الشخصية
- (١)
عملية التنظيم العام.
- (٢)
حاصل هذا التنظيم؛ أي: أطوار الأنظمة.
- (٣)
الشخصية.
انتهينا من الأولين، ولم نتعرَّض فيهما بتاتًا للثالث، وهو من الوجهة الفلسفية من الأهمية بمكان، وقد أصْبَحَ بعد شرح التفصيلين السابقين سَهلًا تبيانه بإيجاز وبوضوح.
(١) الشخصية المَادية
لِكل تجمع شخصية خاصة به تميزه عن الأجزاء التي تألف منها وعن كل تجمع آخر يختلف عن الأجزاء التي تألف منها كثيرًا أو قليلًا، بقدر ما بين أجزائه من قوة الارتباط وما فيه من عدد الوحدات.
ولكن إذا كان الرابط بين أجزاء التجمع شحنات كهربائية كان الاختلاف بين الكل وأجزائه أعظم مما ذكرنا، وصار للعدد حينئذٍ شأنٌ في الشخصية أيضًا.
فالذَّرة تختلف عن كل من البروتون والإلكترون — الكهرب والكهيرب — بكونها متعادلة الشحنة الكهربائية في حين أن البروتون إيجابي والإلكترون سلبي.
ثم إن لعدد الأجزاء شأنًا عظيمًا في الشخصية، فكل من ذرَّة الهيدروجين وذرَّة الهيليوم ذات شحنة كهربائية متعادلة، ولكن الأولى تشتمل على بروتون واحد وإلكترون واحد فقط، والثانية تشتمل على ٤ من كل من البروتون والكيهرب، فطبيعتهما تختلف كل الاختلاف؛ الأول: قابل الالتهاب — أي يتأكسد. يحترق — والآخر: لا يقبله — لا يتأكسد.
واختلاف الذرات في عدد ما في كل منها من البروتونات والإلكترونات والنيوترونات هو سبب اختلافها في الطباع والخواص، فما في الذرَّة من عدد البروتونات والإلكترونات والنيوترونات، وما يستلزمه من كمية الشحنات هو الذي يعين لها شخصيتها التي تُعْرَف بها، وهو الذي يجعل طبيعتها تتميز عن طبيعة غيرها.
وإذا انتقلنا إلى التجمعات التي يكون الارتباط فيها «إلفة كيماوية» وجدنا الاختلاف بين الكل وأجزائه أعظم مما ذكرنا آنفًا؛ جزيء الماء يختلف اختلافًا كليًّا عن كل من ذرتي الهيدروجين والأوكسجين اللتين يتألف منهما؛ يختلف في طبيعته أيما اختلاف: هو سائل وهما غازان، ناهيك عن طباع أخرى يباينهما فيها. وما من مركب كيماوي من أملاح وعضويات يُظهر فيها الجزيء شيئًا من طباع الذرات التي تألف منها؛ فشخصية أي جزيء بعيدة كل البُعد عن شخصية أي ذرة من ذراته، شخصية السكر مثلًا تختلف عن شخصية كل من الكربون والهيدروجين والأوكسجين.
(٢) الشخصية الحيوية
نتقدم إلى الخليات الحيوية التي يشترك فيها الرابط الحيوي «للمبدأ الحيوي المجهول» مع الرابط الكيماوي في إدماج الجزيئات المُختلفة في جسم خلية، فنجدُ أنَّ الشخصية الحيوية لا تقلُّ تأثيرًا عن الشخصية الكيماوية، فحينَ تطلع على ظاهرات الخلية من الوجهة الهيستولوجية — أي: تكونها الطبيعي — لا يتمثل لك دهنها وزُلالها ونشوياتها، وإنما تتمثل لك نواتها وقناتها المحتوية على سائلها — بلاسما — وغلافها وتيار سائلها … إلخ، ولا تبدو لك طبيعة الخليات التي تتألف الخلية منها إلا في التحليل المعملي الذي تنحل فيه إلى جُزَيئاتها.
فالخلية بعيدة في السجية والطبع عن الجزيئات التي تتألف منها، مع أنَّ شخصية كل خلية تتوقف على أنواع الجزيئات التي تتألف منها، وعلى عدد ما فيها من كل نوع؛ هذا ما يُميز بين خلية عضل وخلية عصب وخلية كبد وخلية جلد … إلخ.
(٣) الشخصية العقلية
ثم نتقدم إلى العقل؛ العقل كما تقدم القول هو حركة جماعة خليات ناتجة عن سلسلة عمليات كيماوية مُتتابعة في كل خلية، ولكل قوة من القوى العقلية مركز خاص لها في الجهاز العصبي والدماغ على الأخص؛ فشخصيتها تتوقف على شخصية ذلك المركز المؤلف من خليات عديدة متنوعة، ومهيأة لكي تحدث تلك الحركة العقلية الخاصَّة.
فمجموعة حركات الخليات المتنوعة هي التي تكوِّن شخصية تلك العقلية، كالتصوُّر مثلًا أو التذكر أو الاستدلال … إلخ. وليس بين تلك القوة وخليات المركز من تشابه البتة لا في الطبيعة ولا في الشكل. فالشخصية العقلية قائمة في تآلف حركات الخليات الكيماوية.
•••
إذا تقدمنا إلى المجتمع الإنسان الذي يتألف عقله الاجتماعي من عقليات الأفراد نجد اختلافًا بين عقل الجماعة وعقل الفرد، ولكنه ليس الاختلاف العظيم الذي نجده بين الجزيء وذراته، أو بين الخلية وجزيئاتها، بل هو أضعف؛ لضعف الرَّابطة بين عقليات الأفراد، وهي الرابطة «الأدبية».
لذلك لا نجد الفرد يفنى فناءً تامًّا في الجماعة كما تفنى الذرة في الجزيء، قد يشتد هذا الرباط الاجتماعي في المستقبل ويُصبح المُجتمع أشد توثقًا، فتبرز شخصيته بروزًا أتم، حينئذٍ يفنى الفرد في الجماعة كما يفنى الجندي في الفيلق، ويفقد كثيرًا من حُريته وإرادته.
ترى مما تقدم أنَّ الجاذبية التي هي ينبوع كل قوة وعلة كل حركة في الوجود قد صاغت من أعداد الوحدات المُختلفة شخصيات مُختلفة مُتمايزة، من ذريرات وجزيئات وخليات وعقليات وغرائز … إلخ، فجعلت الكون قطعة فنية بديعة عجيبة.