحقيقي ليس آرمتيدج، بل إنَّ اسمه الحقيقي لا يبدأ حتى بحرف الألف. وقد تقرأ هذه القصة ثم تتناول العَشاء بجوار ذلك الرجل في الأمسية نفسها، ولن تعرف مُطلقًا أنه هو مَن ورَد ذكره بالقصة.
وبالتأكيد لم أظنَّ أن وعدي له يَمنعني من التحدث عن المسألة، بحذر شديد، مع السيدة آرمتيدج، وهي امرأة في غاية اللطف. وقد انفجَرَت في البكاء ما إن تلفظت بأولى كلماتي حول الموضوع. ولم تهدأ إلا بعد جهد جهيد مني. ثم قالت إنها يُمكن أن تشعر بالراحة عندما تَعزف عن التفكير في هذا الأمر. وأضافت أنها هي وآرمتيدج لا يتحدَّثان عنه قطُّ فيما بينهما؛ وكانت ترى أنهما لو تُركا لحالهما، فربما تمكَّنا أخيرًا من تجاوز هذه الذكرى برمتها. تمنَّت أيضًا لو لم يكونا مُقرَّبين إلى هذه الدرجة من السيد إيفريت وزوجته. كان قد راود هذَين الزوجَين الحلم نفسه الذي حلمت به هي وزوجها؛ على افتراض أنَّ ما حدث كان حلمًا. فالسيد إيفريت ليس من نوعية الرجال الذين ربما يجدر برجل دين، مثل السيد آرمتيدج، مُصادقتهم؛ لكن آرمتيدج لا ينفكُّ يُحاجج بأنه من غير المنطقي أن يكون معلمًا للقيم المسيحية ثم يُنهي صداقته مع رجل لا لسبب سوى أنه آثمٌ نوعًا ما. بل كان يُفضِّل أن يُحافظ على صداقته ويسعى لفرض تأثيره الحسن عليه. كانا يَتناولان العشاء مع آل إيفريت بانتظام في أيام الثلاثاء، وبينما كانا يَجلسان قبالتهما بدا من المستحيل قبول حقيقة أنهم الأربعة قد وقعوا جميعًا، في الوقت نفسه وبالطريقة نفسها، فريسة لنفس الوهم. أظنُّ أنني نجحت في بث قدر من الأمل في نفسها قبل أن أغادر. فقد أقرت بأن القصة تبدو بالفعل سخيفة من منظور المنطق السليم، وهدَّدتني بأن لسانها لن يخاطب لساني مجددًا إذا نبست ببنت شفة عن تلك المسألة أمام أي شخص. إنها امرأة لطيفة حقًّا، كما ذكرت قبلًا.
وتشاء الصدفة العجيبة أن أكون في هذا الوقت أحد المديرين في شركة يملكها إيفريت، والتي كان قد رشحها لتوه للاستحواذ على تجارة ساحل البحر الأحمر وتطويرها. لذا تناولت معه هو وزوجته طعام الغداء يوم الأحد التالي للقائي بالسيدة آرمتيدج. إنَّ حديثه مُمتع، وانتابني فضول لمعرفة كيف سيُبرر رجل حصيف للغاية مثله صلته بهذا الوهم المجنون، البالغ الاستحالة الذي حُكيَ لي، ما دفَعني إلى التلميح بمَعرفتي بالقصة. وفجأةً تغيَّر سلوكه هو وزوجته. وأرادا معرفة مَن أخبَرني بالأمر. لكني رفضت الإفصاح عن تلك المعلومة؛ لأنه بدا من الجليِّ أنهما كانا سيَغضبان من ذاك الشخص. كان لدى إيفريت نظرية مُفادها أن ما حدث كان حلمًا راوَدَ واحدًا منهم، كاملفورد على الأرجح، وقد أوحى إلى بقيتِهم أنهم رأوا الحلم نفسه عبر الإيحاء التنويمي. وأضاف أنه كان ليهزأ منذ البداية من الرأي القائل بأن ما حدث لم يكن حلمًا لولا حدث واحد تافه. لكنه رفض أن يخبرني ما هو. إذ إن هدفه، حسبما أوضح لي، هو مُحاولة نسيان الأمر، لا الاستغراق في التفكير فيه. ثم نصَحني، بصفته صديقًا لي، ألَّا أثرثر كثيرًا حول هذه المسألة؛ لكيلا أواجه أي مشكلات فيما يتعلق بما أتلقاه من أتعاب نظير عملي في شركته. كان إيفريت يستخدم أحيانًا أسلوبًا فظًّا في توضيح الأمور.
وفي منزل آل إيفريت قابلت، فيما بعد، السيدة كاملفورد، وهي واحدة من أجمل من رأيت في حياتي من النساء. غير أنَّني ارتكبتُ يومها حماقة نابعة من ضعف ذاكراتي فيما يتعلق بالأسماء. فقد نسيت أن السيد كاملفورد وزوجته كانا الطرف الثالث فيما وقع من أحداث، وذكرت القصة زاعمًا أنها حكاية غريبة قرأتها منذ سنوات بعيدة في مجموعة قصصية قديمة. كنتُ آمل أن تكون فاتحة نقاش بيننا عن الصداقة البريئة. لكن السيدة كاملفورد هبت واقفةً ونظرت لي في غضب. عندئذٍ تذكرتُ، وتمنيتُ لو أنَّني لم أقل شيئًا مما قلته. أخذت وقتًا طويلًا كي أصالحها، وسامحَتني أخيرًا بعدما قبلت اعتبار ما قلتُه غلطة نابعة من غبائي ليس إلَّا. كانت هي مُقتنعة تمامًا، كما قالت لي، بأنَّ الأمر كله محض خيال. ولم يكن يُساوِرُها أي شك في ذلك إلا عندما تكون في صحبة باقي الأطراف. كانت ترى أنه إذا اتَّفق الجميع على تجنُّب ذكر هذا الأمر مجددًا، فسوف يتبدَّد كليًّا بنسيانهم له. افترضت السيدة كاملفورد أن زوجها هو مَن أخبرني بالأمر؛ فطالَما كان يرتكب مثل هذه الحماقات. لكن قولها ذلك لم يكن نابعًا من قسوة. إذ قالت إنه في بداية زواجهما، قبل عشر سنوات، لم يكن يضايقها أحد مثله؛ لكنها صادفت العديد من الرجال الآخرين منذ ذلك الحين، وقد جعلها ذلك تعيد النظر إليه بعين الاحترام. وأنا أحبُّ أن أسمع امرأة تُثني على زوجها. وأرى أنه أمر غير معتاد ينبغي، في رأيي، التشجيع عليه أكثر. أكدتُ لها أن كاملفورد ليس المُذنب هنا؛ وبعدما وعدتني بأن تسمحَ لي بزيارتها، لكن ليس كثيرًا، في أيام الخميس، وافقتُها على أن التصرُّف الأمثل هو صرف المسألة برمتها من ذهني والانشغال بدلًا من ذلك بالأمور التي تخصني.
لم أكن قد تحدثت كثيرًا مع كاملفورد من قبل، رغم أني أراه في النادي عادةً. هو رجل غريب، يُشاع عنه الكثير من الحكايات. فهو يكسب زرقه من الكتابة في الصحف، ثم يُنفقه في نشر الشعر الذي يكتبه، فيما يبدو، للترويح عن النفس. خطر لي أن النظرية التي كوَّنها عن الحدث ستكون بلا شك مشوقة حقًّا؛ بيد أنه رفض التحدُّث عن الأمر بتاتًا في البداية، وتظاهر أنه قد صرف النظر عن المسألة كلها بوصفِها تُرهات فارغة. كدتُ أن أيأس مِن دفعه إلى الكلام حتى سألني في إحدى الأمسيات، من تلقاء نفسه، عما إذا كنتُ أظنُّ أن السيدة آرمتيدج، التي كان يعلم أن علاقة صداقة تجمعني بها، لا تزال تُعطي أهمية لتلك المسألة. وعندما عبَّرت عن رأيي بخصوص هذه المسألة، الذي كان مُفاده أن السيدة آرمتيدج هي أكثرهم انزعاجًا مما حدَث، بدا مُتضايقًا؛ وحثَّني على ترك بقيتِهم لحالهم، وأن أُكرِّس كل جهدي لمُحاولة إقناعها هي بالذات أن المسألة برمَّتها كانت محض وهم، ولا يُمكن أن تكون سوى ذلك. ثم أقرَّ صراحةً أن الأمر لا يزال لغزًا بالنِّسبة إليه. وكان مِن السهل عليه اعتباره وهمًا، لولا حدث واحد تافه. وظلَّ لفترة طويلة عازفًا عن إخباري عما كان، لكن لهذا النوع من المواقف خلقت المثابرة، وفي النهاية تمكَّنتُ من استخلاص الأمر منه. وإليكم ما حكاه لي.
«شاءت الصُّدفة أن نجد أنفسنا، نحن الستة، بمُفردنا في حديقة النباتات الداخلية، في ليلة الحفل الراقص. كان أغلب الحضور قد غادَرُوا بالفِعل. وبينما كانت تَعزف الفِرقة آخر مقطوعة، كان صوت الموسيقى يَتناهى إلى أسماعنا خافتًا. انحنيت كي ألتقط مروحة جيسيكا التي كانت قد أسقطتها أرضًا عندما لفت نظري فجأة شيءٌ ما يَلمع فوق عتبة من الفسيفساء أسفل مجموعة من النخل. لم يكن أيٌّ منا قد تحدث من قبل مع الآخَرين؛ بل كان ذلك المساء أول مرة نتقابل فيها؛ إن كان ما حدث مجرَّد حلمٍ. التقطت ذلك الشيء. وتجمع الآخرون حولي، وعندما نظر كلٌّ منَّا في عين الآخر أدركنا ماهيته؛ كان كأس نبيذ مكسورة، قدحًا غريب الشكل مصنوع من الزجاج البافاري. لقد كان القدح الذي حلمنا جميعًا أننا شربنا منه.»
لقد جمعت أجزاء القصة كما تراءى لي أنها قد حدثَت. وعلى أي حال، الأحداث التي سأرويها كلها حقائق. وقد تبدَّلت أحوال أبطال تلك الحكاية منذ ذلك الحين، ما يجعلني آمُل أنهم لن يقرءوها أبدًا. وما كنت لأتكبَّد عناء سردها من الأساس، لولا أنها تحوي عبرة.
جلس ستة أشخاص حول الطاولة الكبيرة المصنوعة من خشب البلوط، في قاعة الطعام المكسوَّة جدرانها بألواح خشبية بذلك النُّزل المريح الذي يُدعى «كنيبر هوف» في مدينة كونيجسبيرج الألمانية. كان الوقت قد تأخر ليلًا. في الظروف العادية، ما كانوا ليظلُّوا مُستيقِظين حتى هذه الساعة، لكن بما أنهم وصلُوا في القطار الأخير القادم من دانتسك، وتناولوا عشاءً من أصناف الطعام الألماني؛ فقد بدا من الأفضل البقاء قليلًا وتبادل الحديث. كان الصمت يعمُّ المنزل على نحوٍ غريب. كان قد ترك صاحب المنزل السمين الشموع المخصَّصة للضيوف على البوفيه، وتمنى لهم «ليلة سعيدة» منذ ساعة. وهكذا حوتهم رُوح المنزل القديم بين جنباتها.
إذا صُدِّقت الأقاويل، فإن هنا، في هذه الغرفة تحديدًا، طالَما جلس الفيلسوف إيمانويل كانط وتَحاوَر بنفسِه مع آخرين. وعلى الجانب الآخر من الممر الضيق، كسا ضوء القمر الفضي الجدران التي أوت الرجل الضئيل الجسد ذا الوجه الشاحب بينما كان يعمل ويُفكِّر طوال أربعين عامًا؛ في حين أطلَّت النوافذ الثلاث العالية في قاعة الطعام على بُرج الكاتدرائية القديمة الذي يَرقُد جُثمانه أسفله. كانت الفلسفة — التي تهتمُّ بالظواهر البشرية، وتتُوق للتجربة، ولا تخضع للقيود التي يَفرضُها العرف على كافة أشكال التفكير — تحُوم في هواء الغرفة المشبع بالدخان.
كان القس ناثانيال آرمتيدج يتحدَّث قائلًا: «لا ليس الأحداث المستقبلية، فمِن الأفضل أن تظل خافية عنا. لكن أرى أنه يَنبغي أن يُسمَح لنا بالاطلاع على مُستقبَل ذواتنا، أي طبعنا وشخصيتنا. ففي سنِّ العِشرين يكون المرء على شاكلة ما؛ وفي الأربعين، يُصبح على شاكلة أخرى كُليةً، فتصير لديه آراء مُختلِفة، واهتمامات مُغايرة، ونظرة أخرى للحياة؛ تجذبُه سمات مختلفة تمامًا عما اعتاد، ويَنفر من الصفات نفسها التي رآها يومًا ما جذَّابة. إنه أمرٌ مُربك حقًّا، لجميع البشر.»
ردَّت السيدة إيفريت، بصوتها الحاني المُتفهِّم: «يُسعدني سماع شخصٍ آخر يتحدَّث عن هذا الأمر. لطالَما فكَّرت فيه كثيرًا. في بعض الأحيان كنتُ ألوم نفسي، لكن كيف يسع المرء تجنُّب ذاك المصير؛ الأشياء التي بدَت لنا مُهمَّة، أضحت بلا أهمية؛ واهتمامات جديدة استحوذَت على عقولنا؛ والأبطال الذين نظَرنا إليهم بعين التقديس نراهم اليوم وقد هوَوا من فوق عروشهم.»
ضحك السيد إيفريت المرِح قائلًا: «إذا كنتِ تَعتبرينني واحدًا من هؤلاء الأبطال الهاوين، فلا تتردَّدي في قول هذا.» كان رجلًا ضخمًا أحمر الوجه، ذا عينَين صغيرتَين لامعتَين، وفم قوي وجذَّاب. ثم تابع: «فأنا لم أُخلق إنسانًا عاديًّا بإرادتي. ولم أَطلُب من أحد قطُّ اعتباري قديسًا من المرسومين على زجاج النوافذ الملوَّن. لست أنا مَن تغير.»
ردَّت زوجته النحيلة بابتسامة خانعة: «أعلم يا عزيزي، أنا مَن تغيَّرت. كنت جميلة بلا شك عندما تزوجتني.»
وافقها زوجها قائلًا: «كنت جميلة بالفعل يا عزيزتي. قليل مَن كان يُضاهيك جمالًا في شبابك.»
تابعت زوجته: «كانت تلك هي الصفة الوحيدة التي أعجبتك فيَّ، جمالي، ولقد تبدَّدت سريعًا. أشعر أحيانًا وكأنَّني خدعتك.»
علَّق القس ناثانيال آرمتيدج: «لكن هناك أيضًا جمال العقل، جمال الروح، الذي يعتبره بعض الرجال أكثر جاذبية من الجَمال الجسدي.»
تألقت العينان الحانيتان للسيدة، التي ذوي جمالها، بوميضٍ لحظي مِن السرور. ثم تنهَّدت قائلة: «أخشى أن ديك ليس من هذه النوعية من الرجال.»
رد الزوج بنَبرة ودودة: «حسنًا، كما قلت لتوي، أنا لم أَخلق نفسي. لطالما كنتُ عبدًا للجمال وسأظل كذلك على الدوام. لا أرى معنًى في التظاهُر أمام الأصدقاء بأنكِ لم تَفقِدي جمالك، أيتها الفتاة العجوز.» ثم وضع يده القوية على كتفها الهزيل في تعاطف. وأضاف: «لكن لا داعيَ لأن تُزعجي نفسك بهذا الأمر كما لو كنتِ ارتكبتِ تلك الفعلة عن عمد. لا أحد يَعتقِد أن المرأة تزداد جمالًا عندما تتقدم في العمر سوى عاشق.»
قالت زوجته: «لكن بعض النساء يَزددن جمالًا مع السن، على ما يبدو.»
وتحوَّلت عيناها لا إراديًّا إلى حيث تجلس السيدة كاملفورد التي أراحَت مرفقَيها على الطاولة؛ وتبعتها عينا زوجها الصغيرتَان اللامعتَان إلى الاتجاه نفسه، لا إراديًّا أيضًا. ثمة نوع من النساء يبلغ ذروة جماله في مُنتصَف العمر. في سن العشرين، كانت السيدة كاملفورد، أو جيسيكا ديروود كما كانت تُدعى قبل زواجها، فتاة غريبة الشكل، تخلو من أيِّ ملمح جذاب حسب الذوق الذكوري العام سوى عينيها الكبيرتَين، وحتى عيناها كانتا مُخيفتَين أكثر من كونهما ساحرتَين. أما في سن الأربعين، فهي ربما تَصلُح نموذجًا لتمثال بالحجم الحقيقي للإلهة جونو.
غمغم السيد إيفريت، بصوت لا يُسمَع تقريبًا: «أجل، الزمن، إنه ذلك المهرِّج القديم الماكر.»
كانت السيدة آرمتيدج تلفُّ لنفسها سيجارة بأصابعها الرشيقة عندما علقت بقولها: «ما كان يجب أن يحدث هو أن يتزوَّج ناثانيال من نيلي.»
تحول وجه السيدة إيفريت الشاحب إلى اللون القُرمزي.
في حين صاح ناثانيال آرمتيدج مصدومًا وقد احمرَّ وجهُه كذلك: «ماذا تقولين يا عزيزتي؟!»
ردَّت زوجته بغضب طفولي: «أوه، ألا يُمكن أن ينطق المرء بالحق بين حين وآخر؟ أنا وأنت لا يصلح أحدنا للآخر بتاتًا؛ الجميع يرى ذلك. عندما كنتُ في التاسعة عشرة من عمري، ظننتُ أن الزواج من قسٍّ أمر رائع ومقدَّس، وتخيَّلت نفسي أحارب الشر بجانبه. هذا فضلًا عن أنك قد تغيَّرت منذ ذلك الحين. في تلك الأيام، كنتَ بشرًا يا عزيزي ناث، وكنتَ أفضل من عرفتهم في الرقص. لو كنت أعرف نفسي حينها، لكنتُ أدركت أن مهارتك في الرقص هي على الأرجح السبب الرئيسي وراء انجذابي إليك. لكن كيف يتأتَّى للمرء معرفة ذاته في سن التاسعة عشرة؟»
علق القس آرمتيدج مُذكرًا إياها: «كنا نحبُّ بعضنا.»
ردَّت السيدة آرمتيدج: «أعرف أننا كنا نحبُّ بعضنا، بشدَّة حينها، لكننا لم نعد كذلك الآن.» ثم ضحكت ضحكة قصيرة يشوبُها قدر من المرارة. وأضافت: «مسكين ناث! أنا لست سوى ابتلاء آخر يضاف إلى فيضِ ما تعرضتَ له من ابتلاءات. فالمُعتقَدات التي تُؤمن بها والمثُل العليا التي تُجلُّها تبدو لي بلا معنًى؛ مجرَّد عقائد جامدة ضيقة الأفق، فِكر خانق. نيلي كانت هي الزوجة التي ارتضتها لك الطبيعة حالَما تبدَّد جمالها وتبدَّدت معه جميع أفكارها الدنيوية. كان القدر يُهيئها لك، ليتنا عرفنا. أما أنا، فكان سيُناسبني أن أكون زوجة فنان، أو شاعر.» ودون وعي منها، ألقَت عيناها القلقتان دومًا نظرةً خاطفة على حيث جلس هوراشيو كاملفورد، الذي كان ينفث في هواء الغرفة سحابات من الدخان، مُنبعثة من غليون مرشومي أسود ضخم. ثم استطرَدت: «أنا أنتمي إلى العالم البوهيمي. وما كنتُ لألقاه هناك من فقر ومعاناة كانا ليَصيرا مصدر سعادتي. وتنفُّس الهواء المنعش في ذلك العالم، كان ليجعل الحياة تَستحق أن تُعاش.»
أرجع هوراشيو كاملفورد ظهره إلى الوراء بينما تركزت عيناه على سقف الغُرفة المصنوع من خشب البلوط. ثم قال: «يُخطئ الفنان عندما يتزوج.»
ضحكت السيدة كاملفورد الجميلة بروح مَرِحة. وعلقت: «الفنان، حسبما رأيته منه، ما كان ليعرف الطريقة الصحيحة لارتداء قميصه لو لم تكن زوجتُه موجودة لتُخرج القميص من الدرج وتُساعده في ارتدائه.»
رد زوجها: «إنَّ ارتداء الفنان لقميصه بالمقلوب لم يكن ليُحدث فارقًا كبيرًا في العالم. لكن العالم سيتأثَّر إذا ضحَّى بفنِّه في سبيل إعالة زوجته وأسرته.»
قال ديك إيفريت بصوته المبتهج: «حسنًا، على أيِّ حال، لا يبدو أنك ضحيت بالكثير يا صديقي.» ثمَّ أضاف: «فالعالم كله يُردِّد اسمك.»
رد الشاعر قائلًا: «أبلُغ من العمر واحدًا وأربعين عامًا، وقد انقضَت أفضل سنوات عمري.» ثم أردف: «كرجل، أنا لستُ نادمًا على شيء في حياتي. لقد حظيت بزوجة من أفضل ما يكون، ولديَّ أطفال رائعون. وقد عشت الحياة الهادئة للمُواطن الناجح. لكن لو كنت قد استمعت إلى ما تُمليه عليه ذاتي الحقيقية، لكان ينبغي عليَّ الارتحال إلى البرية؛ فهي الوطن الوحيد للمُعلم، أو النبي. جدير بالفنان أن يتزوَّج فنه. أما الزواج مِن امرأة فهو فعل لا أخلاقي بالنِّسبة إليه. إذا عاد بي الزمن، كنتُ سأظلُّ عَزَبًا.»
ضحكت السيدة كاملفورد قائلة: «إنه انتقام الزمن، كما ترى.» ثم أردفَت: «عندما كان ذاك الرجل شابًّا في العشرين من عمره هدَّد بأنه سيَنتحِر إذا لم أُوافق على الزواج منه، وقد وافقتُ حينها رغم أنه لم يكن يُعجبني بتاتًا. والآن بعد انقضاء عشرين عامًا، وما إن بدأت في الاعتياد عليه، يُغير كلامه في هدوء ويقول إن حاله كانت ستُصبح أفضل بدوني.»
تدخَّلت السيدة آرمتيدج مُعلقةً: «لقد سمعت بعض أجزاء من تلك الحكاية وقتها.» ثم تابعَت مُوجِّهة حديثها إلى السيدة كاملفورد: «كنتِ واقعة في غرام شخص آخر حينها، أليس كذلك؟»
ضحكت السيدة كاملفورد قائلةً: «ألا تَعتقدُون أن هذه المُحادَثة تنساق نحو مسار خطر بعض الشيء؟»
وافقتْها السيدة إيفريت معلقةً: «ذلك نفسه ما كنت أفكر فيه. أتصوَّر أن قُوًى غريبة قد استحوذَت علينا، ودفعتنا إلى التصريح بأفكارنا بصوت عالٍ.»
قال القس ناثانيال مُقرًّا: «أخشى أنَّ الذنب في ذلك يقع عليَّ.» ثم تابع قائلًا: «لقد أضحى جو هذه الغرفة خانقًا. ألا يُستحسَن أن نأوي إلى أسرَّتنا؟»
أصدر المصباح العتيق المُتدلي من عارضة تُلطخها آثار الدخان صوت قرقرة خافتة أشبه بنشيج، ثم انطفأ. وزحف ظل برج الكاتدرائية القديمة ممُتدًّا عبر الغُرفة التي لم يعد يُضيئها سوى ضوء القمر المنسلِّ بين الحين والآخر من وراء السُّحب. وعند الطرف الآخر من الطاولة كان يجلس رجل ضئيل الجسم، ذو وجه شاحب، وذقن حليق، مُرتديًا شَعرًا مُستعارًا ينسدل حتى كتفَيه.
قال الرجل الضئيل: «عذرًا.» كان يتحدَّث إنجليزية تشوبها لكنة ثقيلة. ثم أضاف: «يبدو لي أننا في موقف يشتمل على طرفين في وسع كلٍّ منهما تقديم العون للآخر.»
تبادل الأصدقاء الستة، المُجتمعُون حول الطاولة، النظرات، لكن لم يَنطِق أحدهم بكلمة. كانت الفكرة التي خطَرت ببال كلٍّ منهم، كما أوضحَ بعضهم لبعضٍ لاحقًا، أنهم قد حملوا الشموع التي تركها لهم صاحب النُّزُل وصعدوا إلى غُرَفهم حيث خلدوا إلى النوم، دون أن يتذكَّروا قيامهم بذلك. وكان ما يرونه الآن هو حلم بكل تأكيد.
واصل الرجل الضئيل الشاحب الوجه حديثه قائلًا: «إذا سمحتم لي بإعادتِكم عِشرين سنة إلى الوراء، فسوف يُساعدني ذلك كثيرًا في التجارب التي أُجريها حول الظواهر المُرتبطة بالميول البشرية.»
لم يردَّ أيٌّ منهم. وبدا لهم أن هذا السيد العجوز الضئيل الجسد لا بدَّ أنه كان جالسًا بينهم طيلة الوقت، دون أن يُلاحظوا وجوده.
تابع الرجل الضئيل ذو الوجه الشاحب: «حسب حديثكم هذه الليلة، يُفترَض أن تُرحِّبوا بعرضي. جميعكم تَبدُون لي في غاية الذكاء. وتُدركون ما ارتكبتُمُوه مِن أخطاء؛ وتتفهَّمون الأسباب التي دفعَتْكم إلى ارتكابها. لم يكن في وسعكم تجنُّبها؛ لأنكم لم يكن بوُسعِكم الاطلاع على المُستقبل. ما أقترحه عليكم هو إعادتكم عشرين سنة إلى الوراء. ستَرجعُون فتيانًا وفتيات من جديد، ولن يَختلِف شيءٌ سوى أمرٍ واحد فقط: سوف تَحتفظون بما عرفتُمُوه عن المُستقبل، عما حدَث لكم تحديدًا.»
ثم أردَف مُشجِّعًا: «هيا، لا تتردَّدوا، إنه أمرٌ بسيط حقًّا. فمثلَما أثبتُّ … أقصد مثلَما أثبتَ أحد الفلاسفة بوضوح، العالم ليس سوى نتاج تصوُّراتنا. وعبر وسيلة قد تبدو لكم سحرًا — رغم أنها مجرَّد عملية كيميائية — سوف أمحو مِن أَذهانكم أحداث العشرين عامًا الماضية كلها، باستثناء الأحداث التي تمسُّ شخصياتكم فحسب. سوف تَحتفظُون بالمعرفة التي تخص التغيرات الجسمانية والعَقلية التي يُخبئها لكم المستقبل، ما عدا ذلك سوف يَنمحي من أذهانكم.»
أخرج الرجل العجوز الضئيل قارورة صغيرة من جيب صدريته، ثم ملأ كأس نبيذٍ كبيرة من دورق النبيذ، وأضاف إليه نحو ستِّ قطرات من القارورة. ووضع الكأس بعد ذلك في منتصف الطاولة.
وتابع الرجل الضئيل الشاحب الوجه حديثه مُبتسمًا: «الشباب مرحلة تحلو العودة إليها. قبل عشرين عامًا من الآن، كانت ليلة الحفل الراقص؛ احتفالًا بموسم الصيد. أتتذكرونها؟»
كان إيفريت أول من شرب من الكأس. وقد شرب منه وعيناه الصغيرتان المُتألِّقتان شاخصتان في توق نحو وجه السيدة كاملفورد الجميل والنبيل؛ ثم ناول الكأس إلى زوجته. وكانت هي على الأرجح مَن شرب بأكبر قدر مِن اللهفة. فحياتها مع إيفريت — منذ لحظة أن قامت مِن سرير المرض، بعدما سلَبَها الداء جمالها كله — كانت مريرة. شربَت ويحدوها أمل مجنون ألا يكون ما يحدث حلمًا؛ وبابتهاج نابع مِن لمسة يد الرجل الذي أحبَّته ناولت الكأس إلى آرمتيدج الذي مدَّ يده عبر الطاولة ليأخذها من يدها. كانت السيدة آرمتيدج هي رابع الشاربين. فبعدما تناولت الكأس من زوجها، شربت بابتسامة هادئة، ثم ناولتها إلى كاملفورد. وشرب كاملفورد دون أن يَنظر إلى أحد، ثم وضع الكأس على الطاولة.
قال الرجل العجوز الضئيل مُخاطبًا السيدة كاملفورد: «هيا، لم يتبقَّ سواكِ. لن تَكتمل التجربة دون مشاركتك.»
ردت السيدة كاملفورد، وعيناها تنشدان عينيَ زوجها، الذي عزف عن النظر إليها: «ليست لديَّ رغبة في الشرب.»
ألحَّ الرجل الضئيل مجددًا: «هيا.» وحينئذٍ نظر لها كاملفورد، وضحكَ ضحكةً خاوية.
ثم قال: «يُستحسَن أن تَشربي.» وأضاف: «فهذا كله مجرَّد حلم.»
أجابته قائلة: «كما تريد.» وتناولت الكأس من يدَيه.
ما سأَحكيه لكم الآن استقيت مُعظمه ممَّا حكاه لي آرمتيدج تلك الليلة في غرفة التدخين بالنادي. لقد بدا له أن جميع الأشياء في غرفة الطعام بالنُّزل بدأت تَرتفع ببطء، في حين ظلَّ هو ثابتًا، بيد أنه كان يُعاني من ألم شديد كما لو أن أحشاءه تتمزق؛ وقد شبَّه ذلك الإحساس بما يشعر به المرء أثناء الهبوط في المصعد لكن أشد ألف مرة. وطوال الوقت كان الصمت والظلام يُحاوطانه. وبعد فترة من الزمن، ربما كانت دقائق، وربما كانت سنوات، دنا منه ضوء خافت. ثم اشتد الضوء، وعبر نسمات الهواء التي هبَّت على وجهه تَناهى إلى مسامعه صوت موسيقى آتٍ من بعيد. علا الضوء والموسيقى معًا، وشيئًا فشيئًا، استعاد وعيه. كان جالسًا على مقعد مُبطَّن مُنخفِض تحت مجموعة من النخل. وبجواره كانت تجلس فتاة شابة، لكن وجهها كان مُحولًا عنه.
وسمع نفسه يقول: «لم أنتبِه إلى اسمك.» ثم أضاف: «هل تمانعين في إخباري به؟»
أدارت الفتاة وجهَها نحوه. كان وجهًا ذا جمال رُوحاني لم يرَ مثيله أبدًا. وضحكت قائلة: «يبدو أني واقعة في وَرطة مُماثلة.» ثم أضافت: «يُستحسَن أن تكتب اسمك على النسخة الخاصة بي من برنامج الحفل، وسوف أكتب اسمي على نُسختك.»
وهكذا كتب كلٌّ منهما اسمه على نسخة البرنامج التي تخص الآخر، ثم استعاد كل منهما نسخته. كان الاسم الذي كتبتْه هو أليس بلاتشلي.
لم يكن قد رآها قبلًا قط؛ كان بإمكانه أن يتذكَّر هذا. رغم ذلك، كان ثمة جزء قصيٌّ من عقلِه كان مُصرًّا أنه يَعرفها. لقد التقيا في مكانٍ ما منذ زمن بعيد، وتحدَّثا معًا. وشيئًا فشيئًا، مثلَما يتذكَّر المرء حلمًا، عادَت إليه ذكرى ما حدث. في حياة أخرى، تبدو له الآن ضبابية ومُبهَمة، كان قد تزوَّج هذه المرأة. وفي السنوات القليلة الأولى من زواجها، كان كلٌّ منهما يُحبُّ الآخر؛ ثم تباعَدا وازدادت الفجوة بينهما اتساعًا. كانت أصوات قوية صارِمة قد دعَته لأن يَهجُر أحلامه الأنانية، وطموحاته الصبيانية، وأن يَحمل على عاتقه مسئولية واجبٍ عظيم. كان يَحتاج وقتها، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، إلى مَن يُقدِّم له يد العون وينظر إليه بعين العطف، لكن زوجته تخلَّت عنه. فمُثُله العليا لم تسبب لها سوى الضيق. وقد تمكَّن مِن مقاومة مُحاولاتها لإبعاده عن مساره، لكن ثمن ذلك كان تراكم مشاعر الغضب والاستياء بينَهما يومًا بعد يوم. ثم تجلَّى عبر حلمِه الضبابي وجه آخر، وجه يكسوه تعبير من التفهم لامرأة ذات عينَين حانيتَين؛ وجه المرأة التي كانت ستَجيء له يومًا في المُستقبل بيدَين مُمددتَين سوف يتُوق إلى احتوائهما بين يدَيه.
سمع صوت الفتاة التي بجوارِه يقول: «هلا رقَصنا؟» ثم أضاف: «لا أرغب في أن تفوتَني رقصة الفالس.»
سارَعا إلى قاعة الرقص. والتفَّ ذراعُه حول خصرها، وبينما كانت عيناها الرائعتان الخجلتان تسعيان، في لحظات نادِرة، إلى مُلاقاة عينَيه، ثم تتوارَى مجددًا خلف رموشها المُرسلة، شعر آرمتيدج الشاب بعقله يغيب وبروحه نفسها تنفلت من عقالها. أثنت الفتاة على رقصه بأسلوبها الساحر، الذي يجمع بين الحياء والاستعلاء في مزيج محبب.
فقالت له: «أنت بارع بشدة في الرقص.» ثم تابعت: «يُمكنك أن تطلب مني الرقص مجددًا، في وقت لاحق.»
دوَّتْ في عقله كلمات سمعها في ذلك المستقبل الضبابي الذي يُطارد مخيلته. «لو كنت أعرف نفسي حينها، لكنتُ أدركت أن مهارتك في الرقص هي على الأرجح السبب الرئيسي وراء انجذابي إليك.»
طوال تلك الأمسية، وطوال الأشهر العديدة التي تلتها كان الحاضر والمستقبل يَتصارعان بداخله. ومثلما عانى ناثانيال آرمتيدج، طالب اللاهوت، عانت أليس بلاتشلي، التي وقعَت في حبِّه من أول نظرة، بعدما أدركت أنه أروع راقص جالت معه قاعة الرقص على أنغام موسيقى الفالس المُثيرة للحواس؛ وعانى هوراشيو كاملفورد، الصحفي والشاعر المغمور، الذي كان عملُه بالصحافة يُكسبه دخلًا يَكفيه بالكاد، لكن شِعرَه كان محطَّ إعجاب النقاد؛ وكذلك عانت جيسيكا ديروود، ذات العينين الباهرتَين، والبشرة الباهتة، التي كانت غارقة حتى أذنَيها وبلا أمل في غرام ديك إيفريت الوسيم، ذي الجسد المفتول واللحية الحمراء، والذي كان رد فعله الوحيد عندما عرف بحبها أن ضحك منها، بطريقتِه الودودة والمتعالية في آنٍ واحد، وأخبرها بصراحة قاسية أن امرأة بلا جمال لا دور لها في الحياة؛ ونال ديك إيفريت أيضًا نصيبه من المعاناة، ذلك الشاب الداهية، الذي لم يَذُق طعم الهزيمة قط، والذي نجح في ترك بصمتِه في الحي التجاري بلندن وهو لم يَتجاوَز الخامسة والعشرين من عمره، ذلك الشاب الذكي، البارِد الأعصاب كالثعالب، باستثناء عندما يَلمح وجه امرأة مليحة، أو يدًا أو كاحلًا حسَن الشكل؛ وعانَت نيلي فانشو، التي كانت وقتها في أوج جمالها الفتَّان، ومَوضع حسد النساء الأخريات وتودُّد جميع الرجال، والتي لم تحبَّ أحدًا سوى نفسها، ولم تُقدِّس شيئًا في حياتها سوى المجوهرات والفساتين الفاخرة والموائد العامرة.
في تلك الأمسية، أمسية الحفل الراقص، تشبَّث كلٌّ منهم بأمل أن تكون تلك الذكرى المستقبلية ليست سوى حلم. كانوا قد تعرَّف بعضهم على بعضٍ، وسمع كلٌّ منهم أسماء الآخرين لأول مرة بجفلة نابعة من المعرفة، وتجنَّبوا النظر في أعين بعضِهم، وسارعوا بالانخراط في حديثٍ بلا معنًى، حتى اللحظة التي انحنى فيها كاملفورد الشاب كي يَلتقِط مروحة جيسيكا، ووجَد بقايا تلك الكأس المكسورة المصنوعة من الزجاج البافاري. وعندئذٍ تحوَّلت تلك الذكرى إلى قناعة لا يُمكن التخلص منها، وأصبحت تلك المعرفة التي اكتسبوها عن المستقبل حقيقة لا بدَّ مِن تقبُّلها، مع الأسف.
الأمر الذي لم يتوقَّعوه كان أن معرفة المستقبل لم تُؤثِّر إطلاقًا على مشاعرهم في الحاضر. فيومًا بعد يوم، كان ناثانيال آرمتيدج يَزداد عشقًا لأليس بلاتشلي الساحرة. وكانت فكرة زواجها من غيره، لا سيما كاملفورد، ذلك المُتعجرِف، ذو الشَّعر الطويل، تجعل الدم يَغلي في عُروقه؛ هذا فضلًا عن أن أليس الرقيقة قد اعترَفَت له، وذراعاها تُحيطان بعنقِه، أن حياتها بدونه ستكون شقاءً يتعذَّر احتماله، وأن فكرة زواجه من امرأة أخرى، نيلي فانشو تحديدًا، تبدو لها ضربًا من الجنون. ربما كان التصرف السليم، بعدما عرَفا ما يَنتظرهما، أن يُودِّع كلٌّ منهما الآخر. فهي كانت ستَجلب التعاسة إلى حياته. ربما كان من الأفضل أن يُبعدها عنه، وأن يتركها تموت مفطورةً الفؤاد، فذلك مصيرها المحتوم. لكن كيف يستطيع هو، العاشق المتيم، أن يَجعلها تُعاني هكذا؟ كان ينبغي عليه الزواج من نيلي فانشو بطبيعة الحال، لكنه كان لا يُطيق تلك الفتاة. ألا يُعدُّ الزواج من فتاة يَكرهها بشدة لأنها قد تُصبح بعد عشرين عامًا أكثر ملاءمة له بدَلًا من الزواج من المرأة التي يُحبُّها وتُحبُّه الآن أمرًا في قمة العبث؟
أما نيلي فانشو، فلم تَستطِع مُناقشة اقتراح الزواج من قسٍّ تكرهُه فعليًّا، ولا يتجاوَز دخلُه مائة وخمسين جنيهًا سنويًّا، دون أن تَضحك. كان سيأتي زمن لا تعبأ فيه بالثروة، ولن تَكترِث روحها السامية حينها إلا بالرضا النابع من التضحية بالذات. لكن ذاك الزمن لم يكن قد حلَّ بعد. والمشاعر التي كان سوف يَجلبها معه لم يُمكنها حتى تخيُّلها، في وضعها الحالي. إن كيانها كله كان يشتهي كنوز الحياة الدنيا، وتلك الكنوز كانت في مُتناول يدَيها. أيُعقَل أن يُطلب منها التخلي عن ذلك كله لأنها لن تَكترِث به لاحقًا؛ الأمر أشبه بأن تنصح تلميذًا بالمدرسة ألا يَذهب إلى متجر الحلوى؛ لأنه عندما يَكبُر ويَصير رجلًا سوف يَتقزَّز من فكرة الحلوى التي تَلتصِق بالأسنان؟! إذا قُدِّر لقُدرتها على الاستمتاع أن تكون قصيرة الأجل، فذلك سببٌ أدعى كي تُسارع باقتناص مسرات الحياة.
وكانت أليس بلاتشلي، عندما لم يكن حبيبها بجانبِها، لا تنفكُّ تُرهق ذهنها مُمعنة التفكير في المسألة منطقيًّا. ألم يكن من الحماقة أن تتسرَّع بالزواج مِن ناث العزيز؟ في سنِّ الأربعين كانت سوف تتمنَّى لو كانت قد تزوَّجت شخصًا آخر. لكن معظم النساء في سن الأربعين يتمنَّين لو كنَّ قد تزوَّجن من شخص آخر، وقد توصَّلَت إلى هذا الاستنتاج من المحادثات التي كانت تسمعها فيما حولها. إذا أنصتت كل فتاة في العشرين من عمرها إلى ما سوف تقوله عندما تبلغ الأربعين، فلن تتزوَّج أي فتاة. ففي سنِّ الأربعين، ستكون امرأة مختلفةً كليًّا. وتلك المرأة الأخرى الكبيرة في السن لم تُثِر اهتمامها. ولم يبدُ لها من الصواب أن يُطلَب من فتاة شابَّة أن تُفسد حياتها لا لسبب إلا لإرضاء نفسها عندما تكون في مُنتصَف العمر. وعلاوة على ذلك، من كانت ستتزوَّج غيره؟ كاملفورد ما كان ليَقبل بها أبدًا؛ فهو لم يرغب فيها حينها؛ وما كان ليرغب فيها في سن الأربعين. لأسباب عمَلية، كان كاملفورد خيارًا مُستحيلًا. قد تتزوَّج شخصًا آخر كليًّا، وتُعاني من مصير أسوأ. وقد تصير عانسًا؛ كانت تكره الكلمة نفسها. إنْ حالَفَها الحظ، قد تُصبح صحفية ذات أصابع ملطَّخة بالحبر؛ وهي لم يكن يُعجبها ذاك المصير. أيكون زواجها مِن ناث العزيز فعلًا أنانيًّا؟ أيَنبغي أن ترفض الزواج منه حفاظًا على مصلحته؟ إنَّ نيلي، تلك القطة الصغيرة، التي سوف تُناسبه في سن الأربعين، ما كانت لترضى به الآن. وإذا كان سيتزوَّج امرأة أخرى غير نيلي، فليتزوَّجها هي إذن. لا يُمكن أن يُصبح قسًّا عَزَبًا؛ فكلمة عَزَب نفسها تكاد تبدو وصفًا غير مُلائم لقس. هذا فضلًا عن أن ناث الحبيب ليس من النوع الذي يظلُّ عَزَبًا. إذا أبعدته عنها لكانت ستَدفع به إلى أحضان فتاةٍ لَعُوب ماكرة. ماذا بوُسعِها أن تفعل؟
في سن الأربعين، وتحت تأثير ثناء النقاد على شعره، كان سيُقنع كاملفورد نفسه بأنه نبيٌّ مُرسَل، وأن حياته كلها يَنبغي أن تُكرس لإنقاذ البشرية. بيد أنه، في سنِّ العشرين، كان يشعر بالرغبة في عيش حياته. وكانت جيسيكا، تلك الفتاة غريبة المظهر ذات العينين الخلابتَين بما تُخفيانه من أسرار، تهمه أكثر مِن باقي أفراد الجنس البشري مُجتمعين. إن معرفة المستقبل، في حالته، لم تُفضِ إلى شيء سوى تأجيج شهوته. فالبشَرة الباهتة سوف يَكسُوها اللونان الأبيض والوردي، والذراعان والساقان النحيفتان سوف تُضحِيان مُمتلئتَين ومتناسقتَين، والعينان اللتان يلمح فيهما الآن نظرة ازدراء سوف تشعان يومًا ما ببريق الحب عند رؤيته. لقد كان يأمُل في حدوث ذاك التحوُّل؛ والآن أضحى متيقنًا من حدوثه. في سنِّ الأربعين، يكون الفنان أقوى من الإنسان؛ لكن في سنِّ العشرين يكون الإنسان أقوى من الفنان.
«فتاة غريبة المظهر»، هكذا كان أغلب الناس سيَصِفون جيسيكا ديروود. وقليلون من كانوا سيتخيَّلون أنها ستَصير السيدة كاملفورد اللطيفة الهادئة البال عند بلوغها منتصف العمر. فشهواتها الجسدية التي تأجَّجت في سن العشرين استُنفدت طاقاتها في سن الثلاثين. في سن الثامنة عشرة، كانت جيسيكا غارقة بجنون في حبِّ ديك إيفريت ذي اللحية الحمراء والصوت العميق، حتى إنها كانت لتُلقي بنفسها مسرورةً تحت قدمَيه إذا أشار إليها بطرف إصبعه، وذلك كله على الرغم من المعرفة التي تُحذِّرها مسبقًا من الحياة البائسة التي كانت تَنتظرُها حتمًا معه، على الأقل حتى يَنضج جمالها على المهل بما يجعلُه رهن إشارتها؛ وحينئذٍ ستكون قد أضحت تزدريه. لكن نفسها حدَّثتها بأنَّ الحظ الحسن حليفها؛ إذ لا داعيَ لأن تخشى تغيرًا في موقف ديك، على الرغم من معرفة كلٍّ منهما بالمستقبل. فجمال نيلي فانشو كأنَّما قد أسرَه بسلاسل من حديد، ونيلي ما كانت لتدَع هذ الصيد الثمين يُفلت من يدَيها. وصحيح أن الرجل الذي يهواها يُثير ضيقها أكثر من أي رجل آخر، لكنه على الأقل سيؤمِّن لها ملاذًا يَقيها العوز. إذ كانت جيسيكا فتاة يتيمة، ربَّاها قريب بعيد لها. ولم تكن من الأطفال الذين يَجتذبون محبَّة الآخرين. بل كانت ذات طابع صامت جدِّي، ترى كل فعلٍ فظٍّ طائش إهانة لها أو خطيئة في حقِّها. وبدا لها أن قبول كاملفورد الشاب هو المهرَب الوحيد من حياة أصبحت تراها ابتلاءً. وفي سنِّ الواحدة والأربعين كان سيتمنَّى كاملفورد لو ظل عَزَبًا؛ لكنها كانت ستكون وقتها في الثامنة والثلاثين ولن يُضايقها ذلك. بل ستكون هي نفسها على يقين أن وضعه الآن أفضل كثيرًا. ففي غضون تلك السنوات، كان سيكون قد تولَّد بداخلها إعجاب ناحيته واحترام له. سيكون مشهورًا، وسوف تَفتخِر به. كانت دموعها تَنهمِر رغمًا عنها فوق وسادتها شوقًا لديك الوسيم، لكن خفَّف مِن حزنها فكرة أن نيلي فانشو كانت، بطريقة ما، تحرُسها، وتحميها من رغباتها.
أما ديك فكان يُحدِّث نفسه عشر مرات يوميًّا بأنه كان يَنبغي عليه الزواج من جيسيكا. ففي سن الثامنة والثلاثين، كان سيراها نموذجًا للكمال. بيد أنه كان يقشعر عند النظر إليها الآن وهي في الثامنة عشرة. في سن الثلاثين، كانت ستَفقِد نيلي جمالها وسيَفقِد هو اهتمامه بها. لكن متى نجح التفكير في المستقبل في كبح جماح الهوى؛ هل توقَّف عاشق أبدًا لحظة ليُفكِّر فيما يحمله الغد؟ إذا كان جمال نيلي سريع الزوال، ألا يُعدُّ ذلك سببًا أدعى لاقتناصِه بينما لا يزال مُتوهجًا؟
في سن الأربعين، كانت ستُصبح نيلي فانشو قديسة. غير أن هذا المستقبل المُحتمَل لم يُسعدها؛ فهي تكره القدِّيسين والقديسات. وكانت ستُحبُّ حينئذٍ ناثانيال، الرصين المُمل؛ ما جدوى تلك المعرفة لها الآن؟ إنَّ ناثانيال لم يكن يَرغب فيها؛ فقد كان يحبُّ أليس وكانت هي تُبادله الحب. بأي منطق يجلب الثلاثة التعاسة لأنفسهم في شبابهم لربما يَشعُرون بالرضا في كُهولتهم؟ فليَعتنِ الكهول بأنفسهم وليدَعُوا الشباب لفطرتهم. فليُعانِ القدِّيسون الكهول، فالمعاناة هي اختصاصهم على أي حال، وليتركوا الشباب يشربوا من كأس الحياة. من المؤسف أن ديك كان «الصيد» الوحيد المتاح، لكنه كان شابًّا ووسيمًا. الفتيات الأخريات كنَّ لا يَجدن بُدًّا من تحمُّل رجال عجائز في الستين من العمر، ومصابين بالنَّقرس.
وفوق ذلك، ثمة نقطة في غاية الخطورة جرى إغفالها. كل الأحداث التي بلغتهم من ذلك المستقبل الضبابي الذي يتذكَّرونه قد حدثت لهم لأنهم عقَدُوا الزيجات التي قد عقدوها بالفعل. لكن تلك المعرفة المستقبلية لم تُخبرهم بالمصير الذي كانوا سيَلقونه إن اختلفت اختياراتهم. في سنِّ الأربعين أصبحت نيلي فانشو شخصية لطيفة وودودة. ألا يَحتمل أن الحياة الشاقة التي خاضتها مع زوجها — بما تطلبته من تضحيات مُستمرة ورباطة جأش يومية — قد ساعدت على هذا التحول؟ أكان من الممكن أن تتحقَّق النتيجة نفسها إن كانت، عوضًا عن ذلك، زوجة قس فقير يضع القيم الأخلاقية السامية صوب عينَيه؟ إن الحُمى التي كانت قد سلبتْها جمالها وحوَّلت مسار أفكارها نحو العقل والرُّوح أصيبت بها لأنَّها جلست بصُحبة كونت إيطالي في شرفة دار الأوبرا بباريس؛ حيث أقيم حفل راقص بملابس تنكرية. لو كانت زوجة قسٍّ تعيش في حي إيست إند بلندن، فمِن المُرجَّح أنها كانت ستُفلت من الإصابة بتلك الحُمى ولن تتعرَّض لتأثيرها المُطهِّر للروح. وألَيْس من الخطر ترك امرأة فاتِنة الجمال مثلها، تفكيرها منصبٌّ على الحياة الدنيا، وتتُوق لتذوُّق ملذَّاتها، كي تحيا في فقر مع رجل لا تُحبه؟ إن تأثير أليس على ناثانيال آرمتيدج، أثناء السنوات الأولى التي شهدَت تكوُّن شخصيته، كان تأثيرًا حسنًا. أكان هو واثقًا من أن زواجَه مِن نيلي لن يُؤدي إلى تردِّي حاله؟
إذا تزوَّجت أليس بلاتشلي من فنان، فكيف كان سيَسعها التأكُّد من أنها في سن الأربعين ستظلُّ متعاطفة مع المُثُل العليا الفنية؟ فحتى عندما كانت طِفلة، ألم تكن رغباتها دائمًا تَسير في الاتجاه المعاكس لرغبات مُربيتها؟ ألم تُؤدِّ قراءة الصحف المحافظة إلى دَفعها بخُطًى ثابتة نحو الراديكالية، وألن يُؤدِّي الفيض المتواصل من الأحاديث الراديكالية حول طاولة زوجها، الفنان، إلى دفعها دفعًا للبحث عن حُججٍ تَدعم النظام الإقطاعي؟ ألا يُمكن أن يكون تنامي النزعات البيورتانية لدى ناثانيال هي التي دفعتْها إلى اشتهاء البوهيمية؟ وبفرض أنها تزوَّجت فنانًا جامحًا، ثم ما إن قاربت مُنتصَف العمر حتى قررت فجأة أن «تتديَّن»، حسب التعبير الشائع، كيف كان سيكون حالها حينئذٍ؟ كان سيَصير وضعها أسوأ من وضعها الأصلي.
كاملفورد رجل ضعيف البِنية. وإذا ظلَّ عَزَبًا شارد الذهن، لا يجد من يهتمُّ بتنظيم وجباته والتأكد من تعرُّض ملابسه وأغراضه لتهوية جيدة، فهل كان سيَعيش ليبلغ الأربعين؟ كيف كان سيَسعه التأكد من أن الحياة الأسرية لن تُضيف إلى فنِّه أكثر مما أخذت منه؟
أما جيسيكا ديروود، ذات الطابع العاطفي والانفعالي، فإذا ارتبطَت بزوجٍ سيئ، فربما كانت ستَصلُح في سنِّ الأربعين نموذجًا لتمثالٍ يُجسِّد إيرينيس، إحدى إلهات الانتقام. فجمالها لم يكن ليتبدَّى لو لم تكن حياتها هادئةً ومريحة. إنَّ جمالها من النوع الذي يَتطلَّب سكونًا وطمأنينة كي يَنضجَ على مهَل.
كان ديك إيفريت رجلًا يَعرف نفسه جيدًا. ومن ثَم كان يعرف أنه إذا تزوَّج جيسيكا، فمن المستحيل أن يَظلَّ طوال عشر سنوات زوجًا مُخلصًا لزوجة بلا جمال. هذا فضلًا عن أن جيسيكا لم تكن من النساء التي يُمكنُها الصبر كثيرًا على زوجها. فإذا تزوَّجَها في سن العشرين من أجل جمالها عندما تبلغ الثلاثين، فمِن المرجَّح أن تطلب منه الطلاق مع بلوغها سنَّ التاسعة والعشرين.
كان إيفريت رجلًا عمليَّ التفكير. لذا أخذ على عاتقه مُهمَّة حسم هذه المسألة. وهكذا اعترف المسئول عن توزيع المشروبات في الحفل الراقص أنَّ مخزون الكئوس لديه قد يَتسرَّب إليه أحيانًا كأسٌ أو اثنتان مصنوعتان من الزجاج الألماني. وقد اعترف أحد النُّدُل بالحفل أنه كسر أكثر من كأس نبيذ في تلك الأمسية بعينها؛ وذلك بعدما تلقَّى وعدًا بأنَّ أحدًا لن يُطالبه بدفع ثمنها؛ وأضاف كذلك أنه مِن غير المُستبعَد أن يكون قد حاوَلَ إخفاء بقايا تلك الكئوس أسفل نخلة قريبة منه. من الواضح إذن أنَّ المسألة برمَّتها كانت حلمًا. كان ذلك هو القرار الذي خلصَت إليه المجموعة الشابَّة وقتها، وبناءً عليه عُقدت ثلاث زيجات في غُضون تسعة أشهر.
بعد ذلك بنحو عشر سنوات حكى لي آرمتيدج القصَّة في تلك الأمسية في غرفة التدخين في النادي. كانت السيدة إيفريت قد تعافَت لتوِّها مِن حُمى روماتيزمية حادَّة، أصيبت بها في الربيع السابق في باريس. أما السيدة كاملفورد، التي لم أَلتقِها قبل زواجها، فقد بدَت لي بالتأكيد واحدة مِن أجمل مَن رأيتُ في حياتي من النساء. وأرى أنَّ السيدة آرمتيدج، التي كنتُ أعرفها قبل زواجها، قد أضحت تتمتَّع بجاذبية تفوق ما كان لديها في شبابها. لم أستطع أبدًا أن أفهم ما الذي جذبها إلى آرمتيدج. بعد نحو عشر سنوات من تلك الأُمسية في النادي، سطع نجم كاملفورد في عالم الشعر، لكن المسكين لم يَعِش طويلًا ليتمتَّع بشهرته. أما ديك إيفريت فلا يزال أمامه ستُّ سنوات أخرى من العمل كي يُسدِّد ديونه، بيد أنه حسَنُ السلوك، ويُقال إنَّ التماسًا سوف يُقدَّم للعفو عنه.
أعرف أنها قصة عجيبة من أوَّلها إلى آخرها. وكما قلتُ في البداية، أنا نفسي لا أُصدقها.