الوجه الآخر للقمر
يصف الفنان نساء أواخر القرن التاسع عشر، بأنهن «جميلات، مخدرات، مسجونات، يعلو
حور عيونهن روح سأمٍ وكسلٍ.»
١ لم تكن المخالطة ممنوعة بين الشباب والفتيات فحسب، بل إنها كانت
ممنوعة بين الصبية، أولادًا وبنات: «يا حفيظ! ولد يلعب مع بنت؟! هذا إثم كبير،
ومعصية توصد من دونها أبواب الغفران.»
٢ كانت الصبية الصغيرة تُمنَع من اللعب في الشارع، أو في ساحة البيت،
تكفيها حجرات البيت التي تطل على الطريق، وعلى فناء الدار «صحيح أن الشبابيك
مسمَّرة، ولكن النظر من الثقوب ميسور، وهذا يكفي.»
٣ «وكان من العيب أن يرى الرجل زوجة أخيه إذا كانت غريبة، أو من غير
قريباته»
٤
وإذا كانت المرأة قد ظهرت على المسرح الإيطالي — للمرة الأولى — في القرن
السادس عشر، وعلى المسرح الفرنسي في القرن السابع عشر، وعلى المسرح الإنجليزي في
عهد الملك شارل الثاني،
٥ فإن الرجل في مصر كان يؤدي دور المرأة — لندرة العنصر النسائي، أو
لانعدامه — إلى ما بعد ثورة ١٩١٩م. وثمة كلمات لمحمد تيمور في مطالع القرن
العشرين، عن الفرق بين الحياة الأوروبية والحياة المصرية: «نساء أوروبا يناقشن
الرجال في الأدب والسياسة والفلسفة، ورجال مصر يتناقشون في أنواع الأوتومبيلات
وجمال الملابس، وإذا ألقت بهم الصدفة أمام موضع جِدِّي، مزجوه بالنكات المصرية
المستملحة التي تطير الموضوع في جوف الفضاء. أما نساؤنا …» والنقاط الثلاث وضعها
الكاتب
٦
لم يكن للفتاة خيرة فيمن يكون زوجها.
٧ وظلَّت الأم تعتز بأنها تزوجت، ولم تكن رأت زوجها، ولا رأت
خياله.
٨ وبالطبع، فإنه حين يتزوج الرجل والمرأة — دون أن يرى أحدهما الآخر —
فإن حياتهما الزوجية قد تبدأ بالنفور، إن لم يكن بالكراهية، من الليلة الأولى
للزفاف، عندما تقع عينا كل منهما على الآخر.
٩ لم يكن لسن الزواج — كما يقول المازني — حدٌّ أدنى في تلك
الأيام،
١٠ وإن كان من المهم أن تُزوَّج الفتاة في سنٍّ مبكرة لأن «سترة البنت
جوازها». وتطلب الفتاة (
زمن الحرية) أن تواصل
الدراسة، فيبتسم الأب قائلًا: ولِمَ؟ البنات مصيرهن الزواج!
١١ وعندما كانت الفتاة تتجاوز السادسة عشرة بلا زواجٍ تُعتبَر بائرة،
وتُتَّهم بالقبح.
١٢ وتتحدث الفنانة عن المرأة الأسيرة التي لا تعرف الحرية، فهي لا تملك
جسدها، ولا تعطي نفسها دون معرفة مختومة، ومبلغ من المال، المهر والخاتم، ودفع
ثمن الكهرباء، والسرير، والإيجار.
١٣ ويقول الراوي (
صراخ في ليل طويل)
«جسد المرأة هو عندها الكل في الكل، تحمِّمه، وتعطِّره، وتطليه بالمساحيق، وتبرز
أجزاءه المختلفة، وتحمله معها أينما ذهبت كحملٍ ثمين، لكي تنزله في النهاية في
فراش أحد الرجال.»
١٤ ولعل أشد ما تألمت منه السيدة (
الصحن) أن شقيقتها ماتت قبل أن تستر ابنتها — ابنة الشقيقة — أي أن
تزوِّجها.
١٥ وقد عانت فردوس (
باب الكراستة)
سلوك أمها الذي ينطلق من الرأي أن رجل البيت هو الأول والآخر، به تبدأ الدنيا ولا
تنتهي.
١٦
البنت الآدمية المستورة — على حد تعبير عبدو في رواية بقليس حوماني
حي اللجى «ما بتطلعش من خاطر أهلها.»
١٧
وإذا رفضت الفتاة تزويجها بآخر، فإنه بوسع
الأهل أن يأتوا لها بوكيلٍ ينوب عنها عند عقد القران.
١٨ وقد أقدمت الفتاة في رواية حنان الشيخ
امرأتان
على شاطئ البحر على الانتحار، حتى لا تتزوج غصبًا عن
إرادتها.
١٩ ويرجع نبيل راغب سلبية الشخصيات النسائية في أعمال يوسف السباعي إلى
«إدراكه لطبيعة المجتمع المصري — والعربي بالتالي — الذي فرض العزلة والسلبية على
المرأة أجيالًا عدة.»
٢٠ نظرة الموروث إلى المرأة تتحدد في إجادتها المكر والكيد للخلاص من
ظروفها القاسية، ونظرته إلى الرجل في تسلطه وميله إلى ممارسة القهر على المرأة.
يقول الراوي في
رائحة الأنثى: «لا عقيدة في
الحياة سوى عقيدة المرأة، المرأة هي أكبر وأهم عقيدة للرجل، عليه أن يحبها فيبكي
عند قدميها، ويكسرها، يطحنها حين تغدر به، أو تخونه، أو تحوِّل عينها
عنه.»
٢١ لذلك فإن يقين الرجل دومًا أن «الاستبداد هو السيادة.»
٢٢ وقد عانت المرأة (
دماء الحمامة) من
أنها «كانت مثل قشة، مثل سلعة مهمَلة في زاوية الغرفة، مثل حاملة ملابس تُركَت
فتراكم الغبار فوقها، لا شيء يشغله بها، ذلك أن شاغله مع أوراقه ونجاحاته
المتكررة وسهراته وعلاقاته وهواتفه التي كانت تتوزع كل غرف الدار، تجعل منها
كائنًا لا وجود له في حياة الرجل.»
٢٣ وفي
صراخ في ليل طويل اتخذ الراوي
لنفسه إزاء المرأة موقف المحتقِر، حتى صار يحتقرها بالفعل، فقد أخفق في زواجه،
ولم يشك في أن أية علاقة أخرى مع أية امرأة، لن يكون نصيبها عنده إلا
الخيبة.
٢٤ وثمة من يرى أن المرأة كالحذاء، على الرجل أن يبدِّله بين الحين
والآخر.
٢٥ المعنى نفسه، بالعبارات نفسها (هل هو توارد خواطر؟) يعبِّر عنه الرجل
التركي في قوله: «المرأة مثل حذاء نرميه عندما نشعر بضيقه»، ثم يضيف الرجل «ولكن
عندما تصبح القضية قضية شرف، فالأمر يختلف، لا بد من الدم.»
٢٦
تستوقفنا كلمات الفنان — وتثيرنا — في مضاجعة عبد الغني مسعود لزوجته، عقب
تناول العشاء «إن كانت به رغبة»،
٢٧ فالقرار إذن للرجل وحده، هو من تلحُّ عليه الرغبة، فيفرغها في وعاء
الأنثى، لا تمثِّل المرأة/الزوجة إلا الجانب السلبي من العملية الجنسية، بمعنى
أنها تخضع لرغبة الرجل أو انعدامها. وكانت فلسفة الراوي (
ست البنات) — بالنسبة للمرأة — أنها للرجل أشبه بالطعام، ورؤية المرء
للطعام وهو جائع ألذ من تذوقه، وتذوقه ألذ من ابتلاعه، وابتلاعه ألذ بكثيرٍ من
هضمه، ومن ثَم كان يفضِّل الجوع دائمًا!
٢٨ وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن ٣٠٪ من النساء فقط — على مستوى العالم
— يصلن لذروة النشوة في نهاية اللقاء الجنسي.
٢٩ ونحن نجد في ربيعة (
ريح الجنوب)
مثلًا للمرأة التي «ترضخ لكل ما يأتيها ويصيبها، لا ترفع يدًا، ولا ترفع صوتًا،
تكن وتئنُّ وتصبر وتصمت وتعيش، ولا تفعل شيئًا آخر.»
٣٠ إنها — مثل بقية النساء — تتمتع بالمرونة وسرعة التكيُّف.
٣١
حلم الفتاة — من الصغر — أن يأتي «الفارس الذي يحملها على جواده إلى بيت
الزوجية.» وكانت الصورة العامة للرجل الذي يستلفت نظر المرأة آنذاك هي الطربوش
المفرط في الطول، والشارب الغزير المبروم، والبذلة الأنيقة.
٣٢ «لا أعلم كم كان عمري عندما تعلَّقت بثوب أول عروس شاهدتها في حياتي،
وظل هاجسي أن أتحوَّل إلى عروس في يوم ما، يملأ عليَّ حياتي، ويصبح أقصى أمنياتي،
وأدعى الأشياء إلى أفراحي ومسراتي وأحلامي. أكملت دراستي الثانوية والجامعية،
باتجاه أن أحظى بعريسٍ يليق بي، وجديرة به. تعبت وسهرت وتعاملت مع ملايين الأرقام
في وظيفتي الحسابية، وصورة الرجل كانت تملأ رأسي وكياني كله. بقيت على عذريتي
واستقامتي والرغبة الملحَّة التي في داخلي، وفي طي الكتمان. أحتفظ بها جميعًا
للرجل الوحيد الذي سأقترن به، وأحوِّل عالمه إلى جنات عدن، ويحوِّل عالمي إلى
الفردوس الذي ظل حلمي المستحيل.»
٣٣ لكن الأم تبكي (
مريم الحكايا)
لفراق ابنتها التي تترك بيت أسرتها إلى بيت الزوجية. وتجيب عن السؤال: لماذا
تبكين؟ تقول: لأن البت ظليمة. وتشرح الكلمة: ظليمة يعني بتنظلم. وتضيف — باللهجة
اللبنانية — «بس الإم بتبكي، إنت ما بتعرفيش ليش، الإم بتبكي بس البنت تطلع من
البيت لأنه فراقا صعب. بتعرف الإم شو ناطر بنتا من عذاب، الرجَّال ما بيرحم،
وصعب، والإم بتعرف قدِّيش بدَّها تنظلم معه، وتنظلم بالخليفة والوحام وسهر
الليالي، وما بتعود تمون لا على حياتنا، ولا على جسما، ولا على وقتا. بتصير مع
الوقت تحت أمر ولاد جوزا، والكل بيتحكم فيها.»
٣٤ وتعيب الراوية (
مريم الحكايا) على
وضع المرأة، أنها — حين تصبح أمًّا — لا نراها في صورة الأنثى أبدًا، لا تكون
النظرة إليها باعتبار أنها تملك جسد أنثى.
٣٥ ويقول الراوي (
زوال) «في قريتنا،
ليس من حق الفتاة التجمُّل بغير الكحل، إلى أن تُخطَب، وتظل متمتعة بحق التجمُّل
إلى أن تلد لأول مرة؛ تصبح عندئذٍ في عداد العجائز، ولا تعود تتجمَّل إلا في
المناسبات.»
٣٦ ويلاحظ الراوي (
سجناء لكل العصور)
أن المرأة المصرية بعد الحمل الأول تنتفخ بطنها، ويتدلى ثدياها، وتفقد
بضاضتها.
٣٧ الدور الذي رسمه المجتمع للمرأة يكاد يتحدد في إنجاب الأطفال،
والحفاظ على ثروة الأسرة والعائلة، وطاعة الأب، فالزوج، بالإضافة — بديلًا لوأد
الجاهلية — إلى وأد غرائزها (الختان مثلًا!) والمشاعر والأحلام والتطلعات،
واشتهاء الوضع الإنساني بعامة. ولعل الدلالة واضحة، ومؤثرة، في قصة
تاريخ ميلاد جديد: تقتل المرأة وليدتها حتى لا تلاقي
الظلم الذي لاقته هي في حياتها!
٣٨ إن عطف المرأة على المرأة عطف عاجز في محصلته النهائية، ذلك لأن
المرأتين مستلبتان، ولا تملكان قرار نفسيهما. تملك آمال في رواية ليلى الأطرش
ليلتان وظل المرأة عطفًا عاجزًا — والتعبير
للراوية — على شقيقتها منى، التي أضاعت عمرها في مسارٍ لم تختره
بإرادتها.
٣٩ ويقول التعبير الموروث «الولايا لهم رب.»
٤٠ ويسأل الراوي (
أحزان مدينة) كريمة:
لماذا انقطعت عن اللعب معنا؟
– إن أبي يمنعني.
– يمنعك؟ لماذا؟ إن الأولاد كلهم يلعبون.
– ولكنني بنت.
– ولماذا لا تلعب البنت؟
– أبي يقول: إن من العيب أن تلعب البنت مع الأولاد!
٤١
وبعد أن كانت شرود في رواية
دروب الفرار
للتونسية حفيظة قارة بيبان تعيش مع أسرتها في دنيا متسامحة، تنبذ التعصب الديني،
والتطرف الفكري، ومبدأ التحريم والتكفير، فإن العكس هو ما تعيشه في بيت الزوجية،
فهو «بيت يحاصره الحرام من كل جانب، يهجم الحرام من قارورة العطر، من أغاني الحب،
من خصلة شعر تلقيها نسمة عابرة على الجبين، بيت لم يعُد فيه الحلال غير ثقب ضيق
على أزقة مدينة غارقة في الظلمات، في انتظار الجنة الموعودة للصالحين
والصالحات.»
٤٢ بدلًا من حرية التعبير والود والمؤانسة والأسرية الحقيقية، حلَّ
التحريم والقمع والإسكات.
العمدة (
سيد القرية) يبدي دهشته من مناقشة
زوجته الثالثة له. يقول في استغراب: «إني لم أعتد أن أسمع للمرأة صوتًا في هذا
البيت.»
٤٣ وتقول الأم: «الواحدة منا لم تكن تجرؤ على النظر من الشباك دون
إذن.»
٤٤ وتقول نفيسة (
ريح الجنوب) «الخروج
عيب، الضحك عيب، الحديث أمام الرجال عيب، التجميل عيب، عدم القيام بكرة، عدم
الصلاة، عدم إتقان أعمال بدائية منزلية عيب، عيب، كل شيء هنا عيب.»
٤٥ وتقول الفتاة (
النوبي): «نحن يا
ربي نصلي ونصوم، ونحتفل بمولد نبيك، فلماذا تعذبنا نحن البنات؟»
٤٦
لقد عانت المرأة سلطة الرجل الباغية، حتى سلمت بأن العزاء الوحيد للمرأة في مثل
هذه الحياة هو الموت المريح، بعد أن يمرَّ العمر كله في صبرٍ وامتثال.
٤٧
التعديد يقول على لسان المرأة التي تودع أمها المتوفاة:
أمك تجول صبري عليك صبر مسكينة،
صبر البهيمة تحت سكينة.
أمك تجول صبري عليك صبر فلاحة،
صبر البهيمة تحت دبَّاحة.
وكما ترى، فإن المسكينة في البيت الأول هي الفلاحة في البيت
الثاني، وهي بلا حول ولا قوة، أشبه بالبهيمة فوق رقبتها سكين الذبح! المرأة
الفلاحة تعمل، وتحقق عائدًا، مع ذلك، فإن وضع المرأة الفلاحة هو الأكثر تبعية،
لأن اختياراتها محدودة «فإن لم يكن لها أسرة ندعمها — ونادرًا ما كانت تتمتع بهذا
الوضع — فلا بد أن تحتمل أي إيذاء بدني من زوجها، لأنه ليس لديها خيار
آخر.»
٤٨ ونتذكر قول الراوي في الأيام: «النساء في قرى مصر لا يحببن الصمت،
ولا يمِلن إليه، فإذا خلت إحداهن إلى نفسها، ولم تجد من تتحدث إليه، تحدثت إلى
نفسها ألوانًا من الحديث، فغنَّت إن كانت فرحة، وعدَّدت إن كانت
محزونة.»
٤٩
•••
حين زار الرحالة الدنماركي كارستن نيبور مصر في ١٧٦١م لاحظ أن زحام نساء
القاهرة على القرافات، لم يكن للتعبير عن الوفاء والإخلاص لموتاهم، بقدر ما كان
هذا الطقس يتيح لهن حرية نزع النقاب، والجلوس في حرية.
وقد طرحت نوال السعداوي السؤال أمام ظاهرة
كثرة تردُّد النساء على أضرحة أولياء الله: لماذا يخاف الناس والفقراء عقاب
الآلهة أكثر من غيرهم؟
٥٠ والحق أن الظلم هو الدافع لكثرة تردُّد النساء على أضرحة الأولياء،
وليس الخوف من عقاب الآلهة. يعانين ظروفًا مادية واجتماعية قاسية، لا يجدن خلالها
إلا اللواذ بالغيبيات، التماس النصفة بالوقوف على مقامات آل البيت، وأولياء الله
الصالحين وأضرحتهم. أذكِّرك بوقفة أنسية في روايتي
رباعية
بحري أمام مقام أبي العباس، تطلب نصرته على حمادة بك!
إن أجمل وصف للمرأة في أوائل القرن العشرين، وإطلاقه — بدرجة أقل — على المرأة
في أواخر القرن العشرين، هو «السيدة المصونة والجوهرة المكنونة.» تعبير بليغ،
لكنه يعبِّر — بقسوة — عن حقيقة وضع المرأة/الزوجة في المجتمع المصري، جسد المرأة
لا يُفهَم في المجتمع الأبوي فهمًا إنسانيًّا، كما أن إنسانيتها لا تؤخذ كأمرٍ
طبيعي، إن جسدها لا يخصُّها، وعقلها مغروس في تراثٍ حارسٍ لهذا الجسد، في سوق
العرض والطلب.
٥١ وتأكيدًا لرضا أبو العباس المرسي عن مريده ياقوت العرش، فقد زوَّجه
ابنته مهجة، وأحب الشيخ محمد بن عنان تلميذه الشيخ أبو العباس الحريتي، فزوَّجه
ابنته، الأب هو الذي يقضي بتزويج الابنة، لا شأن لها بالأمر!
المرأة توافق على الزواج من الرجل لأنه يحبها، ولأنه يحبها فهو سيجعل منها
جوهرة في بيته، بيتهما. والرجل يطلب الزواج من المرأة لأنه يريد من تغسل له
ثيابه، وتطبخ طعامه، وتربي أولاده … يسبق ذلك أن تكون جميلة، تدفئ فراشه، وتؤنس
وحدته! وكان رأي حسن مفتاح (
العنقاء) أن نصف
المجتمع المصري — يقصد المرأة — سجين البيوت، يطهو الطعام للنصف الآخر سجين
القهاوي، أو يرتق له جواربه، أو يقرأ المجلات المصورة، مستلقيًا على السرير، أو
يسترسل في أحلام بائسة محورها رجال لا سبيل إلى الوصول إليهم.
٥٢ وفي تقدير توفيق الحكيم أن المرأة مثل القمر — بمعناه الفلكي — فهي
لا تشع ضوءًا من داخل نفسها، بل تعكس الضوء الآتي إليها من شمس عقل الرجل. هي
كالقمر كائن سلبي، وسطح معتم في ذاته، لا تسطع إلا بما ينعكس على قلبها ورأسها من
تفكير الرجل وإحساسه، فدنوها منه في مجال العمل المنتج له من الفائدة ما يعادل
فائدة المرآة إلى جانب المصباح. إنها تضاعف نوره، وتزيد إشعاعه. أما أن ننتظر
منها أكثر من ذلك، فهو انتظار للمستحيل؛ لن يكون للنساء في مجالسنا النيابية
والاجتماعية أكثر مما للمرايا بجوار المصابيح في القاعات والصالات. ولقد بلغنا —
لا شك — في الحضارة حدًّا يقضي أن نزين جدراننا بالبلَّور!
٥٣ وحين ثار زوج سهير (
أحلام في بلاد
بعيدة) عليها، وهددها بأنه سيرسلها إلى أهلها، أدركت أنها مجرد شيء في
حياته، يبقى معه، أو يعيده إلى حيث أتى به.
٥٤ وتقول إنجي أفلاطون إن فكرة المرأة للبيت ليست — في مضمونها — سوى
تجميع المساوئ التي تحيط بالأسرة المصرية، فهي تعني للفتاة إجبارها على الزواج،
وتعني للزوجة إباحة تعدد الزوجات، وإطلاق حق الطلاق والزنا والطاعة والتعذيب،
وتعني للمرأة بعامة حرمانها من التعليم، ومن الإسهام في الحياة الاجتماعية
والسياسية والثقافية والاقتصادية، ومن تنمية شخصيتها ومواهبها. «إن فكرة المرأة
للبيت هي — في حقيقتها — فكرة المرأة عبدة البيت.»
٥٥ وقد ظلَّت الفتاة في رواية الطاهر وطار
عرس
بغل تحمل صورة واحدة للزواج، هي أنه مجرد استعباد لجسد المرأة. إنه —
بالضرورة — صورة متكررة للعلاقة بين أمها وزوج أمها، وهي العلاقة التي ألجأتها —
ذات يوم — للفرار إلى حي البغاء!
٥٦
ومع أن علوية (
السكرية) أظهرت التحرر
بالاختلاط مع الطلاب والأساتذة، فإن تحررها لم يجاوز الظاهر. أصرت كعايدة
(
قصر الشوق) التي تنتمي إلى جيل سابق، على
الزواج من شخص ثري! وكان إصرار أحمد عبد الجواد (
بين
القصرين) ألَّا تنتقل إحدى ابنتيه إلى بيت رجل إلَّا إذا ثبت لديه أن
دافع الرجل الأول إلى الزواج منها هو رغبته الخالصة في مصاهرته هو «أنا … أنا …
أنا.»
٥٧ وحين تقدم الضابط الشاب لخطبة عائشة، ورفض الأب، لم يكن أمام الفتاة
إلا أن ترضخ لإرادة الأب، لا معقب لها عليها، وما عليها إلَّا الإذعان
والاستسلام، بل إن عليها أن تبدي الرضا والارتياح، لأن محض الوجوم ذنب لا
يُغتفَر.
٥٨ وقد أمضت أمينة أعوامًا طويلة من حياتها حبيسة جدران بيت بين
القصرين، تتعرف إلى ما يدور في العالم الخارجي مما يفد إلى ذاكرة زوجها من أحداث
يومه، بعد أن يعود — آخر الليل — إلى البيت، ومما يرويه أفراد الأسرة في جلسة
العصر اليومية … فلما هبَّت رياح التغيير بتوالي الأعوام، فضلًا عن الاستكانة
لأحكام الشيخوخة، تبدَّل الأمر، فأحمد عبد الجواد هو الذي يجلس وراء المشربية،
ينتظر أوبة أمينة من زيارة الحسين. ونتذكر العقاب القاسي الذي نالته حين زارت
الحسين في غيبته! لم يعد أحمد عبد الجواد القديم، ولم تعد أمينة الأولى! «كيف
كانت زيارة الحسين لديها أمنية في حكم المستحيل، ها هي اليوم تزوره كلما زارت
القرافة أو السكرية … ولكن ما أفدح الثمن الذي دفعته نظير هذه الحرية
الضئيلة.»
٥٩
•••
كان حرمان المرأة من الميراث، بإقدام الآباء على البيع — صوريًّا — للذكور من
الأبناء، حتى لا تئول الأرض إلى أزواج الإناث، فضلًا عن حرمانها من التعليم، وقلة
فرص العمل أمام المرأة المتعلمة، كان ذلك باعثًا لحرمان المرأة من الاستقلال
الاقتصادي.
وحتى عام ١٩٠٥م لم يكن قد حصل على الشهادة الابتدائية في مصر كلها سوى ١٤
طالبة.
٦٠ وتقول نبوية موسى إن تلك الشهادة كانت — في نظر الناس — أعلى من
الدبلومات.
٦١ ولم تنجح مصرية في امتحان البكالوريا إلا في سنة ١٩٢٨م.
ونحن نلحظ أن نسبة المتعلمين — في أواسط الأربعينيات — كانت ٢٠٪ من مجموع
المواطنين، نسبة المرأة فيها ٢٪ فقط، أي أن نسبة الأمية بين النساء ٩٦٪، وبين
الرجال ٦٤٪.
٦٢ كانت المقولة المفضَّلة لأسر الطبقة الوسطى هي «علِّموهن الغزل، ولا
تعلموهن الخط.» حتى لطفي السيد الذي كان يؤمن بأن تعليم الفتاة هو الجسر الصلب
الذي تعبره إلى بيت الزوجية،
٦٣ فإن مساواة المرأة والرجل كان ينبغي ألا تجاوز — في تقديره —
المساواة في حق التعليم، «أما مساواة الرجل والمرأة في حقوق الانتخاب والتوظف،
فإن نساءنا — بارك الله لهن — لم يطلبن بعدُ مثل هذه المطالب المقلقة للراحة
العمومية!»
٦٤
واللافت أن البعض غلَّف رفضه لاشتغال المرأة بالعمل السياسي، بكلماتٍ ناعمة
كقوله إنها أكرم وأعز من أن يُقْذَف بها في غير رفقٍ إلى خضم المهاترات السياسية
والخلافات الحزبية؛ إذ هي زهرة من أزهار الربيع الجميلة، لا ينتشر عبيرها، ويعبق
شذاها، إلا في روضة منزلها.
٦٥ أما العقاد، فقد نزع عن المرأة تفوقها، حتى في المجالات التي تجيدها،
كالطهو، وتصميم الأزياء، وتصفيف الشعر، وكتابة قصائد الحب والرثاء.
•••
من بواكير تعرُّف الفتاة إلى الجنس — بمعناه البيولوجي والحسِّي — عندما تصدمها
الملاحظة بأن صدرها قد كبر، فتحاول من ثَم أن تضم الكراسات والكتب إلى صدرها في
طريقها إلى المدرسة، حتى لا يشاهد أحد ما تنبَّهت إلى بروزه.
٦٦ وعلميًّا، فإن الذكر به مكونات أنثوية، والأنثى بها مكونات ذكورية،
وإن وضعت أبحاث فرويد وآراؤه النتائج الصارمة التي تؤكد تفوق الرجل، كما يخضع
النظام الأبوي الأنثى للذكر، ويعامل الأنثى باعتبارها أدنى من الذكر.
إن أداة الوصل يملكها الرجل، وهو يمثِّل الجانب الإيجابي في ميكانيكية العلاقة
الجنسية، بينما تمثِّل المرأة الجانب السلبي. وثمة من يرى أن روح المرأة تتجلَّى
فقط في الفراش، وأن أنوثتها تتطهر بالرجل،
٦٧ والمثل يقول، أو النصيحة الطبية تقول: «لو عرفت النساء فوائد الجرجير
لزرعنه تحت السرير.»
٦٨ ويقول نايف في رواية هدى بركات
حجر
الضحك: «إذا لم تعط المرأة ما يشبع نصفها السفلي، فهي لن ترضى بك،
الأمور الأخرى لن تهمها.»
٦٩ وثمة من يذهب إلى أن المرأة ليست سوى رحم! بل إنها — في السياق نفسه
— «عورة»،
٧٠ وخلفة البنات — في المثل الشعبي — عار.
٧١
المنطق الذكوري يحدد وضع المرأة في إطار جنسي، فهي تلبي احتياجات الرجل الحسية،
وتنجب له الأطفال، وتتولى رعايتهم داخل الأسرة، وتقوم بأمور البيت اليومية، مثل
إعداد الطعام وغسيل الثياب والكنس والمسح … إلخ، وقد يستغني الرجل عن ذلك — في
حال تيسر أحواله المادية — باللجوء إلى خادم تتولى أمور البيت، لتفرغ الزوجة — من
ثَم — لواجباتها الزوجية المحددة، وهي التهيؤ الدائم لإشباع احتياجات الرجل
الجسدية! تصبح العلاقة الجنسية — من جانب المرأة — مجرد أداء واجب، مجرد ترضية
وخضوعٍ لإرادة الرجل، ورغبته. تتحوَّل إلى موضع لتحقق لذة الرجل، وإلى وعاء يفرغ
فيه شهوته، فيستعيد هدوءه. ليس لميكانيكية العلاقة طرفها الآخر، دور المرأة سلبي
أو أنه مغيب تمامًا. حتى محاولة المشاركة — سعيًا لإرضاء إيجابية الرجل — قد تصبح
نوعًا من العيب الذي ترفضه الزوجة المحترمة. في قصة «منظر بعيد لمئذنة» تهب لنا
الفنانة هذه الكلمات: «في أول الزواج تمنت لو أن زوجها أحس بالرغبة المشتعلة في
نفسها لأن يستمر معها مدة أطول، ولكنها كانت خجولة متأثرة بالتقاليد التي كانت
تمنعها من البوح بما يشتعل في نفسها من مثل هذه الرغبات. ولكن فيما بعد، حين كانت
تشعر أنها على حافة التجربة التي كانت بعض صديقاتها المتزوجات تسرِّبها إليها،
واتتها الشجاعة للإفصاح عما تريده، وفي مثل هذه اللحظات، كان يخيل إليها أن كل ما
تحتاجه هو حركة زائدة، وبعدها ستصل للارتواء النفسي والجسدي، وأنه لو تحقق ذلك
مرة، فسوف يعرفان فيما بينهما كيف يعيدانها. ولكن في كل مرة كانت ترجوه متهدجة،
أن يستمر، ويسرع في حركته كما لو أنه يقصد حرمانها، وينهي الاتصال فجأة. ثم أرادت
عبثًا في بعض الأوقات أن ترغمه على الاستمرار في الإيقاع، ولكنه كان دائمًا
يوقفها. وفي المرة الأخيرة التي حاولت فيها ذلك، وبكل شدة رغبتها البائسة في تلك
اللحظة الدقيقة، غرست أظافرها في ظهره تجبره أن يظل داخلها، صرخ وهو يمنعها
متملصًا منها: أمجنونة أنت يا امرأة؟ هل تريدين قتلي؟!»
٧٢
يؤكد روسو في «إميل» أنه من المفيد للمرأة — باعتبارها مخلوقة تخضع للرجل — أن
يكون لها أهلية فطرية للأنس واللطف،
٧٣ وهو ما رفضته منذ عشرات العقود داعية حقوق المرأة فلورا تريستان، حيث
وجدت في الجنس إحدى وسائل استغلال المرأة، والهيمنة عليها. ورغم أنها لم تكن تدعو
إلى العفة أو الانقطاع الرباني، فإنها أعلنت ارتيابها في النظريات التي تشيد
بالحياة الجنسية ومتع الجسد.
٧٤ ويذهب روسو — في المقابل — إلى أن الأثر الهائل للنساء في المجتمع
مستمد من سيطرتهن الجنسية على الرجال.
٧٥ الطريقة الوحيدة التي تملكها المرأة للسيطرة على الرجل هي أن تستغل
قدرتها الجنسية، فهي تغوي الرجل، وتتحايل عليه، وتتملَّقه، وتداهنه، حتى يقرر في
النهاية ما يريد.
٧٦ وكما تقول نوال السعداوي، ففي الوقت الذي تحذر فيه الطفلة من أعضائها
الجنسية، ومن الجنس، ومن كل ما يتعلق بالرجل، فإنها تُربَّى — منذ الصغر — على أن
تكون أنثى، أو أداة جنس، تعرف كيف تكون جسدًا فحسب، وكيف تزين هذا الجسد، وتكسوه،
أو تعرِّيه، ليجذب الرجل.
٧٧ مع ذلك، فإن استخدام المرأة أنوثتها لإرضاء الرجل، لمحاولة إشباعه
جنسيًّا، يُفسَّر — في الأغلب — بعكس المعنى المرجو، وربما امتد التصور إلى خبرات
وعلاقات سابقة في حياة الزوجة.
الشرف — في الموروث الشعبي — يعني العرض، والشرف والعرض يتصلان ﺑ «العفة».
صيانة العرض تؤكد العفة كما تؤكد الشرف.
٧٨ والقتل — دفاعًا عن الشرف — مأساة متجددة — على حد تعبير ماهر شفيق
فريد — في مدن مصر ودلتاها، وصعيدها بخاصة، تشتبك فيها اعتبارات الأخلاق والدين
والقانون والعرف الذي يكون — أحيانًا — أقوى من كل تلك الاعتبارات.
٧٩ ولأن الأب (
النوم الخاطف) شاهد
ابنته الأرمل مع رجل غريب، فقد أقدم على قتلها — دفاعًا عن الشرف — بالاشتراك مع
شقيقها.
٨٠ مفهوم الشرف في نظر الإنسان العربي يكاد يتحدد في الجنس، وفيما يتصل
بالأنثى بالذات. وما دامت نساء البيت مصونات، فشرف رب البيت مصون. وكانت الفتاة
التي تبلغ سن الزواج، وتظل في بيت أبيها، توصف بأنها «متحاشة»، أي محتجبة عن
الأعين.
٨١
وربما يتنازل المرء عن الكثير مما يدخل في إطار الشرف: الصدق، الحق، الأمانة …
إلخ، لكنه يثق في شرفه، والمعنى الذي يتمثَّله للشرف هو المعنى الجنسي!
٨٢ بل إن الخطيب يخشى حتى من نفسه على خطيبته «فأنا أريد زوجتي طاهرة
الذيل حتى ليلة الزفاف.»
٨٣ وحتى تحافظ الفتاة على غشاء بكارتها — دليل الشرف! — فإنها تخضع
لسلسلة من النواهي والمحظورات والأوامر: عدم حمل الأثقال، الاعتدال في الجلوس
والمشي، تجنب الوثوب، وغيرها من التصرفات التي تكفل لها لقاء زوجها ليلة الزفاف
وهي في حالة عذرية. تهبنا بلانكا (
الهدنة)
معنًى طريفًا، مغايرًا، بالقول «إن هناك شيئًا وراثيًّا في المرأة يحملها على
صيانة عذريتها، وعلى تقييد نفسها، والمطالبة بأقصى الضمانات لكيلا
تفقدها»
٨٤ لكن بلانكا تشير إلى أن المرأة تجد في ذلك كله — بعد أن تسقط — مجرد
خرافة، أسطورة قديمة لاصطياد الزوج.
٨٥ وفي رواية إمِلي نصر الله
تلك
الذكريات تحيا «مها» وعيًا متناقضًا أبعاده العذرية والخوف، والخجل من
الجنس قبل الزواج، بالإضافة إلى أنها كانت تعتبر الحمل — في إطار الزواج — أقدس
مهام المرأة.
٨٦
من هنا يأتي تساؤل نوال السعداوي عن مفهوم الشرف: هل هو مجرد المحافظة الجنسية،
حتى ولو كانت تكذب؟ وهل الشرف خاص بالمرأة وحدها دون الرجل؟
٨٧ حتى بائعة الذرة (
الارتعاش من
الداخل) كانت تؤمن بأن شعرها عورة، فهي تبادر إلى ستره كلما انسدل
شالها الأسود على كتفيها.
٨٨
والحق أن لفظة «عورة» تشمل المرأة جميعًا، كل جسدها؛ لذلك فإن الفتاة قد
تُزَوَّج قبل سن البلوغ لأنها «تُعتبَر عورة» يجب سترها بأسرع فرصة ممكنة، وحتى
لا يفوتها قطار الزواج تصبح عانسًا تجلب العار لأسرتها، وتصبح عبئًا على والدها
وأخواتها.
٨٩ بل إن الزوج يصعب عليه — في الكثير من المجتمعات العربية — أن يدعو —
أو ينادي — زوجته باسمها، فهي «العيال» و«الجماعة» و«أم الأولاد» و«الست» وغيرها
من التسميات التي تغني عن ذكر اسم الزوجة. حتى الأب قد يسمي زوجة ابنه «الجماعة»،
لا يذكر اسمها باعتبارها مثل ابنته، لكنها تزوجت، فهي «الجماعة».
٩٠ ويمتد الإحساس ﺑ «الشرف» فيشمل أزواج شقيقاتنا. يقول الراوي
(
قلوب خالية): «لست أعرف حقيقة هذا الشعور الذي
يختلط فيه الفرح بالخجل، عندما نتحدث عن زواج الأخت، ولا هذا الإحساس المبهم الذي
يغمرنا عندما نرى الطفلة الصغيرة التي خالطناها تصبح فجأة فتاة لها صدر ناهد، ثم
تُحمَل إلى بيت رجل ما، لتكون أمًّا لأطفاله؟ ما حقيقة موقفنا من هذا الرجل الذي
يستولد أخواتنا الأطفال؟!»
٩١ ولقسوة الضغوط الاقتصادية على الأسر الفقيرة في الريف، فقد ظلت
النظرة إلى المرأة باعتبار أنها تجلب العار لأسرتها، وكان رأي محجوب عبد الدايم
أن الشرف قيدٌ لا يفل إلا أعناق الفقراء.
٩٢ وبعد أن تتعرض الابنة لحادثة اعتداء وحشية، يقول الأب قاسم: «لو
رزقنا الله مكانها غلامًا، لم نتعرض لهذا الخزي.» ثم يعيد: «لهذا الخزي»، ويقول:
«ما ينبغي للفقراء أن يلدوا البنات.»
٩٣ كانت تلك الهفوة، يعني وقوع الفتاة ضحية اعتداء أحد الشبان عليها —
والتعبير للفنان — «مما لا يُغتفَر على أيامنا. كنا نحارب طبقات كثيفة من الماضي
العتيق، كلما تلاشت طبقة برزت تحتها طبقة راسخة تتطلب المعاناة والعناء لقهرها،
كان علينا أن نقطع خمسة قرون أو ستة في ربع قرن.»
٩٤ وقد يكون إعلان الخطبة بين الشاب والفتاة سترًا لفضيحة.
٩٥
يقول درويش (
قبل أن تفيض الكأس) «أليست
المرأة كيانًا من لحم ودم كالرجل سواء بسواء؟ فلم نعتقد أنها أكثر رغبة من الرجل،
مع أنها محرومة في بلادنا من أهم عوامل إثارتها بعد ختانها؟!»
٩٦ والحق أن مناقشة أزمة الجنس عند المرأة، تبدو كالسير في حقل الألغام؛
فهو يحمل أخطارًا في كل لحظة، والتوقعات — دومًا — سلبية. أذكر محاولة نوال
السعداوي في كتبها الثلاثة عن العلاقة الجسدية بين المرأة والرجل. واجهت حملات
ضارية، لم تقتصر على الرجال وحدهم، وإنما امتدت إلى الكثير من النساء، وجاوزت
الاتجاهات الدينية الراديكالية إلى تيارات تملك الوعي، والقدرة على التفهم
والمناقشة، وقبول الزواج من «العريس الغني» بصرف النظر عن فارق المكانة
الاجتماعية والتعليمية، وفارق السن! لذلك فإن معظم الزوجات يعانين البرود الجنسي،
لعدة أسباب، من بينها غياب التكافؤ، أو الحب، بين الزوجين، أو الكبت النفسي
والعضوي.
مشكلة المرأة — في تقدير بعض الكتابات — تكمن في المطالبة المزدوجة بأن يحصلن
على حقوقهن كاملة كمواطنات، وأن يُعامَلن — في الوقت نفسه — باعتبارهن نساء، أي
المعنى ونقيضه في الوقت نفسه.
٩٧ لكن نوال السعداوي ترفض كل الاجتهادات والنظريات الفرويدية بشأن نظرة
المرأة إلى ما يُسمَّى بالامتيازات التي يتمتع بها الرجل، إنها تتمنى الحصول على
الامتيازات التي يحصل عليها الرجل، وليس مجرد الاختلافات العضوية،
٩٨ تذكِّرنا بالقول «دعونا ننخرط كمواطنين ولننسَ أننا نساء.» ومع حرص
نجيب محفوظ على كل التفصيلات والمنمنمات في علاقة أحمد عبد الجواد وأمينة في
بين القصرين، فإنه لم يشِر — مجرد إشارة — إلى
البُعد الجنسي في علاقتهما الزوجية. وقد شغلني ذلك البعد — أصارحك — في قراءاتي
المتعددة للثلاثية، لاتصاله بمادة كتابي «مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين»، ثم
تصورت أن العلاقة الجنسية بين الزوجين — الطاغية الذي يملي إرادته والزوجة
الخاضعة المنسحقة — قد أثمرت الأبناء في اللحظات التي كان الزوج فيها ثملًا
بتأثير سهراته الماجنة خارج البيت!
يقول القديس كليمانت: «أنا لا أخجل من الكلام عن الأعضاء التي يُخْلَق بها
الإنسان، لأن الله لم يخجل إذ خلقها.» وتعيب المرأة (
الهدنة) على الرجل أنه هو الذي ابتدع هذه الحماقة بأن الجنس هو كل
شيء في المرأة.
٩٩ تقول المرأة: «إنكم تُحسَدون على قدرتكم على عزل هذا التفصيل الذي
يُسمَّى الجنس عن كل الأشياء الجوهرية الأخرى، عن كل مناطق الحياء الأخرى. وأنتم
أنفسكم من اخترعتم تلك البدعة القائلة إن الجنس هو كل شيء في المرأة. ابتدعتموها
ثم شوَّهتموها، حوَّلتموها إلى صورة كاريكاتورية لما تعنيه في الواقع. وعندما
تقولونها تفكرون بأن المرأة طالبة متعة مادية، فالجنس كل شيء في المرأة يعني حياة
المرأة كلها، بتبرجها، وبفنونها في المكيدة، وبورنيشها الثقافي، ودموعها الجاهزة،
بكل أجهزة إغوائها لمهاجمة الرجل، وتحويله إلى متعهد إشباع حياتها الجنسية،
ومتطلباتها الجنسية، وشعائرها الجنسية.»
١٠٠ وعندما دخلت الفتاة (
كوابيس بيروت)
كلية الطب، فإنها اختارت قسم النساء، احترامًا لتقاليد الأسرة التي ترفض أن تلامس
أصابعها جسد الرجل.
١٠١ تقول الراوية في
أشجار قليلة عند
المنحنى إن ما ترفضه المرأة أن تشعر بأنها مجرد آلة لإنتاج النشوة، أو
الأطفال الذين يرغب فيهم الزوج، ويصر عليهم كل ليلة.
١٠٢ الرأي نفسه تبنَّاه سلامة موسى بالقول إن المرأة ليست لعبة الرجل،
وإنها ليست — كما يتصور الرجل — مجرد وعاء للنسل، أو حتى لإفراغ الشهوة؛ بل إنها
ليست مجرد زوجة وأم، إنها شخصية إنسانية، لها تفكيرها المستقل وأحلامها
وتطلعاتها، وتمتلك حق إبداء الملاحظات والموافقة والرفض.
وفي تقديرنا أن نظرة الرجل إلى المرأة، الزوجة، باعتبارها وعاء يفرغ فيه شهوته،
لا تعدو حالة بغاء، وهو التعريف الذي استقر عليه من وجدوا في علاقة الزوج المستبد
والمرأة الخانعة علاقة استهلاكية، لكن أمينة
بين
القصرين لم تكن امرأة خاضعة. ثمة عشرات القرائن على أن المرأة كانت
تحب رجلها بالفعل، ودعواتها له لم تصدر عن خوفٍ أو نفاقٍ، لكنها صدرت عن محبة
مؤكدة للزوج الطيب — رغم قسوته المعلنة — ووالد الأبناء، والوجاهة التي تجتذب
المرأة — والزوجة بخاصة — آنذاك. مع ذلك، فإن الشهوة كانت هي الحب، أو كان الحب
هو الشهوة، في مفهوم أسرة أحمد عبد الجواد، فيما عدا حالات من الرومانسية عاشها
فهمي مع الجارة مريم، وعاشها كمال مع عايدة شوكت، وإن اختصرت الرصاصة حياة فهمي.
لم يكن أحمد عبد الجواد يرى في أية امرأة إلا جسدًا، لكن ليس أي جسد، فلا بد أن
يكون خليقًا بأن يُرى ويُلمَس ويُشم ويُذاق ويُسمَع «شهوة نعم، ولكنها ليست وحشية
ولا عمياء، بل هذَّبتها صنعة، ووجَّهها فن، فاتخذت لها من الطرب والفكاهة
والبشاشة جوًّا وإطارًا.»
١٠٣ وقد طال تردُّد كمال على بيوت الزنا، وأفقدت الشهوة ياسين قدرته على
التمييز، فهو مولع بالمرأة لذاتها لا لمعانيها ولا ألوانها، كان يعشق الحسن، ولا
يعزف عن القبح، والكل عنده في الأزمات سواء «كالكلب يلتهم بلا ترددٍ ما يصادفه في
القمامة.»
١٠٤ ويسأله كمال: ألم تحب أبدًا؟ يقول ياسين: إذن ما هذا الذي أنا غارق
فيه؟ أعني حبًّا حقيقيًّا لا هذه الشهوة العابرة؟ لا تؤاخذني، الحب يتركز عندي في
بعض مواضع كالفم واليد … إلخ.
١٠٥ ويصف الفنان نظرة حسنين كامل علي (
بداية
ونهاية) لبهية بأنه «كان يحب ولا يرى إلا الحب.»
١٠٦ فهل كان ما يشعر به الشاب حيال الفتاة حبًّا بالفعل؟ لقد ظلت نظرة
حسنين إلى بهية مقتصرة على جسدها البض الممتلئ، وما كشف عنه الفستان من ساعديها
وأسفل ساقيها وعنقها الرقيق الشفاف، فضلًا عن ثدييها الناهدين، يتخيل أنه
يدغدغهما بأنامله، فتنبعث في جسده قشعريرة الرغبة.
١٠٧ ويقول لبهية: «إنك تتكلمين بقسوة شأن من لم يذق قلبه الحب»، فتقول:
«إني أنكر الحب الذي تريد، وإنك تسيء فهمي عمدًا.» يقول: «ولكن الحب واحد لا
يتجزأ.»
١٠٨ ومع أن أحمد عبد الجواد لم يكن يعرف من الحب إلا جانبه الحسي؛ فإن
حبه للغناء والطرب والفكاهة والعبارة الجميلة، سما بالشهوة إلى أسمى ما يمكن أن
تسمو إليه في مجالها العضوي.
١٠٩ وحين جلس صابر الرحيم (
الطريق) إلى
إلهام، فإنه لم يحاول — عادة مزمنة ألفها — أن يجردها من ثيابها، أدرك أن تجريدها
من الثياب غير مجدٍ، لأن سحرها لم يستقر في موضعٍ بالذات، شائع كضوء
القمر.
١١٠ وعندما يسيطر حب رباب (
السراب) على
نفس كامل رؤبة لاظ، فإن خياله رفض أن يصورها له إلا في ردائها الطويل، تحوط بها
هالة الوقار والاحتشام. فإذا أهوى إلى خدها، فإنه يلثمه في إعجابٍ واحترام وحب
يسمو عن الشهوات.
١١١ وأدرك أنها سروره وفرحه، وأنها روحه وحياته، وأن الدنيا من غير طلعة
محياها لا تساوي ذرة من رمادٍ.
١١٢ وترف رباب على قلب كامل في طهر وقداسة، ويوصد دونها باب خلوته
الليلية التي يمارس فيها العادة المجنونة.
١١٣ ويحاول الشاب أن يفصل بين الحب والجنس، في ضمِّه رباب إلى صدره في
حنان. إنه الحب، لكنه يعرف أنه ينبغي أن يستنزله من السماء كثيرًا، كي يقوم
بواجباته الزوجية، واجباته الجنسية على وجه التحديد.
١١٤ ورغم المغامرات الجنسية التي هدت رشدي عاكف (
خان الخليلي) فإنه — عندما أحب نوال حبًّا حقيقيًّا — صارت في عينيه
ألطف من نسمة عبقة، طاهرة خفيفة، وتمنى أن يقيها الله شر الشياطين جميعًا، بما
فيهم شيطانه هو.
١١٥ وقد وجد حسين (
بداية ونهاية) في
بهية «الوداعة والفضيلة اللتان ترويان الحنان الظامئ إلى حياة البيت السعيد، لا
تثير استفزازًا من أي نوع كان، ولكنها تبثُّ سلامًا وطمأنينة.»
١١٦ ولم يكن إدراك كمال عبد الجواد (
قصر
الشوق) لعايدة شداد حسيًّا بقدر ما كان روحيًّا، تمثَّل في نشوة ساحرة
وغبطة شادية وسبحة عالية، بينما وهنت منه الرؤية أو تلاشت، لا يكاد يرى منها، وهو
في محضرها شيئًا، لكنا تتراءى — فيما بعد — في ذاكرته بقامتها الهيفاء، ووجهها
البدري الخمري، وشعر عميق السواد، مقصوص ألاجرسون، ذي قصة مسترسلة على الجبين
كأسنان المشط، وعينين ساجيتين تلوح فيهما نظرة لها هدوء الفجر وعطفه وعظمته. وكان
يرى هذه الصورة بذاكرته لا بحواسه كالنغمة الساحرة، نفنى في سماعها فلا نذكر منها
شيئًا، حتى تفاجئنا مفاجأة سعيدة في اللحظات الأولى من الاستيقاظ، أو في ساعة
انسجام، فتتردد في أعماق الشعور في لحن متكامل.
١١٧ كانت عايدة عنده مخلوقًا بديعًا غريبًا، استوى فوق الحياة، يطالعنا
من علٍ بعينين هائمتين في ملكوت لا ندريه!
١١٨ المشاعر نفسها كان يضمرها — ويعلنها — بطل قصة
الذكرى لنجيب محفوظ، فما كان يظن أن حبيبته لها لحم ودم كبقية الناس،
أو أن بداخلها معدة ودماء. نزَّهها عن ذلك، ووضعها في نفسه موضع الملائكة في نفوس
المؤمنين. وعلى الرغم من التباين الواضح في نظر أبطال نجيب محفوظ إلى معنى «الحب»
ودلالاته، بدءًا بالرومانسية المحلقة إلى ميكانيكية العلاقة الجنسية (كان أول ما
يفكر فيه الحبيب أن يهدي فتاته رواية
ماجدولين
لتكون فاتحة حديث لذيذ لا يعرف ختماه إلا الله!) فإن الظروف الاجتماعية
والاقتصادية ما تلبث أن تعكس تأثيراتها الهائلة على علاقات المحبين. وإذا كان علي
طه (
القاهرة الجديدة) قد همس — ذات يوم — بأن
«هزة قلب شيء خطير، له من المغزى في هذا الوجود ما لحركة الأفلاك في
السموات»
١١٩ فإن الاحتياجات الجنسية فرضت نفسها في ظل غياب المقومات الأساسية
لبناء أسرة، حتى إن الزوجين الشابين لا يجدان ملجأ يمارسان فيه الجنس — بعيدًا عن
أعين الرقباء — سوى هضبة الهرم.
١٢٠ ونشير إلى قول الفنان: «الحب قديمًا كان من باب التمازج الروحي،
والإعجاب بالمستقبل. البنت كانت تحب وأملها فيما بعد الحب، وكذلك الشاب. وعندما
نسد الطريق بتكاليف الزواج الباهظة، وصعوبة الحصول على الشقة، تركز الكلام في
السدود، وضاع الحب.»
١٢١ ويتحدث الراوي (
الشريدة) عن علاقات
المحبِّين في الزمن القديم بأنها كانت بعيدة عن التهتك والابتذال اللذين سيطرا
أخيرًا، وأوردت الحب الإباحية والجنون «فكانت العواطف تزدهر في القلب، وتنبت
الآمال والأماني، وتنصهر في العقل، وتخلق الأخيلة والأحلام، وتكتسي بحلي نادرة من
صنع الأوهام والأطياف.»
١٢٢
يصف الموروث الزواج المبكر بأنه «نزهة وسترة»، فهو يحقق الإشباع الجنسي بصورة
مباشرة. ويصف الفنان (
شيء في صدري) نساء الطبقة
الوسطى بأنهن «لا يعتبرن أنفسهن أكثر من متعة للرجل. ليس لديهن شيء يقدِّمنه سوى
هذه المتعة، فإذا قدمنها بلا زواج، اعتبرن أنفسهن قد خسرن كل شيء، خسرن الحياة
كلها. إن حياتهن كلها معلقة بهذا المعنى الضيق للشرف. ليس للحياة معنى آخر، ليس
فيها شيء آخر، ليس فيها سوى امرأة تعطي نفسها لرجل على يد مأذون.»
١٢٣ ويتحدث الفنان عن معنًى مغاير، وطريف، للحب، فكل نساء الطبقة الوسطى
— والتعبير للفنان — لا يحببن أن يقسن الرجال بما يستطيعون أن يوفره لهن من أسباب
الحياة: كم مرتبه؟ وماذا يملك؟ ولا شيء آخر. إن محاولة التخلص من الفقر، ومن
الضيق الذي يحيط بنساء هذه الطبقة يجعلهن يخلطن بين الحب وبين الرغبة في حياة
أكثر راحة وهناء.
١٢٤
المعنى نفسه — تقريبًا — تعبِّر عنه سوسن (
السكرية): «إن طبقتنا غريبة، تأبى أن تنظر إلى المرأة من زاوية
خاصة.»
١٢٥ وتلاحظ لطيفة الزيات أن ذات المجتمع الذي يروض الفتاة لتظل بلا جنس
قبل الزواج، يعدها بنفس الحرص والتفاني، لتكون أداة للجنس بعد الزواج.
١٢٦
ولعلِّي أختلف مع سامية الساعاتي في القول بأن الريفيين يفضِّلون أن تكون
المرأة صغيرة السن، بحيث يسهل السيطرة عليها، ويجعلها أسلس قيادًا لزوجها مما لو
كانت كبيرة.
١٢٧ الرجل — سواء في الريف أو الحضر — يتزوج صغيرة السن لاعتبارات جسدية
وبيولوجية، فهي الأقدر على تحقيق المتعة للرجل، فضلًا عن المعتقد الشعبي أن
الزواج من الفتاة الصغيرة يعيد للكهل، أو العجوز، ما فقده من شبابه!
يقول الفنان: «حياة الأنثى في الريف المصري قطعة من العذاب.»
١٢٨ وكان من عادات الريفيين — لم تندثر تمامًا! — ألا يخرج الرجل مع
زوجه، يعروه الخجل إذا خرج بصحبتها.
١٢٩ لذلك، فإن بعض الزوجات يلجأن إلى الجنس وسيلة لقتل أزواجهن، ذلك ما
حاولت أنصاف (
الماء العكر) أن تفعله مع زوجها
رضوان، واستسلم الرجل حينًا، ثم أدرك ما تنتويه، فأمسك نفسه!
١٣٠ وعمومًا، فإن النواحي البيولوجية مما قد يضيق بها هذا الكتاب. ثمة —
في تصوري — مؤلفات أكثر تخصصًا في هذا المجال.
هوامش