النقاب والمجتمع الذكوري
حسين محمود ضابط شاب، اختار — بلا تردد — أن ينهي حياة زوجية موفقة، على أن
تشاركه بقية عمره زوجة ذات ماضٍ.
هذا هو ملخص — أو فكرة رواية
النقاب لعبد
الحميد السحار، الحيرة التي يصادفها حسين محمود في ختام القصة، هي — في تقدير
الفنان نفسه — حيرة الفنان الشرقي بين «عقله» الذي يجد في استمرار الحياة بين
الزوجين منطقية حتمية، وبين وجدانه الذي ترسَّبت فيه مُثُل وتصورات عن الفتاة ذات
الماضي. حيرة بطل الرواية — وهي باعتراف الفنان — حيرته هو أيضًا، مبعثها أنه
يريد زوجة ليس لها ماضٍ، زوجة لم تفكر في رجلٍ آخر قبله.
١
النقاب تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ مسرحية إبسن
بيت الدمية، فهدى التي تخفي السر عن زوجها هي
نورا التي تخفي السر عن زوجها، وكروجشتاد الصديق الذي يهدد الزوجة بإفشاء السر هو
جمال عبد الرءوف الذي يجعل من السر أداة لتحقيق مآربه، وتورفولد الزوج الأناني
الذي يهين زوجته قبل أن يتأكد من إدانتها هو حسين محمود الزوج الأناني الذي يطلق
زوجته دون أن يسمح لها بالدفاع عن براءتها. ثم تعطي النهايتان تناقضًا جذريًّا،
فقد هجرت نورا بيتها بإرادتها، حتى بعد زوال الخطر؛ تكشَّفت لها حقيقة وضعها
المهين في بيتها، ومن ثَم فضَّلت أن تهجر البيت لتحاول أن تكون إنسانة لا دمية.
أما هدى فقد كان موقفها السلبي، وما قابله من «إيجابية» الرجل المتعسفة التي تعطي
لنفسها الحق في اتخاذ كل القرارات، دون أن تعطي المرأة حقًّا في الدفاع عن نفسها
… كان ذلك تعبيرًا — بالغ الدلالة — عن الواقع الذي تحيا المرأة المصرية في
إساره. ومن الطبيعي أن ما فعله حسين محمود عندما طلَّق هدى، قد أدَّى إلى دمار
حياة الزوجة والطفلة الصغيرة، وهو ما كان يُعَد إشارة موحية من المؤلف إلى أن
الحياة الزوجية التي لا تستند إلى أرضية من التفاهم والثقة لا بد أن يرتطم زورقها
بصخرة المأساة، لولا أن الفنان قدَّم النهاية بما يؤكد تأييده لرأي الشاب بأن
الزوجة يجب أن تحاسب على ماضيها. وربما تذكِّرنا هذه النهاية أيضًا، بالنهاية
المأساوية في مسرحية إبسن بيت الدمية، حين هجرت
نورا البيت، وتعالت اتهامات النقاد بأن النهاية التي وضعها إبسن تؤدي إلى دمار
الزوجة والأطفال. لكن نورا — كما يقول برناردشو — كانت على حق لأنها رفضت أن تكون
دمية في يد الرجل، بينما اتخذ بطل النقاب موقفه
نتيجة لعدة رسائل تصله، وتتهم زوجته بالخيانة. ثم تصله صورة هدى مع صديقها
السابق، لتكون عنصرًا حاسمًا في اتخاذه لهذا الموقف. وتلك هي طبيعة التفكير
الشرقي الذي يسيء الظن بالمرأة عمومًا، ويلتمس الغيرة المفرطة مبررًا لذلك، وفي
رواية ثروت أباظة قصر على النيل يسأل سليمان
القادم من أوروبا، وأفكار التحرر تملأ ذهنه: إذا التقيت بفتاة بادلتها حبًّا،
حبًّا شريفًا … أتتزوجها بعد ذلك؟
– لا، لا، لا أظن.
– أرأيت، إننا نحب أن نثق بزوجاتنا، نحبهن بجميعهن، بذكرياتهن وأحلامهن
وآمالهن، ولا نحب هذه الذكريات أن تبدأ إلا بعد الزواج، فكل ما قبل الزواج لا
نعترف به نحن الشرقيين، حتى وإن كنا نحن الطرف الآخر فيه.»
٢
ثمة رأي نقدي أن النقاب انتهت بلا حلٍّ،
والواقع أن القصة قدمت حلًّا للقضية التي طرحتها. طلَّق محمود امرأته، انطلاقًا
من سؤاله لنفسه: أليست زوجة لها ماض؟ يقول الفنان: «لنفرض أنني جعلت حسين يصفح عن
زوجته، وعن ماضيها، فهل أكون بذلك قد قضيت على مشكلة رغبة الرجال في زواجهم فتيات
ليس لهنَّ ماضٍ، وعلى الغيرة من ذلك الماضي التي تنهش أفئدتهم؟» والواقع أن تلك
المشكلة ليست مشكلة رجل يرغب في الزواج من فتاة ليس لها ماض، بقدر ما أنها تعبِّر
عن رأي السحار — وفنانين آخرين — في تلك المشكلة. إن حسين في النقاب — ذلك الذي ترك زوجته دون رجعة لأنه اكتشف بأن ذات
ماضٍ — هو تعبير عن وجهة نظر السحار التي تجد في ذلك التصرف أمرًا محتمًا.
الغريب أن السحار ليست له مواقف معلنة في قضية المرأة، بينما الحكيم — الذي
أضاف إلى تقليعاته تسمية عدو المرأة! — يقول عن المرأة: أما إنها مختلفة عن
الرجل، فهذا صحيح، وأما إنها أدنى عقليًّا فهذا ما لا أعتقده. وقيمة هذا الرأي
تتبدَّى في الرأي المقابل الذي أنطق به عبد الحليم عبد الله بطلة قصته
الشفيع: نحن ناقصات عقل ودين، وهكذا خلقنا الله.
٣
•••
المفردات التي تُناقَش قضية المرأة من خلالها تتحدد في كلماتٍ، أو تعبيرات،
مثل: غياب الكينونة، والإرادة، والذاتية، والقهر، والاستبداد، واستلاب الإرادة.
لذلك فإن المرأة تحاول أن تعبِّر عن رفضها للقيود التي تكبِّلها بأكثر من وسيلة:
الاحتجاج، الغضب، الرفض، التمرد، الثورة، لكنها ما تلبث أن تستسلم في النهاية.
تقول الراوية في قصة لزينب صادق «النساء في الطريق كأنهن رأس واحدة، لا أريد أن
أكون جزءًا من هذا الرأس المتكرر!»
ولعل أشد ما تعيشه المرأة — في حال وفاة زوجها — ذلك الإحساس الذي يداخلها
بأنها أصبحت بلا سجان. المرأة الطيبة عند الرجل أنها لا تخرج من بيتها إلا إلى
القبر.
٤ الرجل — في تقدير المرأة — يحرص على أن يسجن المرأة داخل سجنه
الذكوري، ليمارس فيه إحساسه بالتفوق. وعلى حد تعبير الفنان، فقد كانت الصورة
الكلية للمرأة في ١٩٢٥م — بعد انتصارات مهمة تحققت لها عقب ثورة ١٩١٩م — أنها
«عورة، والحب حرام» والزواج اختصاص الرجال، والعروس آخر من يعلم.
٥ وحين تتزوج الفتاة، كانت تنتقل من سجن الأسرة، سجن الأب، إلى سجن
الزوجية، فحياتها من الميلاد إلى الموت أشبه بسجن دائم. المرأة يعجزها — في تصور
إبراهيم الكاتب — أن يكون إحساسها شاملًا، ونظرتها جامعة، وروحها واسعة
محيطة.
٦ وقد عاشت نرجس (
الصورة) في بيت
أبيها، دون أن ترفع عينيها في عينيه مرة واحدة، ولم تبادله النظرات أو الكلام.
فقط عليها أن تنصت إلى أوامره، وترد بحاضر أو نعم في طاعة عمياء. تركت المدرسة،
ولزمت البيت، وأغلقت النوافذ، ولم تعُد تنظر من وراء الشيش. حتى عندما أمرها أن
تتوضأ قبل أن تنام لتحلم أحلامًا شريفة، أصبحت تتوضأ قبل أن تنام، وأصبحت تحلم
أحلامًا شريفة.
٧ وحين شكَت أمينة (
بين القصرين) إلى
أمها عشق زوجها لنساء أخريات، قالت لها الأم: لقد تزوجك بعد أن طلَّق زوجته
الأولى، وكان بوسعه أن يستردها لو شاء، أو أن يتزوج غيرك ثانية وثالثة ورابعة،
وقد كان أبوه مزواجًا، فاحمدي ربنا على أنه أبقاك زوجة وحيدة.»
٨ وعزَّت أمينة نفسها بالقول: «فليكن ما قيل حقًّا، فلعله من صفات
الرجولة كالسهر والاستبداد.»
٩ وتقول مريم (
مريم الحكايا): «كنت
أحسب أن الأمهات يبتسمن فقط أمام عدسة المصور، وأن الصورة ربما لا تطلع بلا
ابتسامة، ولولا الابتسامة ما اختُرعت آلة التصوير.»
١٠ وكانت الأسر المحافظة — في أعوام العشرينيات — ترى أن دخول التليفون
إلى البيت أشبه بالكارثة!
كان نزول أمينة (
السكرية) من وراء المشربية
إلى الطريق، تزور حبيبها الحسين وابنتيها، وتشتري احتياجات البيت، في حين جلس
أحمد عبد الجواد — ذلك المستبد القديم — في الموضع نفسه وراء المشربية، يكتفي
بمتابعة حركة الطريق، وينتظر أوبة زوجته … ذلك التصرف العكسي يمكن أن نعتبره
دلالة مبكرة على سقوط دولة الرجل. وهو سقوط لم يتخذ في تلك الآونة — أواخر
الثلاثينيات — بعدًا واحدًا، وإنما شمل أبعادًا مهمة أخرى. والدلالة واضحة في
المظاهرة التي خرجت بها الطالبات من مدرسة السنية في ١٩٣٥م، تهتف بالجبهة الوطنية
والدستور والاستقلال، وعندما تعرض للمظاهرة مدرسة إنجليزية، قذفتها طالبة بالحبر
على فستانها!
١١
وقد اعترفت ألفة الأدلبي أنها كتبت روايتها
دمشق يا بسمة
الحزن للرجال. حاولت — على حد تعبيرها — أن تهزَّهم في الرواية، وأن
تجعل أمامهم واقعًا لا يرضى عنه كل إنسان عنده كرامة وحرية، ولا يريد أن تكون له
بنت أو أخت مظلومة مثل بطلة الرواية.
١٢
حب المرأة للرجل — في تقدير لينا — (
لينا لوحة فتاة
دمشقية) لا يعني فقدان الذات، بل تأكيدها، لا يعني ضياع إنسانيتها، بل
تحقيق ذاتها.
١٣ إنها تريد من الرجل أن يكون — بالنسبة لها — رفيقًا لا سيدًا ولا
عبدًا، شريكًا لا مالكًا ولا مملوكًا.
١٤ وتقول أم عديلة (
الشوارع الخلفية)
«زمان كانت الواحدة منا تقف قدام جوزها لحد ما يلبس، وصوتها ما يعلاش على صوته،
وتكبِّسه قبل ما ينام، وتقف بين إيديه زي الجارية.» ترد عديلة بهدوء: «أصل زمان
كان شكل، ودلوقتي شكل.»
١٥ ويقدم الدكتور هيكل روايته
هكذا
خلقت (١٩٥١م) بأنها تصور أثرًا «من آثار التطور الاجتماعي الذي شهدته
مصر، ولا تزال تشهده، إذا كان في البطلة شذوذ غير مألوف، فهو يصور واقعًا إن قَل
أن يجتمع في نفس واحدة في فترة واحدة من الزمن، فهو يرسم — لا ريب — صورة من صور
تطورنا المتصل، في هذا الدور الحاضر من أدوار المجتمع المصري.»
١٦
•••
يقول راهب الفكر (
الرباط المقدس): «آه! إن
المرأة هي كنز الكنوز، ولكنه مدفون في سابع طبقات الأرض، فمن ذا يستخرجه غير ساحر
من حذَّاق الكهَّان؟ بل هي معجزة المعجزات، مطوية في سابع طبقات السماء، فمن ذا
الذي يستنزلها غير راهب شديد الإخلاص؟»
١٧ كلمات تنبض — كما ترى — بالإنشائية والرومانسية الساذجة!
والحق أن توفيق الحكيم لم يكن يرفض أن تحصل المرأة على ما تتطلع إليه من حقوق،
وأن تكون مساوية للرجل، لكنه رفض أن تسيطر عليها عقدة الرجل. أساس الخلاف بين
توفيق الحكيم والمرأة ما تزعمه المرأة — والتعبير له — من أنها مساوية له في كل
شيء، وما تريده من أن تكون مثله في كل عملٍ من أعمال الحياة. وقد تضخم عندها هذا
الإحساس إلى درجة تكاد تكون مَرضية، وبصورة يمكن أن نسميها «عقدة الرجل». هذا هو
موضع الخلاف بينه وبينها … لكن الحكيم يضيف: «أما أنها — المرأة — مختلفة عن
الرجل، فهذا صحيح، وأما أنها أدنى عقليًّا، فهذا ما لا أعتقده.»
١٨ «وطبيعة المرأة ليست أدنى من طبيعة الرجل في رأيي، لكنها تختلف عنها،
فهي — من الناحية العقلية — تفكر تفكيرها الخاص، ولها منطقها الخاص المختلف عن
تفكير الرجل ومنطقه.»
١٩ ويتساءل فكري أباظة — في الثلاثينيات من القرن العشرين — ساخرًا: «قل
لي بربك — أيها القارئ العزيز — ماذا تفعل «الوزيرة» إذا أتاها الوضع وهي في كرسي
الوزارة، تقابل وفود الزائرين والمتظلمين أصحاب الأعمال؟»
٢٠ وبالطبع، فإن الحكيم لم يكن وحده هو الذي اتخذ موقف الرفض لمطالب
المرأة، فقد أعلن العقاد أن مطالب المرأة سابقة لأوانها.
٢١ بل إن فكري أباظة استنكر مطلب المرأة في أن تمارس حقَّ الترشيح
والانتخاب للمجالس النيابية: «ماذا يفعل الجنس اللطيف في تلك البراري والقفار، في
الشمس المحرقة والأمطار المغرقة؟ ماذا يفعل مع الوجوه الكئيبة و«الخلق» الرهيبة؟
ماذا يفعل إذا اعترضته في جولاته الانتخابية المستنقعات و«المقطوعات» والمشاغبات
والبلاغات والتحقيقات، مما يكون مجموعه «شركة نكبات وكوارث»؟ هنيئًا لكُنَّ
آنساتي وسيداتي! هل تتحمَّلن الجوع عشر ساعات متواليات؟ هل تسرن على الأقدام خمس
ساعات في المطر، وفي الليل؟ هل تتحمَّل أمزجتكن الرقيقة صدمة الفشل
الرهيبة؟»
٢٢
الغريب أن الذين أسرفوا في طلب منع المرأة من العمل، أهملوا عمل المرأة الفلاحة
في قرى الريف المصري. كان عدد سكان الريف المصري في ١٩٣٧م حوالي ١٥ مليونًا،
نصفهم من النساء، من بينهن ٧٠٣١٢١ امرأة عاملة في الزراعة،
٢٣ بالإضافة إلى النساء اللائي ينشغلن بالعمل في البيت والعمل مع
أزواجهن في الحقل.
٢٤ كانت المرأة الريفية [«كانت» لأن الصورة شهدت تغيُّرًا واضحًا] تعمل
أكثر من أربع عشرة ساعة كل يوم، إلى جانب الأب أو الأخ أو الزوج، وربما الابن
أيضًا، وعملها يمتد فيشمل الحرث والبذر والجمع والري والحصاد والرعي والعناية
بالماشية والدواجن. هل أهملت المرأة — وهي تصنع ذلك كله — بيتها وزوجها
وأطفالها؟
٢٥ لم تنشغل المرأة الريفية بقضايا السفور والحجاب والنزول إلى العمل،
لأنها كانت سافرة، وتعمل في الحقل، وتبيع في الأسواق وتشتري، بل إن نعناعة
(
شرخ في جدار الخوف) تقول لزوجها: «إلا ليه ما
اطلعش معاك الغيط زي مرات محمود أبو سماعين؟ زي كل الناس اللي زينا؟ هه؟ رد يا
علوان، دا المشي كويس عشان الواد.»
٢٦ ونحن نلحظ في قصة المرأة الريفية عزيزة (
الحرام)، قبل أن تقع الحادثة التي دمرت حياتها، أنها كانت — في ظل
مرض الزوج الذي حال بينه وبين الحركة — تقوم بكل أعمال رب الأسرة من عملٍ،
وإنفاقٍ على البيت، ورعاية للأبناء، وتمريض للزوج المقعد. وتقول الهانم
(
قبل أن تفيض الكأس) للسيدة الفلاحة: «عندكم في
الفلاحين، المرأة تحمل الفأس، وتدير الطنبور، ماذا بقي؟ رأسها برأس
الرجل.»
٢٧
إن معظم رجال القرية يتزوجون حتى يفيدوا من عمل المرأة، ومن الأولاد الذين
تنجبهم.
٢٨ قليلة هي حكايات الحب التي يتقدم فيها الشاب لخطبة فتاة، لمجرد أن
كلًّا منهما أحب الآخر، ويهملان أعرافًا اجتماعية واقتصادية! وبلغت التطورات —
التي فرضتها الظروف الاقتصادية القاسية، كما في
الحرام — أن المرأة أصبحت هي المسئولة عن الزوج.
٢٩ تقول المرأة (
على جسر ممدود) «يا
دي النيلة على رجالة الزمن ده يا ختي عاديك، دلوقتي يا حسرة، اللي يتجوز واحدة
عايزها تصرف عليه، وعلى أهله كمان، الستات هي اللي تشتغل يا حسرة.»
٣٠ وقد أضافت هجرة الرجال من القرى إلى خارج البلاد، مسئوليات جديدة على
الزوجة المقيمة في القرية، بالإضافة للعمل في البيت والحقل، مثل التصرف في المال،
والتعامل مع الجمعية الزراعية، ومع الأفراد والجماعات.
المرأة في الريف هي الأشد كدحًا، وهي — في الوقت نفسه — الأقل مكانة. أذكر من
رؤى صباي — لا أدري إن استمر ذلك حتى الآن! — قدوم الزوج والزوجة من قريتهما
لمهمة ما في الإسكندرية، تحرص المرأة — احترامًا للرجولة في زوجها — على أن تسير
وراءه، ولا تسير إلى جانبه! تقول الأم (
دعاء
الكروان) «إن المرأة لا تستطيع أن تعيش، ولا أن تأمن، لا أن تستقيم
أمورها، إذا لم يحمها أب ولا أخ ولا زوج.» وتقول: «فالمرأة عورة يجب أن تُستَر،
وحرمة يجب أن تُرعى، وعرض يجب أن يصان.»
٣١ وقد رأت روح حسن مفتاح (
العنقاء)
كل شيء، رأت سيد قنديل يجمع كيزان الذرة، ويتحدث إليها، وقرأ أفكاره كأنه يقرأ
كتابًا مفتوحًا، ورأى فاطمة على الجسر، تحمل الفطور مسرعة خشية أن يضربها زوجها،
ومن ورائها نساء، ومن أمامها نساء، كلهن فرادى، وكلهن في جلابيب سود قذرة تجرُّ
الأرض جرًّا، وكلهن حافيات، ومسرعات بالفطور إلى الأزواج حتى لا يضربوهن، أو
يرموا عليهن يمين الطلاق.
٣٢
•••
تقول إنجي أفلاطون: «هذا هو الذي نعنيه حين نقول إن العمل يعني للمرأة تحرُّرها
من ربقة الرجل — أبًا أو أخًا أو زوجًا — فإن كسب الرزق بعرق الجبين، هو ركن
الاستقلال الاقتصادي الذي ننشده للمرأة في المجتمع المصري، وإن الاستقلال
الاقتصادي هو الضمان الذي يحمي المرأة من التعرض لصنوف المذلة والهوان التي
تلقاها على يد الرجل.»
٣٣ ولا يخلو من دلالة خروج الزوجة — التي تطلب العمل — من المطبخ،
وبيدها سكين طويل، وهي تهتف في زوجها: «لا شيء سوف يحول بيني وبين العمل، حتى لو
قتلتك أو قتلت نفسي!»
٣٤ وقد أحسَّت دولت (
ثم تشرق الشمس)
أن المال كان هو الذي يفصل بينها وبين خيري، فلم يعُد ثمة شيء يمنعها عنه.
وتساءلت: لماذا لا يتزوجها ذلك الشاب الفتى الجميل؟
٣٥ لقد أصبح مثل هذا الرأي الذي أورده روسو في «إميل» جزءًا من الماضي:
«خُلِق الرجل والمرأة كلٌّ منهما من أجل الآخر، لكن اعتمادهما المتبادَل على
بعضهما البعض ليس متساويًا، فالرجال يعتمدون على النساء حسب رغباتهم. أما النساء
فيعتمدن على الرجال حسب الرغبات والحاجات في آن معًا. ففي استطاعتنا أن نعمل
بدونهن على نحوٍ أفضل مما يستطعن بدوننا، وحتى ينلن ما هو ضروري لوضعهن في الحياة
لا بد أن نعطيها لهن، لا بد أن نريد إعطاءها لهن، لا بد أن نجد أنهن جديرات بها،
فهن يعتمدن على مشاعرنا، على الثمن الذي ندفعه لجدارتهن، على أساس تقديرنا
لجاذبيتهن وفضائلهن. إن النساء — حسب قانون الطبيعة، بالنسبة لأنفسهن كما بالنسبة
لأطفالهن — تحت رحمة حكم الرجل.»
٣٦ إن نزول المرأة إلى العمل، وحصولها على استقلالها الاقتصادي، هو الذي
جعل من وقوع المرأة تحت رحمة الرجل، فعلًا ماضيًا. ويقول الرجل (
زمن الحرية): الدراسة والعمل سلاح المرأة في هذا
الزمن.
٣٧ أما السيدة سوزان (
سكون العاصفة)
فقد ذهبت إلى أن «المسألة اليوم حرية وعمل معًا، لكن الرجل لا يريد أن ينسى ماضي
الجنسين، والمرأة تمسك بيدها باب الحريم المفتوح حتى لا يُقفَل مرة
أخرى.»
٣٨
•••
حكمة العجائز أن «المرأة ليس لها غير الرجل، المرأة خُلقت لزوجها، والعار، كل
العار، لمن تفشل في حياتها الزوجية.»
٣٩ وتقول شادية لأمها: «غايته الواحدة في الزمان ده تتجوز، وتجيب عيال،
وتعيش في ضل راجلها.»
٤٠ المعنى نفسه، نجده في قول الرجل في رواية
العلامة لسالم بنحميش «المرأة لا يحميها من الرجال غير
الرجل.»
٤١ وتقول هدى (
الزلزال): «إن المرأة
لا تستطيع أن تبتعد عن سيطرة الرجل … ما نقدرش نستغنى عن الرجل مهما كانت
الظروف.»
٤٢ وكان رأي
إبراهيم الكاتب في رواية
المازني أن المرأة أداة لحفظ النوع، وأن جمالها ليس إلا شركًا تنصبه
الحياة.
٤٣ وقد عانى مصطفى عاطفة أملتها الإثارة في رواية عبد الحميد السحار
في قافلة الزمان، وحين أراد الزواج فإنه تقدم
لخطبة ابنة عمه! وكان ذلك الموقف تحديدًا هو ما واجهه طلبة (
ع الماشي) بحيث ألقى على نفسه السؤال: أي الفتاتين خير؛
واحدة نشأت على الطاعة والعفة، أم أخرى مدلَّلة تعرف حمامات البحر والخروج مع
الرجال؟ وأضاف السؤال: أيهما خير لمثلي: فتاة وديعة كميمي، تحبني وتطيعني، ولا
تعرف سواي، أو تفكر في غير واجباتها لي، وإن كانت تنقصها مظاهر الطراز الحديث، أو
أخرى كوردة تخطب لنفسها من تشاء، ولا يسع أباها إلا الموافقة.
٤٤ ويقول الحكيم: «القول بأن المرأة للبيت لا مزاحمة الرجل، لا يحُول
مطلقًا دون تثقيف المرأة تثقيفًا تامًّا، لتكون زينة البيت، وأستاذ الطفل، ومعلم
الجيل.» إنها — في تقديره — «شريك محترم، ينبغي أن يجد فيه الرجل متعة عقلية
تحبِّب إليه البيت.»
٤٥
أجمل ما نتمناه للفتاة أن يدخلها الله بيت العدل، أي بيت الزوجية، فهو غاية
حياتها. قد تتعلم إلى نهاية المرحلة الجامعية. وقد تستقل اقتصاديًّا من مهنة حرة
كطبيبة، أو محامية، أو مهندسة، أو تاجرة. وقد تبلغ مكانة وظيفية أو اجتماعية
متفوقة. لكن الزواج يظل هو الحلم والأمل والهدف، إذا تأخر تحقيقه أو لم يتحقق،
فإن الفتاة تصبح عانسًا، أو بائرة بلغة الموروث الشعبي. وتقول ليلى (
الباب المفتوح) لنفسها: «عندما تُولَد البنت يبتسمون
ابتسامة تسليم، وعندما تكبر يسجنونها، ويدربونها على فن الحياة: تبتسم وتنحني
وتتعطر وتترقق وتكذب وتلبس كورسيه يشد خصرها، ويرفع صدرها، لكي يرتفع سعرها في
السوق، وتتزوج. تتزوج من؟ أي إنسان!»
٤٦ ومع أن عبد الجواد أفندي همس لنفسه — في لحظات مصارحة: ماذا كان يمكن
أن يصير حاله لو أن سميرة ابنته طاوعته وتزوجت بعد التوجيهية؟ أو لو أنها طاوعته
وتزوجت بعد الجامعة؟ أو لو أنها طاوعته وتزوجت وهي في الوظيفة؟ «كان زماننا يا
مبارك ميتين من الجوع»، مع ذلك، فإنه ما لبث أن نسي ذلك كله، وراح يدعو الله أن
يرزق سميرة بعريس!
٤٧
هوامش