الشك … والخيانة
يروي أن هليوس Helios إله الشمس، رأى العشيقَين
أفروديت وآريس Ares في خلوتهما داخل قصر ووجها
هيفايستوس، فأخبر الزوج الذي كان يتصور النقاء والطهر في زوجته، فصنع شبكة من
الحديد، وألقاها على العاشقين فضُبِطا في حالة تلبس. المرأة هي التي تحاول
الغواية، قد تفلح كما أفلحت حواء مع آدم، فهي حمالة الخطيئة الأولى، وقد تخفق كما
أخفقت زوجة الفرعون مع النبي يوسف، وتراوحت نجاحاتها وإخفاقاتها في الكثير من
وقائع الحياة، والكثير من الأعمال الإبداعية، وظلت — على الدوام — مصدرًا لغواية
الرجل.
الثابت — دينيًّا — أن إبليس هو الذي أغوى آدم لكي يأكل من التفاحة المحرمة،
وقد اضطر صديقي الناقد الكبير رجاء النقاش إلى الاعتراف بخطأ نسبة إغراء آدم إلى
حواء حتى يأكل من الشجرة. تَلقَّى — كما روى — عشرات الرسائل التي ترفع عن حواء
هذا الذنب، وترجعه إلى إبليس. تقول الآية القرآنية في سورة طه:
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ
لَهُ عَزْمًا.
١ وتتوالى الآيات التي توضح ما جرى، لتصل إلى خاتمة القصة في الآية
١٢١:
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوَى.
وبعيدًا عن ثوابت الدين، فإن المرأة — في رأي روسو — هي المصدر الأول لشرور
العالم،
٢ والحكايات الفارسية «أسمار الببغاء» تتماهى — من حيث نسبة الخيانة
إلى المرأة — مع حواديت ألف ليلة وليلة. زوجة شهريار التي أثمرت خيانتها له
إصرارًا منه على الانتقام من كل الناس، فهو يتزوج في كل ليلة فتاة، ويقتلها في
الصباح، حتى جاءت شهرزاد، فبدَّلت — بحكاياتها — مسار الليالي. توقف مسلسل الدم
على مدى ألف ليلة، حتى قدمت شهرزاد إلى شهريار أطفالهما الثلاثة، فعفا عنها. وعلى
الرغم من القول إن تحرير المرأة تم على يدي شهرزاد، فضلًا عن وعي شهرزاد الذي
أتاح لها الإفلات من المصير القاسي، فإنها ظلت تؤمن بأن كنوز الأرض جميعًا لا
تغني المرأة عن الرجل. وكما تقول نبيلة إبراهيم فإن هَم المرأة — الأول والأخير —
أن تستحوذ على الرجل الذي يحبها دون النساء جميعًا، ولا يفارقها قطُّ إلى
غيرها.
٣ الاختلاف — في الحكايات الفارسية — أن الببغاء كان يرجئ خيانة الزوجة
بما يرويه من حواديت منفصلة، متصلة، تصرفها عن فكرة الخيانة حتى يصيح الديك، كما
في ليالي شهرزاد، وإن اختلف المعنيان في ليالي شهرزاد وليالي الببغاء. كانت خيانة
الزوجة، ورغبة شهريار في الانتقام، هي التي أملت عليه مسلسل الإعدامات في زوجات
الليلة الواحدة، المتوالية. أما اعتزام الزوجة خيانة زوجها في ليالي الببغاء، فقد
كانت الحكايات وسيلته لمنع الخيانة. وفي الحالين، فإن المرأة هي التي سعت — أو
كانت تسعى — إلى الخيانة. الزوجة تخون زوجها، أو تحاول خيانته، هي الطرف الجاني،
المعتدي، والرجل، الزوج، هو الطرف المجني عليه، المعتدَى عليه. رأى الرجل في
حكايات «أسمار الببغاء» أن أكثر الإناث ناقصات عقل، وأن الحكيم يجب ألا يفضي
بأسراره لأنثى. ويقول الببغاء في أسماره: «النساء يستطعن الغدر بسُبل شتى، وفي
النهاية يكون الرد حاضرًا لديهن.»
٤
وإذا كانت عقدة «الخطيئة» من الثوابت في
المعتقد المصري بعامة، فإن الثابت أيضًا — من خلال تلك العقدة — أن المرأة هي
المدخل للخطيئة، وأنها العنكبوت الذي يغزل نسيجه ليسقط فيه ضعاف النفوس، فلا نجاة
للروح إلا بالنجاة من غواية المرأة! وعلى الرغم من قول العجوز في رواية
الهدنة لماريو بينيديتي «إن ضياع المرأة يكون وراءه
دائمًا رجلٌ خسيس، سافل، مهاتر، دفعها أولًا لأن تفقد الإيمان بنفسها.»
٥ على الرغم من ذلك، فإن النظرة إلى المرأة تحفل — دومًا — بالشك «مالت
لك مالت لغيرك.» وغالبية الأعمال الإبداعية تنسب الخيانة إلى المرأة لا إلى
الرجل. إنها هي التي تغوي، وتدبِّر، وتخون، ربما لغير سببٍ إلا نزوع طبعها إلى
الخيانة، فالشهوة الجنسية تسيطر على تفكيرها وتصرفاتها. ويكاد أمين يوسف غراب
ومحمود البدوي يتفقان في أن الجنس هو محرك تصرفات المرأة. يهب لنا غراب نموذج
امرأة تبدو طيبة ومستكينة، ثم ما تلبث أن تسلم جسدها ببساطة غريبة. والعلاقة
الجسدية بين الرجل والمرأة عند البدوي سهلة إلى حد أن الرجل — أي رجل — يستطيع أن
يقيم مع المرأة علاقة جسدية، بل إن المرأة حين تزل زلتها الأولى — في يقين البدوي
— لا تراجع الأمر في زلات أخرى تالية.
٦ وفي قصة
قلب عذراء ينحني الرجل
ليقبِّل يد المرأة، فتهبه شفتيها! أما عبد الحميد السحار — هذا المتدين — فإنه
يقدم لنا قصة عن رجلٍ مارس العملية الجنسية باعتبارها خطأ كبيرًا، وينهي القصة
بآياتٍ من القرآن الكريم «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.» ويحدد الفنان
(
خبايا الصدور) خطايا النساء بأنها: خطيئة
امرأة بلا زوج وبلا أطفال، وخطيئة امرأة ذات زوج، وخطيئة امرأة ذات زوج وأم
أطفال، ولو جمعت كل خطايا الأرض لما ساوت خطيئة الثالثة.
٧ إن صاحبة البيت — أو الجارة — الأرمل، وأحيانًا المتزوجة من شيخ
يكبرها بسنوات، فتعاني حرمانًا جنسيًّا، هي بطلة قصة «أم زينب» لمصطفى محمود،
و«الجوع» لصلاح حافظ، و«حارة السقايين» لعزت محمد إبراهيم، و«شباب امرأة» لأمين
يوسف غراب، وغيرها. ويقول الشاب (
عندما يأتي
الربيع) للمرأة: أريدك في منتصف الليل؛ فتعد نفسها لتبذل عفافها له،
وتنتهي القصة بنكتة سخيفة؛ فالشاب لم يكن يريدها في منتصف الليل إلا لتعطيه
الحقنة في موعدها!
٨ وفي قصة
لا لله ولا للشيطان يحب
الراوي زوجة صديقه، وينتهز فرصة خلو غرفة نومهما إلا منهما، فيندفع نحوها
يحتضنها، ويقبِّلها في صدرها وفمها وعينيها وشعرها، وفي كل موضع منها حتى القدم،
ولم تحتج الزوجة ولا أبدت حركة.
٩ وحاولت الزوجة (
قلبان في سعير) أن
تسجل على الطبيعة ما سجلته بطلة
الرباط المقدس
لتوفيق الحكيم — بالوهم! — في كراستها الحمراء، فهي قد طاردت جارها، وحاولت أن
تجتذبه إلى دوامة الجنس، بالأسباب نفسها التي اقتنعت بها بطلة الحكيم، لكن الجار
كان مثاليًّا — ربما أكثر مما ينبغي — من هنا، كان رفضه للعلاقة الشائنة، ونصيحته
للزوجة بأن تحاول الإخلاص لزوجها.
١٠
ويبدو غريبًا قول زهيرة (
١٩٥٢): «والنبي إذا
كان لك غرض مني، أنا تحت أمرك!» قررت التسامح حتى إذا فض بكارتها، لن تلح عليه
بالزواج، فهي تعلم أن المتعلمين في المدارس لا يتزوجون من الفلاحات!
١١
المرأة — في معظم الأحوال — هي التي تغوي، والرجل هو الذي قد يستنكر العلاقة في
البداية، ثم ما يلبث أن يجتذبه إغواء المرأة! وثمة حكايات شعبية عربية تؤكد أن
«الشهوة الجنسية تسيطر على المرأة، حتى لو كانت درويشة.»
١٢ المرأة — كما يقول المثل — عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وفي
مثل آخر أن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، والتعبير المتوارث
أنه ما من رجل يخلو بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما. ولعل لحظة استقبال
الفتاة/المرأة لمضاجعة الرجل الغريب، اللحظة التي تفض فيها بكارتها، أو تفقد
شرفها إذا كانت ثيبًا، تختلف من فتاة — أو امرأة — إلى أخرى، فإحسان شحاتة
(
القاهرة الجديدة) توافق مُرغَمة، ونفيسة
(
بداية ونهاية) توافق مستسلمة، وحميدة
(
زقاق المدق) توافق مرحبة، وعزيزة (
الحرام) تقاوم، لكن عنف الرجل — أو هذا هو ما تصورته —
كان أقوى من مقاومتها. كانت معاملة الزوج السيئة لزوجته، هي السبب المباشر في
سقوطها، وتحوُّلها إلى مومس.
١٣ وإذا كان الزوج في قصة
كيدهن لنجيب
محفوظ يعترف بأن «الشك مسٌّ من الجنون»،
١٤ فقد عانى كامل رؤبة لاظ (
السراب) —
لفترة طويلة — شكًّا في زوجته رباب، تلك الملك الرقيق الجميل الطاهر، وحاول —
عبثًا — أن يكتشف السر، حتى طالعته الخيانة — فجأة — بكل ملامحها! وكما يقول ماهر
شفيق فريد، «فإن إساءة الظن بالمرأة، والشك في أخلاقها، داء متوطن في أعماق كثير
من الرجال الشرقيين، متعلمين كانوا أو جهلة، ريفيين أو حضريين، وإن كان أشيع بين
غير المتعلمين من أهل المدينة والريف على السواء، وهو اتجاه يتغذَّى على فهمٍ
خاطئ لبعض الموروثات الدينية، وعلى تراث فولكلوري عريض يتجلَّى في الأمثال
الشعبية والملاحم التي يتناقلها الرواة، جيلًا بعد جيل، وحكايات كيد النساء
وألاعيبهن، وقصص ألف ليلة وليلة، وغيرها.»
١٥
مع ذلك، فإن المرأة في إبداعات أخرى، قليلة، تقع في الخطيئة بسبب الرجل:
إبداعات يوسف إدريس — على سبيل المثال — عزيزة وابن قمرين في
الحرام، وسناء والجندي في
العيب، وفتحية والمهندس الشاب في
النداهة. وفي رواية سلوى بكر
العربة الذهبية
تصعد إلى السماء تذهب الفنانة إلى أن الرجل ليس مصدر الشر في العالم،
ليس الرجل، لكنها القيم المتخلفة التي تجعل من الرجال والنساء أشرارًا دون
تفرقة.
١٦
•••
كان محمود كامل أهم من عبَّروا عن أزمة التحول في العلاقة بين الرجل والمرأة؛
فهي لم تعد مشابهة للعلاقة بين أحمد عبد الجواد وأمينة. توضحت قضايا لم تكن
قائمة، أو كانت باهتة الملامح، في زمن القعود في البيت، مثل فراق الحبيبين،
والشك، والخيانة الزوجية، وغفران الخطيئة.
والواقع أننا نستطيع التعرف على شك الرجل وخيانة المرأة، في الكثير من الأعمال
الأدبية، بداية من أولى القصص المؤلَّفة في التاريخ، وأعني بها قصة الأخوين التي تُعَد أول ما أفرزه الأدب المصري القديم:
الزوجة التي تحاول إغواء شقيق زوجها الأصغر، وحين تخفق في ذلك، تحرِّض الزوج على
شقيقه، بدعوى أنه هو الذي حاول إغواءها! وثمة شهريار ألف
ليلة وليلة الذي خانته زوجته، فدفعه الشك — والرغبة في الانتقام — إلى
قتل زوجاته التاليات، فيما عدا شهرزاد التي أذهلته عن نفسه، وعن الشك والخيانة،
بحكاياتها المشوِّقة التي استمرت في روايتها ألف ليلة. المرأة — كما تقول ألف
ليلة — خائنة بطبعها في كل زمان ومكان، سواء كانت زوجة للسلطان، أو لأحد عامة
الشعب، بل سواء كانت زوجة لبشرٍ أو لجان. ففي إحدى الليالي تروي شهرزاد قصة الجني
المارد الذي وضع عروسه في صندوقٍ من البلَّور، ووضع الصندوق داخل صندوق آخر له
سبعة أقفال، وغاص بها إلى أعماق البحر، لكن العروس لم تعدم فرصًا للخيانة أثناء
قيلولة الجني على البر في بعض ساعات النهار!
ولعلنا نجد أصل المشكلة في نظرة محمد عبد الحليم عبد الله إلى المرأة من خلال
هذه الكلمات على لسان راوي
شمس الخريف: «إننا
إذا تزوجنا امرأة صالحة أول مرة، كانت كفيلة بأن تجعلنا نسيء الظن بالزوجة
الثانية، فنخشى أن تجيء في مستوى أقل من مستوى الأولى. وإذا تزوجنا امرأة غير
صالحة في المرة الأولى كانت كفيلة أيضًا بأن نسيء الظن بالتي تليها، لأنه من
الجائز أن تكون أسوأ منها. حسبنا تجربة واحدة في عالم الزواج، لأن في الرجال
رجالًا لا يجرءون على أن يزاولوه مرة في العمر.»
١٧ وقد ناقش مختار (
شمس الخريف)
«حبيبته الجديدة» في خطيئة المرأة. قالت إن المسألة هي خطيئة المرأة التي غلبت
على أمرها، وموقف المجتمع منها، ودافعت عن المخطئة — هل الخاطئة هي التسمية
الأدق؟ — وقالت: إن المجتمع بازدرائه لها، يقطع عليها الطريق إلى التوبة، وإن ذلك
إهلاك للناقص بدلًا من معالجته ليصير كاملًا. وعرف مختار — فيما بعد — أن المرأة
كانت هي تلك المخطئة. كانت زوجة لرجلٍ لا تحبه، واستسلمت لغواية شاب، فلما عانت
تأنيب الضمير، انفصلت عن زوجها، وعادت إلى مهنتها — مدرسة — كما كانت قبل الزواج.
وكان مشهد خيانة زوجة الأب في
شجرة اللبلاب مع
ابن عمها محفوظ، وهو المشهد الذي فاجأ حسني حين دخل البيت ذات مساء، عاملًا
مباشرًا في نظرته للمرأة، فهو يشك في المرأة، وفي الطبيعة الإنسانية بعامة،
واتسمت تلك النظرة باستاتيكية عقيمة، حيث حاول أن ينتقم من شخص زوجة أبيه في جنس
المرأة جميعًا؛ وراحت الفتاة التي ألقت بها المصادفات في حياته ضحية لتلك
النظرة.
ولعل مبعث سيطرة الشك على علاقات الحب في غالبية أعمال عبد الحليم عبد الله،
تلك الحادثة القديمة، حين شاهد — وهو طفل بعد — خادمتهم الجميلة تستجيب للغزل غير
البريء، فلم يذهب ذلك من نفسه. أصيب — مثل بطل
شجرة
اللبلاب — بالتشكك، وأصبحت علاقة المرأة بالرجل — في نظره — علاقة
غامضة يحجبها دخان، وأصبح كأنه مريضٌ بازدواج النظر، يرى الشيء الواحد شيئين
اثنين، لا يرى الزوجين رجلًا وامرأة فحسب، وإنما يراهما رجلين وامرأتين. لذلك،
فثمة الشاب (
شجرة اللبلاب) الذي عانى الشك في
علاقته بفتاته لأنه صُدِم في خيانة زوجة أبيه، والزوج (
غصن
الزيتون) الذي شكَّ في زوجته لأنها كانت تعرَّفت إلى زميله، وأسلمت له
نفسها، والزوج (
البيت الصامت) الذي ظل شكُّه في
زوجته لأنه وجدها غير عذراء. وكانت المشكلة الخطيرة التي واجهت الراوي (
شمس الخريف) في علاقته بالسيدة «ف» أنها اعترفت له بأنها
كانت زوجة لم تثبت أمام الإغراء فزلَّت، ورغم أنها هجرت زوجها باختيارها ثمنًا
لهذه الخطيئة «فذلك أكرم وخير من أن آكل في بيت زوجي طعام صدقة» … «كان من الجائز
أن يغفر لي — الزوج — لكنني لم أشأ أن أستغل طيبته إلى هذا الحد.»
١٨ لكن ضمير الراوي لم يغفر للزوجة التائبة؛ أصبحت مشكلته أنه أحب امرأة
لها ماضٍ سيئ، عبد صنمًا ليس أهلًا للعبادة!
١٩ وفكر أن يرد رسالتها بالبريد مختومة غير مفتوحة «لتعلم مدى عزوفي من
تتبُّع قصتها، ولتشعر أنها من المهانة في مكان جعلني لا أعنى بأخبارها.»
٢٠
وصل الراوي في
شجرة اللبلاب — بتصوراته — إلى
نتيجة اعتبرها بديهية، هي أن الحب امرأة تتغذَّى برجلٍ في وضعٍ من الأوضاع، بجسده
أو ماله أو شخصيته، أو بجاهه، أو بعواطفه.
٢١ وبعد أن انتقل حسني للحياة في القاهرة لمواصلة تعليمه الثانوي، ظلَّت
النظرة المحددة في موضعها. وراح يوازن بين الزوجة في الأسرة التي استضافته وبين
زوجة أبيه، بتأثير شعورٍ غلَّاب أن وراء كل زوج رجلًا غريبًا يتوارى خلف جدار، أو
ستار.
٢٢ والغريب أنه صادف الزوج — يومًا — برفقة امرأة غريبة، فلم يناقش ما
يقع على الرجل من تبعة في هذا الموقف، واكتفي بأن تساءل في أسًى: لم هذا؟ هذا
غريب! هذه المرأة متزوجة ولا شك! أكذا يا رب كل النساء خائنات! «وهكذا فرضتها
متزوجة قبل أن أرى وجهها.»
٢٣ حاول حسني — طيلة فترة صداقته لزينب — أن يطرد من ذهنه تلك الفكرة
المتعصبة عن المرأة، وكانت ابتسامة الفتاة الهادئة الراضية تذوي الفكرة شيئًا، ثم
لا تلبث الفكرة أن تعود وتتجسد، عندما تفرض صورة أم ربيع نفسها — ربما بلا مبررٍ
— و«أسارع إلى رداء التعصب فأرتديه، وأخضع بعد ذلك لجلال الصنم.»
٢٤ وكان بوسع العلاقة — باطراد وجهيها — أن تصل إلى مرفأ آمن في
النهاية، لولا أن الفتاة أسلمته نفسها في ليلة حب دافئة، فتيقظت في نفسه — بعدها
مباشرة — كل الصور التي توهَّم أنها ماتت.
٢٥ وأخفقت كل محاولات الفتاة لاسترجاعه، فأقدمت على الانتحار، وماتت،
فغيَّرت الصدمة العنيفة من طبيعة تفكيره تمامًا، وأقبل على الحب، فالزواج، بنفسٍ
متسامحة غير شكَّاكة (لعله منطق الرواية لا منطق الفنان!)، ويقول له أحد أصدقائه
«لقد جاهدت زينب طويلًا حتى فتحت قلبك، ثم خرت صريعة في الميدان، لقد ماتت شهيدة،
وها هي ذي فتاة أخرى تتمتع بميراثها العظيم.»
٢٦
وبصرف النظر عن أن تلك النظرة الأحادية هي نظرة المجتمعات الشرقية بعامة إلى
تصرفات كل من الرجل والمرأة. فالخطأ يكاد يكون حقًّا للرجل، وشبهة الخطأ —
بالنسبة للمرأة — جريمة يصعب التهوين منها، وعلى حد تعبير الفنان فإن كلمة
«العشيق» أليمة جدًّا عندما تصفع الزوج لأول مرة.
٢٧ أقول: بصرف النظر عن تلك النظرة الأحادية، فقد كان المنطلق الذي تصدر
منه أفكار الشاب وتصرفاته، تلك الحادثة القديمة التي فاجأ فيها زوجة أبيه في عناق
ابن عمها. ويضع الراوي أيدينا على «الحالة» بعباراتٍ محددة: «وقد كان من الجائز
جدًّا ألَّا تسجل ذاكرتي، وألَّا يعي انتباهي شيئًا مما رأيته في القاهرة لو أن
عيني لم تتفتَّحا على ما اقترفته أم ربيع.»
٢٨ وعلى الرغم من قناع البراءة الذي ألبسه الفنان عزيزة في قصة
ثمرة الخوخ، فإنها — بلا جدالٍ — تُعَد نموذجًا
غريبًا، بل شاذًّا، للفتاة الريفية. إنها تعلم من حبيبها علاقته بأكثر من فتاة في
القرية، لكنها تظل تطارده بنظراتها، وكأنها تقول: «واشمعنى أنا؟» حتى كانت ليلة
شتوية التقيا فيها في بيت عجوز على حدود القرية، وغادرت عزيزة البيت وقد فقدت
عذريتها، ثم هجرت أسرتها — فيما بعد — ببساطة شديدة، وعملت خادمة عند إحدى الأسر
في المنصورة، ثم عند أسرة أخرى في القاهرة، ما لبثت أن قامت بينها وبين أحد
أبنائها علاقة جسدية.
ربما يبدو هذا النموذج مغايرًا لصورة المرأة في الريف المصري الذي يحسن محمد
عبد الحليم عبد الله معرفته، لكن تلك — إلى حدٍّ كبير — نظرة الفنان إلى المرأة،
وهو ما يناقض رأي الأب مونو بأن عبد الحليم عبد الله يقدم المرأة في صورة
إيجابية، وإن صوَّب هنا وهناك — على حد تعبيره — نقدًا حادًّا للطبيعة الأنثوية،
«إنه ينأى — في غير لبْسٍ — بحرية المرأة.»
٢٩
وبعد أن طلَّق أحمد عبد الجواد زوجته — أم ياسين — لمجرد أنها لم تنصت لأوامره،
تحددت أحلام عبده أفندي (
البطل) في أن ينسى
الجميع خيانة زوجته له، وتعود إلى بيته، لتبعث فيه الدفء «ابعد عني يا أخي أنت
الآخر! من أدراك أني بطل؟ هل ستأتي إليَّ كل يوم بعد خروجي من الديوان، وتُعِد لي
طعامي؟ وهل ستقدِّم لي امرأتك لتدفئ لي فراشي كما كانت تفعل بدرية كل ليلة؟ إنها
كانت تفعل لي كل ما تعودت عليه، وتقدم لي كل ما كنت أشتهيه. كانت حياتي الفقيرة
الخالية من كل بهجة غنية بها. حتى ولو كانت خائنة؟ حتى ولو كان قلبها يتسع لعشرات
الرجال.»
٣٠ وإذا كان
البطل في قصة محمد حافظ
رجب قد تمنى أن ينجلي كل شيء عن عودة زوجته الخائنة إلى بيته، فينسى — والناس —
خيانتها، فإن ذلك ما فعله الزوج في قصة
الخوف
الكبير لسعد مكاوي. غفر لزوجته خيانتها، ودفن الماضي إلى غير رجعة،
وتذوق نشوة الرحمة حين حطم في نفسه كلَّ أثر للكبرياء.
٣١ ويهبنا إحسان عبد القدوس نموذجًا غريبًا لزوجة أقدمت على الخيانة،
وصفح عنها زوجها، وحاولت المرأة أن تفرح بالصفح، وتحمد الله، لكن فرحتها كانت
باهتة كضوء مصباحٍ خالٍ من الزيت ما لبث أن انطفأ، وحلَّ محل الفرحة شعور آخر
غريب، لم تستطع أن تفسره في بادئ الأمر، لكنها عرفت — شيئًا فشيئًا — أنه شعور
بالاحتقار، لم تكن تحتقر نفسها، وإنما كانت تحتقر الزوج الذي صفح، فلم يقتلها،
ولم يطلقها. واشتد احتقار الزوجة لزوجها حتى لم تعد تطيقه، وفتشت عن وسيلة تقاوم
بها هذا الشعور لتستطيع أن تعيش في بيت الرجل الذي تحتقره، ووجدت الوسيلة في
العودة إلى الخيانة!
٣٢ أما دولت (
دولت) فقد وجدت الخيانة
أمرًا عاديًّا، لأن زوجها لم يكن يرتفع إلى مستواها الطبقي، بينما العشيق من
المستوى نفسه.
٣٣ وثمة العديد من المواقف القصصية والروائية، يفاجئ فيها الصديق صديقه
وهو يختلي في علاقة محرمة مع زوجته.
٣٤
•••
كانت مرافعة الدفاع في قضية جريمة الزنا التي قُدِّم بها حسين باشا شاكر
(
شيء في صدري) إلى المحاكمة، تتحدد في أن الدين
الإسلامي استثنى هذه الجريمة من بقية الجرائم، واشترط لثبوتها أربعة شهودٍ من
الرجال، أي أنه تكفي شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، لثبوت جريمة قتل. أما في
جريمة الزنا، فيجب أن يشهد أربعة رجال. معنى هذا أن الإسلام لا يعاقب على الزنا
في ذاته، لا يعاقب الرجل والمرأة عندما يتبادلان جسديهما، لمجرد أنهما تبادلا
جسديهما، بل يعاقبهما إذا انقلبت جريمتهما إلى فعلٍ فاضحٍ؛ إذا تمَّت هذه الجريمة
أمام جمهور لا يقل عدد أفراده عن أربعة أفراد … رجال!
٣٥ أما المسيحية، فهي تفترض تلك الخطيئة في كل الناس، حتى لقد قال
المسيح — حين لجأت إليه مريم المجدلية والناس تَرجُمها بالحجارة — من منكم بلا
خطيئة، فليرمها بحجرٍ! كل الناس إذن يرتكبون الجريمة نفسها، فلا عقاب إلا إذا
عوقب كل الناس!
٣٦ أما القانون، فإنه يشترط لثبوت الجريمة ألَّا يتنازل الزوج عن حقِّه،
باعتبار الجريمة في حق الزوج وحده، وليست في حق المجتمع؛ فإذا تنازل الزوج فلا
جريمة، ولا حكم، ولا محكمة!
٣٧
•••
ولكن: ماذا لو أخطأ الرجل، وخان زوجته؟
أذكر أني شاهدت فيلمًا يحيط فيه الزوج المحارب بطن زوجته بحزام العفة؛ تساءلتُ:
هل يمكن أن يصل الخيال — في أقصى امتداداته — إلى تصور حزام عفة الرجل؟!
القانون المصري يبيح الخيانة من جانب الرجل بشرطٍ واحدٍ فقط، هو أن تحدث
الخيانة في غير بيت الزوجية، فإذا زنى الرجل في بيت الزوجية عوقب بالحبس مدة لا
تزيد على ستة أشهر. أما الزوجة التي تثبت عليها واقعة الزنا — بصرف النظر عن مكان
الواقعة — فيُحكَم عليها بالحبس مدة لا تزيد على السنتين! وكما تقول إنجي
أفلاطون، فإن القانون الوضعي المصري يبيح الزنا للرجل «وإذا قلنا يبيحه، فالأجدر
بنا أن نقول: يشجعه ويحبِّذه، وليست هذه الإباحية سوى تطبيق منطقي لعدم المساواة
بين الرجل والمرأة، وللإجحاف الشديد بحقوقها وكرامتها وشخصيتها، فالرجل الذي لا
يكتفي بشراء أربع إماء يشبع فيهن نزواته وأنانيته، أو يعجز عن استيفاء هذا العدد
المباح من الإماء، يستطيع أن يتخذ العشيقات والخليلات، وقتما شاء، وأينما
شاء.
٣٨ وعندما بدأ فكري أفندي مأمور التفتيش (
الحرام) في البحث عن أم الجنين الذي عثر به الخفير عبد المطلب على
جانب الجسر، فإنه لم يفكر — في الوقت نفسه — في أن يبحث عمن يكون الأب، ذلك لأن
الحرام في الرجال معقول ومقبول، أما الحرام في النساء، فأمر يصعب عليه تصديقه،
لأن —الرجل دوره في الحرام طياري، أما المرأة فدورها أساسي.»
٣٩ وتسأل الزوجة راهب الفكر (
الرباط
المقدس): لماذا لا تتكلم بهذه الحماسة عن خيانة الأزواج؟
– إني لم أبح للزوج أن يخون زوجته!
– فإذا خانها، أليس لها الحق أن تخونه؟
– لا!
– النغمة القديمة التي نسمعها من الرجال!
تبيحون لأنفسكم ما تحرِّمون علينا لأنكم أنتم السادة ونحن الإماء!
٤٠ ويبرر الزوج خيانة الرجل بأنه يخون من جيبه، بينما المرأة تخون من
جيب زوجها! وهو ما يفرض السؤال: هل من حق المرأة العاملة أن تخون زوجها، من
جيبها؟! وتعلن الزوجة دهشتها: «إني لأعجب لهذه الفضائل والأخلاق التي تحلِّل لهم
ما تحرِّم علينا، وتغفر لهم ما لا تغفره لنا أبدًا نحن النساء
الضعيفات.»
٤١ تضيف الزوجة في تأثُّر مستاء: «يا لله! ما أقوى ذلك الرباط المقدس
عند الرجل! إنه — في الحقيقة — رباط الرجل بطفله، وإن منبع القداسة فيه ذلك الدم
الذي يجب أن يجري بينهما نقيًّا، فإذا تلوث، أو تدنس، أو داخله الغش، أو خالطه
التدليس، أو مرَّ عليه شبح الشك والارتياب، فإن الرجل قلما يحتمل ذلك، هذا ما لا
تفهمه المرأة، لأن كل طفل يخرج من بطنها هو لها، دون حاجة إلى أن تفرز أو تميز
بين دم ودم! ولهذا قَل أن تدرك معنى لقداسة ذلك الرباط.»
٤٢ ونحن نلحظ أن المرأة — أقصد المرأة العاملة التي تنتمي إلى الطبقة
الوسطى وما دونها — يرهقها العمل داخل البيت من طبخٍ وتنظيفٍ وتربية أطفال
«وتهيئة الجو — على حد تعبير هيام نويلاتي — كي لا يخرج الزوج من البيت إلى امرأة
ثانية.»
٤٣ وفي قصة
امرأة مخدوعة ليوسف
السباعي، تنازلت المرأة عن كل تطلعاتها إلى العش الهانئ وفتى الأحلام المثالي،
لقاء زواجها بإنسانٍ طيب، لكنه أقدم على خيانتها — ببساطة — مع جارة لهما،
وتتساءل في أسًى: «أَكُل الرجال ذلك، من نفس المعدن الخبيث والطينة
القذرة؟!»
٤٤ مع ذلك، فإن البعض — إذا أخطأ الزوج — يدين الزوجة، لأنها — في
تقديره — أهملت العناية بنفسها، وجعلت زوجها لا يقبل عليها، ويلتفت إلى سواها،
ولولا ذلك ما أقدم الزوج على فعلته! وتفاجئ الزوجة (
المسافة والتحول) زوجها وهو يمارس الجنس مع صديقتها، ويتحدد رد الفعل
في هذه الكلمات «حاول أن يعيد على مسامعها الأعذار: أنت ملاذي الوحيد الذي أسرع
إليه كلما انتابني الشعور بالضياع. في أحضانك أمتلك العالم بأسره، وفوق صدرك أنسى
كل همومي … أقفلت في وجهه السماعة؛ إنه لا يستحق حتى مجرد الكلمات، لقد وضعت
بينها وبينه سدودًا منيعة لن تندم عليها.»
٤٥ وثمة الزوجة (
أرصفة السأم) التي
انصرف زوجها إلى مباذله، فأقدمت على خيانته في حضوره وغيابه، وانتهت الزيجة
بالفشل، وبضياع الزوجة.
٤٦
•••
الشرف هو عرض المرأة، نحن ندعو للفتاة: الله يستر عرضك، وللرجل، زوجًا وأبًا:
الله يستر ولاياك، أو: الله لا يفضح لك عرض، أو: الله لا يفضح لك ولية. والدلالة
واضحة في قول الزوجة في
أسمار الببغاء: «الزوجة
الصالحة لا يستطيع أن يخدعها أي رجل، والزوجة الفاسدة لا يستطيع أي زوج أن
يصونها.»
٤٧ وعندما تفرُّ الفتاة من أهلها وبلدها، فإن التقاليد تحتم أن يسافر
ولي أمرها في أثرها، لا يعود حتى يعثر عليها، فيقتلها، وينتقم لشرفه. ذلك ما فعله
خال آمنة (
دعاء الكروان) عندما تركت القرية
سعيًا للانتقام من المهندس الزراعي الذي أفضت غوايته لأختها هنادي إلى قتلها، وهو
ما طالب به الشيخ جاد الله (
القضبان) حنفي
أفندي عندما اختفت ابنته زكية من القرية.
٤٨
ولعله يمكن القول إن
البيت الصامت — رواية
محمد عبد الحليم عبد الله — كانت ستخلو منها قائمة مؤلفاته، لو أن عذرية الفتاة —
أية فتاة — فضلًا عن خلو ماضيها من كل صفحات التجربة، لم تكن هَم الفنان في
غالبية أعماله. والباعث تجربة الفنان الشخصية التي صارت العجينة التي شكَّل منها
أكثر من شخصية روائية في
شجرة اللبلاب
و
شمس الخريف و
غصن
الزيتون و
البيت الصامت وغيرها. وكما
يقول يوسف الشاروني، فإن أبطال روايات عبد الحليم عبد الله يبدون اهتمامًا شديدًا
بعذرية الفتاة، تتحدد على أساسه علاقاتهم العاطفية، وبعضهم لا يسامح في ذلك
أبدًا، مهما أُبدي له من الأسباب والتبريرات.
٤٩
إن مفهوم الفنان للشرف يتحدد من زاوية محددة، وهي حرص الفتاة على بكارتها، فإذا
أسلمت نفسها لرجلٍ، أو اعتدى عليها رجل، واستلب منها ذلك الشيء الغالي النفيس،
فإنه يصبح أمرًا يصعب التغاضي عنه في كل الأحوال. وكما يقول الفنان (
المرايا) فإن «تلك الهفوة» — فض البكارة — مما لا يُغتفَر
إطلاقًا.
٥٠ وقد لمح صالح (
بعد الغروب) لصديقه
عبد العزيز أن يجعل من فتاته امرأة، يصبح زواجه منها أمرًا محتمًا.
٥١ وكان خدش بكارة ليلى بداية انعطافٍ حادٍّ في حياتها جميعًا؛ عانت من
الفرار من عقاب أبيها، ومن الضياع والفقر والتشرد، حتى أتيح لها أن ترسو — مصادفة
— على بر النجاة.
٥٢ وإذا كان الانحراف هو الدرب الذي سارت فيه عطيات (
غصن الزيتون) فالواقع أن عبده هو الذي دفعها — بشكوكه
الصامتة والمعلنة، وإهاناته المتكررة — للسير في ذلك الدرب. كان عبده هو أول من
ذاقت عطيات اللذة معه كامرأة وليست كفتاة، لكنه ظل — حتى طلقها في النهاية — ينقم
على نفسه، وعليها، تبديد ذلك الشيء الغالي النفيس في غير أوانه:
٥٣
– هل أصبح من العار عندك الآن أني وهبتك في إحدى الليالي أعز ما تملكه
فتاة؟
– لا، ليس في ذلك عار. العار في أنك أعطيته لأول رجل صادفك في الطريق.
– أول رجل؟!
وإذا كانت «البكارة» هي رمز عفة الفتاة في شرقنا العربي، فإنها تجاوز — في
أعمال محمد عبد الحليم عبد الله — ذلك الرمز، لتصبح أقرب إلى الطواطم الأسطورية
التي تعد الإساءة إليها جرمًا يستحيل غفرانه. الحكاية — فيما رواه الفنان نفسه —
خادمة رآها وهي تسلم شفتيها إلى رجلٍ غريبٍ، وكبر الطفل دون أن يزايل المشهد
ذهنه، بل إنه ما لبث أن تجسد — بصورة وبأخرى — في شخصياته الروائية والقصصية. ثمة
امرأة تهجر الناس والحياة، وتركن إلى اليأس، لأنها أخطأت — يومًا — وأسلمت جسدها
إلى رجلٍ غير زوجها (شمس الخريف)، وشاب شكَّاك
بتأثير حادثة قديمة ترسَّبت في وعيه (شجرة
اللبلاب). وهو لم يجاوز تلك النظرة المحدودة، المحددة، حتى أعماله
التالية مثل البيت الصامت، فكل مشكلة البطلة
أنه قد اعتدى عليها رجل، فلم تسلم من شك زوجها، ومن سخطه.
لم تكن المشكلة في البيت الصامت — تحديدًا —
تستحق التكرار الممل، في ظروفٍ اجتماعية متغيرة، خرجت فيها المرأة إلى العمل،
وأصبحت العلاقات العامة — والخاصة — بين الرجل والمرأة، ظاهرة، إن لم تكن طبيعية،
فهي — في الأقل — ليست مرفوضة، بل لعلَّنا نزيد في تحديد الصورة — القائمة بالفعل
— فنشير إلى حبوب منع الحمل التي تباع على الأرصفة، وإلى سهولة تردد المرأة على
الطبيب للإجهاض، أو لإعادة صورة العذرية بعملية جراحية بسيطة.
وإذا كان الحجاب واحدة من أخطر القضايا في أوائل القرن العشرين، تجد انعكاسًا
لها في أعمالٍ فنية ودراسات، فإن صوت القضية قد خفت — فيما بعد — إلى حدٍّ كبيرٍ،
لا لسببٍ إلا لأنه لم يعُد من المحتم على المرأة أن ترتدي الحجاب (كان الحجاب قد
اختفى بصورة واضحة منذ عشرينيات القرن العشرين، ثم أعادت الراديكالية الدينية
طرحه بشعاراتٍ ونداءات وملصقات على الجدران، منذ عقدت صلحها الأشهر مع أنور
السادات). يقول الفنان (
شيء في صدري): «هذه
عقلية نساء الطبقة الوسطى؛ كل ما يخفن عليه هو النصف الأسفل، كأن الشرف له مناطق
محددة، وما يحدث خارج هذه المناطق مباح، لا يمس الشرف.»
٥٥ أتذكر المثل القائل: «احضن وبوس، وابعد عن …» ومكان النقط كلمة نابية
مسجوعة! وربما أن عذرية الفتاة لم تَعُد من القضايا التي تشغل بعض قطاعات
المجتمع، وأن قطاعات أخرى أميل إلى التسامح، باعتبار أن المستقبل هو ما يجب أن
تحرص عليه الزوجة، أما الماضي فمن حقها أن تحتفظ به ما دام لا يلقي ظلًّا على
الحاضر والمستقبل، وحتى تلك القطاعات التي تحرص على إعلان عذرية ليلة الزفاف، تغض
النظر — أحيانًا — عما قد يتردد أن العروس في الليلة السابقة، أجرت عملية جراحية
بسيطة استردت بها عذريتها، وأن ما حدث قبل العملية لم يكن لسوءٍ في خُلق العروس
بقدر ما كان لظروفٍ قاسية تعرَّضت لها. وأظن أن الأب يختلف هنا عن الأب في قصة
يحيى حقي
البوسطجي، والخال في رواية طه حسين
دعاء الكروان، والشقيق في رواية نجيب محفوظ
بداية ونهاية. الذكر، العائل، في هذه الأعمال
هو الذكر، العائل، الذي يرفض ذبح فتاته الخاطئة، ويصحبها — بدلًا من ذلك — إلى
المحكمة لإثبات النسب، نسب الجنين في بطنها للشاب الذي شاركها فعل الخطيئة! وحين
تحمل الفتاة (
ما فعلته اليمامة حين داهمتها
المنايا) سفاحًا، فإنها لا تخشى ثأر الأسرة لشرفها، فهي تذهب بصحبة
أمها، أو بعض أقربائها، إلى الطبيب ليجهضها. وتطلب الأم من ابنتها أن تنسى ما
مضى؛ فالحب تجربة مثلها مثل غيرها، والعاقل من يعرف متى يبدأ، ومتى ينتهي. وتقترح
عليها الزواج من ابن عمها، وهو اقتراح يعمِّق المغزى!
٥٦ بل إن التأكد من شرف الفتاة، احتفاظها بعذريتها، لم يعُد — عند بعض
الأسر — يمثِّل مشكلة ما؛ ثمة نساء عملهن مداراة تفريط الفتاة في عذريتها، بحيث
تُزف إلى عريسها، فلا يخالطه شك أن زوجته قد حافظت على شرفها!
٥٧ وقد دفعت دولت (
ثم تشرق الشمس)
مبلغًا من المال لتعود فتاة كما كانت على يدي الحاجة توحة.
٥٨ ويبيِّن تغيُّر النظرة إلى مفهوم الشرف والخيانة والشك والانتقام عند
بعض المثقفين، في قول روحية إن «الرجل لا يغفر قطُّ لامرأة زلَّت، مهما كان
متسامحًا وكريمًا، بل يحتقرها في أعماق نفسه.»
٥٩ وفي قول القاضي إن قتل الزوجة التي تخون زوجها هو من صنع عامة الناس،
وليس صنع أمثاله!
٦٠
كان أول ما قاله سلامة بعد أن اكتشف فقدان درية للؤلؤة التي تملكها كل فتاة —
والتعبير للفنان — إنها مصيبة! وحين لاذت درية بأمها التي كانت قد روت لها ما حدث
منذ اثني عشر عامًا، فاجأتها المرأة بأنها قد نسيت كل شيء، ولم تعُد تذكر إلا أن
ابنتها قد فرَّطت في شرفها! ودعت درية — بينها وبين نفسها — أن تُعفى البنات من
غشاء البكارة، فلا يواجهن الفضيحة!
وعلى الرغم من أن سلامة ناقش المسألة مع نفسه، وبدأ يميل إلى تصديق درية، وأنها
— لو شاءت أن تخدعه — كان يمكنها ذلك، بأن تستدرجه بعد عقد القران ليرتكبا عملًا
تتمسَّح به فيما بعد، فإن التقاليد حددت أسلوب تفكيره، وعلى حد تعبير الفنان، فقد
«أحرجه العرف والمخاوف!» فهو حين يخرج يده من جيبه ببضعة قروش مثقوبة، يعني
الحالة التي كانت عليها درية ليلة الزفاف، وهو يجبرها أن تكون إناء لذة يرتوي
منه، ثم ينصرف عنه وهو يلعن، أو كما وصفته هي «حوَّلها إلى حديقة لنزهته الشخصية،
فليس هناك ثمار»، وهو — في كل الأحيان — يبدي تشكُّكه في سلوكها، في الماضي، وفي
الحاضر، ولا يطمئن إلى المستقبل، ويحرص على تخويفها، ويحاصرها في دائرة المهانة
دون أن يتوقع ردَّ فعلٍ من أي نوع، ولما فاضت بها المرارة، أبدى اندهاشه، وقال:
لماذا إذن كانت الطيبة تبدو عليك؟
والحق أن رجالًا كثيرين كانت مواقفهم تختلف مع موقف سلامة. الجار — مثلًا —
يدعو عليه، على سلامة، بأن يظلمه الله، والحاج يحيى يناقش درية أن تعنى بنفسها،
وحسن شيحة يعرض عليها الزواج، رغم أن الرجال الثلاثة كانوا يعرفون تفاصيل ما
حدث.
كانت المعاملة القاسية التي تعرَّضت لها درية من زوجٍ يؤمن بأن الخطيئة حقٌّ
للرجل وحده، وأن عذرية الفتاة حتى ليلة الزفاف، شرط لكي تحيا … كانت تلك المعاملة
هي الدافع الحقيقي لأن تزلَّ درية بإرادتها، للمرة الأولى في حياتها! (ونتذكر —
مع الفارق — مأساة سقوط سناء في رواية يوسف إدريس
العيب!) ومثَّلت شهرت (
قاع
المدينة) حلًّا جنسيًّا لمشكلة الأستاذ عبد الله القاضي، كان يعلم
تمامًا لماذا طرح الفكرة على فرغلي، ولم ينظر إليها، حتى جاءت كخادمة «وأحسَّ
بخجلٍ حين رآها ترتدي ملاءة لف»
٦١ وبدأ في «التكتيك» لينالها منذ اللحظة الأولى لعملها. راح يتأمَّل
ملامحها، يحادثها، يفصح شيئًا فشيئًا عن نيَّاته، يضع يده — متظاهرًا بالعفوية —
على كتفها. ولما غادرته — في اليوم الأول — سأل نفسه: كيف لا يقدر على امرأة
مثلها؟ ثم نالها — بالقسر — في يومٍ تالٍ «حاولت أن تتملص وتقول: أنا في عرضك،
وأنا في طولك، والنبي، ولم يأبه هو بهذا، ولا لمقاومتها، وفي الحقيقة أتعبته
كثيرًا حتى أجبرها على السكوت.»
٦٢ أما شهرت، فقد كان الأستاذ عبد الله بداية المأساة التي انتهت بها
إلى تغيير اسمها، والوقوف تحت أعمدة النور، وفي محطات الأوتوبيس، وتقديم جسدها
لمن يدفع. والواقع أن الاستجابة الجنسية لم تكن دافع شهرت، حتى في توالي العناق
بينها وبين الأستاذ عبد الله، وفي تبادل الكلمات التي تعلن — أو تضمر — حبًّا،
فعندما حاول أن يختبر حبها، وخصم من مرتبها جنيهًا، امتنعت عن المجيء، ثم جاءت؛
ساقتها بطالة الزوج وجوع الأطفال (ونتذكر عزيزة
الحرام!) ثم لم تعُد تتردد — للحصول على ما ترى أنه حقها — في سرقة
ساعة الأستاذ عبد الله. لكن المريض الذي ينشد العلاج في جسدها، والفقر الذي أمات
طفلتها الصغيرة، بدَّلا شيئًا فشيئًا من طبيعة شهرت «كانت أيام أن جاءت امرأة
مصرية بلدي، ينظر في وجهها فلا يجد فيه غير زوجة لها أولاد، وإذا به يراها الآن:
أجزاء قد غارت من ملامحها، وأجزاء برزت، وعيناها داخلتان في وجهها وحولهما دوائر
وعلامات غير بريئة، علامات تدل على نحول أصحابها، حتى ابتسامتها لم تعُد بسيطة
ساذجة كعادة ابتسامتها، أصبحت تحمل جزءًا صناعيًّا ملحقًا بها
ومفتعلًا.»
٦٣ ثم استبدلت شهرت البلوزة والجوب بالملاءة اللف، وأنشأت علاقات أخرى
مع أناس آخرين، وقالت له يومًا في مباهاة: الناس بيقولوا إني أنفع في السيما! لكن
المسئولية — ابتداء — في محاولة الأستاذ عبد الله أن يعالج أزمته الجنسية من خلال
إقامة علاقة طارئة مع امرأة «بلدي»، ثم في الظروف المادية القاسية التي تدفع
المرأة إلى التخلي عن مقاومتها، ثم تلاشي تلك المقاومة بالتدريج، حتى تقف يومًا
في الطريق، تنتظر من يلتقطها!
•••
شكري عياد يناقش القضية من وجهة نظر لافتة، فهو يلاحظ تطور عبد الحليم عبد الله
في أعوام إبداعه — وحياته — الأخيرة. يقارن بين روايتَيه لقيطة والبيت الصامت. البطولة في كلتا الروايتَين لامرأة، وكلتا
المرأتين ضحية، لكن اللقيطة هي ضحية ظروف لم تكن تملك تغييرها، بل ظروف وُجدَت
قبلها هي. أما بطلة البيت الصامت فهي ضحية ظروف
ساعدت هي في خلقها، وكانت — إلى حدٍّ ما — تملك تغييرها. واللقيطة تنقلب حياتها
تحت تأثير مصادفات، منها الطيب ومنها التعس، إلى أن تموت ضحية كما وُلدَت ضحية.
أما درية فإنها تكافح بإصرارٍ — يكاد يبلغ في مراحله الأخيرة حدَّ الشراسة —
قدرها الذي صنعته بيديها، أو في الأقل ساعدت في صنعه، حتى تموت كما يموت الجندي
في المعركة.
وكما قلنا، فمن الواضح أن القضية شغلت الفنان، إلى حد أنه عاد بها إلى آدم
وحواء، وتساءل — من خلال درية —: هل كانت حواء حقيقة مخلوقة بدون هذا الشيء الذي
نقصها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يرثها بناتها؟
هوامش