أن تكون طبيبًا للتخدير
قال لنا يومًا والد صديقة لنا يعمل طبيبًا بينما نحتفل بالتخرج كأطباء: «إننا وبعد سنوات ست قد امتلكنا العبوة الفارغة وعلينا أن نبدأ في ملئها.»
هكذا قرَّرتُ أن أتخصَّص في علم جديد جدًّا بالنسبة لنا، حِمله التدريسي في السنوات الست كان ستة أسابيع، ومن الستة آلاف درجة — أو يزيد — مجموع ما امتحنَّاه طوال سنوات دراسة الطب سؤال بعشرين درجة أو أقل في ذَيل امتحان الجراحة، وهو الأمر الغريب؛ فبالرغم من أن ما ندرسه في التخدير، مع الاختلاف بالطبع، أقرب للأمراض الباطنة، إلا أنه يُدرس كمقرر خاصٍّ بالجراحة، ربما لأنه لا جراحة بغير تخدير، بالرغم من أنه وحتى اليوم تتضمَّن لائحة امتحان ماجستير التخدير في طب قصر العيني، بجانب الامتحانات في علم وظائف الأعضاء والتشريح والفارماكولوجي «علم الأدوية» والفيزياء والقياسات الإكلينيكية وبالطبع التخدير نفسه؛ امتحانًا في الأمراض الباطنة.
كنتُ سعيد الحظ عندما اخترتُ التخدير؛ فلم أتعرَّض لضغوط من والدتي أو العائلة لتغيير ذلك القرار الغريب، كل هذه السنوات من الدراسة والسَّهر، والعذاب لي وللعائلة، والمصاريف، والضغوط، واضطراب ضربات القلب، والبكاء كطفل، والاختناق كغريق، ووجع الجانبين، والهرب من الأشباح والعفاريت ومصاصي الدماء، ليَنتهي بك الحال طبيب تخدير، تعطي الحقنة وتنصرف، سرنجاتي، تُطارده الجرعات الزائدة وتَصرعه.
أمي تفهَّمت الموقف، كان خالي طبيب نساء وتوليد، وهو من أيَّد فكرتي عندما اقترحتُها، وخالي الطبيب البيطري أيَّدها كذلك.
وهي رغمَ خوفها الشديد علينا كأبنائها وسؤالها عن كل كبيرة وصغيرة في وجَل، أيَّدت ما كنت قد انتويتُه ورحَّبَت باختياري كرجلٍ مسئول عما أفعل.
لن أُخفي سرًّا أنني قد اخترتُ التخدير لأنني اعتقدت في نفسي شخصًا بلا مهارات جراحية، وسأكون جرَّاحًا عاديًّا وكارثة أن أكون أقل من العادي، صحيح أنه اتَّضح لي فيما بعدُ أن السلوك ومُنحنى التعلم شيئان أهمُّ من الاستعداد الفطري، وأن الخوف من الفشل كان ذاتيًّا جدًّا وبلا معيار تقييم حقيقي، رغم ذلك أعتقد أنه لو عاد بي الزمن مع امتلاك المعرفة التي أَملكها الآن لاخترتُ التخدير أيضًا ومن جديد.
كنتُ أفكِّر في الأمراض الباطنة وتخصُّصاتها، أمراض القلب والمتوطِّنة والباطنة العامة، ومنها أتخصَّص في أمراض الكُلى أو الجهاز الهضمي ومناظيره، أو أن أتخصَّص في قسم الرعايات الحَرِجة.
لكنَّني وفي الشهر الأخير من سنة الامتياز تغيَّرت بوصلتي واستقرَّ رأيي على تخصُّص التخدير.
يَرجع ذلك لصديقَين مقرَّبَين، أقنعاني بالتخدير بعد أن تخصَّصا فيه.
إسلام مدبولي الرقيق المهذَّب الذي، ولسخرية القدر، ترك تخصُّص التخدير بعدها بوقت قليل، وتخصَّص في طبِّ الأطفال وحديثي الولادة، لم يتحمَّل التعامل مع الجرَّاحين ولعبة القط والفأر والمواءمات، وهي أمور سنتحدَّث عنها تفصيلًا.
الصديق الآخر كان إيهاب سعيد الذي سافر على الأغلب مهاجرًا، قاطعًا كل علاقة له بالبلد وأهلها في ثورة صامتة على ما آلت إليه كل الأحوال بعد الهزيمة والجِراح التي تكبَّدناها جميعًا، ولكن يبدو أن مُصابه كان أكبر فمسَحَنا مع كل ماضيه من ذاكرته، فنَقمنا عليه وعذرناه في ذات اللحظة.
تبدو سخرية القدر حاضرةً وبقسوة؛ الصديقان سبب اتخاذي التخدير مهنة، أحدُهما تركه تمامًا لتخصُّص آخر، والثاني قرر ألا يمارسه أو يمارس الحياة ذاتها على أرض الوطن.
اقتنعت تمامًا بالتخدير كتخصُّصي الأمثل، حتى إنني عندما عرفتُ أن هناك وظائف شاغرة في الجامعة في تخصُّصات أخرى مفضَّلة نسبيًّا من الأطباء، لم أتقدَّم لها، وطلبتُ التخدير في ثقة.
معروف أن اختيار التخصُّص مبنيٌّ على عوامل كثيرة؛ منها الدخل، وعدد ساعات العمل، ودرجات المسئولية وخطورتها، وفرص العمل بالخارج، ومُنحنيات التعلم والتقدم، وغيرها.
التخدير تخصُّص مُرهِق، وساعاتُ عمله طويلة ومُرهِقة، والمسئولية فيه والضغوط العصبية والنفسية عالية، والدخل جيد لكن هناك تخصُّصات دخلها أعلى بكثير، وفُرَص السفر لأطبائه جيِّدة لكل العالم؛ لأنه تخصُّص نادر في كل العالم.
إلا أنه وبالإضافة إلى الميول الشخصية والأسباب العديدة كنتُ أمتلك سببًا خاصًّا جدًّا بي وعاملًا حاسمًا، جعَلني أطلب التخدير في غير تردُّد.
وقتها كان حلم الكتابة يَطوف من حولي ويُغريني، كنتُ بصدد إصدار روايتي الأولى، وكنت أريد أن أُكمل ما بدأتُ وأرغب بشدة في الاستمتاع بالكتابة، كان شغفي مُطلَقًا، والكتابة تعني بالنسبة لي معنًى للحياة وغاية ووسيلة، وكان عليَّ أن أُلبِّي النداء، بدا التخدير مناسبًا، صحيح أنك وعندما تسوء الأحوال تتحرَّك حول المريض كنَحلة، عقلُك يَعصف به الفكر، وقلبك يتقافز من القلق، لكن ملامحك ثابتة، وصوتُك حاسم وباتر، وأوامرُك محدَّدة، وحركاتك كلها لأهداف، لا تتقدم ولا تتأخر، ولا تعرقل واحدة الأخرى، إلا أنك كثيرًا ما تقوم بتخدير مرضى حالتهم مستقرَّة وعملياتهم عادية، لا تتطلب إلا بدء التحليق ومتابعة الأجهزة وتعديل الدفَّة من آنٍ لآخر، تجلس عند رأس المريض تتأمله وتُراقب علاماته الحيوية ومؤشِّرات أجهزتك المتصلة به وما تَعرضه، وتملك الوقت لتُفكِّر، وربما أيضًا يتاح لك أن تُسجِّل أفكارك.
قبل أن أتقدَّم لامتحانات الدكتوراه نبَّهني الصديق والزميل د. محمد إبراهيم أمين إلى مقدمة أحد الكتب التي كنتُ أستذكرها، رغم تصفُّحي للكتاب عدة مرات وقراءتي معظمه وقتها إلا أنني لم أهتمَّ أبدًا بقراءة المقدمة، كانت في الأغلب تتحدَّث عن الكتاب نفسه وكيف تُحقِّق منه أكبر فائدة مرجوَّة، لكن لم يكن ذلك ما نبَّهني له، بل أشار لفقرة محدَّدة وهو يبتسم ابتسامة ذات مغزًى.
كانت الفقرة تُشير إلى أن البدايات الأولى والبزوغ الأول للتخدير كان في أواسط القرن التاسع عشر، ورغم أن التخدير كان قد أصبَحَ أكثر تعقيدًا في بدايات القرن العشرين، إلا أن القائمين على تخدير المرضى كانوا أفرادًا لم يتلقَّوا أي تعليم طبي، بل إن بعضهم ربما لم يكن حتى قد تلقَّى تعليمًا ولو بدائيًّا.
على العكس من ذلك كان أطباء وجرَّاحو ذلك الوقت على درجة عالية من التعليم والذكاء والقدرات العقلية والخبرة، وهو ما لم يكن جديدًا عليهم، بل ترسَّخ عبر سنين وقرون.
خلال عقود تالية بقيَ التخدير على وضعه، يتمتَّع فقط بحالٍ مُتواضع.
ما الذي دفَعه لهذا القول؟
لا أعلم عن الإنجليز أنهم يَهوون المجاملات.
رغم ذلك فقد قال أحد استشاريي الطوارئ عبارته تلك؛ على الأرجح لأنه يعتقد أن أطباء التخدير هم الأقدَر على حفظ الحيوات متى كانت الإصابات أخطر ما يُمكن، ومتى أعيَتِ الجميع الحِيَل.
- A for airway الممر الهوائي: أولى خطوات الإسعاف ضمان ممرٍّ هوائي مفتوح، لا يسدُّه شيء، هواء يمرُّ بحُرية دون عوائق، وأطباء التخدير هم الأبرع في جعل تلك الممرات مفتوحة؛ لأنها ببساطة عملهم اليومي مع كل تخديرٍ كلي، ضمان طريق سالك للهواء من الأنف أو الفم وحتى الشُّعَب الهوائية والرئتين، في سبيل ذلك لديهم تقنياتهم وأدواتهم وأسلحتهم التي يُتقنون استخدامها، وهم في اللعب بها ومعها الأمهر.
- B for breathing التنفُّس: ثاني الخطوات بعد ضمان مرور الهواء، التيقُّن من تنفُّس جيد، امتلاء الرئتين بالهواء في شهيقٍ وخروجه في زفير.
- C for circulation الدورة الدموية: أطباء التخدير هم الأبرع في اصطياد الأَورِدة، سواءٌ تلك الطرفية أو المركزية، وتثبيت الكانيولات الطرفية والمركزية والشريانية أيضًا متى اقتضى الأمر ذلك، يَعرفون كيف يَضخُّون السوائل والدماء بشكل يَضمن عمل القلب بكفاءة، ووصول الدم لكافة الأنسجة perfusion.
هذه الخطوات هي الأهمُّ لحفظ الحيوات، وكافة الأطباء يَعرفون أن أطباء التخدير هم الأقدر عليها متى أعيَت الجميع الحِيَل، كل يوم يَسمحون للأرواح بالتحليق، ويَدفعون الأجساد بعيدًا في الغيبوبة والظلام، لكنَّهم يَملكون استدعاء الأرواح متى شاءوا وهي تُطيعهم، يُحافظون على الخيط الرفيع بينها وبين الجسد، ليَجذبوها إليه فيعود الوعي والنور.
بغضِّ النظر عن أن تخصُّصنا يُجبرنا على دراسة جُلِّ الأمراض الباطنة وعلاجها والتعامل مع مضاعفاتها وأسوأ تجلِّياتها وأخطرها، إلا أننا كذلك نشاهد العمليات كما تُشاهدون مباريات الكرة، نحن كهنة المعبد، نعرف الأسرار ولا نبوح بها إلا لمؤتمَن، نعرف ما خفيَ عنكم؛ فنحن نَعبُر الخط الأحمر لغُرف العمليات ونجتاز الحجُب ونطَّلع على الأسرار.
في البداية نفحص المريض ونتأكَّد من أنه في أفضل أحواله لإجراء الجراحة، نُبلغه بالمضاعَفات المتوقَّعة متى كانت فحوصه تُشير لعوامل تجعل منه غير لائق تمامًا للتخدير بينما الجراحة لا بد منها.
نضع خطة للتخدير والتعامل مع المريض، تنبني في الأذهان حجرًا فوق آخر، طريق نُحاول أن نجعله مُعبَّدًا قدر الإمكان، نُقارن البدائل، ومتى كان هناك أكثر من بديل استوجب ذلك أن نخبر المريض بها، وربما ننحاز لأحدها، نُشير فقط لمقترَحنا دون أن نُجبره على اختياره.
في التخدير الموضعي يكفي أن تَحقن البنج الموضعي ليتخلَّل الأنسجة في مكان الجراحة، ساعتها يتخدَّر الموضع المراد التعامل عليه، فقط قد نُعزِّز ذلك التخدير الموضعي بمنوِّم بسيط، قد يسبب غيابة بسيطة وفقدانًا مؤقَّتًا للذاكرة وأحيانًا تحليقًا.
لكن مفعول هذا المَحقون يستمر لدقائق معدودة؛ لذا فيلزم عقار آخر لمواصَلة التخدير، عادةً ما يكون مخدِّرًا استنشاقيًّا يتم خلطه بالأكسحين أو خليط الأكسجين والهواء أو الأكسجين وغاز أكسيد النيتروز، يمرر للمريض مع كل تنفُّس.
عادة هذا هو ما يحدث، وإن كان في أحيان أخرى يمكن بدء التخدير بالمخدر الاستنشاقي نفسه؛ حيث نَطلب من المريض أن يتنفَّس من وصلات الأكسجين الذي يحمل المخدِّر مباشرة، وهي طريقة شائعة جدًّا في الأطفال، وكما يُمكن بدء التخدير بالمخدِّر الاستنشاقي فيُمكن كذلك استكماله بالمخدر المحقون وريديًّا؛ حيث يتمُّ ضخُّه بمعدَّل معيَّن بشكل مستمر، مما يحفظ المريض مخدَّرًا.
المريض وأثناء التخدير الكلي قد يُترك ليتنفَّس بنفسه، ولكن على الأغلب يتم حقن مُرخٍ للعضلات ليشلَّ حركة عضلات المريض، وهذا يقلل من كمية المخدِّرات المطلوب حَقنُها أو استنشاقها للحصول على ذات الأثر، كما يُوفِّر مجهود المريض العضلي الذي يبذله في التنفس.
في حالة حَقن المريض بمُرخي العضلات يتمُّ وصل المريض بجهاز التنفس الصناعي ليقوم عن المريض بالتنفُّس ومهمَّة ضبط إعدادات هذا الجهاز أو تغييرها بناءً على علامات إكلينيكية أو نِسَب وجود الغازات في الدم أو ميكانيكية الرئة أو غيرها من عوامل كثيرة ومتداخلة، مسئول عنها جميعًا طبيب التخدير.
المسكِّنات أثناء وبعد وقبل العملية هي مسئولية طبيب التخدير، وطرُق التسكين المختلفة هي صميم عمله.
متابعة توازُن السوائل في جسد المريض وضخُّها وريديًّا وتقييم احتياج المريض لها ونوع المحاليل التي يضخُّها هي مسئولية مطلقة لطبيب التخدير.
تحديد احتياج المريض لنقل الدم وحساب الدم النازف وتعويضه، وتحديد نقطة نقل الدم هي مسئولية طبيب التخدير.
متابعة العلامات الحيوية واستقرار حال المريض هي مسئوليةٌ مُطلَقة لطبيب التخدير، والتدخُّل بالأدوية أو التقنيات لمواجهة أي طارئ أو خلل هي مسئولية طبيب التخدير.
حماية الأعضاء الداخلية ومَنعُ كلِّ ضرر عنها بقدر المستطاع هي من مهامِّه كذلك.
لكل عملية أحداثها الخاصة، بعضها قد يتضمن معاملة معيَّنة لضمان سلامة المخ تتضمَّن بروتوكولًا خاصًّا، تنفيذه منوط بطبيب التخدير، بعضها يتضمَّن وضع مشبك على شريان رئيسي يؤثِّر بشكل ضخم على ضغط الدم والمجهود الذي على القلب مواجهته وتوازُن السوائل. التعامل مع تأثيرات وضع المشبك ورفعه هي مسئولية طبيب التخدير، عليه أن يعرف خطوات الجراحة وتأثير كل خطوة على الحالة العامة وكيفية التعامل الأمثل مع ذلك.
هذا هو طبيب التخدير؛ مسئول عن دبيب النملة في غرفة العمليات وتنظيمها، مسئول عن كل شيء بما فيه التعامل مع مُضاعَفات الجراحة، بل وخطأ الجرَّاح إن حدث وأضر بالحالة العامة للمريض. طبيب التخدير مسئول عن كل شيء ربما، إلا العمل في الحقل الجراحي نفسه والتعامل مع الأنسجة بالمشرط والأدوات الجراحية والخيوط، وإن كان لذلك تأثيرُه كذلك على ما هو مسئول عنه وعليه التعامل مع ذلك التأثير، ربما تتوسَّع مهامه حتى تشمل مهامَّ أخرى إضافية؛ كالرد على تليفونات الجرَّاح، أو تعديل وضع طاولة الجراحة، وتحمُّل ثرثرات الجراحين والممرِّضين وأحاديثهم المملة على الأغلب، والترويح عن نفسه متى كان كل شيء مستقرًّا بالجلوس في مواجهة شاشات أجهزة مراقبة المريض ومتابعتها بينما يتصفَّح رواية أو موقعًا للتواصل الاجتماعي بعيدًا عن صخب الثرثرات المملة التي لا يجدون منها مناصًا، والتي نجوتُ من فخاخها باختياري التخصُّص كطبيب تخدير.
هذا هو التخدير، وهذا هو طبيبه بشكل موجز جدًّا وشديد الإخلال.
يذهب كلُّ ذلك وتبقى الصورة الذهنية التي رسمها المجتمع عن طبيب التخدير، الطبيب الذي لا يَرونه إلا وهو يغرس الإبرة بينما كل شيء آخر يَفعله يبقى طيَّ الكتمان ووراء الكاميرا وفي الكواليس.
بل يتعامل البعض مع التخدير وأطبائه كما يَتعاملون مع الجانِّ والأشباح والشياطين وزبانيتهم، كثيرًا ما أقابل مرضى مُقدِمين على عمليات غاية في الخطورة في حدِّ ذاتها، فيقولون: «أنا يا دكتور مش خايف من أي حاجة في العملية إلا التخدير.» فلا تملك إلا أن تَنتزع ابتسامة باردة وتُحاول طمأنته، رغم أن التخدير ربما لا يُمثِّل خطورةً كالآلات الجراحية التي على وشك العبث بمراكز المخ أو بسرطان مُنتشر أو بشرايين القلب وغيرها.
الأدهى نسبةُ كلِّ شيءٍ أو أثرٍ سلبي للتخدير وكأنه عمل سُفلي أو حسد أو تعويذة ساحر مَقيت.
ربما لأنه أشد المناطق خفاءً في الخدمة الطبية، طبيبُه لا يُرى إلا كطيف، وقد بدأت المخدِّرات تُثقِل العيون والألسنة تلهج بالقلق.
في واقعة طريفة كنتُ قد خدَّرتُ سيدة في ولادتها القيصرية الثانية، خدَّرتُها بالبنج النصفي، ويبدو أن الجرَّاح كان يجد صعوبةً ما في التعامل مع التصاقات نتيجة القيصرية السابقة، وهو أمر وارد خاصة مع تكرار العمليات وتعافي الأنسجة مع شيء من التليُّف، يُرجع بعض الجراحين الأمر كذلك إلى استعمال أساليب جراحية خاطئة خاصة عند غلق الأنسجة المفتوحة وعدم غلقها في شكل طبقات منفصلة.
ولأنَّ الجرَّاح كان قد بدأ يتصبَّب عرقًا وهو يحاول فك طلاسم الالتصاقات لم يتمالك نفسه وسأل السيدة: هي العملية اللي فاتت عملتيها فين؟
أجابته وقالت على المكان ثم أضافت: ليه يا دكتور بتسأل؟!
فردَّ قائلًا: أبدًا، أصل الدنيا ملزَّقة شوية.
هنا تطوعت السيدة لتقول في أريحية شديدة: أكيد ده كان من البنج.
هكذا وبلا مقدِّمات أو منطق حسمت القضية واتَّهمت الخفاء، ربما لو قالت: أصلي اتنشِّيت عين، دي عين أم أيمن ولا حجاب أم عتريس أو معمولي عمل من الولية سِلْفتي. كل هذا كان سيُصبح مبرَّرًا، لكن أن تعتقد في البنج باعتباره خفاءً مسئولًا عن كل شيء فهو ما لم أفهمه.
أعلم أن كثيرًا من أطباء التخدير يُلقون باللائمة بخصوص بعض الاتهامات التي تطول التخدير على الجرَّاحين؛ باعتبار أنهم قد يَتنصَّلون من المشكلة برمْيها على التخدير؛ باعتباره عنصرًا ممثِّله غير موجود ليُدافع عن نفسه، لكن في هذه الحالة جاء الاتهام مباشرًا من السيدة وبلا إيعاز أو مقدِّمات أو منطق، فقط ترسَّخ في وجدانها أنه التخدير أساس كل الشرور، يقوم على شأنه مسيخ دجال مكتوب بين عينيه: لَعِين، وبالتأكيد لا يشبه جورج كلوني أو حسين فهمي.
بينما كنتُ أشرح خطة التخدير للمريض بشكلٍ سريع وجدته يَطلب أن أُخدِّره نصفيًّا، سألته: لماذا؟
أجاب أنه منذ عشرين عامًا قد أجرى عملية بمخدِّر كلي وأصيب بمضاعفات.
سألته عن المضاعَفات، فقال: عيني وأنفي انتفَخا وتورَّما.
عندما وصلتُ لهذا الحد من التفكير والذي جرى في لحظات في عقلي سألته: كنت بتعمل عملية إيه؟
هنا كانت المفاجأة الكبرى والتي لم أتمالك نفسي معها من الابتسام، والذي اعتذرت عنه فيما بعد حتى لا يُفهم كإهانة، المريض كان يُجري عملية في الأنف.
أخبرتُه أن البنج النصفي خيار ولكنَّني لا أُحبذه مع وجود الفتق في مكان عالٍ سيتطلَّب أن نرفع مستوى التخدير وجرعته، ورغم ذلك قد لا يكون مُرضيًا بالنسبة له، خاصة وأن الفتق كبير، وأن البنج الكليَّ لن يُسبِّب له أي تورُّم هذه المرة، وهو تحدٍّ إن أراد أن يُراهنني عليه فأنا مُستعِد، على ألا يجعل قيمة الرهان كبيرة؛ لأنني ساعتها ربما لن أقدر عليها؛ فابتسم مع ابتسامتي ووافق، وخدَّرتُه، ورغم ثقتي فيما أقول لن أُخفيكم سرًّا؛ فقد خدرته وأنا أدعو الله ألا يَخزلني ويُصاب المريض بأي تورُّم، وهي طبيعة أطباء التخدير السائرين على الحافة ويَنتظرون العفريت وسوء الطالع والأزمة عند كل ركنٍ ومُنحنًى، ويَنفخون في الزبادي بعد أن جرَّبوا لسع الشوربة.
هناك اتهامٌ ضِمْني يَطال أغلب أطباء التخدير بأنهم مُدمنون؛ ربما للاعتقاد الشعبي الراسخ أن طباخ السم بيدوقه، ونحن كأطباء تخدير لا نتعامل إلا بتلك الأدوية المخدِّرة، هي حياتنا وطوال النهار نَحقن بها المرضى ونُوقِّع على استمارات صرفها.
يُحدِّقون فيك وفي عينَيكَ كثيرًا، وكأن لمعتها أو انكسارها أو ما قد يحيط بها من هالات أو تغيُّر في لون الجلد سيبوح بالسر، يسألونك عن عملك وقد أثارتْهم أجواؤه وفي قرارة أنفسهم يقولون «طب عيني في عينك كده»، «يعني ماجربتش.»
وكأنهم بتمثيلهم الدهاء سيَكشِفون أغطية الستر ويَعرفون السر الذي يوقنون منه، لكنهم ومع معرفتهم سيترفَّعون عن إحراجك، وسيَكتفون بنظرات جانبية وضحكات تهكُّم.
ربما لأني حارس أبواب عالم الظلام، أملك مفاتيحه وأَلِج إليه في مُخيَّلتهم كيفما شئت.
حقيقة لا أعرف مذاق أدويتي، سحرها، كيف تَستجيب العقول لها، كيف ولوهلة يرى البعض رضوانَ على باب الجنة يُلقي التحية ويدعوهم للدخول.
لن أُنكر أنَّ سهولة الوصول للأدوية وكونها متاحة رغم كل المحاذير والاحتياطات التي يبذلها النظام تُمثِّل عاملًا ضاغطًا على البعض.
أعلم جيدًا كيف يُمكن أن يبدأ الأمر؛ لذا فلا مجال لنغزات الشياطين لأنني رأيتُ النهايات، مسيخ دجال جنَّته نار، يَفتح لك الأبواب لتشرب من الخمر المعتَّقة والنبيذ من أنهار الجنة الجارية فلا تجد إلا ماءً مغليًّا استقرَّ في المعدة وعناء.
الحكايات الرادعة مُتناثرة ومعروفة، مَن أغلَق على نفسه الأبواب في نوبتجية ليسمعوا صوت ارتطام، يقتحمون الغرفة ليَجدوه مُلقًى على الأرض وبجواره محقن فارغ أو نصف ممتلئ، بينما قد ازرقَّ وجهه وتوقَّفَ تنفُّسه، ولولا الإسعافات الفورية المتاحة في وجود طاقم طبي ومعدات لفارق الحياة، يَكفيه الحكايات التي ستُطارده للأبد حتى وإن قتَل المسيخ الدجال ومثَّل به.
بالطبع لا توجد نُظُمٌ تحدُّ من الوصول للمخدِّرات الاستنشاقية؛ فإدمانها غير مفهوم أو معروف.
لعلَّ أشهر حالة لتعاطي البروبوفول بشكل غير سليم هي تلك التي أودت بحياة مايكل جاكسون؛ كان على الأغلب يُعاني من مشاكل في النوم وقد اعتاد أطباؤه على حقنه باللورازيبام وهو منوِّم ومُهدِّئ من خواصه الكبرى أنه وفي جرعات قليلة مناسبة لا يُسبِّب تثبيطًا كبيرًا لمراكز التنفس وللقلب، لكن في ذلك اليوم فوجئ الفريق الطبي باستدعاءٍ طارئ من قِبَل د. كونراد موراي طبيب مايكل جاكسون الشخصي الذي كان راتبه الشهري حينها من أجل تلك الوظيفة ١٥٠ ألف دولار، يقول الفريق الطبي في إفادتهم بشأن ما حدَث أنَّهم شعروا بارتباك د. كونراد خاصة مع وصولهم السريع، كان يقوم بإنعاشٍ قلبيٍّ رئوي، والذي تولَّوه فور وصولهم، أثناءه فحصوا مُغني الراب الشهير وبدت لهم القصة التي يَرويها د. كونراد غير مُتوافقة مع نتائج فحوصهم وسَير الأحداث، كان يُخفي شيئًا بالتأكيد، في هذا اعتقدوا؛ تأكَّدت شكوكُهم مع اهتمامه بأخذ متعلِّقات معينة من الغرفة وحرصه على ذلك.
حكمت المحكمة فيما بعدُ على كونراد بالسجن لثلاث سنوات لإدانته بالقتل الخطأ نتيجة حقن مايكل جاكسون بعقار البروبوفول، وقد تحدَّثَت وقتها وسائل إعلامية كثيرة عن إدمان مغني البوب للعقار.
أهمُّ ما وصلَت إليه الدراسة أن معدَّل علاج مدمني البربوفول في مراكز العلاج المختصَّة كان يتزايد وبشكلٍ ثابت تقريبًا خلال الفترة المدروسة، تشير الدراسة إلى أن ذلك ربما يرجع لتزايد قدرة العاملين على كشف المدمنين. تشير الدراسة أيضًا إلى أن البعض قد طلب العلاج بنفسه وعقِب جرعة واحدة من العقار، أغلبهم كانوا من النساء، وذلك عكس إدمان الكحوليات أو العقاقير الأخرى. بالطبع قد يختلف الأمر في المجتمع المصري أو العربي، كما أن أغلب الذين أدمنوا ذلك الدواء كانوا قد أُصيبوا سابقًا بالاكتئاب أو تعرَّضوا أثناء طفولتهم لاستغلال جسدي أو جنسي.
مشكلة البروبوفول الكبرى أن جُلَّ مُدمنيه قد تعرَّضوا لحوادث نتيجة تعاطيه، وأنَّ آثاره الجانبية تَظهر على الفور، البروبوفول يُسبِّب غياب الوعي وأحيانًا توقُّف التنفُّس ويُثبط من عمل عضلة القلب.
أحدهم سجَّل إصابةً مباشرةً للرأس، حيث سقط فور تعاطيه وضرب رأسه.
من الواضح أن الفارق بين الأثر الذي يرغب فيه المتعاطي وغياب الوعي التام هو هامش ضئيل جدًّا، وهو ما يُسبِّب مخاطر جمة وواضحة.
معظم المدمنين من القطاع الطبي يَروون ذات الرواية، كانوا مُتعَبين جدًّا، الصداع يعصف برءوسهم، ودبيب الأرجل والصراخ في كل خلية، أرجُلهم تؤلمهم، وعظامُ الحوض تئنُّ وقد بدا النومُ — رغم كل هذا الإرهاق والعنت وتعب اليوم — بعيدَ المنال، حينها فكَّروا في جرعة ضئيلة من ذلك السحر الذي يُجيدون ويَدفعون به كل الناس إلا هم، هم أربابه والعالِمون به ويستحقُّونه وسيُخفِّف عنهم، ينامون أخيرًا ويذهب الألم، هكذا تكون المرة الأولى، يَذهلون من الأثر ويُقرِّرون استعادة الراحة والنوم بعد يوم آخر شاق، وهكذا يُدمنون.
لا أعرف كيف تبدو نشوة أدويتي، أُجريَت لي عملية واحدة في صِغَري، لم أكن قد بلغت العاشرة بعدُ حينها، استُؤصِلت لي اللوزتان، كل ما أذكره وخْزة في ظهر يدي ثم إحساس بشيء حارق ونوم عميق، استيقظتُ منه على ألم شديد بالحلق وكدمات ملوَّنة في صدري، على الأغلب كانوا يحاولون التأكد من يقظتي وسلامتي لكن ببعض القسوة، خلَّفت آثارًا.
كانت هذه هي المرة الوحيدة التي جرَّبتُ فيها التخدير، ولا أذكر أحاسيسَ خاصَّة بشأن أدويته.
جزء من تلك الصورة الذهنية المرتسمة في وعي المجتمع عن أطباء التخدير ليس فقط لأن الأساطير تُنسَج حولهم باعتبارهم كائنات تتعامَل مع الخفيِّ كساحرات العصور الوسطى ودراكولا وعقلة الإصبع، بل لأنَّ ملامحهم وتصرُّفاتهم ربما توحي بذلك.
طبيب التخدير دومًا تُظهره الدراما بشكل سريع وبلا اعتناء، إلا فيلمًا واحدًا أعتقد كان هو شخصيته المحورية؛ فيلم «جنينة الأسماك»، وقد أظهره الفيلم متأنِّقًا، طريقة عقده لرباط حذائه ذات أهمية كبرى في تحليل مسلكه.
لكن أطباء التخدير في الواقع وخاصة صغار السن تَجدهم مُثقَلي الأجفان، عيونهم مُحمرَّة، يُطاردهم نعاسٌ يَحرمهم منه ضوضاء النوبتجيات وحالاتها المتعدِّدة والصعبة، في معظم الوقت تَستشعِرهم سيَسقُطون من الإعياء، يتحدثون بصوت يأتي من عالم آخر، حركاتهم بسيطة وواهنة، وردود أفعالهم متأخِّرة، فيَبدون كالمدمنين.
أكبر أسطورة يُروِّج لها المجتمع كذلك هي قدرة طبيب التخدير على كشف أغوار الجميع، حتى إن فيلم «جنينة الأسماك» الوحيد من بطولة طبيب تخدير، أظهَره يَتعمَّد الاستماع لأسرار مرضاه وهم تحت تأثير المخدِّر أو يحاولون التخلُّص من أثره.
الأغلب يَبدون في حضرتك خائفين على أسرارهم، بعضُهم أملُه في قسَم أبو قراط الذي أقسمتَه يومًا وفي كود الأخلاق الطبي الذي سيَمنعك من البَوح بأسرارهم أو فِعل ما هو أسوأ وابتزازهم بها، البعض يرجوك قبل أن تَحقِن المخدِّر ألا تصرفهم بعد انتهاء الجراحة إلا وهم في تمام وعيهم حتى لا يَبوحوا تحت تأثير المخدِّر المنسحِب في بطء بأي أسرار خاصة أمام ذويهم.
ربما يَستدعون إرث خيالهم عن ذلك الذي يَغيب وعيُه تحت تأثير الحُمى، فيَضطرِب عقله وينطلق في أحاديث لا يَعيها، أغلبها بلا رابط أو منطق، وبعضُها يُسرِّب ما أغلق عليه صدره طويلًا.
أو يستدعون إرث خيالهم عن التنويم المغناطيسي واستحضار اللاوعي الكامن، ليَظهر على السطح فيُعربد ويَقصف ويُلمِّح ويصرِّح ويَسب ويروح.
يخشون جميعًا أن ينفجر البئر ويتدافع المكنون، فيفسد ما أمضَوا أعوامًا في رسمه وهندسته، ويتعرَّون في حين يبقى الجميع من حولهم على ذات السمت الذي رسموه لأنفسهم دون أن يَتعروا.
لكن أدويتنا التي نَستخدم لا تُسبِّب ذلك؛ يَتبدَّد أثرُها سريعًا ولا تُخرب القشرة لينكشف اللب، لا نُنصت لأحاديث سرية، ولو أردنا وغلَبَنا الفضول فلا همسات هناك ولا أسرار، ونحن لا نملك مفاتيحَ سرية لدواخل الخلق.
في وقتٍ ما منذ بضع سنوات كانت همسات تهكُّمية تدور في أوساط أطباء التخدير، كانوا جميعًا تقريبًا قد حَظُوا بإناث كأبناء في تلك الفترة، لم يكن هناك أي تفسير إلا أن الرابط الوحيد بينهم هو استنشاق غازات التخدير بحكم العمل فتهامَسوا بذلك، يبدو أن تلك الغازات هي السبب، كانوا يَتناقلونها في تهكُّم.
لكن هل بالفعل تؤثِّر غازات التخدير على أطباء التخدير؟ وما هي مخاطر المهنة الأخرى؟
يبدو أن هناك اعتقادًا قويًّا، وإن لم يؤكِّده أيٌّ من الدراسات، أن لغازات التخدير أثرًا سلبيًّا على النُّطف والأجنة، حاوَلوا الربط بين الغازات وحالات تشوُّهات الأجنة والإجهاض، لكن لم يبدُ أن هناك رابطًا أكَّدته الأبحاث حتى الآن، وإن بقي الشك في تلك العلاقات قائمًا.
الثابت أن لنواتج أيضِ تلك الغازات بالجسم آثارها السلبية على الكلى والكبد والرئتين، وأطباء التخدير هم الأكثر عرضة لتلك الغازات، وربما تتعدى الحدودَ البيئية المسموح بها.
من المفترض أن كل غرف العمليات تحوي نظامًا للتخلُّص من فائض تلك الغازات، لكن أغلب، إن لم يكن كل غرف العمليات المصرية، غير مجهَّزة بتلك النُّظم، مما يَزيد من خطورة الموقف.
منذ عامَين قمتُ بالاشتراك في تخدير أحد أطباء التخدير المتقاعدين، أخبرني أنه قد تقاعد لأن إنزيماته الكبدية كانت قد ارتفعَت بشكل خطير وبدأ كبده يتأثَّر بشكل قد يُسبِّب فشله، فاضطر إلى الابتعاد عن كل عملية يجب أن يُخدِّر المريض فيها تخديرًا كليًّا، يستخدم فيها المخدِّرات الاستنشاقية، ولجأ للتخدير النصفي والموضعي والناحي، وقد استمر على ذلك سنوات قليلة ثم اعتزل المهنة تمامًا مُجبَرًا.
لا تتوقف مخاطر المهنة عند أضرار الغازات والتعرُّض الدائم لها، أو البقاء عرضة لأمراض القلب وغيرها من الأمراض التي يُسبِّبها الضغط النفسي والعصبي.
أطباء التخدير مثل كثير من أطباء التخصُّصات الأخرى مُعرَّضون للإصابة بالأمراض والأوبئة، خاصة تلك المنتقلة عن طريق الدم وسوائل الجسد، أو تلك المنتقلة عبر الهواء والرذاذ والتنفُّس.
معرَّضون لوخزات الإبر وما قد تَحمله من فيروسات وبكتيريا قد تكون مُميتة أو قد تُحوِّلهم لحاملين للمرض، ربما بلا أعراض لفترات طويلة، معرَّضون كذلك لإصابات الجهاز التنفُّسي واستنشاق هواء صدور مرضى مصابين بمُسبِّبات الأمراض.
قد تُصيبهم الفيروسات الكبدية والإيدز والدرن والفيروسات التنفُّسية وبكتريا الجروح والالتهاب الرئوي.
لا تَحدث الإصابة نتيجة وخزات الإبر فقط، بل قد تحدث نتيجة انسكاب الدم أو تناثُره ليُصيب جلدًا سليمًا أو به خدوش.
من ضمن ما يُمكن أن يتعرض له أطباء التخدير كذلك داخل غرفة العمليات الاصطدام بالمعدات أو السقوط أرضًا والتعثُّر في الأسلاك الكثيرة والمزدحمة والمتشابكة أحيانًا لمعدات الجراحة والتخدير، وإن كان لا يمثِّل نِسَبًا كبيرة في الحدوث لكنه يحدث.
هم مُعرَّضون كذلك لتلوث ضوضائي قد يكون مُرهقًا ومؤذيًا في أحيان كثيرة، كما أنهم معرَّضون كذلك لأخطار الإشعاعات وخاصة مع استخدام أجهزة الأشعة بشكل كبير في عمليات العظام والمسالك البولية، تُشير الدراسات إلى أن أطباء التخدير معرَّضون لستَّة أضعاف تعرُّض باقي التخصُّصات للأشعة.
بعض العمليات يُستخدَم فيها الليزر، والذي قد ينعكس على الأسطُح اللامعة ويصيب طبيب التخدير فيُسبِّب أذًى للقرنية أو الشبكية أو العصب البصري.
في دعابة لطيفة من الصديق محمد سيد حسن طبيب الطوارئ في إنجلترا كتَب يومًا على الفيس بوك أنه بحاجة لقدراتنا الخارقة في فتح الأمبولات دون أن يُصاب بجروح، كيف امتَلكنا هذه القدرات أم هي مِنَح ربانية، كان برنامجه التدريبي يشمل العمل كمُتدرِّب تخدير لفترة، وساعتها جابَهَ جروح الأصابع الكثيرة والمميَّزة لأطباء التخدير، خاصة الأصغر سنًّا الناتجة عن زجاج الأمبولات وحدودها القاطعة بعد كسرها.
أحد المخاطر الأخرى التي قد يتعرَّض لها أطباء التخدير والعاملون بالعمليات بوجه عام مخاطر الحرائق والانفجارات، والتي قد تَنتج عن شرر كهربي وغيره، وقد يزيد منها ويُضخِّمها بعض الغازات المستخدمة في التخدير والتي تشجع الاشتعال وتحفزه؛ كالأكسجين وغاز أكسيد النيتروز.
وقتها لا تقف مسئولية الأفراد على النجاة بأنفسهم بل إخلاء المرضى كذلك، مما قد يزيد من تعرُّضهم للخطر أثناء محاولة إخلاء المرضى، خاصة إن كانوا غائبين عن الوعي تحت تأثير المخدِّر، غير قادرين على الحركة أو الهرب.
قد يكون هذا السؤال مناسبًا طرحُه الآن: من يملك غرفة العمليات؟ لمن تكون أولوية اتخاذ القرارات؟
قد تبدو غرف العمليات لوهلة برئيسَين، طبيب تخدير وجرَّاح، وقد نصَّ المثل الشعبي الدارج على أن «المركب أم ريسين بتغرق»؛ ربما لتضارُب الآراء في وقت يجب أن يكون القرار حاسمًا، فمَن يَحسم الجدل لصالحه وتكون له الكلمة العليا؟
من المعروف أن جراحي المسالك في مناظيرهم يستخدمون محاليل كثيرة، وعندما تطول العملية ويُواجهون المشاكل ربما تستحيل الغرفة بِركةً واسعة من المياه.
صورة أخرى لجرَّاح يسأل طبيب التخدير لماذا طلب إلغاء الجراحة لمريضه رغم أن فحوصه كاملة وسليمة؟ فيرد طبيب التخدير: «مريضك لم يُجْرِ تحليل السيلينيوم.»
السيلينيوم هو أحد العناصر النادرة بالجسد، وهو كوميكس يدلُّ على تعنُّت طبيب التخدير ليطلب تحليلًا نادرًا وبلا منطق أو مرجع، وكأنه يتعمَّد إلغاء الجراحة وعدم العمل.
صورة أخرى لجرَّاح وقد غرقت ملابسه في الدماء، وكذلك ملابس طبيب التخدير، والكثير من الفوط الجراحية، لنجد الجرَّاح يقول لطبيب التخدير: «لقد انتهينا ولم نفقد الكثير من الدماء.» في إشارة إلى تباين تقدير فقْد الدماء بين الجرَّاح الذي يَعمد عادةً لتقليل ما فُقد ليُدلِّل على براعته وبين طبيب التخدير المجبَر على التعامل مع الحقيقة.
وغيرها الكثير من الرسوم الكاريكاتورية التي تُوضِّح ذلك التبايُن والصراع الخفي، وكيف يرى طبيب التخدير الجرَّاح، وكيف يرى الجرَّاح طبيب التخدير.
لكن هل بالفعل كلٌّ منهما في معسكر مختلف؟ هل يحاول كلٌّ منهما الإيقاع بالآخر والتعنت للدرجة القصوى؟
قد يُفسر ذلك التوتر وتلك الصورة الذهنية الراسخة بين الفريقين رؤية كلٍّ منهما للمريض والهدف من العملية.
الجرَّاح يبغي جراحة مثالية؛ الوضع الأمثل للحقل الجراحي، ما يمكِّنه من إبراز مهاراته بأقل جهد ممكن، وفي أقل وقت، وبأقل مضاعفات من وجهة نظره، كلُّ تركيزه منصبٌّ على عمل يديه، خطوة تُسلِّم أخرى، ويريد لذلك التسليم أن يتمَّ في سلاسةٍ ويُسرٍ وهدوءٍ وبراعة.
طبيب التخدير يُريد للمركب كله أن يرسو في سلام، لا يُريد أن يخاطر بالإبحار في بحارٍ قد يراها غير مأمونة أو خَطِرة، بها أسماك قرش محتمَلة، أو ثعابين بحر مكهرَبة، أو بحار ظلمات لم تُستكشَف، وتَمتلئ بالجان والعفاريت ومخلوقات لا يعلمها.
قد لا يكون الأمر بتلك الصورة الفجة التي رسمتُها، وقد أكون اختزلت الأدوار وقلَّلتُ منها، لكن هذه هي الصورة بشكل أو بآخَر، قد تكون أقلَّ فجاجة، وقد يَنظر الجرَّاح من حين لآخر على بوصلة الرحلة ويَسأل عن الحالة العامة للمريض ويُوازن بين ما يريده مثاليًّا وما هو مُمكن، وطبيب التخدير كذلك قد يُقرِّر الدخول قليلًا في العاصفة وبحسابٍ؛ لعلَّ ذلك يفيد مريضه ويساعد الجرَّاح.
الجرَّاح يُريد عضلات المريض في تمام ارتخائها؛ ذلك يُسهِّل من عمله، يُسهِّل من وصوله ومن عمليته، طبيب التخدير قد يرى الارتخاء الذي وصَل إليه هو الأنسب، لا يُريد أن يدفع مريضه أبعد، يرى أن هذا الحال هو الأنسب للمريض وللرحلة.
بعض العمليات تحتاج أحيانًا لخفض ضغط الدم من أجل خفض النزف؛ كعمليات الأنف والأذن، هي عمليات تدور أغلبها في تجاويف ضيقة، امتلاء تلك التجاويف بالدماء يُصعِّب منها، الجرَّاح قد يَفقد الرؤية، قد يُؤثِّر ذلك على جودة الجراحة لا صعوبتها فقط، لكن طبيب التخدير قد يرى أن الخفض تحت حدٍّ معيَّن سيُؤثِّر على وصول الدم للأعضاء، ساعتها ستعاني الجوع والحرمان، ستتأثر، قد يصاب القلب بذبحة صدرية، والمخ قد تموت خلاياه، والكُلى قد تفشل، وغيرها وغيرها.
هكذا تبدو العلاقات كمواءمة بين الجرَّاح وطبيب التخدير، مواءمة مركزها المريض، كل إجراء جراحي له مُتطلباته، وضع معيَّن للمريض وحزمة من المتطلِّبات لكلٍّ منها تأثير على حالة المريض العامة.
طبيب التخدير مهمَّته تيسير سبل هذه المتطلبات ومُراقبة أثرها، يبدو وكأنه يكافح كي يُسهل للجرَّاح سبيله، كالمخرج ومصمِّم السينوغرافيا في الكواليس، يَبذل كلَّ ما بوسعه لتتجلى براعة الممثِّل.
لكن طبيب التخدير يَعرف أين عليه أن يتوقَّف، حدود متطلبات الجراحة التي يجب أن يجرَّ عندها خَطًّا ولا يتحرَّك قيد أنملة أبعد، أطباء التخدير كثيرًا ما يُجازفون لكنهم يصنعون خططًا بديلة وأبوابًا جانبية للالتفاف والعودة، كثيرًا ما يَدفعون المريض أبعدَ، مُخاطِرين، يكتمون عندها الأنفاس ويَضغطون على شرايينهم التاجية وعضلات قلوبهم الضعيفة من كثرة الضغوط والتوتُّر، يَعتصرون خلايا رءوسهم ويحسبون كل حركة ليعودوا بالمريض آمنين.
يبدو طبيب التخدير كضمير الجراحة؛ يَبذل كل ما بوسعه من أجل جراحةٍ ناجحة ويتحمَّل مطالب الجرَّاح لأَجلها، لكن بيده حق الفيتو والنقض، يُشهره متى استحالت الأمور، يملك أن يوقف الإبحار ويعود متى اشتدَّت العواصف، ويَعرف مدى كلِّ مجازفة، وإن كانت المجازفة شديدة الخطورة يُعلم بذلك المريض ويسجِّل موافقته موضِّحًا كل الخيارات المتاحة والخطط.
هو الضمير الذي يحدِّد متى عليه أن ينتفض ويقيِّد السُّبُل أمام جموح الجراحة عندما يتطلب الأمر، ويُبحر وقد اشتدت الريح لو لم يكن لغير ذلك سبيلًا.
الجرَّاح هو مَلِك الغرفة متى كان كل شيء يمشي في سلاسة، هو يُقدِّم الخدمة والعلاج للمريض، وكل مَن في حجرة العمليات يُساعدونه في سبيل ذلك بما فيهم طبيب التخدير، يُلبِّي كل متطلباته ومتطلبات الجراحة متى كان ذلك ممكنًا.
لكن متى ساءت الأمور وسارت في غير السبيل المتوقَّع وظهر بعض المضاعَفات ففي هذه الحالة يتم تصعيد طبيب التخدير ليُصبح ملك الغرفة، الكل يُطيعه ويساعده في سبيل أن يُنقِذ المريض ويعالج المضاعَفات التي ألمَّت به ويحفظه وحياته بقدر الإمكان.
إلا أنني يومًا وبينما أتحدَّث مع أ.د. محمد البربري أستاذ جراحة الأطفال عن رؤيتي الرومانتيكية تلك، ابتسم وقال لي: «مشكلتك أنك لم ترَ خدمة طبية.» هل فعلا لم أرَ انتهاكاتٍ لكلِّ هذه المواثيق وأسبابها الكثيرة، وأن رؤيتي هذه أقرب للمثالية منها لحقيقة الأشياء، وأن الواقع صادم وقاسٍ ولا تملك فيه أبدًا تنفيذ تلك الرؤية الحالمة؟ كان رأيه أن ما رأيت لا يعدو كونه شيئًا؛ فأنا ابن القاهرة ومستشفيات الجامعة، والتي وإن شابَ خدماتِها قصورٌ ونقْص ومساوئ ليست بشيء في مقابل الخدمة الطبية في القُرى والنجوع والمستوصفات، صارحته بأنني أُقدِّم هنا أمرًا مختلفًا نصصتُ عليه في تقديمي لما أطرح، رؤية شاملة للعلاقات كما أراها وكما نستشعرها أحيانًا، وكما يجب لها أن تكون، وكما تكون في كثير من الأحيان، هناك كثير من الكُتاب والأطباء والأصدقاء كتبوا عما عناه أ.د. محمد البربري بعيدًا عن منظوري الذي أكتب منه، رغم إدراكي للواقع ولروايات كثيرة حول الانتهاكات التي كتَب عنها بالفعل الكثير.
لا يحلُّ لي أن أُنهي هذا الفصل دون التطرُّق لما جرى في برِّ مصر في أيام ثورة يناير وأحداث العنف التالية لها، وقتَها استحالت المستشفيات لخلايا نحل، بما فيها قصر العيني، مستشفى جامعة القاهرة الأقرب لميدان التحرير.
في صبيحة يوم التاسع والعشرين من يناير كانت حوائط غُرف العمليات ملطَّخة بالدماء، كانت أراضي الغرف تعجُّ بدماء وسوائل وزجاجات محاليل فارغة وأكياس دم فارغة وفُرش عمليات وأشياء كثيرة أخرى من المستلزَمات، لم يكن هناك وقتٌ بين دخول المرضى وخروجهم لتنظيف الغرف، أقصر ما يُمكن عمله كان الإجراء المتبع، لا وقت إلا لإنقاذ الحيوات وبأقصر الطرق، لا وقت للإجادة أو للإبداع أو لتنفيذ جراحات معقَّدة، مرضى كثُر أُغلق نزيفهم الداخلي على ضمادات داخلية لوقف النزيف، ليُعاد استكشاف سبب النزيف أو التعامل معه في أوقات لاحقة متى سمح الحال والظرف بذلك.
تكرَّر الأمر مرة أخرى يوم ما عُرف بموقعة الجمل ويوم أحداث شارع محمد محمود وبصورة أقل في أيام أخرى كيوم أحداث مجلس الوزراء وغيره.
في المرات التالية كانت الاستعدادات أفضل، وقد استفاد الجميع من خبرات الكارثة القومية الأولى.
بعد أحداث الثورة قرَّرت نقابة الأطباء تكريم بعض الأطباء ممَّن كان لهم دور كبير في إسعاف المرضى في تلك الفترة، وبالطبع كان لقصر العيني نصيب كبير من تلك التكريمات.
كان جُلُّ التكريمات إن لم يكن كلُّها لأطباء الجراحة في التخصُّصات المختلفة، وهم بالطبع يستحقون، غير أن هذا الاحتفال مرَّ دون تكريم طبيب تخدير واحد.
نعم، لم يكن أحدٌ يعمل من أجل التكريم، بل لعلَّ هذا التكريم قد أصبح يثير غصة في الحلق بعد أن انحرَفَت كل الأمور.
لكن السؤال كيف لم يَنتبِه القائمون على نقابة الأطباء لأولئك الذين في الكواليس، ولولاهم ربما ما كان عرضٌ أو نتيجة؟! في نهار اليوم التالي لجمعة الغضب، يوم ٢٩ يناير، كانت غرف العمليات كلها تعمل في مختلف أرجاء المستشفى، ما يزيد عن الثلاثين طاولة عمليات، أطباء التخدير يقومون عليها جميعًا، في تلك الأثناء دور التخدير مِحوَري، ليس فقط من أجل العمليات الجراحية، بل من أجل حفظ الحياة، معالجة كلِّ خلل أدَّت له الإصابة، تعويض النزيف ورفع ضغط الدم والسيطرة على مُستوَيات غازات الدم، علاج أي حموضة قد تكون قد زادَت في الدم، وغيرها وغيرها.
كانت الحالات الأخطر تُنقَل للرعايات المركَّزة الجراحية، والتي يقوم عليها أطباء تخدير كذلك ليَستكمِلوا ما بدأه زملاؤهم.
في أحداث محمد محمود كانت الخِبرة بالكوارث قد زادت، وكذلك حماس الوقوف بجوار الوطن، أدرك الجميع أن الصالح يَكمن في أن يكون طبيب التخدير عضوًا أساسيًّا في حجرة الإسعافات الأولية، وهكذا تولَّوها مع بداية هذه الكارثة القومية الثانية، ليبدءوا إسعاف المريض منذ وصوله، وهكذا أصبح مُوكَلًا إليهم استقبال المريض والقيام بجانب حفظ الحياة والوظائف الأساسية للمريض بينما تتحدد وجهته إلى العمليات أو غيرها، ثم يقومون بمراقبته أثناء العمليات ويستكملون دورهم في الحالات الأخطر التي تَستدعي الوصول للرعاية المركزة.
أبدو إذًا وكأنني أُناقض نفسي، أتحدَّث عن دورٍ مُهمٍّ وفعَّال يُدركه الأطباء، ثم أقول بالغفلة عن هذا الدور من قبل نقابة الأطباء!
لكن من قال إن الدور غير معروف أو مُدرَك؟! هو معروف ومُدرَك لكنه على الأغلب مَنسي؛ لا يتذكرهم أحد إلا إذا كان عليهم أن يَتحمَّلوا نتيجة أخطائهم أو تبعات خطأ الجرَّاح الذي يُؤثِّر على الحالة العامة للمريض أو المشكلات العضوية للمريض، وعليهم ساعتها التعامل مع كل ذلك والعبور بالمريض قدرَ إمكانهم نحو الاستقرار، ساعتها يكتم الجميع أنفاسهم ويُنادون طبيب التخدير في هلع.