سعاد نصر؛ التخدير دومًا متهم
في كل مرة تتعرَّف فيها على شخص جديد تتطلَّعان إلى مفاتيح للحوار، أحيانًا تلجآن لأسئلة معتادة عن الحال والصحة، وأحيانًا تتكلَّفان الحرارة، وغالبًا ينتهي الحوار إلى مجاملات سريعة وتحيات.
لكنني كنتُ دائمًا جاذبًا لسؤالَين لازماني على فترات زمنية مُختلفة، في طفولتي وصباي كان السؤال التالي لسماع اسمي: «تعرف أحمد سمير المذيع؟» تخيَّل طفلًا في السادسة يُسأل هذا السؤال، بالطبع لم أكن أعرفه حينها، لكنَّني تعمدتُ البحث عنه في نشرة أخبار التاسعة، أحمد سمير الإعلامي الذي لازمني السؤال عنه لسنوات ليست بالقليلة، وحتى بعد أن تُوفي بالأزمة القلبية في أواخر عام ١٩٩٥، ظلَّ السؤال عنه مُفتتَح معظم الأحاديث معي، هل أعرفه وهل أتمنَّى أن أكون مثله، ثم يتشعَّب الحديث إلى هل أشبهه، وهل لي نفس صوته الرخيم، كان وقتها أحمد سمير هو أشهر مقدِّمي النشرة في التلفزيون المصري، وقتَ أن كان تليفزيون الدولة هو صاحب اليد العليا في كل بيت قبل غزو الفضائيات، وقتها كان أقصى أمانينا أن يَلقط إريال التلفزيون بالصدفة أي إشارة عابرة، ربما يسرقها من دش قريب وحيد في كل المنطقة.
وقتها كان أحمد سمير مُذيع الدولة الرسمي أذاع خبر انسحاب الجيش المصري في ٦٧ وأذاع خبر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وفي أوائل عهد الرئيس مبارك كان مسئولًا عن تغطية معظم رحلاته، بالإضافة لكتابته لعدد من الروايات وسيناريوهات الأفلام، ورئاسته القناة الأولى في التليفزيون المصري.
أما السؤال الثاني فطارَدني منذ أول يوم عملٍ لي كطبيبِ تخدير: «كيف توفيت سعاد نصر؟» أغلب من أُقابلهم للمرات الأولى وبعد أن يَعرفوا أنني طبيب تخدير يجري على ألسنتهم هذا السؤال، سعاد نصر الممثِّلة التي ذهبت لإجراء عملية لشفط الدهون فتوقَّف قلبها واحتاجت لإنعاشٍ قلبي رِئوي لعدة دقائق قبل أن تستعيد وظائفَها الحيوية لتدخل في غيبوبة تقترب مدتها من العام قبل أن تُوافيها المنيَّة.
واحدة من أشهر ممثِّلات الكوميديا في الثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية، مثَّلت مع الفنان محمد صبحي في جُلِّ أعماله المميَّزة؛ مسرحية الهمجي وسمبل رحلة المليون ويوميات ونيس.
لتُفاجأ مصر بها تتصدَّر صفحات الجرائد، لكن ليست الأخبار عنها بخصوص عمل فني جديد أو حوار حصري أو حتى إعلان مدفوع الأجر، بل بخصوص حادث وقضية واتِّهامات بإهمال طبي.
وُجِّه الاتهام لطبيب التخدير في البداية قبل أن تنتهي تحقيقات النيابة وتأمُر بحفظ القضية، لكن بعد ما يقلُّ قليلًا عن الثلاثة أشهر تقدَّمت أسرة الفنانة للنيابة بأدلة جديدة فأعادت النيابة التحقيق، لتأمُر هذه المرة بتحويل القضية للمحكمة بعد أن جاءت التقارير تدين الطبيب؛ حيث إنه لم يُجرِ للفنانة التحاليل الروتينية ورسم القلب قبل العملية ليتأكَّد من حالتها العامة قبل أن يبدأ التخدير، كان هذا هو دليل الإدانة الذي دفعَت به أسرة الفنانة المرحومة وقد أثبتَته التحقيقات والتقارير.
لتَنعقِد المحكمة بالفعل وتنتهي بالحكم على طبيب التخدير بالحبس عامًا مع إيقاف التنفيذ، لتُبرِّر ذلك الحكم المخفَّف بأن هيئتها الموقَّرة قد راعت سنَّ المتهم، كما أنها قد اطلعت على ما يُفيد تصالُح طبيب التخدير المتَّهم مع أقارب الممثِّلة عدا والدتها التي لم تشملها وثيقة التصالح، فاكتفت بهذا الحكم المخفَّف وبما لاقاه الطبيب من عنتٍ طوال فترة التحقيقات ومراحل التقاضي.
لكن ماذا حدَث بالفعل؟
يبدو الأمر غيبًا وتعمية رغم أن التسريبات والتكهُّنات، ومن الأيام الأولى وربما حتى اليوم، ادَّعت أنه أثناء تعديل وضع الفنانة المتوفَّاة سعاد نصر خُلعت الأنبوبة الحنجرية ولم ينتبه لذلك أحد، الأنبوبة الحنجرية المسئولة عن توصيل الأكسجين والمخدِّر والأنفاس للمريض أثناء التخدير الكلي؛ مما حرَمها من التنفُّس وأدَّى لما آلت إليه الأحوال؛ نقص في تشبُّع الدم بالأكسحين؛ مما أدَّى لتوقُّف عضلة القلب التي استعادت ضرباتها بعد الإنعاش القلبي الرئوي، لكن ذلك الوقت الذي حُرم فيه المخ من الأكسجين كان كافيًا لإحداث أضرار دائمة، سبَّبت الغيبوبة والتي انتهت بالوفاة.
كما ذهبَت الأقاويل إلى أن طبيب التخدير كان قد وضَع مريضَين أو ربما أكثر تحت تأثير التخدير؛ مما جعَله غير موجود بغرفة المرحومة سعاد نصر وقت حدوث المشكلة ووجوده بعد أن ساءت الأمور وقيامه بالإنعاش القلبي الرئوي.
قيل أيضًا بعد أن صدر الحكم وثبَت التصالح إن الطبيب قد دفَع مبالغ مالية لأهل المتوفاة على سبيل الدية أو التعويض أو كيفما كان، وتناثَرت تكهُّنات بأرقام عديدة لتلك المبالغ وإن كانت جميعها تَنحصِر في أرقام بملايين الجنيهات.
إلا أن السؤال بقيَ كذلك بلا إجابة، فهناك ادِّعاء من طبيب التخدير بخلاف ذلك؛ وهو أن المريضة توقفت عضلة قلبها دون سبب جليٍّ بعد حقن المخدر.
بالفعل المخدِّر يسبب هبوطًا في وظائف القلب وقوة ضرباته، لكن هل يكفي لتوقفه؟ قد يفعل، وإن تطلَّب ذلك تأثُّر القلب بعاملٍ أو عوامل أخرى أثرت فيه على الأغلب.
لكن هل هذا ما حدث بالفعل، أم خُلعت الأنبوبة، أم — كما ادَّعى أحدهم في المحكمة — أن الطبيب قد وضع الأنبوبة بالأساس بشكل خاطئ ليُمرِّرها إلى المريء بدلًا من أن تمرَّ من بين الأحبال الصوتية إلى القصبة الهوائية دون أن يَنتبه؛ وبالتالي فقد حُرمت الفنانة من الأكسجين والتنفُّس؛ لكن ولكي يُسهم الإنعاش القلبي الرِّئوي في عودة النبض للقلب يجب أن يتمَّ تعديل موضعها لتمرَّ إلى القصبة الهوائية كي تَرتفع تركيزات الأكسجين في الدم من جديد ويَستعيد القلب خفقاته.
لكن السؤال ما زال هكذا بلا إجابة: ماذا حدَث بغرفة العمليات؟
يقول الدكتور عبد الرحمن فتح الله رئيس قسم التخدير الأسبق بكلية طب قصر العيني وأحد ألمَع الأسماء في المجال، وهو يُعطي رأيه الاستشاري للمحكمة بعد أن سألته هيئتها ذلك للاسترشاد برأيه وخبراته، وبحسب ما أوردته الصُّحف في ذلك الوقت، فقد صرَّح بأن معرفة حقيقة ما حدَث في داخل غرفة العمليات يبقى أمرًا خفيًّا لا يعرف تفاصيله إلا طبيب التخدير الذي قام بتخدير المريضة؛ فهو الوحيد الذي يعرف ماذا حقَن؟ وكيف حقَنه؟ وكيف استكمل مراحل التخدير؟ كيف أوصل أجهزته وخراطيمه؟ وكيف تدهوَرت حال مريضته؟ ومتى؟ وربما لماذا؟ يبقى الأمر غيبًا لا يلمُّ بتفاصيله إلا الطبيب الذي قام بالتخدير، وربما تفيد شهادة الموجودين.
خلُصت النيابة ومن بعدها المحكمة إلى أن الطبيب مُخطئ؛ لأنه لم يُعنَ بإجراء التحاليل الروتينية ورسم القلب، وهي إجراءات يجب أن تُتَّخذ مع كل مريض سيقوم بإجراء أي تدخل طبي.
يجب الحصول على تاريخٍ مرَضيٍّ كامل من المريض وإجراء كشف على وظائفه الحيوية وفحص لأجهزة الجسم الرئيسية، ثم القيام ببعض الاختبارات المعملية الروتينية كصورة الدم الكاملة واختبارات النزف والتجلُّط وبعض وظائف الكبد والكلى ورسم القلب لمن تخطَّى سنًّا معينة، وبالطبع إذا ما ظهر أي خلل في نتائج هذه الفحوص أو الاختبارات فقد يَستدعي الأمر فحوصات أو اختبارات أكثر عمقًا وتخصُّصًا، أو إجراءات مختلفة يتعيَّن الالتزام بها قبل وأثناء وبعد التدخُّل الطبي المطلوب، وربما يتم تأجيله أو إلغاؤه أو القيام به مع الإقرار بوجوبه رغم خطورة إجرائه.
لكن ماذا حدث بالضبط داخل غرفة العمليات؟ يبدو أن الأمر كان غيبًا وسيظل.
في مصر لدينا مشكلة كبيرة جدًّا في التوثيق، وفي اتباع إرشادات الأمان العامة بحذافيرها، وكذلك في مناقشة تفاصيل الأخطاء إن وُجدت بحيادية وصدق وتجرُّد.
في مصر الطبيب دومًا متَّهم، والخدمة دائمًا سيئة؛ لأننا ببساطة لا نملك معايير حقيقية للتقييم، والأدهى أن أغلب الأخطاء يتمُّ التعتيم عليها لأنَّ النظام لا يحمي أحدًا؛ وبالتالي متى استطعت تلفيق الأمور فهذا يصبُّ في الصالح، وهو درس يتمُّ تلقينه في كل ركن في مصر.
وأكبر النيران من مُستصغَر الشرر.
في رواية، ربما حدثت أو لم تَحدث كما سأرويها، ربما كانت أو لم تكن، لكن على الأقل متوقَّع لها أن تحدث في ظل فجوات في الأنظمة الحالية.
يُروى أن صبيًّا حضَر مصابًا في حادثٍ ما بكسر وتهتُّك بالأنسجة، واحتاج لتخدير كلي، وفقَد كمية من دمه احتاجت لنقل دم، وهو ما كان، إلا أنه وبعد فترة لوحظ تلوُّن بوله الذي يتمُّ تجميعه من القسطرة في كيس جمع البول بلون دموي أحمر، مع العلم أن العملية كلها تمَّت بعيدًا عن أي ملامسة لجهازه البولي؛ وبالتالي فاحتمال تعرُّضه لأي إصابة غير مقصودة أثناء الجراحة غير وارد.
كان أول الاحتمالات التي خطَرت في أذهان الأطباء حينها أن المريض ربما تعرَّض لنقل دم غير مُتوافق مع دمه.
أوقفوا بالفعل نقل الدم، ثم قارَنوا فصيلة الدم المكتوبة على كيس الدم بتلك المسجَّلة في ملف المريض، لتكون الصدمة، المريض تلقَّى ما يزيد عن ٢٠٠ مللي من دم غير مُوافق لفصيلته.
الغريب أنه وبحسب الرواية لم يتأثَّر الصبي المصاب والذي تلقَّى دمًا مخالفًا لفصيلته.
في الظروف العادية كانت كمية أقل بكثير من تلك التي ضُخَّت في أوردة المريض كافية لتسبيب صدمة، وهبوط في الدورة الدموية، وانخفاض في الضغط، وازدياد مطَّرد في ضربات القلب، وضيق في الشُّعَب الهوائية، وفشل كلوي لاحق، وعلى الأغلب الوفاة.
تمَّ التأكد من العلامات الحيوية للمريض وإفاقته عقب انتهاء العملية، وضخ محاليل وريدية للحفاظ على الكليتين، وإعطاء مُدِرَّات للبول، ومتابعة وظائفه الحيوية، وإجراء تحاليل دورية للتأكد بشكل دوري من استقرار الحالة، وبالفعل نجا المريض دون التعرُّض لأيٍّ من المضاعفات الخطيرة لنقل دم غير مُتوافق معه، والتي على الأغلب والمفترض أن يُودي بحياة ذلك المريض، لكن المستحيل تحقق دون معرفة السبب، لو صدَقت تلك الحكاية.
في قصة الدم تلك وكما رَويتُ سنجد أن ذلك الكيس الذي أُعطيَ عن طريق الخطأ كان يخص مريضًا آخر سبق وأن أجرى عملية طارئة في ذات الغرفة، بتْر أعلى الركبة، لكن القصة لم توضح إن كان قد تم طلب أكثر من كيس وأُعطي المريض واحدًا فقط أم ماذا، بحسب الرواية كذلك فأثناء مرور أحد الأطباء الأكبر قد رأى الكيس وسأل عنه وأمَر بردِّه للمريض إن كان في حاجة له ليُنقل له ما يحوي من دم أو تسليمه لبنك الدم، لكن هذا لم يَحدث، وعندما تمَّ تخدير ذلك المريض واحتاج لنقل الدم وطُلِبت بالفعل الأكياس التي تمَّ توفيرها له، اختلطت بذلك الكيس الغريب والخاص بالمريض السابق واختلطت الأمور، وحدثت الكارثة.
بالإضافة إلى قائمة طويلة من المَحاذير والتعليمات الإرشادية التي يجب اتِّباعها حتى لا يَحدث مثل هذه الأخطاء؛ منها بالطبع أن يكون أمر نقل الدم واضحًا ومدوَّنًا، والتأكُّد من كل البيانات قبل نقل الدم وتوصيله بالمريض الاسم والفصيلة والأرقام المسلسلة، التأكُّد بعد كل جراحة من أن المريض الذي أُجريَت له العملية، ليست له أكياس دمٍ تخصُّه لم يتمَّ نقلها معه.
في تلك القصة لو صحَّت فالخطأ مركَّب من ذلك الذي طلَب دمًا أكثر من احتياج المريض السابق، وعدم التأكُّد من عدم وجود أكياس دمٍ أو مُشتقاته تخصُّ مريضًا سابقًا وجرد الغرفة عند اكتشاف الأمر مصادفةً، والتراخي في تصحيحه، وعدم التأكُّد من الاسم المدوَّن والفصيلة والأرقام المسلسلة من ذلك الذي قام بتوصيل كيس الدم بالمريض، وقد كان متدربًا صغير السن، ويُروى أنه قد غير تخصُّصه الطبي بعد هذا الحادث رغم مروره في سلام بالنسبة للجميع.
لكن يبقى الخطأ الأكبر أنه وعند اكتشاف هذه الأزمة ونظرًا لمرورها في سلام لم يتمَّ استقصاء الأمر ومحاولة تحديد مكان الخلل لتصحيحه في كل ما هو تالٍ وللفْت الأنظار، الخطأ الأكبر الثاني هو مرور هذا الحادث الغريب نسبيًّا دون استغلاله علميًّا للاطلاع على سبب مرور الأمر في سلام بما يُخالف الأصل الطبي المعروف والمؤكَّد بطريقة تقترب من الاستحالة.
ربما تترسَّخ تلك الثقافة في مجتمعاتنا بعكس الغرب الذي يَنقد ذاته طوال الوقت ويسائل النظام طوال الوقت، وأعتقد أن ذلك يرجع لعدة أسباب؛ منها أن نظام العقاب عندنا يَذبح ولا يعتمد غير ذلك؛ فالاتهامات كلها تُوجَّه للطبيب وقد يَصل الأمر لحبسه عددًا من السنوات ولتعويضات ضخمة تزيد عن قدراته.
لكن كيف يكون الردع إذًا؟
في مصر إرث طويل من التنصُّل من المسئولية، ليس فقط على مستوى التنصُّل من الخطأ أو محاولة الالتفاف عليه، فربما يكون ذلك سلوكًا إنسانيًّا بشريًّا طبيعيًّا.
لكن في مصر الكل يحاول ألا يكون موجودًا، يَتلافى التوقيع على الأوراق إلا لضرورة حتمية، يخشى التصريح بأي شيء، يَكتم رأيه ويسير داخل الحائط؛ وذلك نتيجة ثقافة عدم المواجهة وأنك متى سرتَ «جنب الحيطة» فقد نجوت؛ يبدو ذلك في أكبر صوره حين تنظر للمجتمع وكيف يتعامل مع مشاكله الاجتماعية الكبرى كالتحرُّش وغيرها، فتجده إما مُنكِرًا لها أو مبرِّرًا أو متعايشًا في صمت.
لا يقف الأمر عند هاجس المشي «جنب الحيط» أو حتى في داخله، وفكرة «لم يَحدث شيء»، و«كلُّه تمام»، لكن هناك غياب في كثير من الأحيان لتوصيفات العمل والمسئولية، فيختلط كل شيء ويُصبح الكل مسئولًا وغير مسئول في ذات الآن، كما أن لدينا أزمة كبيرة في الاعتناء بالتوثيق أو إدراك قيمته أو تنفيذه بكفاءة ووعي.
وفي النهاية الاعتقاد والتسليم بأن لا شيء سيتغيَّر وأنه لا مغزى من العقوبة.
في حادث قريب بأحد مستشفيات التأمين الصحي، تمَّ نقل دم لمريض يتعافى من جراحة كبيرة في القلب، وكان الدم غير متطابق مع فصيلته؛ مما أدى لصدمة، وفشل إسعاف المريض وتُوفي في الحال.
الثابت ومن التحقيقات أن هذا المريض لم يكن في ملفِّه ما يُشير إلى أمرٍ بنقل الدم، ورغم ذلك فقد تسلَّمت الممرضة كيس دم يَحمل ذات اسمه وقامت بنقلِه، مما أدَّى لما حدث.
والثابت أيضًا أنه وفي تلك اللحظة كان هناك مريضٌ آخر بالمستشفى يحتاج لنقل الدم ويَحمل ذات اسم المريض الأول الذي تُوفي فيما بعدُ.
هناك خطآن: الخطأ الأول هو نقل الدم دون أمرٍ مدوَّن من الطبيب، والخطأ الثاني هو نقل الدم دون مراجعة كافة البيانات، والاكتفاء بالاسم دون التأكُّد من الرقم المسلسل الفريد للمريض وفصيلته، هذا بالطبع إن صحَّت رواية الصحف التي أوردت الخبر.
أمرٌ كهذا ليس حلُّه بمجرد عقاب الممرضة أو حبسها، هذا خلل كبير في النظام يَستدعي مراجعات ضخمة، بدءًا من طريقة الأوامر الشفهية المعمول والمسلَّم بها والتي تحدُث تحت ضغط العمل والزحام وقلة أعداد الأطباء أحيانًا، وبسبب الكسل والتواكل وعدم الاعتناء في أحيان أخرى، لم يهتم أحد أو حتى الوزارة بإبراز ذلك ومحاولة علاجه أو التعامل معه.
الخطأ الثاني هو نقل الدم بناءً على الاسم المدوَّن فقط، وهو أمر يَستدعي مراجعة نظُم تدريب العاملين وتلقينهم الإجراءات المتَّبَعة وأهميتها وأهمية الالتزام بكل صغيرة وإن بدَت غير مهمَّة؛ فهي التي تصنع نظامًا صلبًا يَصعب وقوع الخطأ في وجوده.
هذه هي الفلسفة الأهم في علاج الأمر؛ فلسفة تُحاول منع تكرار الخطأ بالأساس؛ وذلك عن طريق تطبيق نظام صلب ومجرَّب وتعديله ليُصبح أكثر إحكامًا مع كل تقييم أو بزوغ خلل.
لكن على الأغلب ينتهي المطاف بمجرَّد توقيع عقوبة على المخطئ وكفى، دون مساءلة وتعديل لكلِّ النظام، وهو ما يُسبِّب شعورًا باللاجدوى واللامعنى؛ فالإبلاغ عن الخطأ الذي مرَّ دون أن يُسبِّب ضررًا واضحًا في هذه المرة هو نعمة من السماء، والإبلاغ عنه لن يَمنع شيئًا في المستقبل؛ فلا شيء يتغير؛ وبفلسفة أحيانًا لا تُعنى إلا بتطبيق العقاب كإجراء ربما يكون انتقاميًّا أو مهدئًا أو جزاءً وفاقًا لما جناه المخطئ، ودون نظرة أبعد وأشمل لفائدة أعمَّ للخدمة والمجتمع.
في مثالنا الأول لكيس الدم الذي اختلط بذلك الذي كان لمريض آخر، مَن يُمكن تعيينه ليكون مخطئًا؟ الطبيب الذي نقل الدم رغم أنه صغير وحديث العمل وربما لمَّا يتلقَّ التدريب الكافي؟ أم الذي وضعه في هذا المكان؟ أم الطبيب الأكبر الذي لم يُتابعه؟ أم الطبيب الآخر الذي لاحظ وجود الكيس وأمر برفعِه دون أن يقوم بذلك بنفسه ويتأكَّد منه؟ أم عمال التنظيف الذين نظَّفوا الغرفة دون رفع الكيس القديم؟ أم طبيب تخدير الحالة الأولى أم طبيبها المعالج؟
لننتقل لسيناريو آخر يوضِّح كيف تكون الأخطاء متراكبة جدًّا وربما أكثر من السيناريو السابق.
يُروى أنه في ليلةٍ بإحدى الرعايات، ونظرًا لقلة عدد الحالات بالرعاية المركَّزة الجراحية، ولغياب بعض الممرِّضات لظروف خاصة؛ فقد جرى ندبُ مُمرضة من الرعاية الجراحية لأحد الأقسام بأمر مُشرفة التمريض، رغم معارضة طبيب الرعاية؛ لأنه من المحتمَل أن تدخل حالات أخرى للرعاية، ولكنه نظام العمل، فوقف اعتراضَه عند تلك الحُجة ولم يُصَعِّد الأمر.
مر نصف الليل، ودخَل للرعاية مريض جديدٌ؛ مما استدعى طلب مُمرضة للعمل، هنا قامت مشرفة التمريض بندب ممرضة أخرى غير تلك التي تعمل أساسية في الرعاية، وكانت حجَّتها أنها انتدبت الأولى لرعاية أخرى للقلب، وتسلَّمت حالات بالفعل واعتنت بهم، وكان من الصعب أن تتركهم، فكان الحل أمامها هو ندب ممرضة من الأقسام الداخلية، وهنَّ بالطبع أقل تدريبًا وغير معتادات على عمل الرعايات أو مؤهَّلات له بشكل كامل، لكن لا حلول بيدها غير ذلك، وهو ما كان.
كان قرار طبيب الرعاية الجراحية أن تتولَّى ممرضة الأقسام الداخلية المنتدَبة هذه أقل الحالات احتياجًا لتدخُّلات أو لعناية.
كانت تحاليل هذه المريضة تُشير لنقص بعنصر البوتاسيوم بالدم؛ مما تطلَّب ضبطَه عن طريق ضخ محلول البوتاسيوم كلورايد عن طريق قسطرة وريدية مركزية، وهو ما كان.
أمرها الطبيب أن تضخ البوتاسيوم بمعدَّل عشرة سنتيمترات.
قالت في خوفٍ وارتباك وبراءة وهي مُنكمشة: أبدًا، قمتُ بحقن العشرة سنتيمترات بوتاسيوم كما أمرت.
صرَخ الطبيب في طلب أمبول كالسيوم وأمر بحقنه فورًا، استعاد القلب خفقانه بشكل سريع وقبل حقن أول أمبول أدرينالين ضمن خطوات الإنعاش القلبي الرئوي.
ربما مرَّ الأمر في سلام بحسب السيناريو، لكن ربما لم يكن ليمُرَّ، هل الخطأ هنا خطأ النظام الذي يَسمح بمثل تنقُّلات التمريض هذه؟ أم خطأ مشرفة التمريض التي لم تأمُر بعودة الممرضة الأصلية إلى مكانها الأصلي؟ أم خطأ الطبيب الذي قال بمعدَّل عشرة سنتيمترات دون أن يُكمل الجملة قائلًا: عشرة سنتيمترات في الساعة؛ مفترضًا أن الممرضة قد فهمت، أو فعَل ذلك بشكل معتاد لم ينتبه له ولجُملته غير المكتملة؟ أم الممرضة التي لم تهتمَّ بالتأكُّد من معاني الجمل أو لعلها ظنَّت الفهم؟
ليتعقَّد ذلك السيناريو أكثر تخيَّل أن الممرِّضة قد أوصلت المضخَّة فعلًا ولكنها أخطأت في ضبطها، أو ليتعقَّد أكثر وأكثر فقد قامت بضبطها بشكل صحيح ولكن المضخَّة كان بها خطأ جعلها تعمل بمعدلٍ أكبر ولقلَّة خبرتها لم تُلاحظ، فكيف سيتوزَّع الخطأ ساعتها؟ ومَن سيتحمَّل المسئولية بشكل أكبر.
أعلم أن هذه السيناريوهات مطروحة، وهناك توصيات وخطوط إرشادية للاستدلال بها، لكنها ليست تامة الكمال بالنسبة لكل السيناريوهات، كما أن قيمة الدليل والبرهان في بعضها ليست عالية بالقدر الكافي.
لنَعُد مرة أخرى للأنبوبة الحنجرية وإشاعة أن المضاعَفات كلها حدثت بسبب أنها انخلَعت من مكانها، وهو ما لم يَثبت بشكل قاطع أو يُنفى بشكل حاسم، ولكن بقيَ احتمالًا.
ماذا لو تخيَّلنا سيناريو آخر؟
طبيب تخدير يَعلم تمام العلم أن الصحيح هو أن لكل طاولة عمليات طبيبًا، لا أكثر، وهو ما تم تنفيذه.
في خضمِّ العمل كان هناك أربع غرف عمليات تعمل جميعًا، في إحداها حالة بسيطة لرجل مصاب بقطعٍ في أوتار اليد نتيجة إصابة بجسم حاد، مُصاب تمَّ تخديره كليًّا وتوقف دور طبيب التخدير على الأغلب في هذه الحالة عند مراقبة علاماته الحيوية وتغيير زجاجات المحاليل ومتابعة الجرَّاح في ملل.
للمُصادفة في الغرفة الأولى تم تخدير مريض مُصاب بتمدُّد كبير في شريان الأورطي بدأ بالرشح واحتاج لجراحة عاجلة، معروف أن نِسَب الوفَيات في هذه الحالات وهذه الظروف عالية جدًّا؛ لسببٍ أو لآخر مبرَّر تمامًا توقُّف قلبه واحتاج لإنعاشٍ قلبي رئوي.
الغرفتان الأُخرَيان بهما مريضان حالتهما تستدعي كذلك تدخُّلات دائمة ومباشرة من طبيب التخدير؛ أحدهما مصابٌ بنزيف من الطحال نتيجة حادث، وطبيب التخدير مشغول طوال الوقت بمتابعة علاماته الحيوية المتأثِّرة بالنزيف وضخِّ المحاليل والدم في أوردته وحقن أو ضخ أدوية كثيرة تُحاول التحسين من وظائفه الحيوية.
الآخر كذلك كان مصابًا في حادث انقلاب عربة ومصابًا كذلك بنزيف داخلي يَحتاج لاستكشاف وكسور بالأطراف الأربعة، وطبيب التخدير كان مشغولًا جدًّا بمحاولة تركيب كانيولات وريدية كبيرة وضخ المحاليل والدم ومراقبة العلامات الحيوية والتعامل مع كل خلل فيها.
عندما توقَّف قلب مريض الغرفة الأولى المصاب بتمدُّد في شريان الأورطي الرئيسي وطلب المساعدة، تحرَّك طبيب الغرفة الثانية والمريضِ المصابِ بمجرَّد قطع في الأوتار وحالته مستقرَّة جدًّا وعمليته لا تحمل خطورةً لمعاوَنة الطبيب الأول.
مريض تمدُّد الشريان استجاب وعاد قلبه للخفقان، لكنه سرعان ما دخل قلبه في ذبذبة بطينية (تشبه توقُّف القلب) واحتاج لصدمات كهربية.
استعاد القلب خفقانه لكن المخ غرق في غيبوبة انتهت بالوفاة بعد أسبوع.
للدكتور هشام أبو الدهب — أستاذ مساعد التخدير بطب قصر العيني — كلمة شهيرة حينما يجد الاهتمام منصبًّا على حالة مما قد يؤذي مريضًا آخر دومًا، أذكرها في هذه المواقف: «يا فرحتي لما أبو تريكة جاب جون عالمي في المقص والفرقة شالت ستة!»
أو عندما يجتمع الأطباء من غرف مخدَّر بها مرضى حالتهم مستقرة للمساعدة في حالة خطيرة غير مستقرة وتحتاج لتضافُر الجهود، لتجده يأمر واحدًا بمواصلة المرور على كل الغرف الأخرى وهو يقول: «مش عاوزين ييجي فينا جون تسلل!»
لكن أين الخطأ، هل الخطأ في تخدير حالة المصاب بقطع الأوتار في ظل هذه الظروف؟ وماذا لو فرضنا أنه صائم منذ ١٢ ساعة ينتظر مكانًا في العمليات وعمليته مؤجلة منذ يومين؟ أو لو فرضنا أنه كان مخدَّرًا قبل أن تأتي كل الحالات الطارئة الأخرى؟ فبرغم أن النظام قد ينصُّ على أن يكون هناك طبيب حرُّ الحركة للطوارئ لكنه سيكون في وقتٍ ما مسئولًا عن مريض بمفرده بالتأكيد كما في السيناريو السابق، أم أن الخطأ في الخروج من الغرفة بالأساس للمُساعدة؟ أم أن الخطأ في عدم العودة السريعة؟ أم في أن نظام هذه المستشفى لا يدعم تشغيل فنيِّي تخدير، يُمكن الاستعانة بهم في ظرفٍ كهذا؛ بدعوى توفير النفقات؟ أم في عدم تكليف طبيب آخر غير مختص بالتخدير بمراقبة المونيتور وجهاز التخدير وإبلاغ أي تغير متى حدث؟ لكن هل الحل الأخير يُمكن تنفيذه؟ وهل سيتمكن من متابعة ذلك أو سيتفهم أهمية ما يقوم به، أم أن حلًّا كهذا يحتاج لتدخُّل النظام ككل من أجل التدريب على مواقف كتلك ووضع خطوط عريضة لها.
هذه هي الأسئلة التي يجب أن تشغل المسئولين والرأي العام، لا مجرد الانجراف في تطبيق عقوبات تبدو كانتقام من المهمِل والمخطئ والنظام، دون أن تتجلى فلسفتها الأكبر في العلاج المستقبلي للموقف.
أخيرًا ما هو العقاب المناسب ولمن يُوجَّه؟
أحد الأخطاء الشائعة كذلك في العالم كله حقنُ العقاقير بالخطأ، تَمتلئ الكتب والمواقع العِلمية بحالات مُتناثرة وكثيرة عن أدوية تُحقن بالخطأ، بعضها يمر بسلام وبعضها يُسبب مضاعفات ضخمة.
أذكر أنه وفي بداية عملي كطبيب تخدير تلقَّيت أمرًا بإعداد الأدوية المخدِّرة، ووقتها لم يكن بالمستشفى اللواصق الملوَّنة التي تحمل أسماء الأدوية، وبمجرد تعبئة السرنجة بالعقار المطلوب والتركيز المطلوب، فقط تَلصق الملصق الملون عليها لتمييزها، كنا نكتفي بالكتابة على السرنجة بأقلام فلوماستر لا تُمحى من فوق البلاستيك.
فوجئت باستدعاءٍ من طبيب أكبر.
تعلَّمنا أن الأمبول تُحدِّق فيه ثلاث مرات، في كل مرة كمَهووس؛ وأنت تتناوله لتَعبئته، وأنت تقوم بتعبئته، وأنت تتخلَّص من الفارغ.
رغم ذلك تحدُث أخطاء، أغلبها مع تراكم الإرهاق وساعات العمل الطويلة وروتينية الأحداث.
لكن هل كل الأخطاء بشرية أم أن النظام يُسهم فيها؟ وما قدرُ مساهمته؟
بعد أن فرَّغ مُحتويات السرنجة قال لي: لأنك لم تأتِ لي بفارغِ أمبول الأتروبين كي أتأكَّد منه.
في ذلك الوقت كانت أمبولات الأتروبين تُشبه تمامًا أمبولات الأدرينالين، الأمبولان بُنِّيان وصغيران، فقط لون الكتابة هو المختلِف، وكانت حوادث الخطأ بينهما كثيرة وعلى مدار سنوات طويلة.
ظلَلنا أعوامًا كلما قمنا بتحضير الدواء العاكس لعمل مُرخيات العضلات وضعنا الفارغ بجيوبنا حتى نُريَه للأكبر ليتأكَّد، حتى تم تغيير لون الأمبول مؤخَّرًا، لكن لماذا لم يحدث ذلك حينها أو يكون ذلك هو الخيار كحلٍّ أمثل؟ هل لأن أغلب الحوادث تمرُّ بسلام فلم يتم الإبلاغ عنها؟ أم لأنه لا توجد جهة من الأساس تملك سلطة ذلك أو معنيَّة به؟ أم لماذا؟
بمجرد أن قاموا بحقن السكسينيل كولين فوجئوا بارتفاعٍ مُفاجئ وكبير جدًّا جدًّا في ضغط الدم وضربات القلب واضطرابها، ارتفاع قد يُهدد القلب نفسه، وضغط دم قد يسبب نزيفًا داخليًّا.
تعامَلوا مع الموقف الذي مرَّ بسلام، ثم تحرَّوا عن الأمر ليَكتشِفوا أن فنيَّ التخدير قد ملأ السرنجة بعقار يُسمَّى الدوبامين بدلًا من السكسينيل كولين، ولهما ذات الأمبول الشفاف والكتابة باللون الأحمر وذات الحجم، مرةً أخرى نحن أمام خطأ بشري، أسهَمَ فيه إهمال الفرد أو إرهاقه أو أيٌّ ما كان، لكن أسهم فيه كذلك نظام لا يُعنى بالتأكُّد أن لكل أمبول — خاصة تلك الأدوية الخطيرة — أشكالًا فريدة ومميَّزة.
مع سردِ كل هذه الأخطاء والتفاصيل قد يظنُّ البعض أن التخدير شديد الخطورة، رغمَ أن هذا ليس حقيقة الأمر؛ فالأخطاء نادرة لكنَّها على بساطتها مؤثِّرة، وطوال الوقت النظام يحاول تعديل نفسه وتلافي مسبِّبات الأخطاء.
كذلك فكثيرٌ من المضاعَفات التي تَحدث للمريض لا دخل للخطأ الطبي بها، بل هي مُضاعفات واردة ولها نِسَب حدوث قد تتغيَّر مع التطور لكنها تبقى واردة الحدوث، بل إن مضاعفات الأخطاء بالنسبة للمضاعفات الكلية نسبة ضئيلة جدًّا وحالات نادرة.
تبدو الأزمة أن هناك في كثير من الأحيان حالة تربُّص بالخِدمة ومُقدِّميها؛ خاصة مع هجوم يبدو في كثير من الأحيان غير مُبرَّر وغير مبنيٍّ على أساس، وهي أزمة إعلامنا الكبرى؛ فكثير من معلوماته أقوال مُرسَلة بلا دليل، وإشاعات وكلمات تَلقى على عواهِنها لتُصيب ما تصيب دون تحقُّق، وأغلَب ضيوفه من غير أهل الاختصاص، يُلقون بالكلمات دون حساب أو ردعٍ ذاتيٍّ أو مجتمعي، وهو الحال مع الجميع ليس مع الأطباء والخدمة الطبية وفقط، فالمتسيِّد هو صاحب الصوت العالي، سليط اللسان، المتحدث بلا مَرجع واحد أو منطق.
حكى لنا يومًا أ.د. خالد البرلسي رئيس قسم التخدير الأسبق عن حوار تليفزيوني كان قد أجراه في التلفزيون المصري عن مريضٍ أُصيب بفشلٍ كبدي عقب تخديره بمادة الهالوثين، كان الإعلام يدفع بأن الهالوثين هو سمٌّ زعافٌ وأطباء التخدير الذين يستخدمونه تجار سموم وبلا ضمير. أشار الدكتور خالد إلى أن الهالوثين يُسبِّب الفشل الكبدي بنِسَب أكبر من المخدِّرات الاستنشاقية الأحدث، وأن هناك اتجاهًا بالفعل لإيقاف استخدامه عالميًّا لكن هذا لا يَمنع أن المخدِّر استُخدم على مدى عشرات السنوات، وتلك المضاعَفات نادرة، ولكلِّ دواء عيوبُه ومميِّزاته، وإيقاف استعماله بين يوم وليلة دون خطة مدروسة واستحداث بدائل حتى ولو بَدا صائبًا فسيُسبِّب أزمات أكبر وأضرارًا ربما كانت أعنف، وفي النهاية هو عقار ككلِّ العقاقير له مميزاته وفوائده وأضراره.
ربما لم تتوقَّف الحملة وقتها رغم هذه الإيضاحات، وربما رأوا في ردودٍ كتلك إفسادًا للخبر الساخن المثير.
هي ليست محاولات للتبرير أو التبرئة، ولكنها محاولة لوضع الأمور في نصابها، وهذا لا يمنع أن العامة من غير أهل الاختصاص معذورون أحيانًا، خاصَّةً مع عدم شرح الأطباء لكل المضاعَفات وعدم توقُّعهم لها.
الرضا عن الخدمة الطبية، خاصة في مجتمع مُتشكِّك، وظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، ونظام فقير به الكثير من الهدر مع قدر كبير من قلة الوعي؛ هو شيء يَقترب من المستحيل، لكن شرح مشكلات النظام العصية على الحل وشرح أسباب ومضاعفات كل تدخُّل وتقديم حلول وخبرات قد يسهم في تقليل عدم الرضا وتقبُّل الخدمة.
التعامل مع المرضى، ومهارات الحوار، هي أمورٌ يتمُّ تدريسها، ولها امتحانات وتقييمات خاصة، لكن الأغلب يَتعامل معها للأسف كأمرٍ ثانوي أو لا يُنفَّذ إلا في عالم مثالي، وهو عالم لا نعيش فيه؛ ويُبرِّرون ذلك بأنك في ظل ضغط العمل المتواصِل خاصة في مستشفيات الحكومة المزدحمة يَستحيل أن تجد الوقت أو الطاقة للقيام بذلك، ولهم بعض الحق، يُبرِّرون كذلك أنك على الأغلب تتعامل مع مرضى مُستوياتهم التعليمية مُنخفضة وثقافتهم مُتدنية ولن يفهموا كثيرًا مما تُقدِّمه وتعرضه.
لكن بفرض أن الحوار قد تمَّ وشرحت كل التفاصيل، هل يُغْني ذلك في كل الأحيان عن تدهور العلاقة بين الطبيب والمريض وتلاشي الثقة.
أجرى أطباء المخ والأعصاب عملية استئصال ورمٍ بجذع المخ لأحد المرضى، وهي عملية عالية الخطورة، وأطباء المخ والأعصاب من أحرص الناس على شرح المضاعَفات؛ لأنها تتضمَّن في معظم الأحيان إصابة مراكز حيوية بالدماغ بالعطب، وربما تنتهي بالوفاة.
هذا المريض دخَل في غيبوبة بعد العملية، وأمضى بالرعاية المركزة الجراحية شهرًا قبل أن يُتوفى؛ إلا أن أهله لم يتقبَّلوا الأمر، وفي ظل مناخ غير آمن ومُهيِّج على الأطباء والخدمة، وضغوطٍ اجتماعية وأخلاقية، هدَّد أهل المريض الأطباء؛ مما استدعى توقيف العمل لأيام وتمركُز قوة من الشرطة أمام وحدة الرعاية المركَّزة وعمليات المخ والأعصاب.
يُبرِّر أهل المريض ردَّة فعلهم، رغم علمهم بخطورة التدخُّل ومضاعَفاته، بأن المريض كان قد أجرى من قبلُ نفس العملية منذ أعوام طويلة وقد مرَّت بسلام، والطب من المفترض أن يتقدم يومًا بعد يوم، فكيف يَفشل الأحدث فيما نجح فيه الأقدم؟!
وهو تصوُّر يصعب التعامل معه، ويَحمل كثيرَ سذاجة؛ فالعملية تمامًا كإعصار تستطيع ربما التنبُّؤ به وبحجم الدمار، لكنك تبقى أبدًا غير متأكد من كل شيء، ومرورُه بسلامٍ مرة لا يعني مرورَه بسلام في كل مرة؛ رغم تقدم العلم كما تصوروا، بالإضافة إلى أن الورم ذاته في الأغلب تغيَّرت طبيعته وطريقة انتشاره وموضعه الدقيق.
ماذا لو كانت المضاعَفات نادِرةً أو غير متوقَّعة؟
انسداد شرايين الرئتين الناتج عن السائل الأمنيوسي هو أمرٌ شديد شديد الندرة لكنه قاتل، صحيح أن هناك ظروفًا قد تزيد من احتمال حدوثه، لكنه يَبقى قاتلًا خفيًّا يَصعب توقُّع ضرباته، وهي في أغلبها قاتلة، تبريرُ أمرٍ كذلك وتقبُّله مستحيل، خاصة في ظلِّ أجواء غير طبيعية أو صحية، واتهامات تعصف بالأجواء، ونظام قضائي بطيء وغير احترافي في هذه المسائل، ومجتمع يَسهُل فيه الاعتداء على الأشخاص والممتلَكات، وقلق وانعدام ثقة بين كل أطراف الخدمة الطبية، وكلام مرسَل؛ والأهم والأدهى غياب الرغبة والإرادة لتغيير ذلك حكوميًّا ومجتمعيًّا.
تُشير الإحصاءات إلى أن عدد الوفيات نتيجة التخدير الكلي والتي تَجمع كل الأسباب وأغلبها بالطبع مُضاعَفات وليست أخطاءً مباشرة ١٠ وفيات لكل مليون عملية جراحية. في أربعينيات القرن الماضي كانت النسبة وحسب الإحصاءات ٦٤٠ مريضًا لكل مليون، وهذا الانخفاض الهائل يعود للتطور الكبير والتدريب المستمر والممارَسة الجادة.
هكذا يبدو أن هناك عمليات أخطر من أخرى، ومرضى حالتهم العامة أخطر من مرضى، رغم ذلك فنسبة المضاعَفات والوفَيات الناتجة عنها ضئيلة، وحدوثها نادر، وقَدْر الخطأ الطبي بالنسبة لعموم المضاعَفات والوفيات أقل القليل، رغم ذلك فهو مُهم جدًّا لأنه يُمكن عكس تأثيره السلبي وتجنُّبه، كذلك فمساهمته على ضآلتها مؤثِّرة وكبيرة.
بقيَ أن نُشير إلى كيفية التعامل مع الخطأ الطبي؟ وهل يحدُّ العقاب منه؟ وكيف نحقق العدالة؟
بداية وقبل أن نَلِجَ إلى المسئولية الفردية وأسباب الأخطاء التي قد يؤدي التراخي أو الإهمال أو الممارسة الخاطئة إليها، علينا أن نشير بدايةً إلى أن تطبيق النظام الصارم وتحديد أكواد واضحة ومراقَبة تنفيذها هي أول وأهم خطوات التعامل مع جدلية الأخطاء الطبية، وهي أمور أزعم أن النظام الطبي يفتقد العديد من مقوِّماتها. ولذلك أسبابه العديدة والمتداخِلة والمتراكبة؛ كأزمة مجتمعية وإدارية، وأزمة موارد ضخمة تحتاج لحلٍّ مجتمعي شامل وإرادة وعمل طويل الأمد، لا نكاد نرى أولى خطواته المبشِّرة.
نعود للمسئولية الفردية.
يعتقد الكثيرون أن الممارسة الطبية ككل الممارسات البشرية، لا يمكن بأي حال من الأحوال تلافي الأخطاء البشرية فيها.
في خضمِّ دراستي في كلية الطب وفي كثير من المحاضَرات عندما يرغب البروفيسور المحاضر في تلقيننا دروسًا عن الممارسة نفسها والخبرة بها والعمل الميداني والاجتماعي الذي ينتظرنا بعيدًا عن جفاف المعلومة الطبية وحدِّيتها حتى يَصقلنا ويصقل مداركنا، كان يشير إلى أننا نتعامل مع أرواحٍ وحيوات قد يَهدمها خطأ؛ لذا يجب أن نكون يقظين طوال الوقت، غير أن هذه اليقظة والحرص ستُقلِّل جدًّا من الأزمات لكنها أبدًا لن تجعلها تتلاشى، والمهارة تَكمُن في القدرة على التعامل مع مُجرَيات الأمور وتبعاتها.
كان بروفيسير آخر وبعبارة أكثر فجاجة لا يكفُّ عن الهتاف في آذاننا: لكلٍّ منا نحن العاملين في المجال الطبي قبرٌ مكتوبٌ عليه اسم كل واحد فينا يَدفن فيه ضحاياه، وستَخرج أرواحهم لتُطاردكم دائمًا وتقتصَّ منكم وتُفسد نومكم.
مع ممارستي للمهنة أصبح لتلك الجُمل معانٍ أكبر وأكثر ترسُّخًا، ربما تكون هناك أخطاء واضحة، لكن هناك الكثير من المناطق الرمادية كذلك.
قمتُ يومًا بتخدير مريض يُعاني من تمدُّد بالشريان الأورطي، واحتاج بالطبع للكثير من المحاليل، ونقل الدم، ومنشِّطات القلب أحيانًا، وأدوية موسِّعة للأوعية الدموية وخافضة للضغط في أحيان أخرى، بالإضافة إلى بروتوكولات للحفاظ على الكُلى والنخاع الشوكي من الحرمان من الدم نتيجة مراحل وتفاصيل الجراحة.
احتاج الأمر لليلة في الرعاية المركَّزة الجراحية والتأكُّد من كل العوامل الأخرى التي قد تُسهم في ذلك الاضطراب حتى استعاد القلب انتظام ضرباته، ومرَّت الساعات الحرجة في النهاية بسلام.
رغم أن الارتجاف الأُذيني قد يكون حدَث لأي عامل خارج عن قدرة وإرادة طبيب التخدير وبلا خطأ مباشر منه؛ حتى إنه قد حدث بشكل مفاجئ لثلاثة من أصدقائي دون سبب واضح، أحدهم عاد نبضه لطبيعته قبل أن يصل إلى المستشفى، والثاني احتاج لاستخدام جهاز الصدمات الكهربية معه، هناك مريضة كذلك تمَّ تجهيزها لعملية ورمٍ بالمخ وكل فحوصها وتحاليلها كانت مُرْضية، لكن في نهار العملية وهي على منضدة العمليات وقبل بدء التخدير أُصيبت بارتجاف أذيني.
تخيَّل مريضًا توقَّف قلبه واحتاج لإنعاشٍ قلبي رِئوي وبدأتَ في ذلك والمريض لا يستجيب، متى تتوقَّف، لا توجد خطوط حدِّية، الأمر متروك لمدى أمَلِك وستُحاسب نفسك كثيرًا خاصة إذا كنت تقوم بذلك لشخصٍ لا يستجيب رغم أنه من المفترَض أن يعود قلبه للعمل بحسب ما تعرف وحدسك، قرارك بالتوقف هو قرارٌ بالموت، ولا بدَّ أن تتَّخذه في لحظة.
نترك التخوم وأحاديث النفس والمناطق الرمادية ونعود للحالات التي يكون فيها الخطأ واضحًا وتمَّ الإقرار به أو إثباته.
أمام النظام أن يعامل الطبيب المخطئ بشيء من ثلاث؛ إما التعويض، أو المساءلة، وأخيرًا القصاص، وهناك تباين في تطبيق ذلك بين البلدان والثقافات المختلفة.
في حادث الفنانة سعاد نصر صرَّح أحد المحامين أن القانون غير رادع أو كافٍ؛ فهو يُعاقب بعقوبات مخفَّفة تتراوح بين الحبس لستة أشهر أو سنة، وهذه الأخطاء يجب أن تُجابَه بعقوبات أكبر وأشد حتى يَرتدع المخطئ ويتوقف الإهمال واللعب بأرواح الناس، فما مدى صحة هذا الكلام؟ وما هي فلسفة العقاب؟ هل العقاب لتطبيق العدالة أم لمنع الخطأ المستقبلي؟ وما هي العدالة؟
كثير من الدراسات والإحصاءات وآراء الخبراء تُشير إلى خطأ المعتقَد القائل بأن عقاب الأطباء سيؤدي لتقليل الأخطاء الطبية؛ فهو قول عارٍ تمامًا من الصحة، ولا توجد حالة واحدة تُثبته، بل تنفيه الدراسات.
كثير من المراجع تُشبِّه الممارسة الطبية بالطَّيران والطبيب بالطيار، ويتَّخذون من حوادث سقوط الطائرات التي يكون سببها خطأ بشري أو إهمال من الطيار أو قلة خبرة أو أيٌّ ما كان كمثال شارح للظروف المحيطة بالخطأ الطبي وأسبابه وعواقبه.
كان المثال الذي ضربه لتوضيح فكرته هو تحطُّم طائرة تابعة لأحد الخطوط الجوية النيوزيلندية في يونيو ١٩٩٥، هذه الرحلة عانت صعوبات مع تنزيل عجلات الهبوط، الطيار ومساعده انشغلوا بتنزيلها يدويًّا، في الوقت الذي تركوا فيه الطائرة تُقلِّل من ارتفاعها بشكل آلي وسط السحاب وجوٍّ سيئ، كان يتعين على أجهزة الإنذار أن تَنطلِق قبل الاصطدام ﺑ ١٧ ثانية لكنَّها انطلقت نتيجة عطل قبل الاصطدام ﺑ ٤ ثوانٍ فقط، وهو الوقت الذي لم يكن كافيًا لمنع الاصطدام، أربعة أشخاص تُوفُّوا، وُجِّه اللوم والاتهام للطيارَين؛ إذ كان على أحدهما أن يُراقب الطَّيَران والعدادات بينما يحاول الآخر تنزيل عجلات الهبوط يدويًّا، كما وُجِّه الاتهام للشركة المصنِّعة كذلك.
أشار آلان ميري إلى أن الأخطاء في الحالتين غير مقصودة، والنيَّة غير مبيَّت لها، بل تحدث بشكل عفوي وغير مخطَّط له. الأخطاء ليست كذلك نتيجة تجاهُل أو عدم اعتناء، بل على الأغلب يُصاحبها جهد مبذول وكفاح لكنَّه قد يتَّخذ سبيلًا خاطئًا، إلا أن الطيار يَجلس في مقدمة الطائرة وأيُّ خطأ يدفع هو ثمنَه حياته والطبيب لا يفعل، ويُضيف: رغم ذلك فإن في النقطتين السابقتين إثباتًا أن العقاب والردع لن يُغيِّر من وقوع الأخطاء أو يُقلِّل منها؛ فهي غير مقصودة وليست عن عدم اعتناء، كما أن الخبراء والمحنَّكين يُخطئون أيضًا. قد يظن البعض أنهم لا يُخطئون، لكن هذا مُنافٍ للحقيقة، فقط قد تكون أخطاؤهم مُختلفة.
كما أن جُلَّ الأخطاء الطبية هي أخطاء مركَّبة وتَعتمد على أحداث كثيرة تسبقها وأحداث أخرى لاحقة.
ولنفرض أن هذا الخطأ لم يؤدِّ لضرر دائم للمريض، فهل له أن يسأل الطبيب قانونيًّا؟ الأخطاء التي تمر في سلام لا يترتب عليها مساءلات قانونية وأحكام.
علينا أن نضع في الاعتبار كذلك أن المساءلات القانونية والتحقيقات عادة مطوَّلة ومُرهِقة وضاغطة عصبيًّا ونفسيًّا وتؤثر على السمعة والمكانة؛ لذا فهي في حدِّ ذاتها تمثِّل رادعًا عن تكرار الخطأ أو ارتكابه مستقبَلًا، وعامل دافع لمُحاوَلة تلافي الأخطاء.
لكن هل معنى ذلك أن نتقبَّل الخطأ الطبي تمامًا ونطلب من الناس أن يُمرِّروه في سلام وتكون ردة فعلهم تجاه ما نغَّص حيواتهم مجرَّد ابتسامة وديعة خاصة وأن كثيرًا من الأخطاء تكون نتيجة انتهاك للقواعد المنظِّمة ولحدود الأمان والسلامة. في حادث الفنانة سعاد نصر عدم إجراء التحاليل الروتينية أو تخدير أكثر من مريض في ذات الوقت، لو صدقَت الأقاويل. في حادث الطائرة المذكورة تركيز الطيار ومُساعده على مهمَّة واحدة وعدم الانتباه لمسار الطائرة، صحيح أنه لا نية مبيَّتة لتسبيب ضرر لكن لا يُمكن أن يمرَّ في سلام تام؛ خاصة وأنه نتَج عن انتهاك لقواعد الأمان والسلامة المتعارَف عليها حتى وإن كان بلا قصد.
لكن يجب كذلك أن يؤخذ في الاعتبار أن مقدِّم الخدمة في هذه الحالة كان عاقدًا النية على أن يؤدِّي بشكل جيد، ليست فقط النية، بل بالتأكيد بشكل سابق أو لاحق قد عملَ بجدٍّ شديد من أجل مريضِه، ربما حتى وهو يقوم بالخطأ.
وهو ما دفَع قاضيًا يومًا أن يُصرِّح في محاكمة لأحد أعضاء الخدمة الطبية عندما ثبت حقنه لدواء بطريقة الخطأ:
«أنت بعيد جدًّا عن أن تكون رجلًا سيئًا، بالعكس أنت رجل نبيل، للحظة وعلى عكس أدائه العام وخدماته للمجتمع بات مُذنبًا لتصرُّفه بتهوُّر.»
في حادث الطائرة حكمَت المحكمة ببراءة الطيارَين.
القوانين المعمول بها تختلف من مكانٍ لمكان؛ البعض يكتفي بتعويضات، والبعض يصل بالأمر لأحكام وعقوبات سالبة للحرية تمامًا كالتي يُعاقَب بها المجرمون.
في الدول التي تُلزم الطبيب بتعويضٍ نتيجة خطئه يَعتمدون نظامًا يُدرك أن الخطأ الطبي لا بدَّ واقعٌ كما هو الحال بالنسبة لأي نشاط بشري، وأنه يكفي رادعًا ما سيناله الطبيب من إساءة له ولسمعته وخسارة مادية، صحيح أنه في تلك البلاد عادةً ما يدفع الأطباء أموالًا طائلة لشركات التأمين لتَحمِل هي تبعات دفع التعويضات متى تطلَّب الأمر، وعادةً ما يعني ذلك رفع سعر الخدمة الطبية لأن الأطباء والمؤسسات الصحية يَحملون تكاليف التعويضات عليها، لكن هذا بالطبع لا يمنع الخسارة المادية للطبيب وإن خفَّف منها.
لكن هل تُفيد العقوبات الأشد في ردع الأطباء عن الوقوع في أخطاء؟ النظرية والتجربة أثبتت أن هذا أبدًا لا يَحدث؛ بالعكس قد تضرُّ العقوبات السالبة للحرية والتي تتعامل بمبدأ عقابي وليس تربويًّا فقط، وتتسبَّب في سلبيات تجتاح النظام الصحي؛ فعادةً لا تتوقَّف الأخطاء عن الوقوع لكن يقل الإبلاغ عنها وتجري محاولات لإخفائها، خاصةً إذا مرَّت بلا أضرار دائمة وكبيرة.
الطب بشكله الحالي كعلمٍ مبنيٌّ على الدليل يُعتبَر علمًا حديثًا، والخبرة الإنسانية في التعامل مع الأخطاء الطبية ومحاولة منعها تُعتبر في البدايات، وأيُّ خلل في الإبلاغ عن هذه الأخطاء يجعل تطوير آليات منعها في خطر شديد ويهدده جدًّا.
قد يبدو التخدير من هذه النقاشات، والأمثلة التي أوردتُها كنشاط في غاية الخطورة، إلا أنه ورغم كل ذلك لا يزال يَحمل الكثير من عوامل الأمان والتي تزداد يومًا بعد يوم.
كذلك من مهامهم تحديد درجات الخطورة المختلفة وإبلاغ المريض بها؛ فالخطورة تختلف بحسب الحالة العامة للمريض، وكذلك نوع العملية وتوقيتها والظروف المحيطة وأشياء أخرى كثيرة.
لكن هذا لا يَمنع أنه وفي لحظة قد يحدث أمر غير متوقَّع، أنت نفسك غير آمن تمامًا وأنت تَعبر الطريق، وأنت تقرأ هذا الكتاب الآن في الفراش أو المواصلات. محمد عبد الوهاب لاعب النادي الأهلي كان بطلًا ملء الأسماع يَجري في الملعب حين سقط فجأة ميتًا؛ على الأغلب لخلل بضفائر القلب الكهربية لم يَكتشفه أحد ولم يشكُ منه أبدًا.
هل لي أن أُنهي هذا الفصل بحوارٍ ربما دارَ يومًا في غرفة خلع ملابس بين طبيب تخدير صغير السن واستشاري جراحة عظام، حين كان طبيب التخدير يَلهج بالبكاء ويكاد يتقيَّأ قلبَه مع نهنهاته وقد اتخذ قرارًا أنه لن يُكمل عمله كطبيب، سيفعل أي شيء آخر بعد أن كان سببًا في أول ضرر يقع منه على مريضٍ نتيجة خطأ طبي بلا نية، وربما بلا انتهاك كذلك لمحاذير الأمان كما يعرفها، كان العالم بنظرِه أسود، وكان قد اتخذ قرارًا أنه لن يعمل بمهنة تَضع عليه كل هذا الضغط وتؤرِّق مضجعه وتجعله سببًا في ضرر الآخرين.
اقترب منه استشاري جراحة العظام، لم يكن بينهما سابق معرفة، قال له: أنت تُذكِّرني بنفسي، منذ عشرين عامًا جلست نفس جلستك وبكيتُ نفس بكائك، يومها اقتربت مني استشارية تخدير وقالت ما سأقوله لك الآن: الأخطاء لا بد واقعة، فقط علينا أن نعمل بجدٍّ لتلافيها، ونُذكِّر أنفسنا أن كثيرين آخرين قد استفادوا منك ومن عِلمك وسَيستفيد مستقبلًا الكثير والكثير، فقط عليك أن تكون حذرًا ودقيقًا، لكن هذا لن يمنع الخطأ تمامًا؛ لأننا بشر، فقط تذكَّر الذين نجوا وسيَنجون على يديك، وأنه في النهاية لا بدَّ أن يوجد من يتحمَّل العنَت، اغسل وجهك واربط جأشك وصلِّ للخالق.