مستقبل البنج
هل لنا أن نتنبأ بالمستقبل؟ ننظر عبر البلورة السحرية ونرى الطالع، نلوي عنق الزمن ونسافر ضد التيار أو نُخاطب جانًّا يملكون خبر الغد وقد استرقوا السمع؟
طوال الوقت يحاول الإنسان استشراف المستقبل وإدراك الغيب، لكن هل نجح أبدًا، أم لم يحالفه الحظ؟ وإن كان قد نجح فهل يُثْبِت نجاحه في رؤية المستقبل ذكاءَ التوقُّع، أم ذكاء قدرته على تحويل خياله الشخصي عن الغد لواقع؟
في أعوام الدراسة الإلزامية الأولى كان مقرَّرًا علينا درس قراءة يَحكي عن تصور للعالم سنة ٢٠٠٠، كان يتحدث عن سيارات سَتسير بعصير القصب (يكثر الحديث اليوم عن الوقود العُضوي والذي تم تصنيعه بالفعل)، كما اعتقد في تليفونات بحجم الكفِّ وبلا أسلاك (التليفونات المحمولة اليوم) وأشياء أخرى قد لا أذكرها.
عمر التخدير كعلم حديث قصير جدًّا، على مدى فترة زمنية صغيرة كانت القفزات هائلة؛ فقد استفاد من كل تقدُّم حدث في كافة العلوم الأخرى، فنما وتطور بسرعة هائلة جدًّا.
لكن كيف سيكون مستقبله؟ هل نستطيع التنبؤ به؟ أم نكتفي برسومٍ تبدو تخيُّلية لكنها ستستحيل حقيقة، وربما لو شهدناها لاتسعت عيوننا من الدهشة وعجزت ألسنتنا عن التعبير؟
الخيال ربما يَشطح إلى تصورات مستحيلة تُقارب تلك التي في كتب الأطفال أو روايات الخيال العلمي للناشئين، موجاتٌ ما تُسلَّط على الرأس وتؤثر في خلايا المخ؛ تُوقِف نشاطها للحظات، ساعتها ربما يقدر العلم على تنويع تلك الموجات ليؤثِّر كل نوع على خلايا متباينة، أو ربما نملك ساعتها آلات غاية في الدقة تستطيع فقط توجيه الأشعة للمنطقة المطلوبة بالتردُّد المطلوب، فنُنحي الألم أحيانًا، والحركة متى شئنا والوعي إن أردنا.
أو نتخيل معرفة مطلقة بالوعي، ربما ساعتها سنعرف كيف يعمل الإيحاء ونملك التأثير عليه بشكل علمي ومجرَّب، ساعتها نَستلهِم أساطير ومعتقدات قديمة للتأثير في الوعي والإرادة، كالسحر والتعاويذ والتنويم المغناطيسي، وساعتها سنملك أن ننفخ في عيون مرضانا فيناموا نومًا فسيولوجيًّا عميقًا، لا ينغصه شيء، في ذات الوقت لا يَتألمون أو يتحركون، سنَملك كذلك عزل ألمهم حال يقظتهم؛ سنكون أقوى من كل السحَرة والكهنة وأقدر على هزيمة وتنحية كل ألم.
قد نُحاول أن نكون موضوعيِّين أكثر في خيالنا وتصوراتنا، فنعمد فقط إلى تخيُّل تطور الممارسة التقليدية؛ كيف سيكون دواء الغد وأجهزة قياس الغد وماكينات تخدير الغد؟
خواص الأدوية المثالية يسهل جدًّا تعديدها، بل من المؤكَّد أن كل صانع أو مطوِّر لدواء يضعها نصب عينيه ويعمل على الوصول إليها، لكن بالتأكيد ليس الأمر بهذه السهولة، ولكن ما الذي يمنع أن نتخيل غدًا أدوية مثالية، كنسمة رقيقة بلا رائحة أو برائحة زهرة الورد البلدي تُمرَّر للمريض فيستنشقها وينام عميقًا بلا أعراض جانبية أو صعوبة في التنشُّق، بل لعل الأمر يصير ممتعًا ومثيرًا.
فلنُعدِّد خواص أدوية التخدير الوريدية المثالية إذًا، والتي لا يُحققها أيٌّ من الأدوية التي نعرف اليوم؛ فلكلٍّ منها ما يَجعلها منقوصة، غير مثالية.
على دواء التخدير الوريدي المثالي أن يحظى بكل التالي، أن يكون: قابلًا للذَّوَبان في الماء وثابتًا في محلوله، لا يحتاج لإعادة تركيب قبل الاستخدام، ثابتًا في وجود الضوء والهواء، يمكن له أن يُخزَّن لفترات طويلة في درجة حرارة الغرفة، لا يدعم نموَّ البكتريا، متوافقًا مع الأدوية والمحاليل الأخرى، لا يحتاج لإضافات، ورخيصًا كذلك.
كما يجب أن يؤتي مفعوله سريعًا جدًّا بمجرد الحقن، يذوب بشكل جيد في الدهون، وهو ما سيُمكِّنه من الوصول للمخ والخلايا العصبية بسهولة وفعالية، لا يَتراكم في الجسم مع الضخ الوريدي، الاستفاقة منه سريعة ويُمكن توقُّع توقيتها، يستطيع الجسم أن يتعامل مع أيضه بكفاءة ويحوله لمواد غير فعالة أو سامة، استخدامه آمن مع مرضى الكلى والكبد.
أما مخدِّر الغد الاستنشاقي المثالي فيجب أن يكون في حالة سائلة وهو في درجة حرارة الغرفة، يتبخَّر بسهولة ويسر، ولا يُسبِّب تبخُّره استهلاكًا لطاقة حرارية كبيرة يَحصل عليها من حرارة ما يُحيط به فيؤدِّي لبرودتهم، ثابت في وجود الضوء أو التعرُّض للحرارة، لا يَتفاعل مع المعادن أو المطاط أو أملاح الصودا التي توضع في دوائر التنفُّس لامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون، لا يَشتعل ولا يُساعد على الاشتعال ولا يَنفجِر، يُمكن تخزينه لفترات طويلة، رخيصًا، لا يحتاج لإضافات أو مواد حافظة، صديقًا للبيئة، لا يُسبِّب تهيجًا للشُّعَب الهوائية أو ضيقًا فيها أو زيادة في إفرازاتها، له رائحة طيبة، له مُعامل دموي غازي ضئيل أي لا يذوب بشكل كبير في الدم وبالتالي يَرتفع ضغطُه سريعًا ويؤتي أثره بشكلٍ سريع، لا يحتاج إلا لتركيزات ضئيلة منه كي يَظهر أثره، يتخلَّص منه الجسم عن طريق التنفُّس فقط، دون أي تفاعُلات أخرى في الجسم قد يَنتج عنها أيونات الفلوريد وتُسبِّب أعراضًا جانبية بعضها خطير، لا يؤثِّر إلا على الجهاز العصبي المركزي والمخ، وليست له أعراض جانبية أو تأثير على أيٍّ من أجهزة الجسم الأخرى، لا يُؤدِّي لزيادة ضغط المخ، لا يُسبِّب تشنُّجات، له بعض التأثير المسكِّن للألم، لا يُثبِّط عضلة القلب ولا يُقلل من تدفُّق الدم في الشرايين التاجية، له تأثير باسط للعضلات، مضاد للقيء، لا يُسبِّب تشوُّهات في الأجنة أو أي تفاعُلات مع أدوية أخرى.
لنا أن نتخيَّل كذلك مسكِّنات مثالية وأدوية تخدير موضعي مثالية ومُرخيات للعضلات مثالية، بل وربما نترك أدوية التخدير المباشرة لنُفكِّر في أدوية أخرى نستعملها لأغراض أخرى كثيرة، نتخيَّلها كذلك مثالية بلا أي أعراض جانبية أو تأثيرات غير مرغوبة، فقط تفعل ما نسألها أن تفعل دون أي أفعال أو تأثيرات أخرى جانبية، لم نسألها أو نَطلبها؛ أدوية تمامًا كالماء والهواء، آمنة جدًّا جدًّا.
لكن هل يقف التطور وأحلام المستقبل عند حدود الأدوية والأدوات المساعدة التي تشهد كل يوم قفزة جديدة وخرقًا فارقًا أم يمتد لأراضٍ جديدة لم نكن نُدركها، في الحقيقة يبدو أن المستقبل يحمل بذور تغيير شاملة، حتى إن الممارسة المهنية للتخدير ذاته تتَّجه نحو تغييرات ضخمة وكبيرة.
التغيير هو قانون الحياة، وأولئك الذين يَنظرون فقط إلى الماضي أو الحاضر فبكل تأكيد سوف يفوتون المستقبل.
من هذا المنظور فاستجابة الجسم للجراحة وردَّة فعله في حدِّ ذاتها تُعدُّ هي السبب الأول والرئيسي لصيرورة المرض، ولها علاقة مباشرة بأي خلل وظيفي لأي عضو في الجسم بعد العملية.
وعلى ذلك فالهدف الرئيسي لطبِّ ما حول العمليات هو توفير الرعاية الأفضل قبل وأثناء وبعد الجراحة من أجل سدِّ احتياجات المريض الذي تُجرى له الجراحة الكبرى.
وهذا سيتحقَّق عبر صقل وتحسين الإمكانات الحالية واستحداث إمكانات ووسائل أخرى في المواقف التي قد لا يكون فيها ما نَملك كافيًا.
هكذا يَحمل المستقبل للتخدير كممارسةٍ تطورًا واجبًا ودورًا ممتدًّا ومُتشعِّبًا، تشير الدراسات إلى أن الوفيات المباشرة نتيجة التخدير أقل من الواحد لكل ٥٠ ألف، غير أن المرضى في العادة يتعرضون لقدرٍ كبير من المضاعَفات بعد العمليات، وهي الأضرار التي يُمكن نظريًّا منعها، والتي تحتاج لذلك القدر الكبير من العمل على تطوير مفهوم الممارسة الطبية ودور أطباء التخدير، وهي البشارة التي يحملها المستقبل.
عدد العمليات التي يتمُّ إجراؤها في كل العالم يُقدر ﺑ ٢٥٠ مليون عملية جراحية سنويًّا، وهو العدد الضخم، والذي يعني أنه مع تطبيق تلك الاستراتيجية الخاصة بطبِّ ما حول العمليات، وحتى لو فرضنا أن الأخطار التي يُمكن تلافيها مع تطبيق تلك الممارسة غير كبيرة، فمع ذلك العدد الضخم من العمليات فسيكون عدد الحيوات التي يتمُّ إنقاذها ضخمًا جدًّا.
هناك تدخلات طبية بدأت تستقرُّ بالفعل بخصوص هذه الممارسة الطبية التي يُدشن لها المستقبل، إلا أن هناك حاجة لمزيد من الأبحاث في هذا الصدد من أجل تثبيت تدخلات أوسع.
لا يقف معنى تلك الممارسة عند تلك الحدود؛ فهي تتضمَّن متابَعةً للمرضى بعد العملية والاكتشاف المبكِّر لأي مضاعفات والتعامل معها بحسم.
كذلك تهتمُّ برصد أي اعتلال سابق لإجراء الجراحة أو أمراض مزمنة وضمان حالةٍ مُثلى للمريض قبل إجراء الجراحة، وتوقُّع أي مُضاعَفات محتملة، وكذلك احتمالات الخطورة وتحديد بدائل وخطط عامة للعبور بالمريض.
طبُّ ما حول العمليات هو تخصُّص دقيق جامع لعدد من التخصُّصات، يتكون من عدد من المشاركين الذين يُمكنهم تلبية احتياجات المرضى المعقَّدة المعرَّضين لمخاطر، والتعامل مع مضاعفات التدخُّل الجراحي، وإذا كانت الجراحة الناجحة مطلوبة من أجل نتيجة جيدة فالكفاءة التِّقَنية والمهارة ليست كافية مُنفردةً، مُهمَّة طبيب ما حول العملية تلبية احتياجات المرضى التي لم يتمَّ تَوفِيَتُها.
هو تخصُّصٌ ناشئ إذًا، يحتاج لبرامج تدريبية خاصة وخبرات خاصة، تخصُّص ما زال حائرًا بين عدد من التخصُّصات، قد يُقدِّم هذه الخدمة أطباء القلب أو الرعايات الحرجة أو طب الطوارئ وإن كان المناسبون أكثر للعب هذا الدور هم أطباء التخدير.
حتى اللحظة يُطلق اسم أطباء التخدير على مَن يقومون بتخدير المرضى من أجل العمليات بلا أي دور إضافي مطلوب، وإن مارَس كلُّ أطباء التخدير طبَّ ما حول العمليات بالمفهوم الذي بينَّاه بصورة أو بأخرى، هذا التخصُّص يُناديهم من المستقبل، كمُّ خبراتهم ومهاراتهم يجعل منهم المبشَّرين بذلك الدور، لكن الأمر ما زال بحاجة لدراسات إضافية خاصة ولمهارات يجب أن يتمَّ تحديدها، جروكوت وبيرز أَوصَيا في مقالهما بضرورة عمل حملات لتوعية طبية ومجتمعية بهذا الدور الجديد الذي يَحتاج لمن يَشغله ويقوم عليه، طالَبا صناع القرار والمنوط بهم رسم السياسات الطبية باستشراف المستقبل لتطوير كل المنظمة، لتلبية النداء والقفز بحكمة نحو النبوءة.
هذا هو المستقبل، عامر بالخيال والأماني والقدرات، وهو الذي يجعل منه مكانًا أجمل لممارسة أفضل، العلم يكافح من أجل غدٍ أفضل والخيال يمتدُّ بلا حدود، والمهمة الكبرى على الأكتاف تحويل الأحلام والأُمنيات والخيال والأفكار لواقع.
لكن ليست كل التطوُّرات والتصورات عبارة عن أفكار معلَّقة في شِباك المستقبل، لكن هناك في الحاضر ما يَحمل الإشارات ويُشير ويُبشِّر ويَرسم صورةً لمستقبَل قريب، صورة تُحاول أن تتكامل وتتضح؛ هذه المرة لسنا بحاجة لطاقة خيال كبيرة أو لبلَّورات سِحرية؛ فالأرض قد مُهِّدت، والبذور بُذِرت فقط بقي الري للحصاد، قادم السطور مخصَّص لمنجزات بدأت أو تُحاول أن تجد طريقها لحيز التنفيذ ولتُصبح جزءًا لا يتجزأ من الممارسة الروتينية اليومية.
ولأنه مكوِّن طبيعي في الهواء فليس له أي آثار بيئية ضارة، كما أن ليس له أي آثار ضارة على الصحة المهنية لأطباء التخدير أو أيٍّ من العاملين والمقدمين للخدمة الطبية.
الزينون تمَّ اكتشافه في أواخر القرن التاسع عشر إلا أن استخدامه كغاز مخدِّر تأخَّر حتى عام ١٩٤٠؛ وذلك بواسطة ج.ﻫ. لورانس الذي اكتشف أثَره المخدِّر على الفئران، وبعدها بسنوات قليلة استخدمه كولين وجروس على مُتطوِّعين، رجل ثمانيني وامرأة في أواخر الثلاثينيات، كولين وجروس استخدما خليطًا من الزينون والأكسجين بنسبة ٨٠ إلى ٢٠.
هكذا يبدو الزينون كغاز مخدِّر له بعض التاريخ، وإن لم يكن تاريخًا طويلًا، إلا أنه بالنسبة لعمر التخدير القصير نسبيًّا فليس بالقصير، يبدو أنه وكل حين يظهر على السطح حاملًا البشارات ثم لا يَلبث أن يختفي ثم يُعاود الظهور من جديد أمام مزاياه الحافلة والحلم باستغلاله كمخدِّر استنشاقي مثالي ما زال يُراود الخيال، تقف في سبيل ذلك بعض الصعوبات التي على العلم أن يحلها ويَتجاوزها إذا أراد أن يَستحق تحقيق نصر جديد في معركة الألم؛ أول هذه المشكلات أن تَكلفة إنتاجه ضخمة جدًّا، تساوي ٢٠٠٠ مرة أكبر من تلك اللازمة لإنتاج أكسيد النيتروز، حتى اللحظة لا توجد ماكينات تخدير مُعدَّة خصوصًا لاستخدام الزينون، لا زال هناك مشاكل تقنية في قياس تركيزات الغاز في هواء الشهيق والزفير للمريض، كما أن الخبرة به ما تزال محدودة.
برغم تلك الصعوبات إلا أن الزينون ما يَزال يُنادي من المستقبل، الإفاقة منه تحتاج لدقيقتين فقط بعد توقيف استعماله حتى يعود المريض لكامل وعيه، وهو معدَّل أسرع من ذلك الذي لأكسيد النيتروز مرتين أو ثلاثًا، كذلك له تأثير مُسكِّن قوي، ويسبب ارتخاء للعضلات، لا يؤدي لشعور بالغثيان أو القيء، الزينون لا يُثبط عضلة القلب ولا يُسبِّب أي اضطراب في ضرباتها.
غاز مثالي إلا أنه ربما يُسبِّب زيادة في تدفُّق الدم للمخ ويَزيد من ضغط المخ والسائل المخي الشوكي، مما يَجعله غير مناسب لعمليات المخ الجراحية.
منع عمل ذلك الإنزيم بواسطة البروستجمين سيؤدي لزيادة الأسيتيل كولين والذي سيتنافس مع مُرخي العضلات على مستقبلاته؛ وبالتالي سيؤدِّي لزيادة قدرتها على الانقباض.
عيوب البروستجمين أنه كما ذكرنا يعمل بشكل غير مباشر كما يجب أن يتمَّ حقنه في توقيت معين عندما يبدأ مفعول مُرخي العضلات في الزوال لحدٍّ ما وتبدأ العضلات في التعافي، لو أُعطي في أي توقيت غير ذلك فلن يكون له كبير أثر. أخيرًا فالبروستجمين وحتى يصل لتمام تأثيره يحتاج لما يُقارب الخمسين دقيقة.
عقار السوجامديكس ما يُميزه أنه يعمل بشكل مباشر على جزيئات مُرخي العضلات؛ فللسوجامديكس شكل أسطواني، يلتفُّ حول جزيء مُرخي العضلات ويَعزله عن الخارج وعن مستقبلات الأسيتيل كولين، فيُحوِّله لجزيء معزول بلا أي فعالية.
التميُّز الآخر لهذا العقار أنه قادر على عكس تأثير مُرخي العضلات في أي وقتٍ وأي مرحلة، فقط قد نزيد من جرعته حتى يؤتي أثره.
هذه الخواصُّ قضت على كثير من تلك المشاكل المتعلقة ببقاء أثر مُرخي العضلات أحيانًا بعد انتهاء التخدير خاصة في المرضى الحَرِجين.
هذا هو ما تمَّ أما المستقبل فيتعلق بجزيء آخَر يُرتجى أن يكون له أثرٌ مستقبلًا بخصوص هذه القضية.
يبقى أن العمل يَجري على عقار جديد يستطيع كذلك أن يحمل ذات تأثير سوجامديكس ولكن هذه المرة على مُرخيات العضلات من مجموعة بنزيل كوينولينيام، وربما يحمل المستقبل القريب أخبارًا عن ذلك العقار وتلك البشارة.
هكذا يبدو المستقبل حالِمًا ومُبشِّرًا سواء بالنسبة لمفهوم الممارسة ذاته واستحداث مفهوم طب ما حول العمليات أو تطور الأجهزة والعقاقير، لكن المنظومة لا تكتمل إلا باستقصاء أحوال العنصر البشري المقدِّم للخدمة، ما الذي قد يُخفيه المستقبل له؟
بتاريخ ١١ يونيو ٢٠١٦ كتب دينيس كامبل في الجارديان مقالًا تحت عنوان «المرضى في خطر وتوقع باستمرار العجز في أعداد أطباء التخدير».
أشار كامبل إلى أن هناك توقُّع بتزايُد العجز في أعداد أطباء التخدير بإنجلترا على مدار السنوات القادمة، مما سيُؤدي إلى تأجيل العمليات، بل لن يتوقف الأمر عند ذلك؛ فسلامة المرضى ذاتها قد تتهدَّد جرَّاء ذلك العجز.
حيث أشار إلى دراسة تتوقع أنه بحلول عام ٢٠٣٣ سيكون هناك عجز في كل مستشفى في استشاريي التخدير يَقترب من ١٠ إلى ٢٠ استشاري بنسبة عجز تقترب من ٣٣٪.
صرَّح د. ليام برنان رئيس الكلية الملكية لأطباء التخدير في هذا الخصوص قائلًا: «أطباء التخدير يَملكون مهارات متفرِّدة ولا يمكن نقلها، وهي هامة لأي مستشفى لأجل تقديم خدماته المحورية؛ لذا فأيُّ عجز في أعداد أطباء التخدير سيكون له بالغ الأثر على الخدمة وعلى سلامة المرضى، ما لدينا بالفعل أقلُّ مما نحتاج إليه، وهو أمر باعث على القلق.»
«كما أن دور أطباء التخدير لا يمكن تغطيته بأي تخصُّص آخر؛ ذلك لأن مهاراتهم وتقنياتهم لا تدخل ضمن المهارات العامة التي يتم تنميتها في كل الأطباء.»
هناك دعوات من أجل تشجيع الأطباء على التخصُّص في التخدير، دعوات لزيادة أعداد المتدرِّبين وأماكن التدريب.
يقول بيرنان: «ما يقوم به أطباء التخدير من مهام هي مهامُّ حساسة جدًّا للوقت؛ التأخير لوقت ضئيل عن تركيب أنبوبة حنجرية في مريض يحتاج إليها سيُؤدي لمضاعفات خطيرة جدًّا بل والموت ربما.»
ينتهي مقال الجارديان بتصريحٍ شديد اللهجة من وزير صحة حكومة الظل يقول فيه إنه لا يمكن أن يبقى وزراء الصحة يغضُّون الطرف عن تلك الكارثة المحيقة؛ المرضى فقط هم من سيتضرَّرون.
نفس العجز تعاني منه مستشفيات مصر، وإن كنتُ لم أطَّلع على إحصائيات محدَّدة، إلا أن نظام عمل الأطباء في وزارة الصحة المصرية يَقتضي أن يُمضي الطبيب عامين في مراكز الرعاية الأولية (الوحدات الصحية ووحدات رعاية الأمومة والطفولة وغيرها) قبل أن يتخصَّص، لكن في كل عام هناك قائمة بتخصُّصات بها عجز، يتمُّ استثناؤها من هذين العامين، التخدير ضيف دائم على هذه القائمة.
لكن ما هي أسباب ذلك؛ خاصة وأن المشكلة تبدو عالمية؟
ربما نحن بحاجة إذًا للبحث عن الأسباب بعيدًا عن السلطة، بين الأطباء ذاتهم، في أحاديثهم الجانبية.
سيقلُّ دخل طبيب التخدير، وعدَّد أسباب ذلك؛ بعض أسبابه كانت عامة تخصُّ كل العالم؛ كارتفاع أعمار طالبي الخدمة وتدنِّي قُدرتهم على الدفع، واحتكار الخدمة من قِبَل شركات تأمين ستجعل كلَّ طبيب تخدير يُفاوض لأجل كل تعريفة في عناء، وأسباب أخرى تخصُّ أمريكا فقط كمشروع أوباما للخدمة الصحية.
الخدمة لن يؤديها أطباء على الأغلب في المستقبل؛ فمن أجل ضغط النفقات سيتمُّ تدريب ممرِّضين بشكل خاص من أجل تقديم الخدمة ضمن فريق سيُشرف عليه فقط طبيب، بل إن هناك ولايات ربما ستكتفي بمُمرِّضين مُدرَّبين ودون إشراف من أطباء.
لن تكون هناك أدوية جديدة؛ فالأبحاث مكلِّفة، والشركات لن تتكلف أموالًا طائلة من أجل إنتاج أدوية ربما لن تُحدث فارقًا كبيرًا في النتيجة، فالموجود كافٍ، حتى السوجامديكس الحديث فهو غالٍ جدًّا، ولن يُستخدم إلا في أضيق الحدود نظرًا للتكلفة.
سيزداد ضغط العمل على أطباء التخدير وإرهاق العمل مع ارتفاع متوسِّط الأعمار وعدد الجراحات وتعقُّدها.
هناك طريقتان لعمل أطباء التخدير؛ إما أن يقوم ببدء الحالة ثم يُنهيها وبنهايتها ينتهي عمله حتى يبدأ أخرى، أو أن يعمل في نوبتجيات (ثمان ساعات أو ١٢ أو ٢٤) وهو الوضع الذي سيُصبح سائدًا مستقبَلًا مع تقديم الخدمة عبر شركات تأمين ومؤسسات ضخمة، سيتعيَّن على طبيب التخدير أن يعمل كالموظَّفين، ربما لا ينتهي من عمله إلا مع شروق شمس يوم جديد (ما لم يُشر إليه المؤلف هنا وإن كان قد أوضحه في نقطة سابقة هو أنه رغم ازدياد ساعات العمل وضغطه إلا أن الدخل سيقل؛ لأن الشركات المقدِّمة للخدمة ستُقلِّل من أجر طبيب التخدير وستَمنحه مرتبًا ثابتًا سواء حافظت على ذات الأسعار أو حتى قامت بزيادتها.)
إلا أن المؤلف يدَّعي أنه برغم من كل هذه المساوئ التي ذكَرها فسيظل التخدير تخصُّصًا عليه إقبال من طلاب الطب (ربما يَختلف الحال في هذا الشأن بين أمريكا وإنجلترا ومصر)، يدَّعي ذلك ليس لأن مستقبل التخدير جيد، ولكن لأن باقي التخصُّصات ربما تكون أسوأ.
إلا أن هذا لن يَقضي على حدوث وفيات لها علاقة بالتخدير والأزمات والمضاعَفات الكبرى خاصة تلك المتعلِّقة بالممرات الهوائية، ولا شيء يمكن له أن يمنع تمامًا الخطأ البشري.
ستستمر الكيانات الكبرى وشركات التأمين في شراء ممارسات التخدير الخاصة، لن يعود نظام أن مجموعة من الأشخاص تُقدم الخدمة في قطاعٍ ما أو منطقة ما؛ فكل شيء يتجه نحو أن يخضع لكيانات أكبر، فقط تُوظِّف الأطباء، تَبيع الخدمة وهم مجرَّد مُوظَّفون لديها يقدمون الخدمة.
أخيرًا ستظلُّ خدمات التخدير جليلة ومبجَّلة؛ فلا جراحة بدون تخدير، ولا يمكن تخيُّل ذلك بالأساس.
الأحوال في مصر قريبة جدًّا من ذلك التصور، بل لعل هناك تماثُلًا بالنسبة للمستقبل واحتكار كيانات كبرى لتقديم الخدمة من خلال أطباء موظَّفين ونوبتجيات، إلى غيرها من التوقعات التي تم عرضها، إلا أن اختيار التخدير في مصر كتخصُّص يتعرَّض لضغوط مجتمعية باعتبار أن الوعي للمجتمع يربط بين الطبيب والعيادة والسماعة، فكيف يكون طبيبٌ بلا عيادة؟! بالإضافة إلى أنه وإن كانت معدَّلات الدخل معقولة بالنسبة لباقي التخصُّصات لحدٍّ ما إلا أنها ما تزال أقل بشكل غير قليل من تخصُّصات أخرى خاصة مع زيادة السن والخبرة، بالإضافة إلى الضغط العصبي والنفسي الدائم والتعامل مع خطر محدق ومنتظَر طول الوقت، وهو ما يجعل الكثيرين يُحجمون عن اختيار التخدير، فلا شيء يمكن أن يعوِّض عن ذلك، وإن كانت الخدمة الطبية والتخصُّصات كلها تحمل عيوبًا مشابهة بنِسَب مختلفة.
أشاروا إلى العجز الكبير الذي تُعانيه الدول الأوروبية في أطباء التخدير، أرجعوا السبب إلى زيادة الحاجة لإجراء الجراحات مع التطور الكبير والمذهل في درجات أمان القيام بالتخدير، وفي نفس الوقت فأعداد أطباء التخدير في تناقُص، وهو ما أدى لنشوء تلك الفجوة الآخذة في الاتساع.
تأثير ذلك على الخدمة الصحية القومية كان ضخمًا ودراميًّا، وهو ما استدعى القيام بدراسات لاستبيان أسباب ذلك العجز والتوقعات بتطوره خلال السنوات القادمة، إلا أن هذه الدراسات تمَّت جميعها في بلدان متقدمة.
أمام هذا العجز حاولت البلدان المتقدمة سدَّه مُستعينةً بمهاجرين من بلدان نامية، وليس مفاجئًا أن تلك الهجرات قد أدَّت لسلبيات ضخمة في البلدان التي تمَّت منها الهجرات، أول مصدر للهجرات كان بلدان أوروبا الشرقية المنضمَّة للاتحاد الأوروبي، وأوضح مثال كان رومانيا والتي عانت منذ انضمامها للاتحاد الأوروبي في ٢٠٠٧ من فجوة ضخمة بين أطباء التخدير المطلوبين وأولئك المتاحين؛ نتَج عن ذلك زيادة الحاجة لأطباء تخدير لتلبية الحاجة مع ازدياد عدد العمليات التي تُجرى، والحاجة لأطباء التخدير لتلبية الزيادة في عدد أسرَّة الرعايات المركَّزة الجراحية، إلا أن السبب الأكبر في هذا العجز هو الاتجاه والهجرة نحو الغرب الغنيِّ من أجل ظروف أفضل، مما أدى لاتساع الهوَّة.
أهمُّ سبب لهذه الهجرة اتباع سياسات صحية خاطئة مع عدم التمويل الجيد لتلك الخدمات؛ مما أدَّى لهجرة الأطباء الأمهر والأصغر سنًّا وأدى لعبء كبير وضخم على أولئك المتبقِّين.
إن كانت رومانيا في هذا المقال مثالًا صارخًا فالأمر يبدو أنه يجتاح كل دول العالم النامية؛ الأمر لا يحتاج لنظر ثاقب كي ندرك أنه يحدث هنا في مصر، فقط علينا بمُتابعة الذين يتقدمون لتأدية امتحان الدبلومة الأوروبية المؤهِّل للعمل في أوروبا سنويًّا، ومتابعة الذين كانوا يَدرسون بيننا ويعملون معنا كتفًا بكتف قبل أن تُناديهم الندَّاهة الأوروبية أو يَطردهم العنت والتخبُّط المصري.
يُشير المقال إلى أسباب اتخاذ المهاجرين لهذا القرار؛ والتي انحصرت في تنمية الاحترافية والحلم لممارسة التخدير بمعونة أحدث الأجهزة والأدوية والمستشفيات عالية التجهيز، والبيئة المرتَّبة، وتحقيق الذات، وطَرْق أبواب التميُّز، وبالطبع تحقيق عائد مادِّي أكبر.
نظام العمل كذلك وساعاته قد يكون عاملًا مُحفِّزًا على الهجرة.
رأى كُتاب المقال أن الحلول تَكمن في زيادة الاستثمارات في القطاع الطبي مع تحفيز الأطباء الشباب للمكوث وممارسة التخدير في بلدانهم الأصلية.
تحسين ظروف تأدية الخدمة وتطوير التدريب ونُظُم العمل عوامل هامة كذلك، بالإضافة إلى زيادة الأجور والإنفاق على الخدمة الصحية ككل.
هكذا يبدو المستقبل مُبشِّرًا وحالِمًا، وفي ذات اللحظة قابضًا ومُقلقًا، وكيف لا وقد بات عدد الأصدقاء الذين نفتقدهم لسفرهم كبيرًا، وقد تفرَّقت بهم السُّبُل بين البلاد؛ تبدو جميع الخيارات صعبة ولكلٍّ منها مميزاته وعيوبه.
بالفعل المستقبل مُبشِّر وقابض، لكنه حصاد ما يُزرع الآن، ونتيجة مباشرة لمجموع تصرفاتنا كأفراد وكمسئولين وكواضعي سياسات عامة، نحن نكتب المستقبل ونمدُّ مساره على طول الخطوط التي نرسم، ونحاول أن نبتسم؛ علَّه يرى ابتسامتنا فتَنفرِج أساريره ويضحك لنا.