مقدمة
مؤخَّرًا ظهر الكثير من الكتابات المَعْنِية بالشأن الطبي وبعلاقة الطبيب بالمرضى والمؤسَّسةِ الصحية والنظامِ الصحِّي، إلا أنَّ جُلَّ هذه الكتابات ارتكنَتْ إلى الجانب الفكاهي الهزلي في كوميديا كانت سوداءَ في كثيرٍ من الأحيان، خاصةً في ظلِّ عجْزٍ هائل بين ما يجب أن يُنفَق على الخدمات الصحية وبين ما يُنفَق بالفعل، وفي ظلِّ غيابِ قانونٍ يَحكم العلاقةَ بين الطبيب والمرضى والمؤسَّسة، وفي انتهاكٍ واضح لكود أخلاقي من العُرف والتقاليد كان قائمًا في النفوس لسنوات، ولكنه تحتَ ضغط العَوَز وسيطرة قوانين الغابة الأولى تم هتكُه تمامًا ليَستحيل الأمرُ إلى كارثةٍ كبرى، نقَلَها البعض في شكلٍ كوميدي محاولًا التعافِيَ من آثارها المدمِّرة له نفسيًّا وجسديًّا، ومُحاولًا إضافةَ قشرةٍ من السُّكَّر لدى نقْلِها للآخرين، بينما نقَلَها البعضُ في شكلها الفجِّ الصادم.
بعضُ هذه الكتابات كان مَعْنيًّا برفع درجة الوعي الصحي؛ فجاء كنشرات طبية، تَسرد تصنيفاتٍ للأمراض والأعراض والفحوص وطرُق الوقاية والعلاج، في مجهودٍ محمودٍ كذلك.
أدَّعِي أن هدفي مُغايِر، وأنَّ ما أحاول كتابتَه وتسليطَ الضوء عليه مختلف؛ هذه كتابةٌ تَهتم بأَنْسَنة الأشياء؛ فكلُّ نشاط — حتى ولو ادَّعى البعضُ كوْنَه ميكانيكيًّا أو محكومًا بقوانينَ وأبحاثٍ جامدة — هو في الأصل فعلٌ إنساني وعلاقةٌ إنسانية.
فما بالك لو كان الحديث عن الطبِّ والأطباء والمرضى، ولحظاتٍ من الضَّعْف والسموِّ والشَّجَن والمِحْنة والكفاح.
هذه كتابةٌ تسعى لأَنْسَنةِ غرفةِ العمليات وجهازِ التخدير وغازاتِ التخدير، تسعى لتحويل ما يعتمل في الصدور إلى كلماتٍ وجُمَل، تسعى للاستفادة من ميراثٍ إنساني طويل من الحكايات والطُّرَف والأساطير، قاوَمَ بها الإنسانُ الظلامَ والخوف والمجهول.
هي كتابةٌ تَجمع بين تجارِبَ خاصةٍ لي وأخرى عامة، فيها تسريباتٌ لأسرارِ مَعبَد البنج وإشارةٌ لأخرى، يَخلع فيها الطبيب «البالطو» الأبيض للكهنة وأنصاف الآلهة، ويتحدَّث لغةَ الفانِين، لا يَكتم ما يخشاه ولا يَتظاهر بقُوًى سحرية لا يملكها، وتتجلَّى في المرضى عَظَمةُ الإنسان المقاوِم رغم الوَهَن، والقابض على الأمل في شجاعةٍ مهما ضاقَتِ الدنيا عليه بما رَحُبت.
هذه كتابةٌ لا تَستدِرُّ الدموعَ ولا تُتاجِر بالألم، ولا يعنيها أن تُنتِج تعاطفًا مع فئةٍ أو جماعة، هي فقط تسعى لغايةٍ أَسْمَى؛ أن تُلقِي ولو بصيصَ ضوءٍ على تلك العلاقات الغيبية التي تحكم هذا العالَم، ذلك الميثاق الذي ربما لا يدركه أحدٌ خارجَ تلك العوالم، ويَتعامل معه مَن هم داخل تلك العوالم باعتباره مُسلَّمة وأمرًا معتادًا، فلا يَستشعِرون ما فيه من جمال.
هي رحلةٌ أتمنَّى أن تكون مُمتعةً، ولن أُطيل عن ذلك، فإلى المتن.