أكسيد النيتروز؛ غاز الضحك والانتشاء
في يوم ٣٠ أكتوبر ٢٠٠٨ صدر قرار وزير الصحة آنذاك د. حاتم الجبلي بإيقاف استخدام غاز أكسيد النيتروز في كل مستشفيات مصر، وهو القرار الساري حتى اليوم، وقتَها ظنَّ كل العاملين في مجال التخدير أن القرار مرهون بوقت قصير، تتمُّ فيه مراجعة إجراءات الأمان المتعلقة بإنتاج الغاز ونقله وتخزينه واستخدامه ثم يُسمَح باستخدامه من جديد، لكن استمر ذلك المنع لسنوات طويلة، حتى إن أمر إعادة استخدامه لم يَعُد مطروحًا في الأفق أو ضمن أي أجندة قريبة أو بعيدة؛ المشاكل جمَّة، ولا يريد مسئول أن يزجَّ بنفسه في خضم مخاطرة قد تودي به.
غاز أكسيد النيتروز الذي يعود استخدامه في التخدير للقرن الثامن عشر، على مدار كل هذه السنوات بقيَ مُستخدَمًا وبخواص فريدة لم تتوفَّر حتى اللحظة لأيِّ مخدِّر استنشاقي آخر، وعلى الرغم من مخاطرِه الكثيرة وأعراضه الجانبية وقوائم موانع الاستعمال بقيَ مُسيطِرًا وموجودًا، لم يقدر أي بديل حتى اللحظة على إزاحته من مكانه، لكنَّنا في مصر فعلنا، ودون بديل له ذات الخواص!
في خلال السنوات الكثيرة التالية لاستخدام أكسيد النيتروز وحتى اللحظة ظهر الكثير من المخدِّرات الاستنشاقية الأخرى، أغلبها لم يَصمد أمام اكتشافاتٍ أحدث بخواص أفضل، إلا أن أكسيد النيتروز، الغاز الأقدم استخدامًا، بقيَ فارضًا نفسه رغم كل التطور والتقدُّم.
بعد أكسيد النيتروز بعدة سنوات ظهر الأثير (ثنائي إيثيل الأثير) وكذلك الكلوروفورم، الاثنان انتهى استخدامهما تمامًا من كل العالم لأسباب تتعلَّق بأعراض جانبية خطيرة كثيرة تخصُّهما.
الهالوثين كذلك ظهَر في منتصف القرن الماضي، لكنه أمام تطورات كثيرة وابتكار مخدرات استنشاقية أفضل انحسر استخدامه بشكل كبير جدًّا، ويوشك أن يختفي من كل العالم.
في خضمِّ كل هذه التطورات والأحداث والاكتشافات والجهود المعملية والإكلينيكية بقي أكسيد النيتروز مُتفرِّدًا ومختلفًا لم يُوقَف استخدامه، بل إن بعض المؤسسات تستخدمه في بعض الأحوال بشكل روتيني ونظامي، بلا أيِّ نقاش أو جدال حوله.
لكن ما السبب الذي دفَع د. حاتم الجبلي لوقف استخدام عقار له كل هذه الفعالية والسيرة؟
قبل ذلك التاريخ الذي صدَر فيه القرار بيوم تُوفيت مريضة بمستشفى عين شمس بعد ثلاثة أيام من إجرائها عملية جراحية لاستئصال المرارة، كانت المريضة قد أُصيبت بارتشاح في الصدر وفشل تنفسي أدى لنقلها للرعاية المركَّزة، ولم تُفلح محاولات إسعافها.
كان هناك ثلاث حالات أخرى فيما ذُكر وقتها قد أصيبوا بذات الأعراض بمستشفى النيل بدراوي، وأشارت التحريات والتكهُّنات وقتها إلى أن غاز أكسيد النيتروز هو المسئول عن تلك المضاعفات التي حدثت للمرضى.
لكن كيف حدَث هذا؟ كيف أدى الغاز الذي درَج الناس على استخدامه طوال هذه السنوات الطوال لمضاعَفات كتلك؟
غاز أكسيد النيتروز، هو غاز عديم اللون، لا يَشتعِل لكنه يُساعد على الاشتعال في خاصية تُشبه تلك التي لغاز الأكسجين، له طعمٌ ورائحة محبَّبة في درجة حرارة الغرفة، أول استخداماته كان لجلب النشوة في حفلات الميسورين، يَستنشقونه لترتخي عضلاتهم ويمتلئوا بالبهجة والضَّحِك، كان ذلك قبل أن يُستخدَم لتسكين الألم أو في التخدير، وكما استمر استخدامه في التخدير لسنوات طويلة، لم يتوقف استخدامه كذلك كغاز باعثٍ على النشوة، يتمُّ تعاطيه تمامًا كما تُتعاطى المخدِّرات، في حفلات كثيرة في إنجلترا كان الشباب يشترون بالونات ممتلئة به ويَستنشقونها من أجل البهجة وبأسعار زهيدة؛ فهو أحد أشهر وسائل النشوة المقنَّنة هناك.
إلا أنه مؤخَّرًا بدأت تظهر أصوات تُطالب بمنع استخدامه كعقار مقنَّن لجلب النشوة، في عام ٢٠١٥ أصدر مجلس بلدية لامبيث بجنوب لندن قرارًا بمنع استخدامه؛ ذلك لأن استنشاقه في تلك الحفلات كباعث على البهجة والنشوة قد انتهى أحيانًا بحالات وفاة.
يبدو الغاز أفضل كثيرًا من الكحوليات والقنب وغيرهما من بواعث النشوة الشائعة الاستخدام؛ ذلك لأنه لا يرتبط بالكثير من الأعراض الجانبية والتأثير السيئ الذي قد يَستمر لساعات عقب استخدامه؛ فهو عقار يعمل سريعًا وتزول آثاره سريعًا كذلك، بعد أن خلَّف النشوة والبهجة المرجوَّة لدقائق ثمينة.
هذه الوفيات التي سُجِّلت بسبب استخدام غاز النيتروز لا تقتصر على إنجلترا فقط؛ فالإحصائيات تُشير إلى أن الغاز يتسبب في ١٥ حالة وفاة في المتوسِّط سنويًّا في الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الوفيات في معظمها تحدُث بسبب أن غاز النيتروز المستنشَق قد يؤدي للاختناق، متى كان تركيزه في هواء الشهيق مرتفعًا جدًّا، يكاد يقترب من المائة بالمائة، فساعتها سيملأ الرئتين ويَحرِم الجسم من الأكسجين اللازم للحياة، فيُصاب المنتشي بالزرقة وتزحف عليه الغيبوبة، وإذا لم يتم إسعافه بشكل سريع سيودي ذلك بحياته.
إلا أن هذا لا يحدث في غرف العمليات؛ فغاز النيتروز المستخدَم يُعطى مخلوطًا بالأكسجين، وهناك أكثر من حساس ومن جرس إنذار ومن وسيلة أمان تَضمن وصول خليطٍ غازي يَحوي نسبةً معقولة وآمنة من الأكسجين اللازم للحياة، ويَجعل من المستحيل أن يكون الخليط غير آمن ويُعطي إنذارًا متى حدث ذلك، كما أن طبيب التخدير بحسِّه الإكلينيكي وبمُساعدة أجهزة القياس يستطيع تشخيص أي نقص بأكسجين الدم والتدخُّل بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب.
ماذا حدث إذًا في أكتوبر ٢٠٠٨ لتكون نتيجته ذلك القرار الحاد والعنيف؟
كي ندرك الأمر يجب أولًا أن نتعرَّف قليلًا على الطريقة التي يتمُّ بها إنتاج ذلك الغاز السحري.
يتمُّ تحضير أكسيد النيتروز كناتج انحلالٍ لأكسيد الأمونيوم المنصهر عند درجة حرارة ٢٥٠ درجة سيليزية؛ حيث ينتج غاز أكسيد النيتروز مصحوبًا ببخار الماء.
يبدأ الأمر بصهر وتفكيك وتسخين أكسيد الأمونيوم، يتمُّ ذلك في قدور مصنوعة من الألومنيوم مجهَّزة بسخانات كهربية وأجهزة تحكم وقياس لدرجة الحرارة؛ حيث يتم تسخينها إلى درجة ٢٥٠ درجة سيليزية، لضمان سرعة عملية الانحلال والتفكُّك يتمُّ إضافة عامل حفاز، الغاز الناتج عن انحلال أكسيد الأمونيوم يتمُّ استقباله مع بخار أكسيد الأمونيوم غير المنحلِّ وأكاسيد النيتروجين الأخرى والأمونيا وبخار الماء على ملفَّات تكثيفٍ تُخفِّض من درجة حرارة الغازات الساخنة.
الغاز الخارج من جهاز غسيل الغازات الكاوي يتمُّ تمريره إلى برج حمضي يحوي حمض الكبريتيك، والذي يتمُّ ضخه بمضخة خاصة لأجل إزالة الأمونيا المصاحبة لأكسيد النيتروز.
يتبقَّى التخلُّص من غاز النيتروجين المصاحب لأكسيد النيتروز، والذي يتمُّ عبر ضغط الغاز الناتج من كل الخطوات السابقة على ثلاث مراحل بواسطة جهاز ضاغط مشحم بالماء.
أكسيد النيتروز يتمُّ تسييله ثم يمرَّر على مجموعة من المجفِّفات وينتهي به الحال إلى أوعية خاصة، حيث يُترك ليستقر، وحينها يمكن طرد النيتروجين الذي سيتراكم كغاز غير مسيَّل أو ذائب على السطح. غاز أكسيد النيتروز النقي المسال الذي تحصَّلنا عليه في النهاية يتمُّ ضخه في أسطواناته الخاصة والتي تُعبَّأ تبعًا للوزن؛ لأن الغاز مسال (الغازات غير المسالة تُعبَّأ تبعًا لضغط الغاز وليس وزنه).
لا يتوقف الأمر عند ذلك؛ فالغاز يجب أن يُفحص عند ضغطه وتعبئته من أجل ضمان نقائه، كما أن عينات منه يجب أن تُسحَب من الأسطوانات الممتلئة به لضمان نقائه تبعًا لمعايير عالمية ثابتة.
كانت الاتهامات التي أحاطت بتلك الكارثة المذكورة في أول هذا الفصل، والتي أدَّت لقرار وقف استخدام غاز أكسيد النيتروجين في كافة مستشفيات مصر لحين التأكُّد من سلامة كل الأسطوانات والتيقُّن من نُظُم التصنيع والتعبئة كلها موجَّهة لعدم نقاء الغاز الذي استنشقه المرضى حينها وتأثُّر أجهزتهم التنفُّسية بتلك الشوائب الغازية التي أدَّت لأعراض قاتلة.
وقتها تمَّ تبادل الاتهامات بين المصنِّعين والموزِّعين حول المسئولية عن تلك الكارثة؛ وُجِّه اتهامٌ للمُصنِّعين أن معايير ضمان نقاء الغاز وسلامته غير مطبَّقة بالشكل المُرضي، وأن هناك مشاكل تصنيعية ضخمة، وهو ما أدَّى لهذا الخطأ الكارثي الذي هدَّد حياة المرضى وأدى لتلوث الغاز بشوائب مدمِّرة للجهاز التنفسي.
إلا أن المصنِّعين قد ردُّوا أن الأزمة ليست في مصانعهم، خاصة تلك الحاصلة على شهادات بالجودة والتزامٍ بمعايير الأمان؛ بل الخطأ الكارثي كله يقع على الموزِّعين؛ لأن شيَمهم التلاعُب في أسطوانات الغاز؛ يقومون بنقلها بشكل غير سليم، كما أنهم يتلاعبون بالأوزان ويقومون بتفريغ بعض الأسطوانات الممتلئة في أخرى فرَغت من أجل تقليل الوزن وتحقيق مكاسب، وهو ما قد يؤدي لتراكم الشوائب وتغيير في خواص الغاز المخدِّر ودرجات أمانه.
اللجنة التي شكَّلها النائب العام خلُصت إلى أن المرضى قد تنشَّقوا غازًا مُلوثًا بالشوائب، هو المتسبِّب فيما أصاب المرضى الأربعة وأدى لوفاة اثنين منهم، أدانت اللجنةُ الشركةَ المصرية الخليجية للغازات؛ حيث إنها تُعيد تعبئة الأسطوانات أكثر من مرة دون التأكُّد من خلوها من الشوائب أو تعريضها لاختبارات تؤكِّد سلامة استخدامها وأمانه.
كما برَّأت اللجنة الأطباء والعاملين بالمستشفى وكذلك إدارتها.
أسفَرت المحاكمة عن إدانة شركتَي المصرية الخليجية وحلوان للغازات وتغريمهما ٥٠ ألف جنيه، كما أمرت بحبس شخصَين من المسئولين بالشركة بالسجن لخمسة أعوام، وحكمت على مسئول ثالث بالسجن لثلاثة أعوام، مع إحالة دعاوى التعويضات المدنية للمحكمة المختصة.
كان قرار د. حاتم الجبلي بمنع استخدام غاز أكسيد النيتروز في الأسبوع الأول لعملي كطبيب مُقيم بقسم التخدير؛ لذا فكل ذكرياتي مع هذا الغاز تَنحصِر في مَشاهد معدودة، المواسير والأنابيب الزرقاء لغاز أكسيد النيتروز التي أعلم جيدًا أن لا شيء يمر فيها، فقط تمرُّ بالحائط بجوار الأنابيب البيضاء للأكسجين والسوداء للهواء الطبي، لكنها على خلافهما لا تحمل الغاز الذي من المفترض أن تحمله.
جملة الاستشاري هذه وهذا المريض الذي قام بتخديره هو أقرب مريضٍ لي تم تخديره بأكسيد النيتروز طوال فترة عملي كطبيب تخدير وتدرُّجي الوظيفي من طبيب مقيم لمُعيد لمُدرِّس مساعد وحتى مدرِّس في قسم التخدير.
أَصْدقكم القول، الأمر أقرب لشعور كبير بالفقد؛ خاصة عندما ترى الأكبر سنًّا ممن تعاملوا بالغاز وهم يعضُّون شفاههم ويترحَّمون على أيام الغاز الذي مُنع.
فقط بقيت الأنابيب التي لا تحمل شيئًا ومؤشِّرات ضغط الغاز في أجهزة التخدير تُشير إلى الصِّفر، مهما حاولت أن تلفَّ المفتاح الذي يزيد من تدفُّق الغاز والمميَّز كذلك بلونه الأزرق في جهاز التخدير فلن تحصل على شيء ولن يتحرَّك المؤشر الذي يُحدد مستوى تدفُّق الغاز.
موتٌ كامل بكل ما يتعلق بأكسيد النيتروز، رغم أن كل الحوائط وكل الأجهزة تحمل إشارة إليه، فتصنيعها بهذا الشكل هو أمر روتيني ولا يعنيها منعٌ قوميٌّ في مستشفيات مصر؛ فالغاز عالَمي.
كما بقيَت كتب التخدير تحمل صفحات كثيرة عنه، صفحات مُهمة ومُثيرة وشائقة؛ فللغاز خواصُّ خاصة ومميَّزة تجعل منه سحرًا، يُعجب السحرة الذين يمزجونه بتعاويذهم الخاصة فيَقدرون على جلب النوم، هم يُريدون موائدهم عامرة بكافة الصنوف ليتلاعبوا بها ومعها بالشكل الأمثل.
قرأتُ عنه الكثير، وذاكرتُ موضوعه للماجستير والدكتوراه، وهو بالنسبة لي حلمٌ بعيدٌ أتمناه. لن أُخفيكم سرًّا، في أحيانٍ كثيرة وفي الصباحات الباكرة عندما يتعيَّن عليَّ التأكد من عمل جهاز التخدير بكفاءة قبل أن نبدأ تخدير مريضنا الأول، فإنني أُدير مفتاح غاز أكسيد النيتروز مع أنني في يقينٍ من أن لا شيء سيحدث، لكنني أديره وأرجو أن يتزحزح المؤشِّر والكرة الدوارة لمقياس تدفُّق الغاز، وأبتسم ساخرًا من نفسي وأنا أعيد المفتاح لوضع الغلق الأول بعد أن لم تسفر الحركة عن شيء، سوى عن أنابيب ومؤشرات ميتة.
الحصول على هذا التركيز مُستحيل في الظروف العادية، فكيف يمكن لشيء في الظروف العادية أن يتعدَّى تركيزه ١٠٠٪؟! لكن علينا أن نُدرك أن هناك فارقًا بين غياب الوعي وبين عدم الاستجابة للمؤثِّر الجراحي؛ فكما أشرنا في الفصل الأول غياب الوعي درجات، واستنشاق أكسيد النيتروز بتركيزات تقترب من ٨٠٪ يجعل الأغلب يفقدون وعيهم، لكن أغلبهم سيَبقى مُستجيبًا للمؤثِّرات الجراحية بردود فعل لا إرادية.
إذًا، فلا يُمكن تخدير مريض بأكسيد النيتروز وحده لأجل جراحة ساكنة، كيف يعمل إذًا؟ وما هي أهميته؟
لكن ليست هذه هي الفائدة الأهم؛ فهناك فائدة لا يُعوِّض عنها أيٌّ من المخدرات الاستنشاقية المعروفة والمستخدمة تجاريًّا حتى اللحظة.
لندرك ذلك ربما علينا أن نَنتقل قليلًا لبعض الخواص الفيزيائية لتلك الغازات.
هذه النسبة لها علاقة بمَقدرة المخدر الاستنشاقي على الذَّوَبان؛ فكلما قلَّت هذه النسبة كان المخدِّر الاستنشاقي أقل قدرة على الذوبان، وكلما زادت كان هذا المخدر الاستنشاقي قادرًا على الذَّوَبان أكثر.
وهناك علاقة مباشرة ووطيدة بين سرعة عمل المخدِّر الاستنشاقي وبين تلك النسبة والمَقدِرة على الذوبان.
لأكسيد النيتروز مُعامل تقسيم دموي ضئيل جدًّا ٠٫٤٧؛ وبالتالي فهو سريع جدًّا في العمل، ويستغرق الوقت الأقل لجعل المريض يَنام، وهي فائدة مهمة جدًّا خاصة عند بدء التخدير بمخدِّر غازي وليس بالحقن الوريدي.
كلُّ هذا عظيم، لكن يبقى الأثر الأهم والخاصية الفيزيائية الفريدة لغاز أكسيد النيتروز والتي لا يشاركه فيها حتى اللحظة أي مخدِّر استنشاقي يتم تسويقه تجاريًّا وتستخدمه المستشفيات.
ذلك يرجع إلى أن غاز أكسيد النيتروز يُعطى بخلاف باقي الغازات في تركيزات عالية جدًّا، وهو ما يسمح لتلك التأثيرات الفيزيائية بالحدوث.
غاز أكسيد النيتروز له قدرة على الذوبان في الدم ٢٠ مرة أكثر من النيتروجين والأكسجين، لذا فعندما يَصل للحويصلات الهوائية فإنه يَندفع منها إلى الدم بسرعة تفوق بكثير تلك التي يندفع بها النيتروجين من الدم إلى الحويصلات الهوائية في عكس الاتجاه.
ربما يكون مناسبًا الآن الخروج قليلًا عن سياق الموضوع، لكننا لن نبتعد كثيرًا لتوضيح أمر له علاقة بمُعتقَد شعبي خاطئ راسخ، أقرب لأسطورة مدنية.
يَعتقد البعض في لصوص يستطيعون سرقة أي شخص أو خطفه بمجرَّد إجباره على استنشاق منديل مبلل بالمادة المخدِّرة، هكذا تقول الشائعة أنَّ اللص يقترب من الشخص ويضغط منديلًا مبلَّلًا بالمخدِّر، وبمجرد أن يتنفَّس الشخص خلال ذلك المنديل مع أول أو ثاني شهيق فإنه يَسقط مُخدَّرًا فاقدًا الوعي، وعندها يستطيع اللص أن يفعل ما شاء، وقد فقَدت الضحية الوعي بالعالم.
لكن ومن خلال ما سبَق أن ذكرناه فالأثر أبدًا ليس بتلك السهولة؛ فالغاز المخدِّر المستنشَق يجب أن يصل لتركيزات معيَّنة في الحويصلات الهوائية تستدعي التنفُّس لمرات عديدة حتى يرتفع ضغطُه الجزئي في الحويصلات الهوائية، ثم يجب أن يَنتقل للدم حتى يصل فيه لضغطٍ غازي معيَّن، ومن الدم للمخ يذوب في دهونه ويَبذل ضغطًا معيَّنًا فيه يجعل له تأثيرًا، كل هذه الخطوات تحتاج لوقت ولتنفُّس مستمر للغاز في تركيزات معينة، ولكي يبقى الأثر يجب أن يستمر ضخ الغاز المخدِّر وتنفُّسه حتى بعد الوصول لمرحلة التعادُل بين الغاز المستنشَق وذلك الذي في الحويصلات الهوائية والذي في الدم والمخ.
منذ ذلك الحين وحتى اللحظة لم يَستطع أحد أن يُقدِّم ذلك العرض مستخدمًا الكلوروفورم أو أيًّا من المخدِّرات الاستنشاقية التي تمَّ ابتكارها حديثًا.
نعود للموضوع الأساسي، فهكذا تبيَّن أن غاز أكسيد النيتروز مُسكِّن فعال، ويستطيع أن يُفقد الأفراد الوعي في تركيزات عالية، لكنه فقدانُ وعي لا يكون معه فقدانٌ لردِّ الفعل مع المؤثر الجراحي على الأغلب.
وتبقى الفعالية الأهم لغاز أكسيد النيتروز أنه حامل للغازات المخدِّرة الأخرى، وهو حامل يتميَّز برائحة محبَّبة وقدرة على تسريع بدء التخدير وعمل المخدِّرات الاستنشاقية المصاحبة بآليات تم ذكرُها وهو ما يجعل منه غازًا مفيدًا وهامًّا، له تلك المزية الفريدة.
كما أنه قد يَزيد من ضغط الغاز بتلك القدرة العالية على الانتشار في تجاويف الهواء التي لا يُمكن لها التمدُّد حيث تزداد كمية الغاز بها مع بقاء حجمها ثابتًا كما قد يحدث في الأذن الوسطى.
لم تكن هذه الآثار الجانبية هي السبب في الإطاحة بغاز أكسيد النيتروز في مصر؛ كثير من المخدرات الاستنشاقية تمَّ الإطاحة بها عالميًّا لأسباب تتعلق بأعراضها الجانبية؛ كالأثير والكلوروفورم وأخيرًا الهالوثين، لكن أكسيد النيتروز نجا من ذلك المصير، فما زال العالم يَعتقد في فوائده التي تجبُّ أضراره، كما أن أضراره يُمكن التعامل معها أو منعها أو عدم استخدامه في حالات معيَّنة قد يضر بها.
لكن مصر منعته لسبب آخر تمامًا يتعلَّق بأمان وسلامة تصنيع الغاز؛ أُعلن وقتها أن ذلك الإيقاف وقتيٌّ لحين التأكُّد من سلامة جميع الأسطوانات والتأكد من نُظُم المعايَرة والفحص، لكن ذلك المنع استمر لسنوات ولا يزال مستمرًّا، حتى إن هناك جيلًا من أطباء التخدير لم يتعرَّف على غاز أكسيد النيتروز إلا من خلال أوراق مُصمتة لمعلومات طبية.
المثير للسخرية أن الصحف وقتها كانت قَلِقة من قرار مُتسرِّع بعودة استخدام الغاز، وحذَّرت من ضغوط يمارسها المصنِّعون على صانع القرار.
أما المثير للرثاء أن دولة بحجم مصر باتت تتعامل مع جُلِّ مشاكلها بمنطق أن الهروب أسلم من المواجهة، الكل يخشى اتخاذ قرار أو حتى البتَّ في الأمر، قد تخلُص الآراء إلى منع نهائي للغاز، لكن يجب أن يكون السبب حقيقيًّا، ليس مجرَّد أن هناك نظامًا سابقًا قد شابَهُ إهمال وغش وخطأ بشري، حينها يجب أن يعترف مسئولونا أنهم وأنَّنا غير قادرين على إقرار وتطبيق نظام صارم يمكن فيه التأكد من تصنيع وتوزيع أسطوانات آمنة من غاز أكسيد النيتروز، وساعتها سيُطاردنا العار للأبد.
نعم، أغلب الأنظمة مُهلهلة، والفوضى ضاربة في كل ركن، حتى إن ضمان كفاءة أيِّ منظومة يبدو أحيانًا ضربًا من الجنون، لكن لماذا وُجد المسئولون إذًا؟! ومتى قد توجد إرادة لتغيير شيء قد يبدو في خضمِّ ضوضاء العالم وزحامه بسيطًا لكنَّه عاكس لصورة كلية باهتة ومتهرئة؟
أما الإعلام فقد تناول هذه الأزمة في الأغلب إما بدون رأي خبراء أو عبر آراء مقتضبة ومبتورة، تحدَّث بعضُهم عن تأجيل جراحات بسبب منع أكسيد النيتروز، وهو الأمر الذي لا منطق له؛ فغازات التخدير كثيرة، وعدم وجود أحدها من الصعب أن يؤدِّي لتأجيل الجراحات خاصة إذا كان غازًا حاملًا ومسكِّنًا بالخواص التي فصَّلناها سابقًا.
تحدَّث البعض عن استخدام بدائل لأكسيد النيتروز وهو الاصطلاح الخاطئ؛ فعملية التخدير معقَّدة ومُتداخلة حيث تستخدم مخدِّرات وريديًّا وأخرى بالاستنشاق ومعظم استخدام أكسيد النيتروز كغاز حامل، قد يتمُّ الاستغناء عنه دون الحاجة لبدائل، ولكن دَوره في خفضِ كمية المخدِّر الاستنشاقي، وبالتالي أعراضه الجانبية وكذلك التسريع من عمل ذلك المخدِّر الاستنشاقي المصاحب وظهور أثره لا يتمُّ تعويضه.
ثم لم يَنتبه أحد لنهاية تلك الرواية، أو يتعقَّب تفاصيلها الكثيرة، ليَكشف أن الغاز ممنوع منذ سنوات طويلة بقرارٍ قيل وقتَها أنه مؤقَّت، وأن السبب الوحيد لذلك المنع هو التنصُّل من مسئولية إقرار منظومة صلبة ومراقبتها.
مرة أخرى أُشير إلى أن لكل مخدِّر ودواء ما له وما عليه، وقد تكون قرارات إيقاف بعضها تحمل الكثير من الحكمة متى تعدَّت الأضرار المنافع، بل وقد نفقد في سبيل ذلك بعض المزايا.
على سبيل المثال فالعالم مؤخرًا اتجه لمنع استخدام الهالوثين وهو أحد المخدرات الاستنشاقية لأنه قد يُسبِّب أحيانًا التهابًا كبديًّا، ٢٥٪ من الذين يتم تخديرهم بالهالوثين يُعانون التهابًا بسيطًا وعابرًا، وقد لا يَظهر إكلينيكيًّا، إلا أنه وفي أحوال شديدة الندرة قد يُسبِّب دمارًا كبديًّا كبيرًا وفشلًا كبديًّا، وهي حالات على ندرتها الشديدة فمعدلات وفيات المصابين بها عالية تتراوح بين ٣٠٪–٧٠٪.
الهالوثين كذلك يثبط عضلة القلب، ويُسبِّب بطئًا في ضربات القلب، كما قد يؤدي إلى اضطراب في ضربات القلب.
لهذه الأسباب ولغيرها اتجه العالم نحو التوقُّف عن استخدام الهالوثين كمُخدِّر استنشاقي، إلا أنه كما كان لهذا القرار مميِّزاته فله عيوبه.
الهالوثين من خواصِّه أن الإفاقة منه تحتاج لوقت أطول مقارَنةً بمُخدِّرات استنشاقية أحدث أصبح استخدامها شائعًا كالأيزوفلورين والسيفوفلورين.
هناك حالات يكون فيها مفيدًا ذلك الوقت الأطول قبل انتهاء التأثير، وهو ما يُثير جدلًا عِلميًّا حول استخدام غاز الهالوثين فيها أم السيفوفلورين؛ مثل حالات المناظير الشعبية للأطفال من أجل استخراج جسمٍ غريبٍ قد يكون وجَد طريقه للممرات الهوائية إذا استُنشق بالخطأ.
إلا أن الأمر بالنسبة لأكسيد النيتروز ومنعه في مصر أمر مختلف لا يَخضع أبدًا لمنطق تلك الدراسات العلمية ومقارنة النفع والضرر.
إلا أن القائمة لا تتوقَّف عند تلك الأدوية، بل هي طويلة وممتدَّة ومثيرة للدهشة والغرابة.
أكسيد النيتروز غاز ودواء ساحر، إلا أن جُلَّ أدوية التخدير ساحرة وتدور حولها وحول خواصها حكايات كثيرة؛ فهي تَتلاعب بالوعي والتركيز والإرادة والذاكرة والألم؛ أهم ما يميز الإنسان ويدَّعي تفوقه بهم.
في الدورات التالية للدم سيكون تركيز الدواء في المخِّ أعلى من ذلك الذي في البلازما، وحينها سيَنتقِل الدواء من المخ إلى بلازما الدم والتي سيكون تركيز الدواء بها أعلى من ذلك الذي في الأنسجة الدهنية، وبذلك سينتقل الدواء من البلازما إلى الأنسجة الدهنية فيَنخفِض تركيزه من المخ ويَرتفع تدريجيًّا في الأنسجة الدهنية، هذا الانخفاض في تركيز الدواء في المخ هو الذي يَأذن بعودة الوعي السريعة، والتي تحدُث خلال دقائق من حقن الدواء، وإن بقيَ الدواء في الجسم، فقط تغيَّر توزيعه، لن يتمَّ التخلُّص منه إلا في ساعات تالية عن طريق الأيض والكبد والكُلى.
لذا فعند تكرار إعطاء الدواء فإنه سيَتراكم في الجسم ودهونه وقد يصل لتركيزات عالية تؤدي للتشبُّع وتَمنع إعادة التوزيع بشكل كُفء، فتزداد مُدَد غياب الوعي وتأثير الدواء، وهو أثر غير مرغوب وسيئ.
لكن ليست هذه هي الحكايات الأكثر إثارة بشأن عقار ثيوبنتال صوديوم؛ فقد أطلقوا عليه يومًا اسم مصل الحقيقة، كثير من الأفلام والروايات البوليسية أو المخابراتية يَعمد كُتابها إلى استخدام ذلك العقار في خضمِّها؛ حيث يتمُّ حقنه لمن يَستجوبونه حتى يتوقَّف عن الكذب ويُدلي بالحقيقة.
بالطبع هناك الكثير من التشكيك بشأن ذلك المعتقَد، فمن الذي أدرانا أن المستجوَب قد رضَخ وكفَّ عن الكذب وانهار مُدليًا بالحقيقة؟ لا دليل ثابت.
تقول النظرية إن المخدِّرات من ذلك النوع تُعطِّل وظائف المخ العُليا وتُثبط من قدرتها على القيادة والتحكُّم، تُعيق الوصلات العصبية والسيالات الكهربية، عندها يُصبح صعبًا على مخٍّ فقد اتزانه أن يَبتكر أكاذيب أو أن يُظهر تحكُّما كاملًا، فينهار ويُخطئ ويَبوح رغمًا عنه.
في وجود إشراف طبي وفي حضرة طبيب التخدير د. أوستين ليش حُقن مايكل بالثيوبنتال في جرعة ضئيلة جدًّا، يقول إنه شعر بدوار وكأنه سكران، لكنه شعر كذلك أنه ما يزال قادرًا على الكذب.
عندما سُئل عن وظيفته أجاب: أنا جرَّاح قلب، جراح قلب عالَمي شهير.
يقول إنه لم يَعرف إن كان قد أجاد الكذب أم لا وإن كان قادرًا عليه.
ثم سُئل عن آخر عملية أجراها فأجاب: لقد كانت عملية توصيل شرايين بالقلب، ولقد نجا المريض، كان ذلك رائعًا.
د. ليش قام بزيادة الجرعة ثم سأله من جديد عن مهنته، يقول موسلي إنه شعر وقتها بأنه أكثر رصانة وأكثر قدرة على التحكُّم في الأمور، فهتف بكل ثبات وبلا تردُّد: أنا مُنتج تليفزيوني، حسنًا، أنا مُنتج مُنفِّذ، حسنَا، مُقدِّم برامج، خليط ما من الثلاثة.
ثم سُئل هل أجرى أي عملية قلب؟ فأجاب موسلي: لا، أبدًا.
يقول موسلي عن تصريحه بالحقيقة عند زيادة الجرعة إنَّ الأمر ليس واضحًا بالنسبة له؛ فهو ما يزال مُرتبكًا بعض الشيء، خاصة أن من خواصِّ الثيوبنتال التأثير على الذاكرة القصيرة، لكن ما يدركه أنه قال ما قاله بكل أريحية وأن فكرة الكذب لم تخطر على باله ولم يَجِدها في عقله.
حيث قام الباحثون بتقسيم المرضى إلى مجموعتين كل مجموعة أُعطيَت نفس الجرعة من الدواء مع إخبار مجموعة واحدة بما يَتعاطونه وإخفاء الأمر عن المجموعة الأخرى، وكانت النتائج مُدهِشة؛ فالدواء لم يظهر أثره إلا مع المجموعة التي أُخبرت عنه.
إلا أن العديد من الأبحاث على مدار سنوات أثبتت فعالية الديازيبام كما أن البحث لم يتكرَّر على عقاقير أخرى فيما أظن.
لا يقلُّ عجبًا كذلك وسحرًا وغرابة، بل إن حكايته الساحرة تبدأ مع تركيبه الذي يمنحه شكلًا يتغيَّر بتغيُّر الوسط المحيط.
هكذا، فكلُّ أدويتنا سحرية، لها حكايات كثيرة ومُثيرة تدور حول تاريخها وأثرها وعبثنا بها ومعها وعبثها بنا ومعنا، غير أنَّ كتب الحكايات ما تزال مفتوحة لفصول جديدة.
في قاعة أطباء التخدير بجناح العمليات وبينما كان الصمتُ سائدًا قطعه أحدنا بشكل مفاجئ: هو مافيش أدوية بادئة للتخدير الوريدي جديدة بقى؟
ابتسمنا جميعًا في سخرية لطرافة السؤال ومفاجأته، لكن بعد لحظة حدقنا جميعًا في الفراغ وتمنَّينا الدواء الجديد والحكاية الجديدة.