جرعة بنج زائدة
كل مضاعفات التخدير غالبًا ما يتمُّ زجُّها تحت عنوان: جرعة بنج زائدة، يحدث ذلك إعلاميًّا في الصحافة والتليفزيون، كما يحدث بين العامة وغير المتخصِّصين.
هكذا باتت جرعة البنج الزائدة متَّهمًا أبديًّا وسرمديًّا بلا ملامح لكنه مسئول عن كل شيء، قادم من الظلام ومخلوق من النار والدخان، لم يرَه أحد لكنهم يرون أثره، هو المسئول عن كل حالات الوفاة والإجهاض وحوادث الطُّرق وتسميم البهائم وتعكير صفو مياه النيل.
في الواقع يَصعُب جدًّا أن يُخطئ طبيب التخدير في جرعات أدوية البنج؛ هو عمل يومي بالنسبة له، والأدوية إلى حدٍّ كبير روتينية ومعتادة، جرعاتها محفوظة ومحفورة في ذهنه رغمًا عنه.
بالإضافة إلى أنَّ لكل دواء هامشًا يكون فيه آمنًا حتى لو زادت جرعته، مع بعض الأدوية يكون هذا الهامش كبيرًا جدًّا، ومع البعض الآخر يكون محدودًا بقدرٍ ما.
في واقع الأمر خطورة أدوية التخدير لا تأتي من زيادة الجرعة، بل تأتي منها هي نفسها، أدوية التخدير خطيرة في ذاتها، هي تُؤثِّر على القلب والتنفُّس والوعي، تُثبِّط القلب في أغلب الأحيان وتثبط مراكز التنفس، بل إن بعضها قد يوقف التنفس تمامًا، وفقدان الوعي المصاحب لها قد يكون عميقًا إلى الحد الذي يُسبِّب ارتخاءً في الممرات الهوائية، وتضيع معه ردود فعل كالسعال والكحة، وردود فعل طرد أي جسم غريب أو إفرازات أو قيء أو عصارة مُعدية قد تجد سبيلها لممرات الهواء وتتراكم لتسدَّها أو لتُسبِّب مضاعفات غاية في الخطورة.
لذا فعمل طبيب التخدير دقيق جدًّا وغير مسموح فيه بأي تراخٍ، التأخُّر عن خطوات معيَّنة يجب أن تكون متوالية يؤدي لعواقب وخيمة، كما أنه مرتبط بمجموعة من الإجراءات التي يجب أن تكون منضبطة تمامًا وفي وجودٍ كاملٍ لكل الأدوات والمعدَّات والأدوية، واتباع تامٍّ من المريض لكل أمر طبي، ومن الأطباء والمؤسسة لكل توصية أو خطوط إرشادية أعلنت عنها الجهات العلمية الكبرى.
المضاعَفات التي تحدُث ضمن عملية التخدير عديدة ومتنوعة وواردة، أهم ما فيها إدراكها وتحديدها وتشخيص أسبابها وعلاجها وعلاج الأسباب أو منعها.
هي حالة نادرة تُقدِّر الإحصائيات حدوثها بحالة واحدة لكل ١٠ آلاف، على الأغلب أيضًا تمرُّ دون ألم، ينتبه الشخص ولا يستطيع الحركة ربما، لكنه قد لا يشعر بألم.
إلا أنه يبقى وضعًا مُرعبًا، هو أيضًا مخيف لطبيب التخدير ويتطلب يقظته الشديدة كي يشكَّ فيه ويقوم بتشخيصه ويتخذ إجراءات العلاج.
عادةً ينتهي بآثار نفسية ضارة وعميقة، تخيَّل حال الاستيقاظ مشلولًا وربما مُتألِّمًا، تستمع لأحاديث الأطباء وحركة أيديهم في جسدك ولا تدرك ماذا يحدث أو كيف يحدث؛ أسوأ من أشنع مشاهد أفلام الرعب.
يحدث بصورة أكبر مع استخدام المخدِّرات الوريدية، مع استخدام مُرخيات العضلات في علاج أمراض القلب والرئة.
قد يكون أحد أسبابه خللًا في معدات التخدير، كأن يكون هناك عيبٌ في مبخِّر المخدِّرات الاستنشاقية أو بسبب جرعات أقل من المخدرات، بالإضافة إلى عدم انتباه طبيب التخدير وعدم وجود حساسات لغازات التخدير أو تعطلها.
هناك وسائل كثيرة تُساعد في الاستدلال على عمق التخدير وكفايته والانتباه من عدمه، تبدأ بالمقاييس الإكلينيكية كضغط الدم ونبضات القلب والتعرُّق والدموع، ثم أجهزة القياس المتعدِّدة والمختلفة والتي تعتمد أفكارها في الأغلب على قياس موجات المخ والجهاز العصبي المركزي بطرق مختلفة ومتعدِّدة للخلوص للدرجة التي تم تثبيطه إليها وعمق التخدير.
طبيب التخدير عادةً يَسأل عن حال الأسنان إن كان هناك أسنان صناعية أو مخلخلة؛ ذلك لأنه وأثناء استخدامه للمنظار الحنجري لوضع أنبوبة التخدير في القصبة الهوائية قد يَرتكِز على هذه الأسنان، قد تَنكسِر أو تَنخلِع، يحدث ذلك بنسبة تُقدَّر ﺑ واحد لكل ٤٥٠٠ حالة.
وضْعُ هذه الأنبوبة الحنجرية — خاصةً إن كان به بعض الصعوبة — قد يُسبِّب ألمًا في الحلق بعد الجراحة والتهابًا.
أكثر المرضى المخيفون لطبيب التخدير الذين يتوقع أن يكون التعامل مع ممراتهم الهوائية صعبًا، وأسوأ الكوابيس أن يَحقن أحدهم أدوية التخدير ثم يُفاجأ بممر هوائي صعب، ساعتها يجفُّ حلقه وتتصاعَد ضربات قلبه ويَضرب الدم في رأسه ويَنحصر عالَمه فيه وفي الممر الهوائي الذي عليه أن يتخطى صعوبته.
بل ربما يصل الأمر وفي أحوال معيَّنة قليلة إلى معركة بينه وبين لفحات أنفاس الموت من حوله.
في أحد الأيام سألتني مريضة وهي مُستلقية على ترولِّي العمليات وتستعد لدخول إحدى غرف العمليات: «يا دكتور عندكم اختبار حساسية للبنج؟»
ابتسمت لها وأنا أقول: «ماتقلقيش خالص، كله معمول حسابه، وكل حاجة هتتعمل كويس.»
كان يُمكن أن أكتفي بهذه العبارة المطمئنة التي لا تحمل في ذاتها إجابة مباشرة، لكنني وقتها شعرت بمسئولية أن من واجبي أن أُوضِّح ما خفيَ وأن أُصحِّح الخطأ الرائج والمفهوم الخرافي، فأكملت قائلًا: «عمومًا، هو مافيش حاجة اسمها اختبار حساسية للبنج كله، لكن عمومًا الحاجات اللي معروف إنها ممكن تعمل حساسية هنعمل لحضرتك اختبار لها لو لقينا إن حضرتك محتاجة ده.»
يبدو أنها لم تُعجبها إجابتي لأنني وبينما أمرُّ مصادفة وجدتها تُعيد السؤال على طبيب تخدير آخر أكبر مني سنًّا ومكانة بينما كان يَصحبها إلى داخل غرفة العمليات ليُجيب وبلا تردُّد: «طبعا يا افندم، اختبار حساسية البنج هيتعمل.»
هناك بالفعل اختبارات للحساسية، ولكن لا يوجد ما يُدعى باختبار حساسية البنج، لا يوجد اختبار واحد يستطيع أن يكشف إذا ما كان هناك لدى المريض أي أعراض تحسُّس تجاه المواد التي نَحقن والمحاليل التي نضخُّها وريديًّا بالإضافة إلى المواد التي قد لا نَحقنها ولكنها تمس المريض وتلمسه، وقد تُسبِّب أيضًا له أعراض حساسية، هناك اختبارات تُشخِّص تعرُّض ذلك المريض لذلك النوع من الحساسية المفرطة، واختبار فردي لكل دواء يمكن أن نشكَّ فيه عن مدى إثارته لحساسية الشخص الذي نُجري له الاختبار، وجميعها ليست اختبارات روتينية تجرى لكافة المرضى ولكافة العقاقير الكثيرة التي نستخدم.
لكن بالنسبة لهذا الموقف، ما الصواب؟ هل في تصحيح المفهوم أم أن هذا ليس الوقت المناسب أو المكان المناسب؟ هل يحقُّ لنا الكذب على المرضى بمجاراة الخطأ؟ وماذا لو أدى الصدق وتصحيح الخطأ لتقليل ثقة المريضة في الخدمة التي ستلقى وفي مقدميها؟
الخرافات حول التخدير أو الخدمة الطبية بشكلٍ عام والمفاهيم الطبية المغلوطة كثيرة لحد كبير، بل يتجه البعض إلى تدعيمها بسوء نية للاستفادة أو لتأكيد مكانته وعلمه، أو بحسن نية على اعتبار أنها كذبة بيضاء وربما لن تضرَّ، والمريض لن يفهم المصطلحات الصعبة ولن يلمَّ أبدًا بحقيقة الأمر.
لكن من الواضح أن الأمر بحاجة لحملات توعية مكثَّفة، ومِن مُتخصِّصين وعبر وسائل الإعلام المختلفة، وبعيدًا عن تلك الحملات والبرامج التليفزيونية التي تزايدت مؤخرًا ولا تهدف في الأغلب إلا لتلميع أسماء ضيوفها وترويج بضاعتهم دون أن يكون لها أيُّ هدف توعوي حقيقي أو تصور لإزالة اللبس والتفكير الخاطئ والأوهام الراسخة.
الطبيب الأكبر سنًّا ومكانة الذي تحدَّث مع المريضة وأجاب عن قلقها بما يُطمئن ربما قصَد أننا بالفعل سنُجري اختبار حساسية للمضاد الحيوي؛ مرجِّحًا أن المرضى قد يكونون يطلقون على اختبار حساسية المضاد الحيوي اختبار حساسية البنج.
هنا نُعيد السؤال: هل نترفَّع عن تصحيح معلومات كتلك، خاصة وأنها على الأغلب لن تضر؟ أم أن الميثاق يُجبرنا على تصحيح تلك المعارف الخاطئة؟ ما هو الوقت الأنسب لفعل ذلك؟ كيف نضمن أن هذه البلبلة لن تُسبِّب شك المريض في الخدمة التي تقدم له، خاصة إذا كان ذلك في وقت حرج لا يَحتمل ذلك؟
الحساسية تُطلَق على مجموعة من الأعراض قد تكون بسيطة أو في غاية الخطورة بالقدر الذي قد يُهدِّد الحياة.
الحساسية بالأساس هي ردُّ فعلٍ مناعي تجاه مواد غريبة عن الجسم يتمُّ فيه إفراز وسائط كيميائية تؤثِّر على كل الجسم.
التخدير يعدُّ وضعًا خاصًّا وفريدًا وخطيرًا لحدوث مثل هذه الأعراض، بداية من أن الأعراض البسيطة للتحسُّس قد لا تظهر تحت تأثير البنج وأدويته وتغيُّرات كثيرة يَتعرض لها الجسم أثناء التخدير، بالإضافة إلى أن معظم الجسد يكون مُغطًّى أثناء الجراحة، فقط قد ينتبه طبيب التخدير للموقف وقتَما أدَّى التحسُّس إلى تأثير كبير على التنفُّس والدورة الدموية.
طبيب التخدير قد يُقلِّل من أهمية الأعراض خاصة وأنها قد تَتشابه مع أعراض لأحداث بسيطة ومُعتادة أثناء الجراحة والتخدير، فعلى سبيل المثال قد يَرجع طبيبُ التخدير سبب ازدياد ضربات القلب البسيط إلى أن عمق التخدير ربما ليس كافيًا.
كثير من الأدوية يتمُّ حقنها خلال فترة زمنية قصيرة جدًّا، بعضها معروف بأنه قد يُسبِّب تحسُّسًا والبعض الآخر لا، كثير من أدوية التخدير والمضادات الحيوية والأدوية الأخرى لأغراض أخرى تُعطى جميعها خلال الوقت القصير للعمليات.
بل إن المواد التي تُسبِّب أعراض الحساسية لا تقتصر على تلك التي تُحقَن وريديًّا أو تُعطى بالضخ الوريدي، بل قد تُسبِّب مطهرات الجلد والقفازات وغيرها من المواد التي قد تَلمس المريض أو تدخل بيئته دون أن تحقن داخل جسده أعراض حساسية.
للوقاية يجب أن يقوم طبيب التخدير بسؤال المريض بشكل واضح ومباشر عن أي أعراض تحسُّس سابقة، عن أي مواد قد تكون سبَّبت له ذلك وكل ما أشار إليه يجب أن يتمَّ اجتنابه.
أولئك الذين يُعانون من الربو أو من تحسُّس من بعض المأكولات كالموز وخلافه أو من تحسُّس من أجواء الربيع أو الأتربة؛ يُعتبرون أكثر عرضةً للإصابة.
النساء أكثر عرضة للإصابة من الرجال بثلاث مرات.
مضادات الهيستامين والكورتيزون غير مفيدة كعلاج واقٍ، يُمكن حَقنه قبل التخدير لمنع التحسُّس، على العكس قد يكون ضارًّا بإخفائه بعض الأعراض الأولية والبسيطة للتحسُّس ويجب توفيره لأوقات العلاج.
هناك مضاعفات لبعض الأدوية يشير لها المرضى كحساسية لكنها ليست كذلك ولا تمُتُّ للحساسية بصلة.
علاجه في نقل بلازما تحوي ذلك الإنزيم للمريض أو في مواصلة تخديره لساعات حتى يزول أثر مُرخي العضلات.
جُلُّ المرضى يشيرون لهذا كحساسية من الأسيتيل كولين، إلا أن هذه إشارة خاطئة تمامًا.
أحد الأسئلة الهامة والروتينية التي يسألها كل طبيب تخدير لكلِّ مريض سيُقدم على تخديره هو سؤال ساعات الصيام، ما هو آخر وقت تناول فيه المريض طعامًا أو شرابًا.
التخدير وفقدان الوعي الناتج عنه يؤدِّي إلى ارتخاء الأنسجة الرخوة للممرات الهوائية وفقدان أي رد فعل عنها وهو ما قد يُسبِّب وصول القَيء إلى الممرات الهوائية والقصبة الهوائية للمريض إذا ما تقيَّأ وهو تحت تأثير التخدير مما قد يؤدِّي لالتهابات بالرِّئة أو انكماشها أو تصل المضاعفات إلى فشل تنفسي.
وضع المريض الخاطئ أثناء العمليات قد يؤدِّي إلى انضغاط بعض الأعصاب مما قد يُؤثِّر عليها ويُسبِّب تضرُّرها.
أحد أهم الشكاوى من التخدير النِّصفي هو الألم الشديد أسفل الظهر، والذي يُرجعه الشاكي إلى إبرة قديمة ضخمة غرسها طبيب التخدير في ظهره منذ شهور أو سنوات لكن الألم مُزمِن ومن وقتها.
قد تُصبح الرواية أكثر غرابة وشديدة الفانتازية عندما يَتطوَّع أحدهم كي يُثبت كلامه ليُخبرك أن الألم وإن كان موجودًا معظم الوقت إلا أنه يزداد دوريًّا، يزداد كل عام في شهر معيَّن، هو شهر الحقن بإبرة البنج النصفي الأول.
الثابت أن أسباب آلام الظهر مُتعدِّدة وكثيرة، وأن التخدير النصفي لا يُسبِّب ذلك الألم المزمن على الأغلب.
يبدو أن الأمر يُشبه ذلك الذي سقط فاكتشف ورَمًا في يده، قد يظن أن السقطة هي التي سبَّبت الورم، في حين أن الورمَ كان موجودًا من البداية، فقط تزامَنت السقطة مع اكتشافه له.
سألني يومًا أحدهم عن علاقة البنج النصفي بآلام الكتف، أخبرته أن لا علاقة مباشرة على الأغلب، فقط قد تكون المريضة قد نامت أثناء الجراحة بشكل خاطئ أو تعرَّض كتفُها لصدمة أو ضغط لم تلاحظه.
المؤكَّد أن البنج النصفي قد يُسبِّب صداعًا بعده، غالبًا يحدث نتيجةً لتسرُّب السائل المخي الشوكي من الثقب الصغير الذي قد تُحدثه الإبرة في طبقة الأم الجافية، يقل مع الاستلقاء ويزيد مع القيام.
يُعالج بالمسكِّنات والكافيين والراحة في الفراش.
قد يؤدي التخدير النصفي لاحتباس بولي مؤقت.
حال مخالفة بروتوكولات معيَّنة قد يؤدي لالتهاب سحائي أو ضرر لبعض الأعصاب أو شلل.
رغم كل هذه المضاعفات التي ذكرناها والتي لم نذكر يَبقى التخدير آمنًا إلى حدٍّ كبير.
ربما آمنًا كعبور شارع أو تسلُّق شجرة أو خوض عباب البحار أو القفز بالمظلة أو لعب كرة القدم.