هل هي مملكة واحدة؟
وبالطبع، فإن هذه الآراء مما يصعب أن يُطلَق على «كل» المجتمعات العربية. ثمة الكثير من الشواهد بأن المجتمعات العربية لم تعُد تَدين للتسلط الذكوري، بالصورة التي بدت شبه ثابتة منذ عصور الحريم، وامتدادها في الأسرة المثل: أسرة أحمد عبد الجواد، ثم تحرك الصورة تكويناتها، وعمقها، وألوانها، وظلالها — على نحوٍ وآخر — في الانعكاسات التي تبين عنها الأعمال الإبداعية منذ مطالع القرن العشرين، تماهيًا مع الخطوات التي قطعتها المرأة، إلى الأمام، أو إلى الخلف (رفعت المرأة الحجاب في ثورة ١٩١٩م، ثم أعادته بعد ثورة ١٩٥٢م!) وإن كان مما يهمُّنا — في هذه الملاحظات الختامية — أن نركز على خطوات الأمام في مسيرة المرأة العربية.
-
لم يعُد شهريار هو الحاكم الوحيد لمملكته، يقضي بالكلمة التي لا تُناقَش، ولا ترد، صار لشهرزاد دورها، فالإحصائيات تشير إلى ارتفاع نسبة المتعلمات من الإناث، وارتفاع نسبة الحاصلات على الشهادة الجامعية، وعلى الشهادات ما بعد الجامعية. أدركت المرأة — بالتعليم — أنها ليست مجرد أنثى خُلقَت لكي يلهو بها الرجل، لكنها إنسان، مثله تمامًا.٣ وثمة آراء بأن الزواج أو عدمه يجب أن يكون له معنى؛ فلا يصبح مجرد وسيلة وحيدة للفرار من العنوسة بكل ما تنطوي عليه من معايب اجتماعية. الخطر الذي يتحقق في قبول الزواج بديلًا عن العنوسة يفوق كل المعاني التي تحملها عنوسة الفتاة، وأخطرها أن الزواج الذي يجانبه التوفيق يفضي إلى الطلاق، وإلحاق الضرر بكلا الزوجين، وبالأبناء. قرار الزواج يجب أن يكون ثمرة تدبُّر، وليس لمجاوزة حالة، مهما بدت قاسية.
-
الرفض الحاسم لعمل المرأة لم يعُد قائمًا، حتى الأزهر أجاز عمل المرأة، ولم يعد يعتبره عيبًا ولا خطيئة.
كان العمل الوحيد المسموح للمرأة بأدائه — فيما عدا استثناءات تؤكد القاعدة — هو العمل الزراعي من أمور البيت، ورعاية البهائم، وتربية الطير، والعمل في الحقل، مستأجرة أو أجيرة، والتردد على السوق للبيع والشراء. ثم عملت المرأة في مجالات مختلفة، كان مجرد التطلع إليها أقرب إلى المستحيل. أذكِّرك بمسرحيات الحكيم التي نالت فيها المرأة من سخرية الفنان ومؤاخذاته. من هنا تأتي إدانة السورية ميرفت حاتم لثقافة الخيلاء الذكوري التي قادت الرجال إلى عزل النساء، واستبعادهن من المشاركة في الحياة العامة ما استطاعوا.٤السورية هيام نويلاتي تحدد مشكلة الحركة الإبداعية النسائية بأنها الرجل «حبذا لو ترك الرجل المواهب الفنية الأنثوية تتفتح بحرية.»٥ أسخف المشكلات التي تواجهها المبدعة العربية — كما تقول ليلى مقدسي — هي أن ينظر إليها البعض كشكلٍ خارجي، كإطارٍ للجمال والأنوثة، لا يشغله الإبداع ولا الفكر ولا الهموم التي تحاول التعبير عنها، ولا محاولة إثبات وجودها في الساحة الإبداعية.٦لم تعد سلطنة عمان — على سبيل المثال — كدولة خليجية سبَّاقة في الكادر الوظيفي المرتفع بالنسبة للمرأة، والمثل راجحة عبد الأمير، وقد أتاحت لي متابعة نشاطها من خلال إشرافي على جريدة الوطن، أن ألمس اللافارق بين أداء الرجل وأداء المرأة في الوظائف العامة. ولعل أداء المرأة اتسم بجدية مؤكدة، فرضتها نظرة الاختبار، أو التشكك في القدرات التي تؤطر أداءها الوظيفي.
أصارحك أيضًا بأن المكانة التي بلغتها امرأة مصرية، هي أم كلثوم، لا كمطربة وإنما كنقيبة للمهن الموسيقية، وسفيرة فنية لمصر في الخارج، وشخصية مؤثرة في مجتمعها … تلك المكانة مؤشر — يصعب إغفاله — إلى الخطوات التي قطعتها المرأة العربية في رحلة اكتشاف الذات، وتحقيقها، رحلة المشاركة الفعلية للرجل في دولته، سواء تشبَّث الرجل بتداعيات مملكته، أم ترك المرأة تقاسمه تثبيت دعاماتها. وفي أثناء عملي بالصحافة، لم ألحظ تحفظًا على القدرات الإبداعية، ولا التحرك الواعي للمرأة في مجال الصحافة. التحفُّظ الذي تبديه القيادات الصحفية، والذي يبلغ حدَّ رفض الموافقة على تعيين الفتيات، هو الفترة القليلة المقبلة بعد التعيين. فالفتاة تحصل على راتبٍ شهري، يعينها — ويعين الشاب الذي يتقدم لخطبتها — على فكرة الزواج. وبعد سنة، أو أكثر، أو أقل، تذوي الطموحات بترك المرأة للعمل في إجازة وضع، ثم إجازة لرعاية الطفل. ورأيي أن دور الحضانة تمثِّل حلًّا إيجابيًّا، يقلِّل من متاعب الأم العاملة، وقد يلغيها تمامًا.
-
تبدلت الأحوال إلى حد أن المطالبة بعمل المرأة، لم تعد تقتصر على المرأة وحدها. الرجل — في أحيان كثيرة — يشترط عمل المرأة، أن تكون المرأة عاملة، موظفة، لها إيرادها الثابت الذي يعينه على أعباء الحياة.٧ ويهمس سرحان البحيري (ميرامار) لنفسه: «إذا لم تكن العروس موظفة على الأقل، فكيف أفتح بيتًا جديدًا يستحق هذا الاسم في زماننا المتوحش العسير؟!»٨ طالبت المرأة — لأعوام طويلة — بحق العمل. فلما حصلت على هذا الحق، ونتيجة للظروف الاقتصادية القاسية، أصبح الرجل هو الذي يطالبها بهذا الحق، اعتبره واجبًا، ضرورة، واعتبره شرطًا مهمًّا لقبوله الزواج من فتاة ما: ماذا تعمل؟ وهل لها إيراد؟لم يعد الشاب يختار الزوجة لأنها تجيد أعمال البيت من طهي وترتيب وشطارة، فهي قد لا تجيد شيئًا من ذلك، أو لا يهبها وقت عملها الوظيفي أو المهني فرصة لتحقيقه. لكن الشاب يقبَل بها للعديد من العوامل، ومنها مساعدته — براتبها — في الإنفاق على البيت. وقد أظهرت الأم (توبة نوال) تأثُّرها لزواج ابنها الوحيد من فتاة تعمل في شركة مع الرجال، ثم ما لبثت أن اقتنعت بمطالب العيش المادية.٩ وتلقي الظروف الاقتصادية ظلَّها في قول البنت لفتاها إنها ستتزوج، ويومئ الشاب إلى المسكوت عنه في قوله: ستتزوجين خاتمًا وشقة.١٠وفي المقابل، فإن سعي المرأة المعاصرة إلى العمل، والتمتُّع بأقصى قدرٍ من الحرية، يهدف — في نهايته — إلى اختيار، أو قبول، مَن تريده زوجًا لها. من اختارته فهو اختيارها، بلا ضغط ولا قهر. وتضاعفت أعداد مدارس البنات، وتخرَّج آلاف الفتيات في الجامعات، وأصبح حق المرأة في الظهور في المجتمع متاحًا بصورة مؤكدة، ولم يعد من المشكلات التي يصعب التغلب عليها، أن تفاجأ المرأة في الأوتوبيس بأن شيئًا مدببًا يندس بين ردفيها!١١لكن المسألة — في بُعد سلبي لها — تحوَّلت إلى مجرد زيادة أفواج المستهلكات لأدوات التجميل الواردة من الغرب. فالمشاركة — بمعناها الكامل — مفتقَدة. لا تستطيع المرأة — ارتكازًا إلى أنها ناقصة عقل ودين — أن تملك حق الطلاق — مثلًا — بالصورة المطلقة التي يملكها الرجل (تقول له — صارخة أو متوسلة —: طلقني! فيوافق بالقول: أنت طالق، أو لا يوافق)، والمناقشات لم تصل إلى برٍّ حول ما إذا كان من حق المرأة أن تخرج إلى الحياة العامة، أو أن الأولى بها أن ترعى بيتها، زوجها والأولاد؟ ورغم انقضاء عشرات الأعوام على دعوة تحرير المرأة، فإن البعض ظل على رأيه بأن المرأة مكانها البيت، وإن اقتضت الضرورة غير ذلك، فلا بد من أن يلازمها محرم!١٢
-
نحن نلحظ أن الشاب (في العيادة) حرص على الزواج من فتاة قاهرية، لا لسببٍ إلا لطمعه — تعبير الفنان! — في أن يتزوج فتاة متعلمة، تعرف تلبس وتقلع، وتمشي مرفوعة الرأس لا تتعثَّر، وذراعها في ذراعه.١٣ والحق أن بعض الآراء — تبين عنها إبداعات كثيرة — التي ترى المرأة الريفية ضعيفة، مسلوبة الإرادة، تناقض الواقع المعاش إلى حدٍّ كبير. وفي تقدير لطفي السيد — وهو مصري فلاح — أن الرجل الفلاح يعامل امرأته معاملة المساوي للمساوي، ويعتبر أنها إنسان موجود مثله، لها من الإرادة ما يجب احترامه إلى الحد المحترم من الإرادة.
-
بدأت المرأة العربية — على حد تعبير السورية هيام نويلاتي — تتمرد على الأسوار والقيود، وتتطلع إلى الحرية بمفهومها الحقيقي، وبدأت المرأة الكاتبة تعبِّر عما في الشعور بشكلٍ حر وقوي.١٤ لم يعد ثمة ما يحُول دون أن يرى الشاب الفتاة التي يريد خطبتها. في روايتي رباعية بحري أصرَّ الشيخ عبد الحفيظ ألا تسفر ابنته أمام الشاب الذي تقدم لخطبتها إلا ليلة الزفاف. قبل أهل الشاب أن ينوبوا عنه في رؤية الفتاة، لكن الشيخ أصر على الرفض، وفشل مشروع الخطبة. العلاقة بين الشاب والفتاة تسبق محاولة تقدُّمه لخطبتها. يقول عصام في ثقة: «الجواز السليم ضروري يكون أساسه الحب.»١٥ غنى عبده الحامولي، في مطالع القرن العشرين: يا مين يجيب لي حبيبي! وغنى محمد قنديل في الخمسينيات من القرن نفسه: يا رايحين الغورية، هاتوا لحبيبي هديه. لم يعد المحب يلجأ إلى الواسطة في علاقته بمحبوبه. لم يعد في حاجة إلى من يأتي له بحبيبه، ثم يأتي له — فيما بعد — بهدية للحبيب. أصبح الحبيب في مدرجات الجامعة، وفي مكاتب العمل، والمصانع، والأندية، حتى في وسائل المواصلات العامة كما في قصة يوسف إدريس التي حدَّثتك عنها. ليس ثمة ما يحُول دون لقاء الحبيبَين، ونزولهما إلى الغورية، وأي مكان في طول البلاد وعرضها، لشراء هدايا المحبوبة. ويلاحظ أستاذنا يحيى حقي أن الفروق القديمة بين الطبقات، وبين الريف والحضر، وبين الذكور والإناث، تلك الفروق زالت تمامًا، أو إلى حدٍّ كبيرٍ. ويقول حقي: «قد تكون بين هؤلاء الطلبة انجذابات جنسية — يضيف بين قوسين: يا للمصيبة إن لم تكن! — تطعمهم الشهد أو تسقيهم المر، ولكنها، كما أحسست — والكلام لحقي — غير مريضة، غير مولولة، وهي تختنق في الأعماق. انتقل مفهوم الشرف من عضو في الجسد إلى فضيلة روحية، أصبح عفة وصراحة معًا؛ هذه قفزة بديعة، قلما ننتبه لها.»١٦
•••
المرأة نصف المجتمع. مقولة أقرب إلى الشعار الذي لا يخلو من جهارة، وإن كانت القضية أخطر وأعمق من هذا بكثيرٍ. قضية المرأة ليست قضية نصف المجتمع، هذه نظرة قاصرة ومبتورة، بقدر ما نجد في معنى النصف. إنها قضية المجتمع كله، بجنسَيه، وبكل طوائفه وفئاته. ولأن الرجل والمرأة يصنعان عالمًا واحدًا، فإنهما يعانيان — دون تفرقة — انعكاس أوضاع التخلف والاجتماعية والثقافية والسياسية والتربوية والاقتصادية.١٧ تضيف حياة الرايس «إن قضية المرأة ومشكلة تحررها ليست مشكلة فردية تخص المرأة وحدها، وإنما هي قضية سياسية تخص المجتمع ككل، لأنها متعلقة بحرية الفرد، وبالحقوق المتساوية بين المواطنين، وبديمقراطية النظام؛ إذ لا معنى لحرية المرأة في مجتمعٍ كله عبيد، وقضية المرأة هي قضية اقتصادية لأنها تتعلق بعدالة التوزيع للثروات وخيرات البلاد، وإتاحة الفرص المتساوية لكل من المرأة والرجل، وحق المرأة في العمل، ودورها في عملية التنمية، وهي قضية تربوية، لأنها تتعلق بطرق ومناهج التعليم، ومناهج البرامج التربوية، وكفاءة نظام التعليم لصنع أفراد سواسية، يؤمنون بالديمقراطية والمساواة، ومدى قدرة هذا النظام على محو كل تربية تقوم على التمييز الجنسوي، وتساهم في تحقير المرأة ودونيتها، ومدى قدرة هذا النظام التربوي على خلق أفراد يعرفون حقوقهم وواجباتهم إزاء وطنهم. وقضية المرأة هي قضية ثقافية لأنها تتعلق بخلق عقلية جديدة، تتعامل مع المرأة كإنسان لا كأداة، تعيد الاعتبار إلى فكرها وشخصها، دون دونية أو تحقير، ثقافة تساهم في خلق نظرة جديدة إلى المرأة تليق بإنسانيتها، ثقافة تمحو من قاموسها مقولة: النساء ناقصات عقل ودين، ثقافة تعيد الاعتبار للمرأة المهانة في فكرها وجسدها.»١٨المرأة في كل المستويات الاجتماعية، هي — بطبعها الذي خُلقَت له — المسئولة الأولى عن صلابة البنيان الاجتماعي، وهو ما لا يتحقق بمجرد المسئولية في تربية الطفل، رغم أهميتها القصوى، لكنها تشارك — بفعالية مؤكدة — في تماسك النظام الاجتماعي على مستوياته المختلفة. ولعلَّه يجدر بنا أن نشير إلى الحديث الشريف الذي يقول: «النساء شقائق الرجال» وقد فنَّد خالد محمد خالد في كتابه المهم «من هنا نبدأ» قول البعض إنه ليس للمرأة حقوق سياسية، ارتكازًا إلى قول الله تعالى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء، بما يعني أنها دون الرجل في البيت، وفي المجتمع، وفي الدولة، وهو تأويل لا يقدر عليه سواهم. بيد أن معنى الآية واضح جلي، ولا يحتمل كل هذا الالتواء والاعتساف، فهي لا تعدو أن تكون تزكية لسلطة الرجل في الأسرة، وامتيازًا عائليًّا يمنحه الرجل نظير ما يحمله من تبعات، بدليل قوله تعالى في نفس الآية وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.١٩ -
إذا كانت مهمة المرأة — في تقدير الكثير من النساء — إغراء الرجال، وإيقاعهم في حبائلها،٢٠ فإن الأم مريم (مريم الحكايا) كانت تحلم ببنات غير قابعات داخل جدران البيت، تحلم أن تعلِّم بناتها كلهن. ورغم الظروف الاجتماعية التي لم تكن تسمح لها بتحقيق ذلك الحلم، فقد رفضت قرار الأب بعدم تعليم بناتهما، وعلى حد تعبير الراوية، فقد كانت الأم تقف وتتخنصر أمامه قبل أن تهرب، خوفًا من أن يلحقها ويضربها، وهي تقول: «غصبن عنَّك، وعن يلِّلي خلَّفوك. بدِّي علِّم بناتي، شو بيطلعوا متلي ما بيعرفوا شي بالدنيا، ولا بيفكوا الحرف.»٢١ كانت تعتبر أن العلم سلاح في يد الفتاة كي لا يحكمها زوجها.٢٢ وقد رفض الأب (العمر كله) أن يواصل ابنه تعليمه، بينما جعلت الأم من تعليم الصبي قضية حياة، وأفلحت في ذلك بالفعل، رغم كل القسوة التي لقيتها من الأب.٢٣ ويهَب لنا الفنان (كفاح وانتصار) نموذجًا متفوقًا للزوجة المصرية البسيطة التي وقفت إلى جانب زوجها العامل حتى حصل على حقوقه كاملة وسط ظروف بالغة القسوة.٢٤ وتختلف أمينة في قصة محمد صدقي بهذا الاسم عن زوجة محمد أبو دومة في قصة حب ليوسف إدريس، أنها لا تقرأ الصحف، ولا تتابع الأحداث السياسية، ولا تشارك فيها بالرأي أو التعليق، بل ولا تسهم بدورٍ إيجابي من أي نوعٍ في الجانب السياسي من نشاط زوجها. لكن القارئ يغادر صفحات الرواية دون أن تواجه زوجة أبو دومة — أو الزوج نفسه — مشكلة ما، مقابلًا للاشتغال بالسياسة. أما أمينة فقد واجهت كلَّ ما أسفرت عنه حياة زوجها القلقة من اعتقال وسجن وفصل وتشريد وتفتيش وتردُّد على الأقسام والسجون ومعاناة هَم الوجبة التالية. مع ذلك، فإنها هي التي سعت لزوجها في قسم بوليس كرموز — بعد أن قاد إضرابًا جديدًا — لتواسيه، وتطمئنه بأنها ترعى أولادهما، وتحضر له — كالعادة — رغيفين وسجاير وحلاوة طحينية وزيتونًا.٢٥ وكانت وفاء (واحترقت القاهرة) مثلًا رائعًا للزوجة المصرية، فحين يبلغها بعزمه على السفر إلى سورية، للاشتراك مع قوات اليرموك التي ستدخل الأرض الفلسطينية، لم تحاول أن تثنيه عن عزمه، لكنها اكتفت بأن تقول له في هدوء: «إن شاء الله ستعود لنا بالسلامة.» وذهبت لتوديعه في المطار، وعلى شفتيها ابتسامة عريضة.٢٦ وتروي السيدة علية، زوجة يوسف صديق عن الدور الذي أسهمت به في الإعداد لثورة يوليو، بداية من استضافة اجتماعات الضباط الأحرار في بيتها، وانتهاءً بنقل المنشورات، والمشاركة في توزيعها، بتثبيتها بدبابيس الرسم على المحال التجارية والأماكن العامة، أو إيداعها صناديق البريد الخاصة في مداخل البنايات.٢٧ وقد تميز فن إقبال بركة في نظرة الفنانة إلى المرأة، وأنها ليست مجرد أنثى، لكنها أنثى وإنسان كامل، وينبغي أن يُنظَر إليها على هذا الأساس.٢٨
-
لم تعد المرأة قعيدة الحرملك، ولا خلف المشربية، ولا حتى وراء الحجاب. ولم تقبل تلخيص حياتها بأنها تولد، تتزوج، تنجب، تموت! أصبح لحياتها معنًى آخر. خرجت إلى المدارس والجامعات والمصانع — هي في المزارع منذ بداية التاريخ! — والمكاتب والطرقات. غابت حواجز العزلة بين الشابَّين، يتحدثان في القضايا العامة والمشكلات الشخصية. حتى القضايا التي يشوبها حساسية لا يجدان حرجًا في طرحها، ومناقشتها. عرفت الفتاة الصداقة، وحق القبول، وحق الرفض، وحق الخلع، وهو آخر الحقوق التي نالتها المرأة دفاعًا عن إنسانيتها! وبعد أن كان أحمد عبد الجواد قد أعلن غضبه لمجرد أن أمينة أبدت ملاحظة — مؤدبة — عن سهره المتواصل، فإن الزوجة أصبحت تلاحق زوجها — عقب خناقة حامية — وهو يهبط السلالم: إياك تنسى تشتري البزازة!٢٩ ويصف صلاح قدير الفتاة الجزائرية «فاضلة» بقوله: «أحمر على الأظافر، ولفافة جولواز في فم هذه الجزائرية الصغيرة الجميلة، ولهجة كأنها آتية من سماء اللوار، وكلمات فرنسية تتحدث بها عن العالم العربي، وعينان سوداوان فيهما ألق كل آفاق وطننا، ورواء كالذي تلبسه أي طالبة تتناول القهوة مع القشدة في شارع «سوفلو»، وقلب صغير، ودماغ صغير يعرف مارتان دي جار أفضل مما يعرف محمد ديب، وذاكرة تحفظ أبياتًا خير من أبيات كاتب ياسين، وعقل يدرس بيوجون أكثر من الشيخ بن باديس، ومعجونة أسنان بدلًا من المسواك، فكيف نعرف أنفسنا في كل هذا؟»٣٠ حتى في الصعيد، يقول الشيخ رزق (النمل الأبيض) ممتعضًا: «لم نكن نرى امرأة تسير مكشوفة الشعر كما يحدث الآن والعياذ بالله!»٣١ ولا يخلو من دلالة موافقة الزوج في رواية رضوى عاشور خديجة وسوسن على أن تستعيد صداقة من أيام الصبا، بعد أن صار طرفها الثاني رجلًا!
-
ماتت أمي وأنا في التاسعة من عمري، لكنني أذكر مناداتها لأبي باسمه مسبوقًا بكلمة «سي» فهو «سي لطفي»، أو مذيَّلًا بكلمة أفندي، فهو لطفي أفندي، بينما كان أبي يناديها باسمها المجرد «خديجة». كانت أمي متعلمة (ضمَّنت سيرتي الذاتية حكايات عن جزيرة فاروس صورة رسائلها لأبي) فهي تختلف — بالقطع — عن أمينة بين القصرين التي ظلَّت تنادي زوجها بكلمة وحيدة هي «يا سيدي»!لم تعد المرأة تذكر اسم زوجها مسبوقًا، أو مذيَّلًا بأية صفة، هو فلان فقط. هو الزوج والأب وشريك الحياة. وحين يطلب حمزة (قصة حب) من أبي دومة أن يوفر له مكانًا يختبئ فيه من مطاردات الشرطة، يخبر الرجل زوجته في بساطة تدفع حمزة إلى تحذيره، لكن أبا دومة يقول لحمزة: «أصل لا مؤاخذة يا سي حمزة مفيش بيني وبين أم محمود سر. إحنا ع الخير والشر سوا!»٣٢ حتى ظاهرة تعدد الزوجات، هبط خطُّها البياني بصورة لافتة (الأسباب الاقتصادية يصعب إغفالها!) فالرجل يتزوج امرأة عقيمًا، لا يتزوج غيرها في الوقت نفسه، بل يطلقها، ويتزوج مرة ثانية.٣٣
-
إن تغييب المثقف العربي — أو في الأقل تهميشه — ينعكس بالسلب على المجتمعات العربية، بل إنه يعطل مسيرة هذه المجتمعات نحو كل ما تتطلع إليه من تقدم، والمرأة لم تعد كمًّا مهمَلًا في مجموع المثقفين العرب [أتحفظ على قول الراوي] — في رواية سلوى بكر سواقي الوقت — إن المرأة المثقفة هي — عادة — قبيحة، عجفاء، بنظارة سميكة، معقدة نفسيًّا، وأحيانًا موتورة، وتظهر في حالٍ يثير السخرية والشفقة.٣٤ ولعلَّه يمكن القول إنها لم تبلغ موقع الوزيرة والمديرة والطبيبة والمهندسة والعالمة وغيرها من الوظائف العامة والمهن، وتجد في ذلك كله غاية المراد. تلك خطوات أولى، تستتبعها خطوات تعنى بالمشاركة الفعلية في كافة المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها. وهذا الدور لا يتحدد في تصنيف من أي نوع، لكنه دور المواطن — رجلًا كان أم امرأة — في تطوير مجتمعه، وفي محاولة اللحاق بالعالم المتقدم، دون انتقاص — على أي نحو — من قيمة الهوية القومية. أثق أن قضية المرأة ستجد الحل الذي طالبت به فاتن حمامة في فيلمها الشهير «أريد حلًّا» إن لم تعد هناك قضية للمرأة، مثلما أنه لا توجد قضية للرجل!
-
ثمة دراسة طريفة — أجريت مؤخرًا — في المركز القومي للبحوث بالقاهرة، أكدت أن ظاهرة ضرب الرجال لزوجاتهم لم تعد مطلقة. ثمة — في المقابل — نساء يضربن أزواجهن بما تصل نسبته إلى ٢٨٪ من الأزواج المصريين. وقد اعتمدت الدراسة على البلاغات التي قدمها الأزواج ضد الزوجات في أقسام الشرطة، وفيها أن ١٥٪ من سيدات الطبقة الدنيا يضربن أزواجهن، بينما ترتفع هذه النسبة بين سيدات الطبقة الوسطى إلى ٢٥٪، وتزيد بين سيدات الطبقات العليا لتصل إلى ٤٠٪ لأن الزواج في هذه الطبقة يقوم — عادة — على المصالح، وكما تقول الدراسة، فإن الأقوى ماديًّا في هذه الطبقة هو صاحب الحق في الضرب، وغالبًا ما تكون الزوجة!٣٥
والحق أن الدلالة هي ما يجب أن يلفت انتباهنا في هذه الدراسة. فالدراسة طريفة، لكن الظاهرة مؤلمة، سواء كان طرفها الإيجابي رجلًا أم امرأة. من يبادر بإيذاء النصف الآخر اعتمادًا على قوة بدنية، أو اقتصادية، أو اجتماعية. إنها ظاهرة مؤسفة إطلاقًا، والدلالة الوحيدة التي يمكن أن نضع أيدينا عليها، هي أن المرأة جاوزت الخضوع والاستكانة، وأصبح لها صوت، وهذا الصوت قد يزيد في ارتفاعه ووضوحه إلى حد تقديم نتائج قد تثيرنا، لكننا نرفضها!