التجمع
(١) الدرجة الأولى: التجمع الذري
قلنا آنفًا: إنَّ الحركة في الحيز من جوهريات عناصر الوجود، فالفوتونات تحركت مُتجاذبة فتجمعت في جماعاتها، والتجاذب طبيعة فيها، أو هو سجيتها كما خمنَّاه؛ إذ لم نجد له سببًا غير هذا. فكيف تجمعت مبدئيًّا على شكلين: كهرب وكهيرب؟ لماذا لم تتجمع مبدئيًّا على شكل واحد أو ثلاثة أشكال أو أكثر؟
هذا ما يتعذر علينا فهم سببه: على أنها لو تجمعت على شكل واحد لما تنوعت مُركباتها، فحدوثها على شكلين كَفَل تنوعها، ولا لزوم لتجمعها على ثلاثة أشكال أو أكثر، ولو تعددت أشكالها لتفاقمت أنواعها جدًّا.
نكاد في تحدد تجمعها على شكلين فقط: كهرب وكهيرب، لا شكل واحد، ولا ثلاثة أشكال أو أكثر؛ نلمس المنظم الحرَّ الإرادة الحكيم التدبير.
(١-١) التجمع البسيط: تكون البروتون «الكهرب»
(١-٢) التجمع الأبسط: تكون الكهيرب «الإلكترون»
هكذا تكوَّن البروتون. فكيف تكوَّن الكهيرب — الإلكترون؟
الكهيرب هو جماعة فوتونات — ١٠ آلاف فوتون — كانت منجذبة إلى مركز البروتون مع ما انجذب إليه من الفوتونات، ولكن قوَّة التشريد عن المركز أبعدتها عنه، وجعلها التموج الأيثري الحادث من دوران الكهرب المحوري تدور حول الكهرب على بُعد مناسب حسب قانون التسارع؛ فتجاذبت في فلكها وتجمعت في الجماعة التي نُسميها: كهيربًا، وهي بنوبتها تدور حول مركز الكهيرب دورانًا محوريًّا أيضًا، ودورانها هذا مع دورانها في فلكها جعلها أقل كثافة من الكهرب — البروتون — بحيث تساويه حجمًا مع أنه ١٨٤٠ ضعفًا منها كتلة؛ لذلك يُعتبر الكهيرب — الإلكترون — أكثر تعرضًا للتفتت أو التفكك من البروتون — الكهرب، كما هو معلوم من أن معظم أشكال التشعُّع غير الكهرطيسي هي من صنف جامَّا. وهو فوتونات لا تعبئة كهربائية فيها.
(١-٣) التجمع المركب: تكون الذرة البسيطة
رأينا آنفًا أنَّه متى تكوَّن البروتون — الكهرب — تكوَّن معه كهيرب — إلكترون، فمن البروتون المُفرد وكهيربه تتكوَّن أبسط ذرة في الوجود وهي ذرَّة الهيدروجين، والغالب أنها أول ذرَّة تتكوَّن في بدء التجمع الفوتوني؛ ولذلك هي أكثر الذرَّات عددًا في السُّدُم المتكاثفة.
(١-٤) التجمع المركب: تكون الذرة المركبة
- أولًا: أنَّ الإلكترونات التي تحت الضغط تضعف سرعتها في أفلاكها حول بروتوناتها فتهبط إلى بروتوناتها.٣ وبسبب الضغط نفسه لا تستطيع البروتونات أن تشرِّدها عنها بقوَّة التشريد عن المركز Centrifugal؛ لأنها هي نفسها قلت سرعتها أيضًا، وهذه الحال هي ما نُسميه الحياد الكهربائي Neutrality؛ أي: إنَّ البروتون المتحد مع إلكترونه ليس في حالة التعبئة الإيجابية — هو النيوترون Neutron.
- ثانيًا: أنَّ هذا الضغط نفسه يُحدث انضمام بعض البروتونات إلى بعض، فتتداور بعضها حول بعض بحكم التموُّج الأيثري الذي يحدثه فيما بينها، وتصبح كأنها جماعة أو أسرة واحدة. يحدث هذا الانضمام بين بروتونات مختلفة في سرعة الدورة المحورية وفي الاتحاد الكهربي؛ أي: إنَّ بعضها مُعانقة إلكتروناتها وبعضها غير معانقتها، هذا الاختلاف يُسَهِّل تجمعها في أُسرة واحدة، ولولاه لتعدد تجمعها، ولكان غير مستتب.
هكذا تكوَّنت الذرَّات المُركبة من بروتونين فأكثر، وتعدَّدت حتى بلغت إلى ذرَّة الأورانيوم ذات اﻟ ٢٣٨ بروتونًا، والبلوتونيوم ذي اﻟ ٢٣٩ بروتونًا.
ووجود الأورانيوم وسائر الذرَّات الثقيلة في أرضنا يدل على أنها وُلِدَت في الشمس حين كان تكاثفها كافيًا لإنشاء ضغطٍ كافٍ لتكوين هذه العناصر الثقيلة، ولذلك نرى أنَّ مقادير هذه العناصر الثقيلة على الأرض قليلة جدًّا بالنِّسبة إلى مقادير العناصر الخفيفة؛ لأنَّ الأرض وسائر السيارات تولدت من قشرة الشمس السطحية حين لم يندفع من وسطها إلى سطحها إلا القليل النادر من العناصر الثقيلة، وكلما تقادم الجرم يشتد الضغط بتقلصه فتتكوَّن فيه ذرات عديدة البروتونات، لا وجود لمثيل لها في أرضنا. أكثف الذرات عندنا الأورانيوم ووزنه الذري ٢٣٨ وفيه هذا العدد من البروتونات والنيوترونات، ولكن في قلب الشمس من الذرات ما هو مركب من أضعاف هذا العدد من البروتونات، قد يناهز السبع مائة بروتون في ذرة واحدة، وفي بعض الأجرام أكثر من ذلك، ولا يخفى عليك أنه كُلمَّا كثُر عدد البروتونات في الذرة أصبحت عُرضة للتفكك والتشعع إذا خفَّ الضغط عنها.
وسنرى أنَّ الضَّغط لا ينتج تكوُّن الذرات المركبة فقط، بل ينتج شيئًا من الفوضى بين البروتونات والإلكترونات أيضًا، بحيث تنقطع الروابط فيما بينها في بعض الأحوال فتصبح الإلكترونات متشردة بين البروتونات بلا نظام.
(١-٥) مركب المركب
في كتابنا عالم الذرة شرحنا كيفية تكوُّن الجزيئات من ذرات مختلفة شرحًا كافيًا. فليراجع هناك.
في المركبات المعدنية لا تتجاوز ذرات الجزيء بضع عشرة، ولا تبلغ هذا العدد إلا في النادر، ولكنَّ المُركبات العضوية «النباتية والحيوانية» تبلغ ذرات بعض جزيئاتها بضع مئات، وسنلم بها في موضعها.
•••
رأينا فيما تقدم أن الجزيء مركب من ذرات، والذرة من بروتونات وإلكترونات، وهذه من فوتونات؛ أي: إن التجمع هنا خطا ثلاث خطوات، والائتلاف في كل منها شديد بحيث إنَّ المُركبات مُتماسكة في الجزيء الواحد تماسُكًا متينًا، يجعلها مُتمايزة غير مُلتبسة في التجمع الأكبر الذي يتألف منها كما سترى.
(٢) الدرجة الثانية: تجمع التجمع
يعتبر الجزيء نظامًا تامًّا قائمًا بنفسه مُستقلًّا بتحركه، وبين عناصره تجاذب تام قوي يحفظ كيانه، وإنما يحتمل أن يتفاعل مع جزيء آخر أو أكثر، فينشأ من تفاعُلهما جزيء جديد أو جزيئات جديدة أو أكثر، ولكن مهما حدث من التفاعل؛ فلا بدَّ من تجمع الذريرات في جزيئات إلا نادرًا — في بعض العناصر الراسخة كالأرجون. وكذلك لا بد من ارتباط البروتونات بالإلكترونات، إلَّا حيث كان الضغط شديدًا محدثًا فوضى.
فالتجمع الراسخ هو تجمع الفوتونات في الجزيء على ٣ درجات كما رأيت. هنا قوى التجاذب أشد جدًّا منها في التجمعات التالية.
(٢-١) التكتل
الجزيئات، والذرات التي لم تتألف بعد في جزيئات، أو لم يتيسر لها هذا التآلف، وإن كانت مُستقلة بنظامها الداخلي، فنظامها هذا لا يمنع أنها تنتظم في نظام آخر أعم وأكبر، بحيث لا يستطيع أي جزء — أو أية ذرة — أن يستقل بحيزه استقلالًا تامًّا بين ملايين أوربوات الجزيئات المجاورة له، ما دام متحركًا — دائرًا — في حيزه ككل جزيء غيره، وما دام البحر الأيثري يتموَّج بحركة كل جزيء وتصادم أمواجه كل جزيء.
فالجزيئات والذرات، بتداخل هذه الحركة الموجية، مختلطة الحيزات متبادلتها مُتجاذبة مُتدافعة حسب سُنَّة الجاذبية؛ لذلك وهي تتكون تحتشد في حيز أكبر مُتجاذبة إلى مركز واحد مُزدحمة حوله ازدحامًا تتوقف شدته: (١) على عدد الذرات التي تتجاذب متكتلة في كتلة واحدة مُستقلة عن كتل أخرى مثلها، يفصل بينها حيزات رحيبة. (٢) على قربها إلى المركز. وهذا الزحام هو سبب الضغط الذي أشرنا إليه آنفًا، وهو يُساوي عدد ذرات الكتلة مقسومًا على الشعاع — نصف القطر — ذ/ش، ونسبه في مناطقه كمربع البُعد؛ فكُلما كان عدد الذرات عظيمًا والشُّعاع قصيرًا كان الضغط أشد، وإذا راعينا الزَّمان في أمر هذا الزحام كما راعينا المكان أدركنا أن الضغط لا يستمر على وتيرة واحدة، بل يشتد رويدًا رويدًا حول المركز، وباشتداده تتآلف ذرات وجزيئات جديدة كثيرة البروتونات، كما أنه تتفتت جزيئات أخرى وتتيه إلكتروناتها بلا نظام.
حين تتكوَّن الذرَّات والجزيئات في أثناء هذا التكتل الذي نحن بصدده يحدث هذان التجمعان مُتعاصرين، فقد لا يسبقُ أحدُهُما الآخر، وإن كان ثمت سبقٌ فهو لتكوُّن البروتونات والإلكترونات، ولا يلبث أن يليه الشروع بالتكتل، وفيما يكون التجمع الأول والتجمع الثاني — تجمع التجمع — حادثين لا يفرغ الحيز من فوتونات غير متيسر لها التجمع بسبب عرقلة التجمعات الأخرى لها.
فالسُّدُم المنفصلة بعضها عن بعض هي التكتلات التي نصِفُها ونُعلل وجودها أو نشأها، وهي في أول عهدها مؤلفة خليطًا من بروتونات مجرَّدة من إلكتروناتها، ومن إلكترونات مُنفصلة عن بروتوناتها، ومن ذرات تامة التكوُّن، ومن جزيئات تامة التكون أيضًا، ومن فوتونات حائرة لم تتألف بعد، وكلما تقادم عهد السديم ازداد عدد جزيئاته وذرَّاته، وقلَّ عدد بروتوناته المُجردة وإلكتروناته التائهة وفوتوناته الخائرة.
(٢-٢) تكتل التكتل
الكتلة المُتكونة على هذا النحو، المُستقلة بحيزها، المُنفصلة من جاراتها، تكوِّن نظامًا تامًّا قائمًا بنفسه ذا مركز تتجاذب ذراته إليه من كل ناحية، ومحور تدور حوله حسب سنة التسارع.
(٢-٣) قوى روابط التجمع
نظرة إجمالية فيما تقدَّم من الشرح تُرينا السنة العامة لروابط التجمعات المُختلفة، أو تتجلى لنا فيها سُنَّة الجاذبية كأنها القوة الوحيدة التي تربط هذه التجمعات المختلفة.
نُلاحظ أنَّ التجمعات الأولى الدقيقة — الكهارب والكهيربات — أمتن من التجمعات الثابتة — الذرَّات، وهذه أمتن من التجمعات الثالثة — الجزيئات؛ ذلك لأن فوتونات البروتون أشد تقاربًا من فوتونات الإلكترون، وفوتونات الاثنين أكثر تقاربًا من الكهارب والكهيربات في الذرَّة، وتقارب هذه أكثر من تقارب الذرَّات في الجزيء، وبحسب قانون الجاذبية قوة التجاذب تشتد كمربع البعد عن المركز. وبناءً عليه أمتن التجمعات تجمع فوتونات البروتون وأضعفها تجمع الذرَّات في الجزيء؛ لذلك حل الجزيء وتفتيته أسهل من حل الذرَّة، وحل هذه أسهل من حل الكهيرب، فالكهرب، كما هو معلوم. ولذلك أيضًا نرى أن القوَّة الصادرة من حل الكهرب أعظم جدًّا جدًّا من القوة الصادرة من حل الكهيرب، إن تيسر تفتيت كلٍّ منهما، وإلى الآن لم يتيسر إلا تفتيت الذرة ثم تفتيت نواتها إلى بروتونات وإلكترونات مُتفرقة، وقد ظهر أن القوة الصادرة من تفتيت الذرة عظيمة جدًّا فما بالك في القوة التي تصدر من تفتيت البروتون والإلكترون إذا تيسر تفتيتهما صناعيًّا واعتقال القوَّة الصادرة منهما واستخدامها — وقد تيسر هذا في القنبلة الذرية كما يعلم القارئ في كتابي «عالم الذرَّة» حيث يتضح كيف أن تفتيت الذرة يصدر قوة.
نحن نعرف القوة الصادرة من حلِّ الذرة، أو بالأحرى من فصل كهيرب واحد منها ونقله إلى ذرَّة أخرى، وهي قوَّة الكهرباء التي تحولها إلى قوة ميكانيكية باستخدامها في مغنطة الحديد، وكذلك نعرف القوة الصادرة من حل الجزيء إلى ذرَّات تتبادلها الجزيئات المختلفة، وهي قوة الكهرباء الكيماوية في البطاريات، ونعرف جيدًا أن القوة الأولى أضعاف أضعاف القوة الثانية.
نُسمي النظام الذرِّي نظامًا كهربائيًّا؛ لأنَّ الذرات تتبادل كهاربها تبادلًا متتابعًا نسميه تيارًا كهربائيًّا، ونُسمي النظام الجزيئي نظامًا كيماويًّا؛ لأن الجزيئات تتبادل ذرَّاتها مقايضة، فتتحوَّل من صنف إلى صنف، ولكن هذه التسمية لا تدل على تنوُّع التجاذب بين الوحدات المُتجاذبة سواءٌ كانت فوتونات أو بروتونات أو إلكترونات أو ذرَّات أو جزيئات؛ فالتجاذب واحد فيها جميعًا، وسنته واحدة وهي ناموس الجاذبية بعينه، وإنما الفرق بين التجاذبات في هذه المذكورات إنما هو في حدة الجذب بسبب تقارب الوحدات أو تباعدها. ليس سوى هذا.
وإذا تجاوزنا النظر في الذرَّة والجزيء إلى النظر في أنواع التكتل المُختلفة نرى قوة التجاذب أصبحت أضعف جدًّا؛ لشدة تباعد الجزيئات بعضها عن بعض، ككتل الغاز وكتل السوائل وكتل البلورات وكتل سائر الجوامد، فهذه سهل حلها جدًّا، ولذلك فالقوة الصادرة من حلها ضعيفة جدًّا بالنسبة إلى القوة الصادرة من حل الذرات. حسبك أن تقارن القوة الصادرة من الآلة البُخارية بالقوَّة الصادرة من المولد الكهربائي، بمراعاة مقدار المواد المُستخدَمة لكل من العمليتين؛ فترى الفرق الهائل.
ونحن نُسمي قوة التكتل بجاذبية المُلاصقة وجاذبية الالتصاق والجاذبية الشعرية ونحو ذلك، وما خرجت عن كونها الجاذبية العامَّة بعينها، وإنما هي ضعيفة جدًّا هنا لتباعد الذرات والجزيئات جدًّا بالنسبة إلى تباعد وحدات الذرات.
وإذا انتقلنا إلى عالم السُّدُم والأجرام رأينا قوة التجاذب في منتهى الضعف بحيث تدع جسيمات الكتل الغازية مُتفرقة وكتل السدم والأجرام مُبعثرة مُشتتة، وهي أميل إلى التباعد منها إلى التقارب، كما هو معلوم من تمدد الحيز الكوني وانتفاخه، وتشتت السدم والمجرَّات في الفضاء اللامُتناهي.