اللانهايات الثلاث
ذكرنا في أول الكتاب أن الوجود ذو ثلاثة عناصر: المادة والمكان والزمان. والآن نود أن نعرف هل هذه العناصر مُتناهية؛ أي: هل لكل منها قدرٌ مقرر؟ أم هي غير مُتناهية، يعني لا بداية لها ولا نهاية؟
(١) لا نهائية المادة
ولكن لما كان أي جسم من أجسام المادة مهما كان صغيرًا ذا ثلاثة أبعاد؛ أي: طول وعرض وسماكة؛ فلا بدَّ أن يكون الفوتون هكذا ذا ثلاثة أبعاد؛ لأنَّ الذرة مُؤلفة من ملايين الفوتونات، والجُزيء مؤلف من الذرات، والقلم الذي في يدي مؤلف من جزيئات، وهو ذو ثلاثة أبعاد، فلا بد أن تكون الأجزاء التي تألف منها ذات ثلاثة أبعاد أيضًا، وإلا فكيف يُمكن أنْ يتكوَّن جسم ذو أبعاد من أجسام لا أبعاد لها؟
وبناءً عليه يُمكن أنْ يُقطَع الجسم من أحد أبعاده، ولو بالعقل إنْ لم يتيسر ذلك بالفعل، فيمكنا أن نُنَصِّف — بالعقل — الفوتون، ثم أن ننصِّف كلًّا من نصفيه، وهكذا دواليك إلى ما شاء الله، ما دام للفوتون قوامٌ ماديٌ ذو أبعاد.
إذن فالمادة قابلة التجزئة إلى ما لا نهاية، أو هي مؤلفة من جسيمات لا نهاية لها في الصِّغر، هذه هي اللَّانهاية الأولى.
(٢) اللَّانهاية المكانية
علمنا أن عالمنا الحالي تألف في الأصل من فوتونات ضويئات كانت تملأ حيزًا عظيمًا في الفضاء، وعَلمنا أنَّ الذرات ثم السُّدم تجمَّعت من هذه الفوتونات بفعل خاصتين من خواصها، وهما التجاذب والتداور — الدوران. وهذا يستلزمُ أنَّ هذه الجسيمات والأجسام تشغل حيزات محدودة، وبالتالي نفهم أن بينها رحابًا مختلفة السعة والمدى.
فجميع الأجرام من كواكب وشموس وكوكبات ومجرات تتداور في الفضاء بعضها من حول بعض حسب سُنَّة الجاذبية، وبحسب هذه السنة نفسها تتقارب الأجسام والأجرام، وبمقتضاها ينبغي أن تطبق بعضها على بعض، ولكنَّ هناك عاملًا آخر يصد هذا الإطباق؛ ففيما كانت ذريرات المادة تتجمع وتتكاثف، كانت كلما تلبدت في مكان تنطبق الكهيربات على الكهارب، فتتنافى كهربتاها الإيجابية والسلبية وتتفتتان إلى فوتونات لا شحنة كهربائية فيها، وتنطلق إشعاعًا في الفضاء بشكل حرارة ونور كما هو معلوم — وقد شرحنا هذا في كتابنا «عالم الذرة».
فالمشاهد الآن أنَّ الكُرة الكونية العظمى — مجموعة المليوني مجرة — الشاملة جميع الأجرام والمجرات تتمدد وتتسع على نحو تمدُّد فقاعة رغوة الصابون إذا نفخت فيها؛ أعني أن الحيز الذي تشغله العوالم المادية الآن ينتفخ على حساب الفضاء الفارغ، فإذا استمر هذا الانتفاخ فإلى أي حدٍّ يبلغ؟ هل هناك حدٌّ يصده؟ وإن كان هناك حد فما وراء ذلك الحد؟ بعبارة أخرى هل للفضاء الحالي مدى محدود يشتمل الأجرام الشاردة فيه؟ وماذا وراء فسحة الفضاء؟ وهل لها وراء؟ وما وراء هذا الوراء؟ يُمكننا أن نسأل هذا السؤال إلى الأبد ولا ننال جوابًا؛ لأننا لا نقدر أن نتصوَّر لهذا الفضاء بداية ولا نهاية مهما تطوَّح تخيلنا في استقصائه.
هذه هي اللَّانهاية الثانية الخاصة بالمكان — الحيز — الفضاء.
(٣) اللَّانهاية الزمانية
علمنا فيما تقدم أن العوالم المادية تكوَّنت من تجمع الفوتونات التي هي ذريرات أيثرية كما يُظن، ثم جعلت أجرامها تتقلص بفعل الجاذبية والدوران، وهذا التقلص أفضى إلى انضغاط ذريراتها، وانطباق إلكتروناتها على بروتوناتها، وتفتتها إلى فوتونات تنطلق في الفضاء تشععًا. وفي الوقت نفسه كانت الرحاب بين السُّدم والأجرام تتسع، فتضعف الجاذبية بينها وبالتالي تتباعد، ومنطقة الوجود المادي تنتفخ؛ يعني فيما كانت الذرات في الجرم الواحد يضغط بعضها بعضًا وتشع فوتونات، كانت الوحدات السديمية والجرميَّة تتباعد.
الوجود المادي الآن في شدة هذا الدور؛ تشعع مستمر تذوب به الشموس والأجرام ذوبانًا، وعلى التمادي تفنى هذه الأجرام وتذهب فوتونات في الفضاء، في بحر الإيثر أو الفوتونات؛ فهي من الإيثر وإلى الإيثر تعود، وأخيرًا يصبح الحيز الكوني أوقيانوس إيثر كما كان في الأصل. ثم ماذا؟
يعود الوجود المادي يكرر سيرته: يعود إلى التجمع فالتشعع الذي تذوب فيه الأجرام كما تقدم شرحه، وهكذا دواليك من دور إلى دور، فكم مرَّة مثل هذا الدور؟
هذه العملية — عملية النشوء من الإيثر، ثم إلى الفناء في بحر الإيثر — استغرقت بلايين لا تحصى من الدهور، ولا يُعلم كم تكررت منذ الأزل وكم ستكرر إلى الأبد.
وهنا نسأل: متى ابتدأ الأزل ومتى ينتهي الأبد؟
ماذا كان قبل الأزل؟ وماذا يكون بعد الأبد؟ هل للأزل قبل وللأبد بعد؟
لا قبل ولا بعد، ولا بداية ولا نهاية، هو السرمد الذي لا أول له ولا آخر، هذه هي اللَّانهاية الثالثة. في الفصل القادم تفصيل علمي لهذا.
(٤) العقل في اللانهايات
هنا ينبري الفيلسوف المتبحر في فلسفة ما وراء الطبيعة فيسأل: هل يستطيع العقل البشري أن يتصوَّر النهاية تارةً واللَّانهاية تارةً أخرى؟ وكذلك البداية واللَّابداية؟ أو بالأحرى المحدودية واللامحدودية؟
إذا شاء العقل أن يتصوَّر لهذا الفضاء العظيم شكلًا كرويًّا أو أي شكل هندسي آخر، كان كأنه يجعل له حدًّا لكرويته أو شكله ويفرض له قياسًا مقرَّرًا؛ فإذا تصور له هذا الشكل بدر له في الحال أن يتخطى ذلك الحد إلى ما وراءه، لا يستطيع أن يقتصر على تصوُّر حد من غير أن يتمادى إلى ما وراء ذلك الحد، وإلى ما وراء ورائه؛ لأنه لا يستطيع أن يتصوَّر في خياله حدًّا للفضاء ما لم يبدر له أن لذلك الحدِّ وراءً؛ فيتخطاه إلى ذلك الوراء.
إذن لا يستطيع العقل أن يتصوَّر النهاية، ولا أن يتصور اللَّانهاية، وكذلك الأمر في البداية واللَّابداية؛ لا يستطيع أن يرسم في خياله صورًا لأحد الوجهين، وإذا حاول ذلك خبلته الحيرة.
أليس غريبًا أن هذا العقل الذي اكتشف إلى الآن معظم أسرار الكون يعجز عن أن يفهم سر النهاية أو اللَّانهاية، أو أن يفصل بينهما، أو أن يوفق بينهما؟
العقل يبحث عن سر الحياة، ويرى أن هذا البحث مُستطاع، ويؤمل أن يقبض على هذا السر، وكذلك يبحث عن أصل العقل نفسه، ويرى أنه يكاد يُدرك سر العقل ومصدره، وطالما حار في أمر الكهرباء وسرها إلى أن قبض على سرها أو كاد. ولكن مهما تبحر في تفهم اللَّانهاية واللَّابداية لا يرى بارقًا من الأمل في فهمها، يرى لغزًا لا ينحل أو يستحيل حلهُ. فلماذا؟
هل سبب هذه الاستحالة في اللَّانهاية نفسها، أو في العقل الذي يغزوها فيعود مندحرًا؟
(٥) العلة في العقل نفسه
العقل يستمد تصوُّراته من العالم المادي الخارج عنه بواسطة المشاعر الخمس، وأهمها البصر؛ فجميع المعلومات التي علمتها عقولنا عن العوالم الكونية وردت إليها عن طريق البصر، بواسطة التموجات النورانية وأخواتها من الأمواج الكهرطيسية، وفي كثير من المرئيات القصية والدقيقة نستعينُ بالآلات البصرية المختلفة كالمقراب — التلسكوب، والمجهر — الميكروسكوب، والمطياف — السبكتروسكوب.
ومن هذا الطريق عرفنا نهاية الحيز المادي أو حدوده، فما ليس ماديًّا لا يُمكن أن يتجاوز المحسوس المنظور مُباشرةً، أو بواسطة الآلات البصرية؛ فهو إذن محدود بالدماغ الذي ينتجه، وبالجهاز العصبي الذي يُعاون الدماغ في إنتاجه.
واللَّانهاية التي نحن بصددها تتجاوز حدود المادة التي نشأ الدماغ منها، فصدر العقل منه، فلذلك يستحيل على العقل المحدود بالمادة أن يتطاول إلى ما وراء المادة — ما وراء الطبيعة، حسبه أنه استطاع أن يشمل حيِّز المادة، وأما أن يتخطاه إلى اللَّانهاية، وهي أوسع منه، فهو حكم منطقي سخيف أخرق.
اللَّانهاية خارجة عن دائرة المحسوس، لا تقع تحت الحواس ولا تتأثر بها المشاعر الدماغية والعصبية، فكيف يُمكن أن يُدركها العقل وهو لا يتناول معلومَاته إلا عن طريق المَشاعر؟ فإذن هذا العقل الذي نتبجَّح به وبعظمته وقدرته وشموله هو صغير جدًّا بالنسبة إلى الوجود اللَّامتناهي، ولا يمكن أن يشمل الصغيرُ العظيمَ.
فلذلك حين نقول «عقل الله» ننسب لله عقلًا من شكل عقلنا وطبيعته، ونقول إنه أعظم من عقلنا، ولكن مهما عظم لا يدرك اللَّامتناهي ما دامت طبيعته كطبيعة عقلنا، وإن قلنا إن طبيعة «عقل الله» تختلف عن طبيعة عقلنا، فإذن ليس هو عقلًا، بل هو شيء آخر لا نعلم ما هو، فليس لنا أن نتكلم عن المجهول المطلق، ولنكف عن محاولة تعريفه، وإلَّا فنحن نحقره بدل أن نقصد تعظيمه، فلندعه في عالم المجهول المطلق.
إن الإنسان لما عجز عن إدراك اللَّامتناهي في حين كان يتوق إلى معرفة أسرار الوجود استنبط هذا المجهول، ونسب إليه قدرة وعلمًا أعظم من قدرتهِ وعلمهِ.
فالحقيقة أنَّ المجهول والجاهل هما الإنسان نفسه.