وليام مورتون؛ بزوغ شمس التخدير
يومها ورغم كل التوتُّر الذي عانيناه والخوف من الرسوب أمام أسئلة تأتي مباشِرة أحيانًا ومُراوِغة في كثير من الأحيان، كنا شعلة من لهب الانتباه وهرمونات الحرب والفرار، نتسول نومًا عصيًّا نجبر فيه أذهاننا المتَّقدة على الراحة فلا يأتي إلا متقطِّعًا ونَستيقِظ على حديثٍ ذهنيٍّ باطني يحاول الاستذكار حتى في وقت الرقود وإغماض العينَين.
ما يهمُّ أنه ورغم هذا الحال ابتسمنا عند رؤيتنا السؤال، وضحكنا في اعتراض مُضمَر وعلني ونحن نتحدَّث عن الامتحان بعدما انتهى وقته.
ضحكنا كثيرًا، ربما كان عطشًا للخروج من حال التوتُّر الذي كنا فيه مغموسين، وإن كنتُ لا أعتقد في ذلك؛ فقد كانت الضحكات مختلفة، ضحكات وابتسامات تُشبه ضحكات يحيى صغيري وهو في المَهدِ عندما تتعلَّق عيناه بلعبة جديدة أو بحركةِ مُداعبة مختلفة.
قرأتُ يومًا في أصل الضحك أن الضحكَ معرفة، هو خاصية طوَّرها الإنسان عند التعلم أو المعرفة، نحن نضحك لنعرف جديدًا أو على الأقل هكذا رأى بعض المختصِّين في تفسيرهم لسبب الضحك ومعناه وكيف بزغ وتطور معناه.
في جلسة سمرٍ بعدها بشهور اختصَّنا بها أ.د. محمد عبد اللطيف، بينما نحن في انتظار قدوم إحدى الحالات باستراحة التخدير، تطرَّق للامتحانات التي قام بوضعها ومنها بالطبع امتحان الاختيار من متعدد خاصتنا، كان منتشيًا وهو يقول إنه من آنٍ لآخر لا بدَّ من إلقاء بصيص ضوء على معارف مهمة قد نُهملها أو لا ننتبه لها؛ التاريخ مُهم وحكايات الاكتشافات مهمة، وقد كان سؤالًا لا ثقل له على الدرجات لكنه كفيل بصنع رجَّةٍ تُغيِّر وتُنبِّه وتستثير.
أخبَرنا أن الأسماء التي كتبها لتُجاور وليم مورتون كاختيارات أحدها اسم صديق له والآخر لمدير مؤسَّسةٍ ما، قالها وهو يبتسم.
سألته عن نسبة الذين أجابوا عن هذا السؤال بشكل صحيح، فأخبرني أنه لا يَملك إحصاءً.
رغم أهمية مورتون إلا أنه من الواضح أن القصة قد بدأت قبله بكثير، ربما منذ عرف الإنسان الألم.
أول صرخة لإنسانٍ خلال الغابة البدائية كانت النداء الأول على الطبيب.
إلا أن الاستدلال على الصرخة الأولى وكيف كان التصرف بشأنها صعبٌ إن لم يكن مستحيلًا؛ فالتاريخ دومًا مقيد بالكتابة والحضارة وما وصل إلينا من تلك الكتابة والحضارة، أما ما دون ذلك فمحضُ مُحاولات للتخمين أو الاستنتاج.
بل إن كثيرًا من العلماء يذهبون مؤخرًا إلى أن الألم كظاهرة لا تَقتصِر على البشر، بل هي موجودة على الأغلب لدى الحيوانات كذلك وإن بقيَ الجدل هل هي في كل الحيوانات (الفقاريات واللافقاريات). إلى حدٍّ كبير يُثبت الكثير من الباحثين في هذا المجال الألم للفقاريات على الأقل، بل إنَّهم ذهبوا إلى أن الأسماك نفسها تتألم.
نعود بالزمن إذًا للخلف لأقصى ما قد تَسمح به معارفنا.
يعتقد جُلُّ العلماء اليوم في الألم كوسيلة لحفظ الحياة والحماية؛ تحذير شديد اللهجة يطلب ردَّ فعل للحماية، يُثبت ذلك مرضى ارتفاع سكر الدم والذين تتضرَّر أعصابهم الطرفية وكذلك جهازهم العصبي اللاإرادي فنجدهم يُصابون بجروح في أطرافهم دون أن يشعروا بذلك فيزداد الضرر، كما يُصابون بجلطات قلبية صامتة وخطيرة لأنها صامتة بلا ردود فعل تسأل العلاج والحماية.
لكن ليس كل الألم مفيدًا؛ فهناك آلام مزمنة ومتلازمات للألم تُصبح مرضية في حد ذاتها، ومؤرِّقة وتحتاج لعلاج في حدِّ ذاتها.
فلنَعُد إلى أبعد ما يمكن أن تحملنا عقولنا، إلى إنسان العصر الحجري البدائي وسكِّينه المصنوع من الحجر، هل علم شيئًا عن التخدير؟ هل استطاع الكاهن أن يُخدِّر مرضاه الذين يعالجهم بالسحر وهو يَثقُب جماجمهم؟
هل استخدم ضربة قوية على الرأس لتغييب الوعي؟ جميع أطباء التخدير يتحدَّثون عن تلك الخبطة كوسيلة قديمة للتخدير، ودائمًا ما يُقارنونها بسحر أدوية وتقنيات اليوم، غير أنه لم يَثبُت إن كان إنسان ذلك العصر البدائي قد استخدم تلك الخبطات من عدمه.
قد نعتقد أن الإنسان وعندما أرَّقه الألم سأل الآلهة ومارس طقوس السحر، غير أنه بالتأكيد قد لجأ كذلك للتجربة ولتحصيل معارف من البيئة حوله، بالتأكيد أدرك سحر بعض النباتات، كيف يمكن أن تكون لأوراقها طاقة ساحرة تزيل الألم وتحلِّق بالعقل وتسبِّب النشوة وترفع لمصافِّ الآلهة، كيف في أحيان أخرى دفع ثمن تلك التجارب حياته بعد أن تناول نباتات أخرى سامة قبل أن يدرك ذلك.
استخدموا تلك النباتات في طقوسهم الدينية للتحليق في السماوات، استخدموها في طقوس البلوغ وللتنبُّؤ بالمستقبَل وحلِّ المشكلات.
لنا أن نتخيَّل عرَّافة أو كاهنًا محنيَّ الظهر يُتمتم بالتعاويذ ويُشعل نيران الطقس ويدسُّ يده في فم الممسوس من قِبَل القوى الشريرة ليُطبِّبه ويعالجه.
عرَفت تلك الثقافات على الأغلب الداتورة والقِّنَّب والخشخاش والقات والكوكا وغيرها، واستخدموها ضد الألم، وربما قدَّسوها كعطايا من السماء.
في عام ١٦٠٠ قبل الميلاد استخدم الصينيُّون إبَرَهم الصينية لتثبيط الآلام؛ وذلك بحسب رسوم شانغ ديناستي على العظام وأصداف السلاحف.
قام إيمحوتب الطبيب المصري القديم باستخدام تقنية الإبر الصينية، كما ورَد استخدام المصريِّين لمسحوق الرخام المخلوط مع الخلِّ كبنجٍ موضعي، الرخام يَحوي كربونات الكالسيوم والتي متى اختلطَت بحمض الخلِّيك تُكوِّن حمض الكربونيك والذي يُسبِّب تهيُّجًا يشغل عن موضع الألم الرئيسي مما يجعل له بعض خواصِّ المخدر الموضعي، غير أن هذه الوسيلة لم تَرِد في نصائح إيمحوتب الطبية.
أزمةُ كل هذه السُّبُل أنها لم تكن أبدًا كافية لإذهاب كل الألم ولتغييب الوعي بالشكل المناسب وأنها في الجرعات الأعلى كانت شديدة السُّمِّية وتُسبِّب الموت قبل أن تُذهب كل الألم.
البعض استخدم كذلك التبريد الشديد؛ حيث كان يوضع العضو المصاب في ثلج مجروش، حتى تُخدره البرودة ثم تُجرى الجراحة بعد ذلك.
أما أطباء المسلمين فقد ابتكروا الإسفنجة؛ ذكَر أبو الفتوح التونسي في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» أن العرب المسلمين هم الذين اخترعوا «الإسفنجة» المخدِّرة؛ حيث تُغمس الإسفنجة في محلول من المادة المخدرة ثم تُترك لتجفَّ في الشمس وتُخزن على ذلك، وعند استعمالها تُبلَّل قليلًا ثم توضع للمريض ليَستنشِق من خلالها فيتسرَّب المخدِّر إليه وينام.
يُستخدم في المملكة المتحدة بشكل كبير جدًّا مخلوطًا مع الأكسجين كمُسكِّن لمعظم الولادات الطبيعية.
كان ستيفن هالز (١٦٧٧–١٧٦١) هو أول من حاوَل تجميع الغازات وفصلها من فوق الماء واللعب معها وبها، إلا أن تصنيفه لها ربما يختلف عن تصنيفنا اليوم؛ كان يُسمي كل الغازات التي لا تُعزِّز الحياة بالغازات السامة، وكان يقول بأن تلك التي تَشتعِل تحوي موادَّ ملتهبة.
الفضل في تغيير وجهة النظر هذه يعود إلى جوزيف بلاك (١٧٢٨–١٧٩٩) الذي قال بأن هذه الغازات على الأغلب تتكوَّن من مواد مختلفة لكلٍّ منها خصائصه التي تُميِّزه.
وكعادة كثير من اكتشافات ومُنجَزات هذه العصور يتوصَّل لها عالِمان أو أكثر في ذات الوقت أو في أوقات مُتقاربة ويُصبح تحديد السبق صعبًا، الحال ربما لا يختلف كثيرًا بالنسبة لاكتشاف غاز النيتروز؛ فعلى ما يبدو قد حصل عليه جوزيف بلاك أثناء تجاربه بشكل غير مقصود، كتب بلاك في أوراقه أن نترات الأمونيوم هي واحدة من أكثر الأملاح انصهارًا، عند تسخينها يَنبعث منها بخارٌ، ولكن إذا تمَّ هذا التسخين بشكل مفاجئ فهي تَحترق.
بحسب معارفنا اليوم فهذا البخار المنبعِث هو غاز النيتروز.
إلا أنَّ الذي أعلَن نتائجه وكتب عن خواص هذا الغاز هو بريستلي؛ لذا ذهب إليه شرفُ اكتشافه، رصد بريستلي أن هذا الغاز لا يُعزِّز الحياة، والفئران التي تستنشقه في نظام مُغلَق تموت، كما أنه يُعزِّز الاشتعال؛ ففي وجوده يزداد توهُّج الشمعة.
تلا هذه الاكتشافات إنشاء معهد لدراسة الغازات، كانت مهمَّته الأساسية سبر أغوار هذه الغازات للحصول على أيِّ فوائد طبِّية منها، كانت الآمال عريضة وقتها أن هذه الغازات المكتشَفة حديثًا قد يكون بعضها مفيدًا طبيًّا.
هذا الاجتراء على البحث فيما لم يَقُم عليه دليل بالتجريب هو ما مكَّن دافي من الوصول لتلك النتائج الهامة والمغايرة، وما حدا به لمواصلة أبحاثه حول هذا الغاز السِّحري ليُسجِّل خواصه الخارقة، أكسيد النيتروز «غاز الضحك» القادر على دَفعِك للانتشاء تمامًا ككئوس الخمر، يسبِّب شعورًا بالراحة فتَنفرِج أساريرك وتَبتسِم، إلا أن دافي أنهى بحثه بجُملة شهيرة تتردَّد أصداؤها طويلًا منذ ذلك الزمن البعيد عن بشارته بالاستخدامات الممكنة لذلك الغاز السحري في عالم الجراحة.
كتب دافي: «غاز أكسيد النيتروز يبدو أنه قادر على قتل الألم الجسدي، من المحتمَل أنه مفيد في العمليات الجراحية غير المصحوبة بنزيف كبير.»
إلا أن موعد هذه البشارة تأخَّر لأربعين عامًا منذ أطلقها دافي، طوال هذه الأربعين عامًا اقتصر استخدام غاز أكسيد النيتروز على الترفيه عن سادة المجتمَع وأثريائه ودفعهم للانتشاء والاستمتاع.
هوراس ويلز طبيب الأسنان الأمريكي هو الذي ضرَب موعدًا لبشارة دافي، كان بصدد تجريب تقنية جديدة لخلع الأسنان، تَستدعي منه ألا يَترك أي جذر أو أثر للسنِّ أو الضرس، وفي سبيل قتل آلام مرضاه قرَّر استخدام غاز الضحك «أكسيد النيتروز» والذي كان حتى اللحظة غاز المتهتِّكين والباحثين عن النشوة، استخدمه ويلز بتركيزات أعلى بعض الشيء ودفَع مرضاه بعيدًا فسلَبهم الوعي وأعادهم في سلام ليكون العام ١٨٤٤ أول ميلاد لهذا السِّحر الجديد، إلا أن المتطوِّع الذي خضع لخلع الأسنان ولاستنشاق أكسيد النيتروز أعلن للعالم أن ويلز ما هو إلا دجَّال وأن الغاز مجرد خدعة، وهو ما دفَع ويلز في العام التالي وفي شجاعة ليُجرِّب الغاز على نفسه أثناء خلعه لسنِّه هو ليُثبت للعالم نظريته وصدق ادِّعاءاته.
في هذه الأثناء كان هناك آخرون يحاولون كذلك الانتصار على الألم وإخضاعه؛ حيث خرج فرانز أنتون ميسمار بنظريته الغريبة عن المغناطيسية الحيوانية والتنويم المغناطيسي، كما ابتكر الياباني هانوكا سيشو خلطته العُشبية السِّحرية والتي أسماها تسوزينسام لدفع النوم لعيون مرضى الجراحات، أما الألماني فريدريك سيرتونر؛ فقد استطاع استخلاص المورفين من نبات الأفيون ومنحه اسم مورفيوس إله الأحلام الإغريقي.
كما استخدم هنري هيل هيكمان غاز ثاني أكسيد الكربون لتخدير الحيوانات.
الأثير، ذرة الأكسجين بذراعيها الاثنتين، من وقتها لم يتوقَّف العلم عن التلاعُب بباقي الذرات، يَزيد ويَحذف ويُغيِّر ويُبدِّل، يُنتج مركَّبات أخرى، يستفيد من إضافة الفلور والكلور واللعب بهما في التركيب الأصلي لتكون سلسلة من المركَّبات الأثيرية، بعضها لم نَعرفه إلا حديثًا، أثبتت جدارة وخلبت الألباب، بل ربما ما زلنا على موعد مع من يُطور منها مركَّبًا جديدًا، وسلاحًا آخر في معركة الألم.
كان مورتون هو الاختيار الأول في سؤال أ.د. محمد عبد اللطيف، وكان أبوت هو الاختيار الثاني.
في ديسمبر من العام نفسه أُجريت جراحتان، إحداهما في ديمفريس والأخرى في لندن باستخدام الأثير.
على الأغلب فحالة ديمفريس كانت لرجل دهسَته سيارة واحتاج لعملية بتر لساقه، والثابت أنه مات فيما بعدُ.
أما في لندن فقد استخدم طبيب الأسنان جيمس روبنسون الأثير لنزع إحدى أسنان سيِّدة.
بعد ذلك بيومين قام روبرت ليستون ببتر ساق فريدريك تشيرشيل مُستخدمًا الأثير كمُخدِّر، والذي قام بإعطائه للمريض أحد طلاب الطب آنذاك يُدعى ويليام سكويريس.
وهو — لو نعلم — خرقٌ علمي هائل، وانتصار بالضربة القاضية على ألمٍ ورعب أرَّقا البشر لآلاف الأعوام، لم يقف الأمر عند القضاء على الألم؛ فقتْل الألم مهَّد الطريق أمام الجراحة لتطرق أبوابًا ولتُجرِّب أشياء ما كان لها أن تصل إليها لولا الأثير والتخدير في العموم، قبل ذلك الكشف الهائل والقفزة المذهلة للبشرية كانت الجراحات تقتصر على تلك السطحية والبسيطة، البتر ربما وإزالة الأورام الناتئة عن الجسد، وربما إزالة الحصوات من المثانة، أما الصدر والبطن والجمجمة فصناديق مُغلَقة، تُغلِّفها تعاويذ الألم والعذاب، ويستحيل الاقتراب منها.
يُروى أن جرَّاحًا مميَّزًا، أحد نوابغ ذلك العصر القديم، يُدعى ليستون، كان يقوم بجراحة لأحد المرضى لاستخراج حصوة من المثانة، فقيَّدوا المريض جيِّدًا، كما كان لليستون مساعدٌ مفتول العضلات استلقى فوق المريض وبدأت الجراحة.
المريض صرَخ من الألم، وتحت تأثير دفقات الأدرينالين التي ملأت شرايينه وجسده نزع نفْسه من القيود ودفَع المساعد مفتول العضلات، ثم اندفع خارجًا من الغرفة التي تُجرى بها العملية إلى الردهة، ومنها إلى المرحاض حيث اختبأ ورفَض الخروج رغم توسُّلات الجميع وبينهم ليستون الذي أُسقِط في يده.
حتى استطاع أحد الرجال كسرَ باب المرحاض واقتحامه وإجبار المريض المفتوح أسفل بطنه على الخروج ليَحملوه من جديد إلى طاولة العمليات ليُواصل ليستون ما بدأ.
ما معناه أن خدعة اليانكي هذه — واليانكي اصطلاح كان يَستخدمه الإنجليز لوصف الأمريكان، خدعة اليانكي هذه؛ أي الأثير — هزمَت الميسمريزم، نسبةً لفرانز أنتون ميسمار والذي قال بنظرية المغناطيسية الحيوانية والتنويم المغناطيسي كما ذكَرنا، خدعة اليانكي هذه هزمَت ميسمار ونظرياته تمامًا.
في وقتٍ قريب من هذه الأحداث العظيمة قام البروفيسور الاسكتلندي جيمس سيمبسون، طبيب الولادة باستخدام الكلوروفورم كمخدِّر للمرة الأولى للنساء ليتخلَّصنَ من آلام الوضع، وسرعان ما انتشر استخدام الكلوروفورم كمخدِّر، خاصة وأنه تميَّز بكونه لا يُساعد على الاشتعال ويعمل بشكل سريع نسبيًّا ويَسهُل استخدامه، إلا أنه وبعد عام أو أقل من استخدامه سُجِّلت أول حالة وفاة منه، وساعتها ثار جدل: هل السبب في هذه الوفيات الاختناق وتأثيرات الكلوروفورم على التنفُّس، أم أن له تأثيرًا مباشرًا على القلب؟ الثابت الآن أن للكلوروفورم تأثيرات ضارة على القلب، وقد يُسبب ارتجافَه.
وقتها سُجِّلت كذلك حالات أصيبت باليرقان «الصفراء»، وبفشلٍ كبدي عقبَ تعاطيهم للكلوروفورم.
في العام ١٨٤٨ استطاع جون سنو أن يَبتكر مبخرًا للكلوروفورم، استطاع به التحكُّم في جرعة الغاز المخدِّر التي تصل للمريض مخلوطة بالهواء الذي يتنفَّسه، وهو ما قلَّل كثيرًا من مضاعفات الكلوروفورم والوفَيات التي قد تَنجم عنه.
جون سنو الذي سجَّل له التاريخ كذلك أنه في العام ١٨٥٣ قد وُلِد على يدَيه الأمير ليوبولد بعد أن قام بتخدير الملكة فيكتوريا مستخدمًا الكلوروفورم، كما وُلِدت بين يديه كذلك الأميرة بياتريس بعدها بأربعة أعوام.
أما عن أول من تحصَّل على الكلوروفورم فكعادة مُنجَزات هذه الأزمان فاكتشاف الكلوروفوم تم بواسطة عدد من العلماء وإن كان كلٌّ منهم قد توصَّل له بشكل منفرد.
في ذلك الوقت وتحت تأثير سِحر ذلك المركَّب الجديد ظهر العديد من الشائعات التي عزَّزتها تلك الخواص المذهلة وبعض روايات كتاب الأدب البوليسي وخيال العامة المتَّقد، فانتشرت بينهم كجائحة قصص عن عصابات تَستخدم مناديلَ مبلَّلة بالكلوروفورم، فقط تَضغطها للأنف والفم ومع أول أنفاس الضحية يذهب وعيُه ليُصبح هدفًا سهلًا لأي شيء تالٍ كالسرقة أو الخطف.
الثابت أنَّ هذا مستحيل؛ فلِكَي يذهب وعي الشخص بالكلوروفورم يحتاج أن يتنفَّسه لخمس دقائق متواصلة تقريبًا.
لكن ليست هذه أيضًا كل القصة، ربما وصلنا لآخر فصول المخدِّرات الاستنشاقية التي نَعرفها حتى الآن، لكن عقاقيرنا لم تكن أبدًا قاصرة على تلك الفئة؛ ففي العام ١٨٨٤ شهدت فيينَّا أول استخدام للكوكايين كمخدِّر موضعي؛ حيث استخدمه د. كارل كولر عند إجرائه لعمليات العيون، يذكر أن د. كارل كان أحد أصدقاء الشهير سيجموند فرويد.
طوال هذه الأعوام لم يُعتدَّ بالتخدير كعلم ودراسة، كان مجرد ممارسة قد يقوم بها جراحون أو أطباء أسنان دون مؤهِّلات خاصة أو دراسة أو تدريب، لكنه وفي العام ١٨٨٩ وفي كلية فلادلفيا للأسنان تم تعيين البروفيسور هنري دور ليكون أول بروفيسور في علم طب الأسنان والتخدير والمواد المخدرة.
لكنَّ العالم لم يَعرف بروفيسورًا مختصًّا بعلم التخدير فقط إلا في عام ١٨٩٢ حيث تم تعيين البروفيسور جورج لينينجر ليشغل هذا المنصب في الكلية الأمريكية لطب الأسنان بشيكاغو، أما أول بروفيسور للتخدير في كلية طب فقد كان بروفيسور دريسدال بوتشنان؛ حيث عُيِّن في كلية نيويورك للطب والعلاج بالهوميوباثي عام ١٩٠٣.
وغيرها كثير من القياسات الأخرى التي تتمُّ إضافتها وفقًا لطبيعة الحالة المرضية ومدة العملية ونوعها.
د. ووتر أدخل كذلك الثيوبنتال كمخدِّر وريدي، وكذلك السيكلوبروبان كمخدِّر استنشاقي، واستحق رئاسة الجمعية الأمريكية للتخدير عام ١٩٤٥.
أما أول من تقلَّد منصب رئيس قسم التخدير في العالم فقد كان بروفيسور روبرت ماكينتوش عام ١٩٣٧.
بروفيسور ماكينتوش الذي منحَتْه الملكة لقب فارس، وإن لم يُمنح اللقب لإسهاماته الفاعلة في عالم التخدير، فقد مُنح اللقب نظير جهوده في تطوير سُترات نجاة الطيارين.
ولكي نُدرك كيف كانت الأمور في غاية البدائية في ذلك الزمن البعيد بالنسبة لما كان يَمتلكه طبيب التخدير كي يقوم بعمله وكي يَعتني بالمريض ليَعبر به في سلام يكفي أن نقول إنه ومنذ استخدام الأثير في التخدير لم تكن هناك أي وسيلة تقريبًا لتحديد عمق التخدير المستعمَل، إلى أي درجة دفعنا المريض في عالم الظلام، وهل كاد يَقترب من قعر البئر أم أنه ما يزال آمنا؟ لم تكن هناك أي وسيلة لاختبار عمق التخدير حتى ثلاثينيات القرن الماضي إلا محاولات بسيطة وغير مُكتملة لعدد من رواد التخدير مثل جون سنو وغيره.
اقترح جويدل طريقة لتحديد عمق التخدير بالأساس مع الأثير؛ حيث كان وقتها يُستخدم كعامل منفرد للتخدير، فقط كان المرضى يتلقون المورفين والأتروبين كأدوية ما قبل التخدير ثم يتم الاعتماد على الأثير تمامًا لبدء العملية ومواصلتها حتى النهاية، وحدَّد جويدل عدة مراحل كل منها تمثِّل درجة على سلم غياب الوعي، مُستعينًا بتنفُّس المريض وتقييمه له وحركة عضلات الصدر وكذلك حدقة العينين ومدى اتساعها أو ضيقها.
كما أنه وبظهور المخدِّرات الوريدية والتي بدأت بالثيوبنتال ثم الكيتامين والإتوميدات والبروبوفول واستخدامها كعوامل بادئة للتخدير حيث تَستغرق كي تُعطي تأثيرًا مدة سريان الدم من الذراع للرأس، وهو وقت يقلُّ عن الدقيقة، أدَّى استعمالها إلى التقليل كثيرًا كذلك من جدوى تصنيف جويدل لدرجات الوعي؛ حيث أصبحت المخدِّرات الاستنشاقية تُستعمل فقط في معظم الحالات كاستكمال لبدء التخدير للحفاظ على غياب الوعي طوال باقي العملية.
بالطبع اختلف الحال اليوم تمامًا، وقد صار كل شيء محسوبًا ومسجَّلًا وسابق التقييم، استفاد ذلك العلم الناشئ من تراكم جهود الباحثين ومن القفزات الإنسانية في كل المجالات الأخرى، فتنوعت وسائله وعقاقيره والأجهزة التكنولوجية التي تخدمه، من وسائل للقياس والمعايرة، ولكلٍّ منها قصة ومراحل للتطور والتنوع تدلُّ على قفزة نوعية ضخمة جدًّا في مدًى زمني قصير جدًّا.