المرأة مقاومة
المقاومة قدر الإنسان حين يحتل الآخر وطنه، والمقاومة تمتد، تتسع، وتتنوع
أدواتها ما بين السلاح المقاوم والكلمة المقاومة. ثمة مَن زاوجَ بين الفعلين
كألبير كامي في اشتراكه في عمليات المقاومة ضد الاحتلال النازي، وفيركور — الاسم
مستعار — صاحب صمت البحر، ومبدعو الثورة
الجزائرية. ولأن الاحتلال الصهيوني فشل في إسكات أصوات المناضلين الفلسطينيين
غسان كنفاني وكمال ناصر وممدوح عدوان وغيرهم، فقد مارس فعل القتل، واستُشهِد
العديد من المناضلين المبدعين بتفجيرات العدو ورصاصاته.
يقول سارتر «الكلمات مبدعات محشوَّة بقذائفها، فإذا تكلم الكاتب فإنما يصوِّب
قذائفه — أو يجب أن يصوب — تصويب رجل يرمي إلى أهداف، لا تصويب طفل يغمض عينيه،
ويطلق — مصادفة — من غير أن يكون له هدف سوى السرور بسماع الدوي.»
•••
نحن نجد في الإسهامات التي تتراوح بين المشاركة الوجدانية والتعاطف، وبين
المشاركة في القتال الفعلي، تجسيدًا واضحًا للطاقات الحقيقية التي تملكها المرأة،
وتعجز المجتمعات التي تنتمي إليها عن إدراكها، أو أنها تهملها، بينما يبلغ حد
التآمر على طاقات إيجابية هائلة. وقد نذر شقيق الفتاة نفسه للقضية، ولمسيرتها،
وتأثرت الفتاة بأقواله، وآمنت بما يفعل، وتحمَّست لقوة شخصيته، فكررت أقواله،
وصار هو يشرح لها ظروف القضية، ثم وجدت نفسها تخوض عملًا نضاليًّا كبيرًا، وصارت
رفيقة نضال لأخيها، وشغلت كل أوقاتها بالعمل.
١
ولعل مشاركة المرأة المصرية في حركات المقاومة، سواء مقاومة الغزو من الخارج،
أو مقاومة القهر في الداخل، تسبق مشاركات المرأة في الفعل ذاته، في معظم أقطار
الوطن العربي. خرجت المرأة المصرية سنة ١٧٩٨م مع الرجل، لمواجهة الحملة الفرنسية.
احتشد الرجال والنساء يحملون السلاح فوق الأسوار والأبراج والأسطح دفاعًا عن
مدينة الإسكندرية في بداية غزو نابليون للأراضي المصرية. وتكررت المقاومة —
باشتراك الجنسين — في المنوفية، ثم في المنصورة. وفي ١٧٩٩م تعالت أصوات نساء
النوبة بأناشيد الحرب، وهن يتصدين لقوات بونابرت في محاولتها الاستيلاء على جزيرة
فيلة، وشارك نساء دمنهور في معركة الدفاع عن المدينة ضد محاولة زعيم المماليك
الاستيلاء عليها، وشاركت المرأة (١٨٠٧م) في مقاومة الغزو الإنجليزي لرشيد. وقاد
عبد الله النديم في ١٨٧٨م مظاهرة ضد المذكرة (اللائحة) الفرنسية الإنجليزية،
قوامها الرجال والنساء والأطفال. يهتف النديم: اللائحة، ويردد الجميع: مرفوضة …
مرفوضة! وللمرأة المصرية دورها المقاوِم ضد غزو القوات البريطانية مصر (١٨٨٢م)
للقضاء على الثورة العرابية. وقال عرابي في مذكراته «إن كثيرًا من الرجال والنساء
تطوع لخدمة المجاهدين، وتقديم الذخائر والماء، وحمل الجرحى، وتضميد الجروح.» وكتب
الإمام محمد عبده: «كان الرجال والنساء تحت نيران المدافع، ينقلون الذخائر إلى
المحاربين وهم يغنون.» وشاركت المرأة المصرية بدورٍ مهمٍّ في أحداث ثورة ١٩١٩م،
والقائمة تمتد لتصل إلى أعوامنا الحالية.
أما السِّمة المميزة للحركة النسائية الفلسطينية — بالنسبة للحركات النسائية
العربية الأخرى — فهي أنها ارتبطت بالنضال في سبيل السيادة الوطنية. اختفت
الفوارق بين النسوية والوطنية.
٢ تمثَّلت أبرز مشاركات المرأة الفلسطينية في عمليات المقاومة —
بالإضافة إلى العمليات الاستشهادية — المظاهرات والاعتصامات وإخفاء المقاتلين
المطلوبين، ومساعدة عائلات الشهداء والجرحى والأسرى، وغير ذلك مما فرضته تطورات
الأحداث.
٣ ففي العشرينيات من القرن العشرين، شاركت المرأة الفلسطينية في
المظاهرات المناهضة للصهيونية، وشاركت — بإيجابية — في الثورة التي امتدت بين
سنتي ١٩٣٦م و١٩٣٩م «وكثيرًا ما فاقت الرجال نضالية .»
٤ وكان للمرأة الفلسطينية دورها المؤكد في المقاومة، سواء ضد الاحتلال
البريطاني أو الاحتلال الصهيوني، بداية من المشاركة في المظاهرات، وانتهاء
بالمشاركة العسكرية، مرورًا ببناء الحواجز، وإمداد المقاتلين بالمؤن، واستكشاف
مواقع وتحركات العدو. وفي أثناء حرب ١٩٤٨م كوَّنت نساء يافا وما حولها فرقة تمريض
سرية، سُميت «زهرة الأقحوان»، كما أمدَّت الفرقة المقاتلين بالأسلحة.
٥ وقد اعتُقلت الفلسطينيات اللائي هرَّبن الأسلحة إلى الثوار، وحُكم
عليهن بالسجن لفترات طويلة. وفي بعض القرى كانت النساء آخر من رحل من قراهن؛
الأمر الذي ينفي الادعاءات بأن الرجال يرحلون خوفًا على شرف نسائهم.
٦ ويروي جان جينيه عن الأم الفلسطينية التي تعِد الشاي لأفراد عائلتها
الذين انخرطوا في المقاومة، تقدم الصينية بيدها، والمدفع الرشاش على
كتفها.
ولم يقتصر دور المرأة المغربية في المقاومة على تجاوز العقبات، والوصول إلى حيث
يعيش المناضلون داخل السجون، وتزويدهم بالأخبار، وتوصيل الأسلحة إلى جماعات
المقاومة في المدن والقرى والجبال. شاركت المرأة المغربية في مقاومة الاحتلال
الفرنسي بشخصها، بسلاحها، وهو ما يبين في كتاب المغربية ليلى أبو زيد
رجوع إلى الطفولة٧ أسهمت المرأة المغربية — منذ العقد الثاني من القرن العشرين — بدورٍ
مهم في معارك الاستقلال، بداية من تزويد الرجال بالسلاح والذخيرة والمساعدات
الطبية والطعام، وانتهاء بالمقاومة المسلحة. وتتحدث الرواية التاريخية عن الهزيمة
التي أوشكت أن تحيق بالقائد موحاوحمو الزياني، بعد معارك متواصلة لمدة أحد عشر
عامًا، وحين أمر القائد أعوانه بالتراجع، رفضت ابنته «يطو» أن تتخلى عن القتال،
وظلت إلى جانب أبيها، حتى استشهدت معه في المعركة.
٨
وكانت الثورة هي الحدث الاستثنائي في المجتمع الجزائري، والذي سمح للمرأة — على
حد تعبير صالح مفقودة — أن تثبِت وجودها وتحرُّرها.
٩ أظهرت الثورة المسلحة في الجزائر صورة المرأة الجزائرية مقاتِلة،
ومناضِلة، ومشاركة في العمل السياسي «دليلًا بارزًا على التحول الاجتماعي الذي
وقع في البلاد، فرض مساهمة كل مواطن في محاربة الاستعمار.»
١٠ «ورغم أن نساء الجزائر كُنَّ مناضلات جادات إبان الثورة، إلا أن
المكاسب التي حققنها لم تستمر بعد الاستقلال، وبدلًا من ذلك — والكلام لأرلين
علوي ماكليود — رسخ التفكير على الثقافة الأصولية أيديولوجية للأسرة، تقبع فيها
المرأة في البيت، وفي الواقع العملي، أسفر ذلك عن تعزيز انعزال المرأة، وحجبها عن
الحياة العامة.»
١١ فبعد أن شاركت المرأة الجزائرية في معركة التحرير، وجاء الاستقلال في
يوليو ١٩٦٢م، عادت المرأة إلى البيت، وخاب أملها في أن تحصل على بعض حقوقها لقاء
ما بذلته في معركة التحرير.
١٢ اتسعت الفجوة بين وضع المرأة الجزائرية في أثناء معارك التحرير، وبين
وضعها بعد الاستقلال. فرض المنطق الذكوري إرادته، فأصبح الرجل رجلًا، والمرأة في
حدودها الاجتماعية التي يراها الرجل. تبرر شهرزاد العربي ذلك التحوُّل الغريب في
وضع المرأة الجزائرية — الإقصاء، أو الاستسلام، هما التعبيران اللذان اختارتهما
الكاتبة تعبيرًا عما حدث — بأنه كان نتيجة صدمة عنيفة تلقَّتها المرأة الجزائرية،
حيث اهتزَّت لديها جميع القناعات من وفاءٍ وصبر في الضرَّاء، وعند السرَّاء
تفرَّد الرجل بالسرور بعيدًا، مع أخرى غيرها. ظلَّت التبعية للرجل مسيطرة على
أذهان النساء والرجال جميعًا، حتى إن شهرزاد العربي تشير إلى غياب ما يمكن أن
يُعَد إنجازات نشاط اتحاد النساء الجزائريات، ربما لأن القيادة الفعلية للاتحاد،
القيادة التي تعمل من وراء الستار، كانت للرجل، بل إن جبهة الإنقاذ تكلمت عن عودة
العاملات إلى البيوت، مع مواصلة تقاضيهن أجورهن، على أن يحلَّ الرجال بدلًا منهن
في العمل.
١٣
•••
إذا كان تشيخوف يرفض أن يكون الكاتب قاضيًا يحكم على شخصيات عمله الإبداعي،
ويطالب الكاتب بأن يكون شاهدًا غير متحيز، فإني أجد انحياز الكاتب لقضية ما،
لوجهة نظر معينة، لموقف أو مجموع، مسألة مهمة ومطلوبة. إنها — للفنان الحقيقي —
مسألة بديهية.
ولعل أصعب الأشياء — وربما أسخفها — أن نعيب على امرئ حبَّه لوطنه، هذه قضية لا
تحتمل التساؤل ولا المؤاخذة. وحين يحتل الغير وطننا — أيًّا كان هذا الغير — فإن
من حقنا — وواجبنا — أن نقاوم الاحتلال بكل السبل، بدءًا بالكلمة المقاومة،
وانتهاء بالرصاصة المقاومة، وصولًا إلى جلاء المحتل عن كل قطعة من أرض
الوطن.
الشاعر العربي القديم يتحدث عن ظلم ذوي القربى الذي يماثل في تأثيره السلبي حد
السيف، بمعنى أني قد أتوقع ظلم الآخرين، هؤلاء الذين لا يمتُّون لي بصلة قرابة
ولا نسب ولا جيرة، لكنني لا أتوقع ظلم من تنتسب إليهم هذه الصفات.
إن أخي يظل أخي، يظل له هذا الموقع في نفسي إذا حرص على أخوته لي، لكن هذه
الصفة تغيب، تصبح لا شيء، أو أنها تصبح صفة مناقضة إذا أعلن من أعتبره أخي عداءه،
وأقدم على فعل الشر!
والحق أني أرفض توجيه الاتهام إلى شعب العراق في الهجمة التترية التي شُنَّت
على الكويت في عام ١٩٩٠م، فإذا كان شعب الكويت قد عانى ظلم الاحتلال، فإن شعب
العراق عانى ظلم الحاكم؛ منطق الديكتاتور الفرد واحد في الحالين.
حين أقدمت قوات صدام حسين على غزو الكويت في ١٩٩٠م، وأُجليت بعد عشرة أشهر
بواسطة القوات المتعددة الجنسيات، طلائعها جماعات المقاومة الكويتية، انعكست
الأحداث المأساوية — بالضرورة — على إبداع المبدعين الكويتيين.
واللافت أن صورة المرأة الكويتية تختلف — غالبًا — في مواجهة الغزو الصدامي
لبلدها، عن ممارسات المرأة الجزائرية، الفلسطينية؛ فهي لم تحمل السلاح، وتخوض
المعارك، كما فعلت المرأة في الجزائر وفلسطين، لكنها مارست ما يمكن نسبته إلى
المقاومة السلبية، وإن جاوزت هذا الدور — أحيانًا — إلى المقاومة الإيجابية، بما
يذكِّرنا بقول المؤرخ الفرنسي «ميشليه» لأبناء وطنه: «الوطنية قد تولدت عندنا من
قلب المرأة، ومن حنانها، ومن دموعها، ومن الدم الذي أراقته في سبيلنا.»
١٤
في تقدير فاطمة يوسف العلي أن أدباء الكويت كتبوا — في أدب المقاومة — عن تجارب
الآخرين. وعندما احترقت أصابعهم، وعانوا محنة الاحتلال، كتبوا عن الأحداث التي
عاشوها بأنفسهم، وظهر أدب المقاومة الذي يختلف عن أدب الحرب «لأن الحرب — والقول
لفاطمة يوسف العلي — لها مفهومها الخاص، والمخالف تمامًا، لما تعرضنا له في أغسطس
الأسود.» (ثمة رأي أن الرواية هي التي بدأت المقاومة في أمريكا
اللاتينية).
لقد عكس غزو العراق للكويت تأثيرات بالغة على إبداعات المرأة الكويتية. نحن
نلحظ — على سبيل المثال — في مجموعة ليلى محمد الصالح جراح
في العيون (١٩٧٨م) علاقات الجيرة الطبيعية بين أبناء الشعبين العراقي
والكويتي؛ بحيث اقتصرت المجموعة على ما يمكن تسميته بالعلاقات الأسرية، بداية من
العلاقة بين الفتاة والشاب، وانتهاء بالأسرة المؤلَّفة من أب وأم وأبناء. السِّمة
الأهم في قصص ليلى الصالح الأولى هي الرومانسية المحلِّقة التي تحكم الأفكار
والآراء والتصرفات، وإن تماهت — أحيانًا — مع أحوال الوطن: الأمل، والطموح،
والتأكيد على حقوق المرأة، وإدراك الخطر الذي كانت تمثِّله الحرب القريبة بين
العراق وإيران، والسفر خارج الحدود بما يضيف إلى الذات، وإلى الوطن.
عكسَ غزو العراق للكويت تأثيرات بالغة على إبداعات المرأة الكويتية. الهم الذي
تحمله المجموعتان التاليتان لليلى محمد الصالح لقاء في
موسم الورد وعطر الليل الباقي هو
الوطن على مستوى الفرد أو الجماعة. ثمة تقابل بين الزوجة المحِبة والزوج المقاوم
والأسير والشهيد؛ لا تكتفي الزوجة بمشاعرها، لكنها تحاول الإيجابية، بالاشتراك في
عمليات المقاومة.
أحداث مجموعة لقاء في موسم الورد تدور في
الفترة ما بين ليلة الغزو الصدَّامي للكويت، وتأثيراتها السلبية التي ظلت ممتدة
إلى ما بعد خروج قوات الغزو لفترة طويلة. إنها لوحاتٌ منفصلة، متصلة، لو أعيد
ترتيبها فسنعثر فيها على الخيط الذي يجعل منها عملًا روائيًّا متكاملًا. ثمة
الليل الهادئ، المفعم بالثقة والطمأنينة والأحلام الوردية، ثم توالي الأحداث بما
لم يكن متصورًا حتى ينحسر المد الدموي، ليخلف تأثيرات مدمرة في البشر والأرض
والبيئة، تحتاج إزالتها إلى بضعة أعوام.
في روايتي الخليج تبدَّلت الأحوال تمامًا في
تلك الليلة التي عبرت فيها الدبابات العراقية حدود بلادها إلى داخل الكويت؛ غاب
العادي والمألوف، وحلَّ الاستثناء القاسي، أزيلت البنايات، وجرِّفت الشوارع،
وقيِّدت التحركات، وصودرت الأموال والأمتعة والمتعلقات الشخصية، عادت الأمور إلى
نقطة الصفر. ذوى ما كان قائمًا وتلاشى، حلَّت — بدلًا منه — مدافع الجيش
الصدَّامي ورشاشاته، وصيحات جنوده، وعمليات القتل والاغتصاب والنهب والسلب
والتشريد.
هذا ما عرضت له ليلى الصالح في
الياسمين
والمدفع، الفرق بين ما كان عليه الحال وما أصبح عليه: «الحلم
والحقيقة، الأمن والانكسار، التطلع والهزيمة، لحظة الفرح التي يحيلها الغزو مأساة
غير مبررة، فالمصيفون يفترشون رمال الشاطئ، أو ينزلون البحر، والأولاد يلعبون. ثم
تهبُّ العاصفة بلا مقدمات، فتدمر كل شيء. غابت الأمسيات الجميلة: الليل، والبحر،
والسمر على ضوء القمر، وكتابة الشعر، والحب، والغزل. الزوجان اللذان يقضيان إجازة
على شاطئ البحر، يشيِّدان على الرمال بيتًا، يصنعون زورقًا ورقيًّا، يزجيان الوقت
في اللعب البريء، لكن إعصار الاحتلال يفاجئهما، فيقوض ما كان جميلًا، ويفرض
القسوة والعسف والقتامة، ويفرض الموت. غيَّب من أصدر الأوامر كلمات العروبة
والقومية والأخوة، وغيرها مما كانت تدور به الألسنة أوقات ارتشاف القهوة. حلَّ —
بدلًا منها — تنكر لكل الحقائق والأعراف، وإصرار على التقويض والتدمير. حتى عندما
بدأت انفراجة الباب — ممثَّلة في مناشدات السلم — خلاصًا من الأزمة التي صنعها
خيالٌ مجنون، أغلق الباب بالمكابرة والإصرار على بقاء العدوان. يتصرف الزوج بما
يمليه انتماؤه، يترك زوجته وابنتيه، وينضم إلى المقاومة، ويعود الزوج الغائب بعد
طول انتظار، محمَّلًا بالنتائج التي أفرزها الغزو، والمقاومة التي واجهته. كان
جسده قد تطهر بدمه، وإن ظلَّت على شفتيه ابتسامة المنتصر، يذكِّرنا بشخصيات
همنجواي التي يبدو سقوطها أقرب إلى الانتصار، وبابتسامة جيفارا بعد أن أردته
رصاصات الغدر في أحراش بوليفيا، وبإيمان المقاومين الذين يرضيهم بذْل النفس فدية
عن الجماعة. وكما يقول سلمان الشطي، فإن القصة تتضمن صورًا لعالم يشير لما سيأتي،
خصوصًا إذا تبيَّنا تلك الإشارات الموحية لأمرين في آن واحد، الحبيب والوطن، فنحن
نلاحظها وهي في مرحها، رسمت على الرمال بيتًا راسخًا بالحب، وزورقًا ورقيًّا من
أحلام السنا تدفعه في لجة البحر، بحر الغوص والسفر، فهذه الإشارة تخرجنا من فهم
إلى آخر، إلى علاقة أخرى بين الراوية والآخر الذي تتحدث عنه، فيصبح — في هذه
الحالة — وطنًا وليس شخصًا. ويبدأ الوطن في الحضور قويًّا حين أصبح الاعتداء
صورًا ملموسة متحركة، وأصبح البحث عمَّا كان موجودًا، ثم افتُقِد هو الأصل.
السكينة والهدوء اللذان ابتدأت بهما القصة، يصبحان مطلبًا غير متيسر، وفي الليلة
التالية، وعندما تحقق سقوط الوطن، سقط معه الزوج في معركة الدفاع.» وتتحدث
الراوية عن الوطن المحتل «بالأمس كانت — الكويت — لؤلؤة الخليج، مضيئة، وادعة،
سواحلها الشامخة دافئة بقصائد الحب المطرز بعشق الطمأنينة. اليوم باتت حزينة،
ترقد على الجراح، ينام السكون فوقها، يخيم عليها القهر، الوجوم، الكآبة، شوارع
خالية، سيارات عسكرية، جنود، تخريب جنوني، بربري.»
١٥ ليلى محمد صالح، الياسمين والمدفع، لقاء في موسم الورد، دار قرطاس
للنشر.
أحداث سقوط القمر (مجموعة عطر الليل الباقي)
تتناغم مع قصة الياسمين والمدفع، بل إنها تحمل تماهيًا مؤكدًا. ثمة استعادة لما
جرى في الليلة المأساة. الإرهاصات تبين في الشمعة المطفأة، والمرآة المكسورة، وإن
حمل صوت فيروز الصفو والسحر وقطر الندى، والراوية تنظر إلى نافذتها، حيث يدخل
القمر كومضة البرق، مقتحمًا باب الليل، يتمدد — مرهقًا — على سريرها المرشوش بماء
الورد، والمسور بالأحلام البنفسجية، ثم يندفع القصف وأرتال الدبابات، وتفتح
الراوية بيتها. كان العالم في الخارج يحتضر، أدواته طلقات الرصاص ونزيف الدماء
«وانهمرت دموعي الغزيرة على حماقات الحكمة الذبيحة، نزفت على لوحة الوطن، وسقط
قمري الذي أدماه المشهد.»
في قصة لقاء في موسم الورد تستعيد الزوجة
إرهاصات فعل المقاومة، أعد الزوج نفسه للذهاب إلى وحدته، امتلأت عينا الزوجة
بالدموع: أصحيح ذاهب؟
– الأرض أغلى بكثيرٍ.
– ونحن؟
– بل كرامة الأرض أغلى بكثيرٍ.
قالت الأخت: برعاية الله … برعاية الله.
رمقت الأم الزوجة بنظرة ذات معنى: لا تقولي هذا، ادعي له كي يعود، ادعي له كي
يعود.
قالت الزوجة: أقسم بالله لا أتطيب إلى أن تعود.
ويقع الزوج في أسر قوات الغزو، ويظل في قبضتها حتى ينحسر العدوان، فتذهب الزوجة
إلى معسكر الأسرى حيث كان يقيم، ثم تعود خائبة، متعبة، تغالب الدموع. مضت مهرولة
ناحية البيت، لكن خطواتها توقفت حين رأت الأضواء في داخل البيت، والزغاريد تعلو
من بين الجدران، ورأت ابتسامته العريضة، وضحكات الأهل والمقربين، والأذرع تمتد
لتعانق جراحه المضمدة.
وفي قصة اللقاء ما زال وعدًا يظل موعد الحب
قائمًا بين الفتاة وفتاها، صارحها بأن حب الوطن أكبر من أي شيء آخر، إنه — حسب
تعبيره — الحب الأكبر الملتصق بالذات والوجدان … «يا فرج الله، تسبيحة تهمسها
المآذن في وقت الصلاة، يا حرقة الدعاء، يا … تنهيدة الصلاة، هل يعود القمر الغائب
بعد طول الغربة والغياب؟» تطول غيبته، ويطول بحثُها عنه، حتى تجده وسط رفاقه
يحدِّثهم عن العملية المهمة التي يتمنى كلٌّ منهم أن يموت مع إتمامها. ويُلقَى
القبض على الشاب، وتمضي به الشاحنة إلى موضعٍ لا تعرفه، وتلوِّح الفتاة بيدها،
وتجري وراء الشاحنة، وتتسع المسافة بينها وبينه، لكنها تظل تنتظر أوْبَته «تنتظر
لقاء الأمل والميلاد، لقاء الفرح الموعود كحضور الغياب، العائدين، موعد الحب ما
زال وعدًا ينتظر.»
في قصة
شموخ قمر العارضية تطالعنا بطولة
الشهيد مبارك النوت، مدير عام جمعية العارضية. كان حفل العرس في ذروته، عندما سرت
في جوف اللحظات السعيدة همساتٌ، ما لبثت أن انتشرت وعلت، عن أصوات إطلاق المدافع
وأزيز الرصاص القادم من الشمال «غول لعين يبتلع الوطن». انخرط الزوج في أعمال
المقاومة، بينما لزمت الزوجة بيتها تعاني القلق ومرارة الانتظار، وتدعو للزوج
الغائب بالعودة سالمًا. أصرَّ الزوج على المقاومة دون اعتبارٍ لنقص الإمكانات، بل
وانعدامها. أدانه الغزاة بفعل المقاومة، واقتادوه مكبلًا «فارسًا بلا حذاء، بين
ذراعيه يحتضن الوطن. لم تهزمه الأحداث، ربطوا عينيه بعصابة سوداء أمام قلوب الناس
وعيونهم التي تعتصر حزنًا وأنينًا عليه، وهو ينتصب أمامهم شامخًا بصلابة الصخر
الذي لا ينكسر، كما النخيل السامق.» وبالطبع، فإن التأثيرات السلبية تمتد إلى ما
بعد انحسار الغزو الصدَّامي بفترة طويلة، الشروخ التي حدثت في النفس الإنسانية
تَبين في مأساة الزوج حين يدخل المستشفى في لندن، بحثًا عن العلاج من تأثيرات
الأحداث القاسية.
١٦
•••
برهنت رواية الحرب النسائية — على حد تعبير بثينة شعبان —
١٧ على أن النساء يكتبن عن الحرب بمستوى الرجال، ولكن بصورة مختلفة.
وفيما يتعلق بالرجال، فإن الكتابة عن الحرب تتضمن — بالضرورة — ساحة المعركة
والصدامات والدم والسلاح، بينما اختار كثير من الكاتبات استكشاف النتائج
الإنسانية للحرب، والتشويه الذي تحدثه في نفسية الناس وأخلاقهم، وكيف كانت النساء
يتغلَّبن على مشكلة نقص الماء والكهرباء والدواء، وكيف كنَّ يقدِّمن الرعاية
للأطفال والمسنِّين. إنه من المنطقي أن تكتب النساء عن تأثيرات الحرب بعيدًا عن
ساحة المعركة، لأنهن لسن مقاتلات.
والملاحظ — في العديد من الإبداعات الروائية والقصصية — أن الرجل خرج للمقاومة
بالسلاح، بينما اكتفت المرأة بالمساندة القلبية والدعوات، لكن الانتظار — باللهفة
والقلق — لم يعُد هو — وحده — الدور الذي تحدَّد للزوجة، كما في قصة الياسمين والمدفع، حين استشهد الزوج المشارك في أعمال
المقاومة، ودفع حياته ثمنًا لتحرير وطنه، ودفعت الأسرة هناءها واستقرارها ثمنًا
للهدف نفسه.
في رواية إحسان عبد القدوس في بيتنا رجل
أقدمت نوال على حمل الرسائل التي بعث بها إبراهيم حمدي إلى أصدقائه خارج البيت.
كان قد لجأ إلى أسرة صديقه محيي، أخفته عن الأعين المطاردة، لكن الاختفاء عزله عن
العالم تمامًا، وتولَّت نوال مهمة الرسول بينه وبين من ينتمي إليهم — مقاومًا —
في الخارج. أما ليلى في رواية لطيفة الزيات الباب
المفتوح، فقد تحدَّد دورها المقاوم ضد سلطات الاحتلال الإنجليزي في
الانضمام إلى المظاهرات التي نزلت شوارع القاهرة. وفي قصة
حب ليوسف إدريس قامت فايزة بالدور نفسه في حياة حمزة، الذي فاجأه
إعلان الأحكام العرفية في أعقاب حريق القاهرة، ومطاردة السلطات للفدائيين. لجأ
إلى بيت صديقه بدير، وكانت فائزة هي الصلة بينه وبين العالم الخارجي، وحين طرده —
طردهما — بدير من البيت، قاسمته العيش في المقابر، ترقبًا لغياب التوقعات
القاسية.
في قصة ليلى الصالح إيقاعات الصمت المر تجاوز
المرأة تلك المساندة الوجدانية — تبلغ أحيانًا حدَّ ملامسة الخطر — إلى فعل
المقاومة المسلحة. المرأة/الزوجة في إيقاعات الصمت المر تخرج للمقاومة، وللقتال،
بينما الزوج داخل البيت.
– هناك أمر باستدعائك.
– لماذا؟
– زوجتك اعتُقلَت في عملية مقاومة.
إن دور المرأة/الحبيبة/الزوجة لا يقتصر على الانتظار أو المساندة الوجدانية،
إنها تغيب عن بيتها، بما يبعث القلق في نفس الزوج «منذ أن عرفها، ولج دائرة
الزمن، بدأ يحلم، يفرح، يشعر بخفقان مجنون، لكن ذلك الهاجس المفاجئ المشحون
بالظن، والصمت والقلق والخوف، كان يفسد عليه تلك السعادة، ويحوِّله إلى رجل
يتعذب.» ويظل صمت الزوجة عن نظرة الشك في عين زوجها سادرًا، حتى يُلقى القبض على
الزوجة لانخراطها في المقاومة.
١٨
لكي نحفظ للوطن حريته واستقلاله وهويته، فإن المقاومة واجب المرأة، مثلما هي
واجب الرجل؛ الوطن للجميع، وليس لفئة محددة منه، وإذا كانت المرأة في قصص ليلى
الصالح قد ساندت الرجل في خروجه للمقاومة، بالحث والتشجيع والانتظار، فإن المرأة
في قصة إيقاعات الصمت المر تجاوِز ذلك إلى
المقاومة المسلحة، التي تعي ثمارها الخطرة.
شخصية الآخر، المعتدي، في قصص ليلى الصالح، لا تكاد تختلف عما تتناوله إبداعات
المقاومة بعامة، فهي شخصية متغطرسة، عدوانية، تعذِّب، وتقتل، تنفيذًا آليًّا لما
يُصدَر إليها من أوامر، لا يشملها الهدف، ولا يستوقفها ما هو إنساني، كالانتماء
إلى هُوية واحدة، أو أن الذي تناله الرصاصات شيخ أعزل، أو امرأة، أو طفل لا يعي
طبيعة ما حدث. إنه يتحرك بغريزة الإيذاء، حتى لو لم يشكِّل الأمر تأثيرًا ما على
معنى وجوده، في البلد الذي احتله، هو محتل فلا بد أن يمارس تصرفات المحتل، تنطمس
الملامح في نظره، لا يبقى إلا أن هؤلاء الناس أسرى، وأن دوره يتحدد في تأكيد
احتلاله لبلادهم.
أما الشخصية المقاومة فهي تنحصر في ذكر وأنثى، رجل وامرأة، زوج وزوجة، ينتميان
بعامة إلى الطبقة الوسطى وما فوقها. ثمة البيت المستقل، والمهنة التي تهب القدرة
على السفر، والشهادة العليا، والاستمتاع بالإجازة، والعلاج خارج البلاد. ولعل
تكرار هذه الثنائية في قصص الصالح مردُّه إلى تمازج السرد الحكائي والسيرة
الذاتية. نحن نتعرف إلى ما يبدو أن الفنانة عاشته بالفعل، سواء بالتجربة
المباشرة، أو بتجارب قريبة لأشخاص قريبين، يغيب تباين الشخصيات بصورة لافتة، أشبه
بالتكوين في لوحة بانورامية، متعددة التكوينات والألوان والظلال.
المكان في قصص ليلى الصالح يبتعد عن ثبات الملامح، ويعبِّر عن تبدُّلها بتطورات
الأحداث، فالعلاقات الإنسانية، والطبيعة الجميلة، والمظهر المتمدِّن، والحرص على
الإضافة والتقدم … ذلك كله واجه التشوُّه بفعل العدوان. لم تعد الكويت هي الوطن
الذي ألِف أبناؤه الحياة في أمنه، وأحبُّوه، ظل راسفًا في أغلال الاحتلال والأسر
والقتل، لأشهرٍ طالت — بقلق الانتظار — حتى عاد الوطن السليب إلى ناسِه، ليعيدوا
إليه قسماته المفتقدة.
•••
الفنان — كما يصفه بيكاسو — كائن سياسي دائم اليقظة أمام أحداث العالم، يتشكَّل
بها جميعًا، سواء كانت أحداثًا تمزق القلب، أو أحداثًا رقيقة، أو مثيرة. وقد
جاوزت فاطمة العلي القضية المحدودة إلى القضية الأشمل. توحَّدت مع وطنها كما فعل
الجميع، لا فرق بين كاتبة أنثى وكاتب رجل، انشغلوا — على حد تعبير فؤاد زكريا —
بتسخير أقلامهم ومواهبهم الأدبية من أجل تسجيل تلك اللحظة الفريدة والأليمة من
تاريخ بلادهم.
ليلى عسيران في
عصافير الفجر تضغط على العمل
المشترك مع الرجل، توصلًا إلى التحرير الحقيقي للمرأة، وإلى تذويب الترسُّبات
الأخلاقية التي تفرق بين الجنسين. العمل المقاوم المشترك تكسب فيه المرأة
المساواة بما تقدمه — مثلها مثل الرجل — لقضية الجماعة. «لقد دفعتها الحياة معهم
— الفدائيين الفلسطينيين — إلى قفزة هائلة، حطمت كل رواسب التقاليد الماضية، التي
علَّمتها أنه من العيب أن تختلط بالشبان.»
١٩
ويشكِّل الغزو العراقي للكويت انعطافة حادة، وتغيُّرًا، في نظرة المرأة إلى
دورها في المجتمع، ونظرة الرجل — في المقابل — إلى هذا الدور. إنها تتحوَّل من
دور التابع إلى دور المشارِك. تحوَّل رد الفعل السلبي في قصص ما قبل الغزو، إلى
فعلٍ إيجابي في قصص ما بعد الغزو. خرج الرجل — في العديد من القصص المكتوبة
بأقلام نسائية — للمقاومة بالسلاح، بينما اكتفت المرأة بالمساعدة القلبية
والدعوات. انخرط الزوج (
شموخ قمر العارضية) في
أعمال المقاومة، بينما لزمت الزوجة بيتها تعاني القلق ومرارة الانتظار، وتدعو
للزوج الغائب بالعودة سالمًا.
٢٠ وفي قصة
اللقاء ما زال وعدًا تنتظر
الزوجة لقاء الأمل والميلاد «لقاء الفرح الموعود كحضور الغياب، العائدين، موعد
الحب ما زال وعدًا ينتظر.»
٢١«يا فرج الله، تسبيحة تهمسها المآذن في وقت الصلاة، يا حرقة الدعاء،
يا تنهيدة الصلاة … هل يعود القمر الغائب بعد طول الغربة والغياب؟»
٢٢ ذلك هو الدور الذي تحدد للزوجة أيضًا في قصة
الياسمين والمدفع، انتظرت — باللهفة والقلق — عودة الزوج المشارك في
أعمال المقاومة، لكن الزوج يستشهد في المعارك، يدفع حياته ثمنًا لتحرير وطنه،
وتدفع الأسرة هناءها واستقرارها ثمنًا للهدف نفسه.
٢٣ لكن المرأة/الزوجة (
إيقاعات الصمت
المر) تخرج للمقاومة، وللقتال، بينما الزوج داخل البيت.
– هناك أمر باستدعائك.
– لماذا؟
– زوجتك اعتُقلت في عملية مقاومة.
٢٤
أفرزت المقاومة قيمًا جديدة «أبرزها تغليب حب الوطن، والدفاع عنه، في إطار
الواجب الوطني على الجانب الإنساني من العلاقات العائلية، والتضحية بأقدس ما يربط
الرجل والمرأة بالأسرة في سبيل تحرير الوطن.
٢٥ طالعت المرأة (
وجهها وطن) قِطع
المرآة المتكسرة، وجدت في كل قطعة وجه إحدى صديقاتها، وعلى مقربة من القطع
المتكسرة، تجد قطعة كبيرة، تحملها بيديها، لتفاجأ بوجهها يحمل ملامح الوطن، وهذا
الوجه الوطن هو الذي مارس فعل المقاومة ضد قوات الغزو. لم تعُد المرأة تكتفي
بالغيرة، ولا بوضعها المنسحق داخل الأسرة، ولا بشحوب فرصتها في المشاركة، وإنما
هي تمارس فعل المقاومة، وهو دور تؤديه كمواطنة، وليس كأنثى، مقابلًا لدور الرجل
الذي يؤديه كمواطن، بعيدًا عن طبيعة الذكورية. جاوزت الدور المحدد، والمحدود، إلى
إسهامٍ إيجابي في المقاومة ضد الغزو، بل إنها جاوزت محاولة الدفاع عن وضع المرأة
في المجتمع الكويتي، إلى الدفاع عن وضع الكويت ذاتها، عن حقِّها في استرداد
حريتها التي استلبتها القوة المسلحة؛ فالفتاة ترفض محاولات ضابط الاحتلال للتودد
إليها حتى تفضي بما يريد من معلومات، بل إن رفضها ينسحب على كل أبناء وطنه (قصة
شيء ما بيننا). الرفض، والإحساس بالمرارة شعور
بديهي حين يتذكر من احتُلَّت أرضه ما كان بينه وبين الذي احتل أرضه من علاقة «حين
كنا ولا أحد غيرنا في البر والبحر والميادين والحدائق والشوارع النظيفة الباهرة»،
والفتاة تشق شدقيها بيديها كي لا ينتهك ضابط الاتصال عرضها «أغمضت عينيها، كزَّت
على أسنانها، جمعت يديها في فمها، وقبل أن يفيق أحد لما تفعل، كانت قد شقَّت
شدقيها، وانهار الدم؛ اختفى القمر خلف شفق النار.»
٢٦ ثم لم يعُد دور المرأة يقتصر على تشويه الجسد، فلا يحصل العدو على ما
يريد، لكنها شاركت في المقاومة بدءًا بإحراق الدبابات، وانتهاء بتضميد جراح
المقاتلين.
واللافت أن رموز الرفاهية ذوت، وتلاشت؛ لم يعُد الخادم ولا السائق ولا الطباخ
ولا الحياة المترفة. بدت كل المشكلات هامشية مقابلًا لقضية احتلال الوطن، ارتفع
الجميع فوق أزماتهم الشخصية وعلاقاتهم الثنائية والجمعية، وتوحَّدوا مع الكويت
كوطنٍ محتلٍّ، وانطلقوا بفعل المقاومة، دون تباينات اجتماعية ولا عمرية ولا
أيديولوجية.
واللافت أيضًا أن الكاتبة لا تدين المواطن العراقي؛ فهو بلا إرادة أمام قيادة
باطشة.
•••
الكلمة هي إسهام المبدع في حياة مجتمعه، وإن لم يقدم المبدع إسهامه أوقات المحن
والأخطار، فإن خيانة وطنه ومجتمعه هي الصفة التي يجدر أن تُلصَق به: «الديرة،
الكويت، مليانة عساكر ومدافع وطيارات، وأي كويتي يمشي في الشارع، ولو بسيارة،
سيقتلونه.»
مع ذلك، فإن قصص فاطمة يوسف العلي تناقش قضية الاحتلال والمقاومة بما يجاوز بها
أسوار مكان بعينه، وزمان بالذات. إنها قضية حرية الوطن، بحيث يخلو من كل أثرٍ
لأجنبي: الصبي الذي يقدم على وضع السكر في تانك البنزين، لتتحوَّل مجنزرة العدو
إلى صندوق من الحديد فاقد الحياة … هذا الصبي قد مارس فعله المقاوم في الكويت …
لكن الفعل — رغم محلية الحدث — ينطلق إلى الإنسانية. فإذا كانت شخصيات تشيخوف —
المسرفة في محليَّتها — تجد ذاتها في أماكن أخرى من العالم، وفي أزمنة أخرى
انطلاقًا من بُعدها الإنساني، فإن شخصيات هذه القصص تجاوز محلية اللحظة إلى
إنسانية تتسم بالشمول والاتساع، ومخاطبة النفس البشرية بصرف النظر عن انتمائها
الجنسي.
مجموعة فاطمة العلي
دماء على وجه القمر تتضمن
ثماني قصص محورها قضية واحدة، هي ما عاشته الكويت من أحداثٍ مأساوية، بداية من
فجر الخميس الثاني من أغسطس ١٩٩٠م. لذلك فإن حسن عبد الهادي يجد في المجموعة ما
يشبه فصول الرواية الواحدة، فالحدث واحد، والمعاناة واحدة، والموت هو المصير الذي
يواجه، أو ينتظره، الجميع.
٢٧ وفي تقدير فاطمة يوسف العلي أن إبداع الحرب المتفوق يضع البسطاء موضع
البطل الضحية في الوقت نفسه «لقد مضى زمن الفارس المغوار الذي لا يُشَق له غبار،
وجاء زمن الإنسان العادي ليؤكد في الأزمات أنه يستطيع أن يكون بطلًا من غير صراخ
أو هتاف، بل أحيانًا من غير أن يعرف أنه بطل، وأنه أدَّى عملًا رائعًا يستحق
الإشادة.»
٢٨ وتقول العلي: «المهم في قصة الحرب — كما في أية قصة، وفي أي موضوع —
أن يكون الغوص في الشخصيات حقيقيًّا وصادقًا، وأن يكون الحدث أو الموضوع مما
تطرحه الحياة بشكلٍ طبيعي ليس مصطنعًا.» تضيف: «الفن الحقيقي هو الذي يهتم
بالناس، كل الناس، من غير تصنيف سابق، من غير حواجز تعزل الإنسان عن أخيه
الإنسان.»
٢٩ الفتاة التي تشق شدقيها بيديها حتى لا ينال منها ضابط الاحتلال مأربه
(
دماء على وجه القمر) ليست نبتًا في الكويت
وحدها، فالمرأة ترفض احتلال جسدها، بعد أن رفضت — بالمقاومة المسلحة — احتلال
وطنها. بوسعنا التعرف إلى نماذج مشابهة في فيتنام وفلسطين والبوسنة ومناطق أخرى
من العالم. حارس المدرسة الذي يهمُّه أن تظل المدرسة مفتوحة، حتى في وقت
الاحتلال، يسكت على إهانة جنود الغزو، لكن السؤال الذي ظل يشغله: هل يستطيع أن
يعتني بالمدرسة وهو يعيش في هذه الخلية الكارهة المكروهة؟ ذلك السؤال دفعه لأن
يخرِّب أسلحة جنود العدو، ثم يحاول إشعال النار في مخازنه، ويدفع حياته مقابلًا
لما فعل، «قبل أن يغيب كان يشعر بالراحة لأن هذه الطريقة تناسب واجبه كحارس
مدرسة، وأنها الطريقة الوحيدة لرحيل البنادق، وعودة الأطفال، وحتى لا يعود أيلول
— شهر افتتاح المدارس — وحيدًا مرة أخرى.» (
أيلول يعود
وحيدًا) هذا هو ما فعله زين ضويحي، عندما تحمَّل إهانات جنود الغزو،
ليفيد من بلاهته الظاهرة في نقل رسائل المقاومة وأسلحتها، تحت أعين جنود الاحتلال
وغفلتهم «يضحك منه الجنود، يضربونه على كتفيه، يعبثون بعقاله، المهم أن يمرَّ،
وأن يقف في مواقع بعيدة عن العيون، حتى تأتي الأيدي التي تعلِّق لفافة أو
تأخذها.» (
عشر عرايس مكحولات)، ونتذكر قول سان
جوست أحد أبطال الثورة الفرنسية «إن الحياة لا تبدو شاقة غير محتملة إلَّا على
أولئك الذين يتراجعون أمام رؤية قبرهم وهم أحياء.» ضابط قوات الاحتلال الذي يصطنع
الود للابنة، وأنه صديق لأبيها، حتى يحصل على ما يريد من معلومات. فإذا ظلَّت
الفتاة على صمتها، أظهر ما كان يخفيه من عداء وشراسة، والإحساس بالمرارة شعور
«إنساني» عندما يتذكر الذي احتُلَّت أرضه ما كان بينه وبين الذي احتل الأرض من
علاقة «حين كنا ولا أحد غيرنا في البر والبحر والميادين والحدائق والشوارع
النظيفة الباهرة.»
٣٠ وتحدِّث الراوية نفسها: لقد رأت العراقيين من قبل، في ظروفٍ مختلفة.
بعضهم كانوا أولياء أمور بنات في مدرسة بغداد التي اشتغلت بها، يقفون قريبًا من
باب المدرسة في انتظار بناتهم، أو يستندون بظهورهم إلى سياراتهم ذات النوافذ
المفتوحة، تمامًا كما يفعل الكويتيون، لم أشعر بفرقٍ. وقد تأتي امرأة ملتفَّة في
عباءتها تطلب ابنتها، فتقف بأدبٍ واحتشامٍ وتقول «عيني» فأعرف أنها عراقية، وأذهب
لأحضر لها ابنتها، ولكن بعد «الاجتياح»، هذه الكلمة التي لا أعرف ماذا يراد منها
بالضبط، هل سيقف الرجل العراقي مستندًا إلى سيارته؟ وهل ستناديني المرأة العراقية
«عيني»؟
دلالات يصعب إهمالها، كيف تتبدَّل صورة — وتصرفات — من أفتح له بيتي، يقاسمني
اللقمة والمسكن؟ كيف يصبح الصديق عدوًّا؟!
وإذا كانت روايات الفلسطينية سحر خليفة — في بُعدها الأهم — تأريخًا سرديًّا
لمراحل الصراع العربي/الفلسطيني-الصهيوني (يصف فيصل دراج روايات سحر خليفة بأنها
وثائق اجتماعية) فإن إبداعات فاطمة يوسف العلي — في بُعدها الأهم — تعبير عن
معايشة للتحديات التي واجهتها الكويت/الوطن، وبالذات غزوة صدام حسين التي جلبت
معها دمارًا لا تبرير أخلاقيًّا ولا قوميًّا له. دافعت سحر خليفة عن الوطن من
خلال دفاعها عن المرأة، وهذا هو ما يبين عنه معظم قصص فاطمة يوسف العلي. وعلى
سبيل المثال، فقد مزجت رواية سحر خليفة لم نعد جواري
لكم (١٩٧٤م) بين تحرير المرأة واستعادة الوطن، قدمت المرأة كجزءٍ
متلاحم بالواقع الفلسطيني، وهو واقع يتطلع إلى الخلاص من الاستيطان الصهيوني
الشتاتي، فهي تضيف إلى سعي المرأة الفلسطينية للتخلص من السيطرة الذكورية بُعدًا
آخر هو التخلُّص من السيطرة الاستعمارية، وتمثِّل قصص فاطمة يوسف العلي امتدادًا
لهذه الفكرة، أو التيمة.
فاطمة يوسف العلي تشير في حوار معها إلى ما أطلقت عليه «أدب الغزو» — أفضِّل
أدب المقاومة — أصبح لدى الأدباء وقت للتأمُّل، وأخذهم الذهول فسجلوا بأقلامهم
سيناريوهات الحدث، كلٌّ من وجهة نظره، وكلٌّ بطريقته في التناول.
لقد فرض «الغزو» مأزقًا سياسيًّا، عكسَ تأثيراته — من ثَم — في عملية الإبداع.
الإحساس بالمفاجأة والرفض والغضب لأحداث الغزو، يوازيه — أو يقابله — إحساس
بالتأثُّر والمؤاخذة، لأن النيران — حسب التعبير الذي أتصوره الآن شائعًا — كانت
صديقة!
ثمة الواقع الاجتماعي والسياسي للكويت، وعلاقة الجوار بين الكويت والعراق،
والتعامل مع الإبداع باعتباره فنًّا، وليس محاولة للتعبير عن مشكلات دائمة، أو
طارئة.
«كشف ما حدث في تلك الأيام القاسية من عام ١٩٩٠م — كما يقول فؤاد زكريا — عن
مدى شعور الأدباء الكويتيين بالتوحد مع وطنهم، وإحساسهم بأن من واجبهم تسخير
أقلامهم ومواهبهم الأدبية، من أجل تسجيل اللحظة الفريدة والأليمة من تاريخ
بلادهم.»
فما هي وجهة نظر فاطمة العلي؟ وما طريقتها في التناول؟ وهل يصدق على هذه
المجموعة مقولة «القصة تكتب نفسها»؟ هل يصدق عليها قول فاطمة العلي إنها «تنتهي
إلى خاتمة معينة، فإذا باللغة وتفاصيل الحدث، وما تريده الشخصية في القصة، يقهر
الكاتبة، ويقودها إلى خاتمة لم تفكر فيها من قبل، لكنها حين لمعت، وعبَّرت
بخيالها، واختارت موقعها كنهاية للحدث القصصي، لم تصمد أمامها الإرادة المضمرة،
أو النية المبيَّتة التي احتضنها خيال الكاتبة، خيالي على التحديد، وبذلك فرضت
نفسها بقوة لا أعرف يقينًا من أين جاءت، المهم أنني لم أندم مطلقًا لحدوث تغيير
في مسار القصة، تغيير لم يسبق لي التفكير فيه.»
٣١
قد يصدق هذا القول على المجموعة القصصية
وجهها
وطن. العين الناقدة تفلح في تبين العفوية أو نقيضها في ثنايا العمل
الإبداعي، وكانت فاطمة العلي في
وجهها وطن
امرأة تدافع عن بنات جنسها، عن وضع المرأة في المجتمع. أما مجموعة
دماء على وجه القمر فهي مواطنة كويتية تدافع عن الوطن،
جاوزت القضية المحدودة إلى القضية الأشمل. يقول الناقد حسن عبد الهادي: «إن
دماء على وجه القمر ثمرة حقيقية وشرعية لحالة
من الحمق والطيش، قام بها شقيقٌ ضد شقيق، جار ضد جار، أدَّت إلى تمزُّق الصف
العربي، بل وحتى الفئات الاجتماعية وتطاحنها، وعليها تكونت مواقف، واختلفت أخرى،
شحذت وشحنت عقول المبدعين للكتابة فيها.»
٣٢
أملت ذكريات الغزو على الفنانة قصصَ هذه المجموعة. أكاد أقول أملتها بصورة
كلية، بكل ما جرى في الواقع من مرارة وقسوة. الشعور الذي تطوي به الغلاف بعد أن
تتم قراءة المجموعة، أنك تعرَّفتَ إلى ما حدث بالفعل، إلى حكاية الغزو منذ
بداياتها، وإن لم تهبنا الفنانة ملامح النهاية، ربما لأن ذكريات أحداث الغزو،
الأفعال وردود الأفعال، هي ما بقي في النفس بعد عودة الكويت إلى أهلها. وربما لو
أن فاطمة العلي عنيت بإيراد كل التفاصيل لتحوَّلت القصص إلى ما يشبه تداعي
الذكريات، أو اللقطات التسجيلية. يقدم أستاذنا فؤاد زكريا قصص المجموعة بأنها
«مجموعة من الوقائع التي حدثت كلها خلال فترة الاحتلال العراقي للكويت من أغسطس
١٩٩٠م حتى فبراير ١٩٩١م. وقد لاحظت — الكلام لفؤاد زكريا — أن قدرًا كبيرًا من
الإنتاج الأدبي الكويتي الذي ظهر بعد انقشاع هذه الغمة، يدور حول هذا الموضوع،
وهي ظاهرة جديرة بالتنويه؛ إذ تكشف عن مدى شعور الأدباء الكويتيين بالتوحد مع
وطنهم، وإحساسهم بأن من واجبهم تسخير أقلامهم ومواهبهم الأدبية من أجل تسجيل تلك
اللحظة الفريدة والأليمة من تاريخ بلادهم.» من هنا — ربما — جاء القول إن
المجموعة كلها أشبه ما تكون بفصول رواية واحدة، مترابطة؛ فالحدث واحد، والألم
واحد، والمعاناة واحدة. إنه الموت، وإن تعددت أسبابه.
٣٣ ملاحظتي تتصل بالموت تعبيرًا عن ذلك كله، الموت نتيجة في قصص
المجموعة، بل إنه ليس نتيجة نهائية، فالحدث والألم والمعاناة، ترتبط بالغزو
المفاجأة.
واجهت فاطمة العلي بُعدَين متباينَين في قصص المجموعة، ثمة اجتياح مسلح لأرض
الكويت، وهو ما يجب مواجهته ابتداء، باعتبار أن الدفاع عن التراب الوطني مسئولية
كل المواطنين، لكن مصدر الاجتياح دولة شقيقة، بحيث يبدو الإضمار ضرورة فنية.
الاجتياح المسلح هو كذلك، حتى لو تبدَّلت التسمية، لكن الاجتياح جاء من حيث لا
يُتَوقع. لجأت فاطمة العلي إلى الإضمار لاعتبارات الفن من ناحية، ولاعتبارات
العلاقات الحسَّاسة بين المعتدي والمُعتدَى عليه من ناحية ثانية، أثق أننا كنا
سنتعرف على فنية مغايرة لو أن العراق لم يكن هو مصدر الاعتداء!
الأسهل — في الأدب المقاوم — أن يُطلِق الأديب رصاصاته على الورق. الأصعب — في
المقابل — أن يُطلِق الكلمات المقاتلة، بمعنى أنه يركز على اللحظات العادية في
حياة الفرد والجماعة، واتصال اللحظات التي قد تبدو ساكنة، بالاحتدام الصاخب في
مواضع القتال. أبطال فاطمة يوسف العلي وليلى محمد الصالح وثريا البقصمي وغيرهن
مجرد مواطنين كويتيين، يرتدون الدشداشة، ويعملون في مهن بسيطة. البطل في هذه
القصص يصلي الفروض في أوقاتها، ويحرص على سماع القرآن والأحاديث النبوية وأغنيات
البادية والتمثيليات الشعبية، ويدعو بعض المارة أمام بيته إلى مائدته. إنه صورة
شبه نمطية للإنسان العادي، المواطن الذي لا تشغله قضايا السياسة، ولا يجيد الحديث
فيها، لكنه يعي معنى الوطن، والإحساس به، والانتماء إليه، وضرورة الدفاع عنه.
لعلَّه يعجز عن استخدام السلاح الذي يستخدمه الجنود، لكنه يلجأ إلى فطرته وذكائه
والأساليب المتاحة لقلقلة الأوضاع أمام العدو، إن لم يستطع مقاومته بالسلاح. قد
يخفي السلاح، ويستخدم القنبلة، ويحاول صنع المتفجرات، ويضع السكر في خزان بنزين
دبابة العدو، وينضم إلى إحدى خلايا المقاومة، وبتعبيرٍ آخر، فإن البطل المقاوم —
هنا — لا يحمل السلاح، لكنه يحمل الرغبة في الحياة البسيطة والطمأنينة
والسلام.
هوامش