في ما وراء الوجود المادي١
موضوع كتابنا هذا هو الوجود المادي. بقي أن نسأل: هل يوجد وجود آخر غير مادي كما زعم بعض المفكرين المتبحرين المتفلسفين؟ فلنرَ.
(١) الروح وعالم الأرواح
(١-١) بماذا نحس
أعرف وأحس أن لي جسدًا مُركبًا من عناصر مادية كيماويًّا كسائر الحيوانات والنباتات، وأعرف أن هذا الجسد يتغذى من تلك العناصر، وينمو ويلد كما وُلد ويموت، وبين الولادة والموت يتحرك حركات ذاتية بقوة فيه يستمدها من غذائه، والعلماء يُسَمُّون هذه القوة حياة.
وأعرف أني أحس وأشعر وأفتكر وأتذكر وأستنتج، وأعرف أني أعرف. ومجموعة هذه الأفعال تُسمى عقلًا.
إذن أعرف وأحس أن فيَّ ثلاثة أشياء: جسد، وحياة، وعقل. وأشعر بوجود هذه الأشياء فيَّ مختلفة بعضها عن بعض، وأرى أنَّ شخصيتي مُركبة من هذه الأشياء الثلاثة، وأعلم أن هذه الأشياء مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، وأن أي خلل يطرأ على أحدها يخل الاثنين الآخرين. تنمو هذه الثلاثة معًا وتهلك معًا. أعلم كل ذلك جيدًا بوضوح وبغير التباس في فهمه.
ولكني أعرف أنه ليس فيَّ شيءٌ آخر رابع يتميز عن هذه الثلاثة كما تتميز هي بعضها عن بعض، وأن هذا الرابع من ضروريات ذاتيتي بحيث إني إذا فقدته فقدت ذاتيتي كلها برمتها. هذا شيء لا أشعر به.
وإنَّما قيل لي منذ حداثتي أن لي روحًا — أو نفسًا — وأنَّ هذه الروح مُستقلة عن الجسد بحيث إنها تبقى بعد فنائه. والآن وقد تعلَّمت مبادئ العلوم المادية والجسدية والعقلية، وطالعت كثيرًا، صرت أفكر وأبحث عن هذا الشيء الرابع الذي سموه لنا روحًا. فما هي الروح؟
هذا السؤال كنت أوجهه إلى بعض المُعتقدين بالروح، فبعضهم يقول: هي الحياة. وآخر يقول: هو العقل. وآخر يقول: إنه شيء مُستقلٌّ عن الجسد والحياة، ولكنه يحمل العقل وما احتواه من أفكار وتذكارات.
(١-٢) التفنيد
أما أن الروح هي الحياة فلا قيمة لهذا القول؛ لأنَّه لا يفيد عن الروح سوى أنَّها لفظة مُرادفة للفظ الحياة، والحياة لا تزال سرًّا غامِضًا، ولا يَرضاه الخلوديون؛ لأنَّ لحياة الفرد نهاية بالموت، كما أنَّ لها بداية بالولادة أو بتكوُّن الجنين، فمتى مات الفرد اضمحلَّت الروح — إذا كانت هي نفس الحياة. وإذن لا تكون الروح المُرادفة للحياة شيئًا رابعًا في شخصية الإنسان.
وأما القول إن الروح هي العقل فيستلزم أن تكون الروح عرضةً لخطر الفناء بموت الجسد؛ لأنَّ العقل نفسه مُرتبطٌ بالجهاز العصبي الذي هو بعض الجسد، بل ما هو إلَّا مجموعة أفعال ننعتها بالعقلية، وهي بالحقيقة من مفاعيل خُليَّات الدماغ التي تتعاقب فيها التفاعلات الكيماوية بين ذرات العناصر التي تؤلف منها تلك الخليات وبين جُزَيئاتها، وما وظيفة الخليات الدماغية إلَّا إصدار تلك الأفعال العقلية، فالعقل ليس ذاتية بل هو عمل أو وظيفة للدماغ.
وأما أسباب تلك التفاعلات التي تسبب تلك الأفعال العقلية، فلم تزل قيد البحث عند «الفزيكوسيكولوجيين» أي: علماء العقل ووظائف أعضاء الجسد. ولا بدَّ أن يتوصَّلوا يومًا من الأيام إلى تعليل كيفية صدور الأفعال العقلية تعليلًا فزيولوجيًّا — جسديًّا.
فيُستفاد مما تقدم أن العقل ليس ذاتًا قائمة بنفسها، بل هي عمل دماغي يبطل بانحلال الجسد؛ فإذا كانت الروح عقلًا فهي فانية بفنائه.
(١-٣) البراهين على وظيفة الدماغ
- فأولًا: إن هذا العقل العجيب أمره ينمو مع نمو الجسد، بل ينمو مُتأخرًا عنه — إذا صحت نسبة النمو إلى الأفعال. والتعبير الأصح هو أنَّ هذه الأفعال العقلية تتعاظم وتتنوَّع وتتعقد مجاراةً لنمو الجسد. فالجنين خالٍ من العقل حتى من الإحساس، والطفل في بدء شعوره أو إحساسه لا يختلف إحساسه عن إحساس بعض النباتات، ولا يبتدئ أن يميز بين الأشياء إلَّا بعد بضعة أشهر، ولا يتكامل نمو العقل إلَّا بعد بضع عشرة سنة، فإذن العقل خاضع لنفس السنن البيولوجية — المادية الحيوية — التي يخضع لها الجسد.
- ثانيًا: إنه في حالة راحة أعضاء الجسد في النوم يكون العقل كأنه غير
موجود؛ أي: إنَّ الأفعال العقلية كالتفكير والتذكر … إلخ تكون
مُتوقفة تمامًا كما تتوقف حركة أدوات العمل؛ لأنَّ خليات
الدماغ مُتوقفة عن الحركة حينئذ، وإن لم تتوقف عن الحركة
تمامًا كما في الأحلام مثلا فتكون خليَّات الأسلاك العصبية
مُتوقفة عن الحركة؛ فيفكر الحالم وهو نائم، ولكن أسلاكهُ
العصبية لا تنقل هذه الحركة لا ذهابًا ولا إيابًا، ولهذا لا
يعرف الحالم أنه يحلم إلا حين يستيقظ؛ إذ تتحرَّك خليات أسلاكه
العصبية، وتتنبه إلى أنَّ ما كان يراه في النوم لم يكن حقيقة
واقعة فعلًا، بل كان مجرَّد أوهام.
ففي النوم دليلٌ على أنَّ الأفعالَ العقلية هي نتيجة قيام الخليات الدماغية بوظائفها، فلما توقفت هذه الخليات عن الحركة توقفت الأفعال العقلية أيضًا، ولم يبق شيءٌ يُسمَّى عقلًا.
- ثالثًا: في حالة التخدير ﺑ «الكلوروفورم» ونحوه تتوقف معظم مراكز الدماغ عن العمل بتاتًا، ويتوقف عمل الأسلاك العصبية الممتدَّة من الدماغ والحبل الشوكي إلى سطح الجسد، ويفقد الإنسان رشده وإحساسه وشعوره فقدًا تامًّا كأنه ميت، فلا يحس بألم ولا بلذةٍ ولا يفكر ولا يتذكر. ومتى زال فعل المخدر عنه تنبه، وشعر كأنه كان في عالم الفناء، فعاد إلى عالم الحياة؛ يختلف شعوره هذا عن شعوره عند صحوه بعد النوم. وفي أثناء غيبوبته بفعل المخدر قد يتكلم كلامًا لا تعقُّل فيه؛ فيهذر ويهرف ويهذي، كأنَّ بعضَ مراكز دماغه الخاصَّة بالنطق لم تتخدر تمامًا؛ فتبقى تبدي حركات ذاتية ميكانيكية كما يبدي ذيل الورل حركات ذاتية بعد قطعه وفصله عن جسمه. مما تقدَّم يُستدل على أنَّ الأفعال العقلية إنما هي نتيجة أفعال مَراكز دماغية، تحدث بفعل تفاعلات كيماوية في خلاياها.
- رابعًا: قد يطرأ طارئ مرضي كالزهري مثلًا على أحد المراكز الدماغية
فيعطله، وبالتالي يتعطل معه الفعل العقلي الذي هو وظيفة ذلك
المركز، فقد يتعطل المركز الخاص بالذاكرة مثلًا فينسى الشخص كل
ماضيه، أو يتعطل مركز التعقل فيصبح الشخص أبله، إلى غير ذلك من
النواقص العقلية التي تنتج من تعطل مراكزها الدماغية، ولا يخفى
ما في ذلك من الدلالة الساطعة على أنَّ ما نُسميه قوًى عقلية
إنما هو نتيجة حركات فقط تصدر من خلايا المراكز
الدماغية.
وقد يُولد الشخص وفي دماغه شيء من النقص، فيعيش مختل العقل كل عمره، وقد يعجز الطب عن علاجه.
- خامسًا: بعض العقاقير تفعل في بعض خليات الدِّماغ «أفعالًا خاصة»، فتجعل بعض الأفعال العقلية مُضَّطربة أو شاذة كالخمرة والحشيش مثلًا، وظواهر أفعالها معروفة، وهناك عقار يُدْعَى سكوبولامين Scopolamin يؤثر في بعض مراكز الدماغ، فيعرِّض الشخص إلى فضح أسراره.
فيما تقدم كفاية على أن الأفعال العقلية إنَّما هي أفعال خلايا الدماغ، وما نُسميه عقلًا ليس إلَّا مجموعة هذه الأفعال، تصدرها وظائف المراكز الدماغية، فمتى توقفت حركات الدماغ بسبب النوم أو التخدير أو المرض أو الموت لا يبقَ شيء يُدعى عقلًا.
إن كان العقل ذاتًا مُستقلة عن الجسد والدماغ، فأين يذهب بجميع قواه أو خواصه في حالة النوم أو التخدير، ثم يعود عند الصحو؟
فإذا سَلَّمنا أنَّ الرُّوح هي العقل نفسه؛ فإذن هي فانية بتوقف الحياة وبفناء الجسد؛ لأن الأفعال العقلية تتعطل بتعطل فاعلها، والروحانيون لا يسلمون بفناء الروح.
(١-٤) أيثرية الروح
يزعم بعض الروحيين أن للإنسان جسمًا أيثريًّا مندغمًا في جسده المادي، حتى إذا تعطلت حياة الجسد المادي — بالموت — انسلخ منه الجسم الأيثري واستقل عنه، وهذا الجسم الأيثري هو الروح.
فما هي خواصُ هذا الجسم الأيثري، إذا كان هو الذاتية التي تبقى للإنسان بعد موت جسده؟ فهل يتقلد هذا الجسم وظائف دماغ الجسد العقلية؟ وكيف يمكن ذلك؟ وقد ظهر لنا من البحث الآنف أنه حيث لا دماغ مادي فلا يُوجد عقل بتاتًا؛ لأنَّ العقل ليس ذاتًا بل هو عمل، فلا تفكير ولا تذكر ولا استنتاج ولا غير ذلك مما نسميه قوى عقلية — أو على الأصح تُسمى أفعالًا عقلية — إذن، ذلك الجسم الأيثري ليس إلَّا هيكلًا يبقى بعد الجسد، كما يبقى الهيكل العظمي بعد بلى اللحم والدم — هذا إن صحَّ أن له وجودًا، ولا بُرهان عندنا أنَّ له وجودًا.
نحن نستطيع أن نُثبت أنَّ لنا جسدًا ماديًّا مؤلفًا من بعض عناصر كيماوية، ونستطيع أن نثبت أن لنا حياة هي من مفاعيل الائتلاف الكيماوي لتلك العناصر، وأما كيف تصدر هذه الحياة من ائتلاف تلك العناصر، فهو أمر لا يزال قيد بحث العلم العملي الاختباري المعملي، وقد يكتشفه العلم في المستقبل القريب أو البعيد، ونستطيع أن نثبت أن ما نسميه قوى عقلية إنما هو أفعال وظائف المراكز الدماغية.
نحن نستطيع كل ما تقدم، ولكننا لا نستطيع أن نثبت أن للإنسان هيكلًا أيثريًّا يتقلد شخصيته تقلدًا تامًّا بحيث تبقى هذه الشخصية تامَّة بعقليتها بعد تعطل وظائف الجسد بتعطل أدوات الحياة ومراكز الدماغ؛ ليس عندنا أي برهان على وجود هذا الهيكل، ليس عندنا شعور أو إحساس بوجود هذا الهيكل فينا بتاتًا، وما هو إلَّا فرض لتفسير وجود شيء سموه روحًا، ولكنه فرض بلا برهان، وفي طوق كل إنسان أن يفرض ألف فرض لتعليل ما يدعيه، ولكن العقل لا يسلم بفرض بلا برهان.
والأيثر نفسه لا يزال فرضًا غير يقيني؛ إذ لا بُرهان علمي معملي على وجوده، وما فرضه العلماء إلا لتعليل بعض الظاهرات الطبيعية، وإذا أمكنهم أن يعللوا تلك الظاهرات بدونه استغنوا عنه.
وإذن وجود الهيكل الأيثري الروحاني للجسد الإنساني فرض محض ضمن فرض آخر بلا بُرهان، ولو ثبت وجود الأيثر ثبوتًا علميًّا يبقى الهيكل الأيثري الروحاني فرضًا مُعلقًا لا يقر له قرار في فضاء الوهم والخيال، إذ لا أدلة على وجوده مع الجسد بتاتًا، ما هو إلَّا خيال شعري جميل في مُخيلة الروحانيين.
(١-٥) تطور الروح
ننظر إلى نظرية أيثرية الروح نظرة أخرى من ناحية التطور. أصبحت نظرية التطور الدرويني حقيقة راهنة عند العلماء، حتى إنَّ اللاهوتيين سلموا بها، وقالوا إنها سنة طبيعية من جُملة السُّنن التي سنها الله لخليقته.
فإذا كان للإنسان روح تتمثل بهيكل أيثري مُتداخل في جسده، ففي أي دور من أدوار تطور الحياة شرع ذلك الهيكل الأيثري يتكوَّن مع الجسم المادي؟ فعندنا الإنسان النندرثالي كان قبل الإنسان الآدمي، وكان قبلهُ ستة أصناف أناس متفاوتون في التطوُّر، وقبل الإناس السبعة في سلم التطور كان أشباه الإنسان — الغورلَّا والشمبانزي … إلخ، وكان قبلَ هؤلاء القرودُ على اختلاف أنواعها، وكان قبلها غيرها حيوانات تدرَّجت في سلم التطوُّر من الميكروب فما بعد كما يعلم ذلك جيدًا دارس البيولوجيا؛ ففي أية درجة من درجات التطوُّر ابتدأ وجود الروح؟ أو ذلك الهيكل الأيثري؟
وإذا عيَّنَّا الدرجة التي ابتدأت عندها الروح فيجب أن نُحدد الفاصل بين الدرجتين ونُقدم تفسيرًا بيولوجيًّا لكل منَ الدرجتين، وفي تدرج الأحياء في سلم التطور لم يوجد أي فاصل ظاهر بين درجةٍ ودرجة؛ لأنَّ التطور ليس توثُّبًا بيِّنًا، بل هو شبه استمرار.
وإذا حدَّدنا الطور الذي ابتدأ فيه الجسد الإنساني أو «الشبه إنساني» يندغم فيه ذلك الهيكل الأيثري الروحاني، فهل كان هذا الهيكل يتطوَّر بتطوُّر الجسم الحيوي البيولوجي؟ أو أنه جاءَ لأول وهلة هيكلًا روحانيًّا تامًّا، يتحمل المسئولية الأدبية والدينية، ويتقلَّد الحرية ويتصرف بأعماله وأفعاله مُختارًا؟ أو أنَّ أدبيته تتطور بتطور العقل؛ أي بتطور الدماغ ووظائفه العقلية؟
(١-٦) مادية الأيثر
بقي نظرٌ آخر في المسألة، وهو أنَّ الأيثر الذي فرضه العلماء لتعليل الظاهرات العلمية، إنْ ثبت وجوده كان ضربًا من المادة يختلف عن عناصرها بدقة ذراته، وقد اعتبر بعض العلماء الأيثر نفس الفوتون الذي ينحل إليه الكهيرب — إلكترون — حين اصطدامه بالكهرب — البروتون — وصدور القوة منهما لمعة شعاع، ويقول السير «تجايمس تجينز»: إنَّ الكهرب ينحل إلى عشرة آلاف فوتون، وليس للفوتون شحنة كهربائية، وهو آخر ما تنحل إليه دقائق المادة.
فإذا صح الظنُّ أنَّ الأيثر هو فوتونات فيكون هذا الأيثر مادة، والروحانيون يقولون إنَّ الروح شيء غير مادي، وإذن فالروح أو الهيكل الأيثري جسم مادِّي لطيف جدًّا، والمادة تشغل حيزًا في المكان وتتحرك في الزمكان — أي: المكان الزمان.
وإذا كانت تلك الهياكل الروحانية مؤلفة من هذا الأيثر فلا بدَّ أن تشغل حيِّزًا أي مكانًا في الفضاء الأيثري، فهل تبقى فيه أجسامًا هيكلية سابحة في الفضاء، أو أنها تنحَلُّ فيه إلى فوتونات تمتزج مع فوتونات الأوقيانوس الفوتوني كما يمتزج ماء النهر بالبحر؟ وإن بقيت هياكل كما تكونت فما الذي يوطِّد قوامها ويحفظها من الانحلال إلى الأبد؟
وإذا تمادينا في تصوُّر هذه الهياكل الأيثرية الروحانية بدت لنا أسئلة عديدة عن وجودها وخلودها وتمتعها، إلى غير ذلك مما يحار الفكر فيه.
وأغرب ما تعجز المخيلة عن تصوره هو علاقة ذلك الهيكل الأيثري الروحاني بالجسد المادي العنصري الكيماوي، وأغرب من هذا أيضًا التفاعل بين الهيكلين من غير أن يحسه الإنسان أو يشعر به، وأغرب من هذا وذاك اتصال الدماغ الإنساني بالهيكل الروحاني المجرد عن المادة؛ أي: بعد موت الجسد من غير اعتبار للزمان والمكان عن يد وسيط يستحضر ذلك الهيكل ولو كان يبعد عنه ملايين الفراسخ النورانية؛ أي لو اتفق أن كان ذلك الهيكل الروحاني في الطرف الآخر من الكون.
فمهما كان لدماغ الوسيط من قوة الاتصال اللاسلكي — على مبدأ الراديو مثلًا — فلا يُمكن أن يكون أسرع من الإشعاع الكهرطيسي — كالنور — فكيف يمكن أن يتصل بهيكل الشخص الذي يبتغي الاتصال به على بُعد المسافة السحيقة التي يعجز العقل عن تصورها؟
•••
وخاتمة القول: إننا لا نستطيع أن نسلم بلا برهان بوجود هيكل روحاني سواءٌ أكان إيثرًا ماديًّا أو غير مادي، بحيث إنَّ هذا الهيكل يُؤثر في الدماغ والدماغ يؤثر فيه، ويتفاعلان، وهما من طبيعتين مُختلفتين كل الاختلاف، ولا سيما إذا صحَّ أنَّ الهيكل الرُّوحاني غير مادي.
ما دمنا لا نحس بالروح كما نحس بالجسد والحياة والعقل وكما نحس بالكهرباء والمغنطيسية، أيضًا فلا نستطيع أن نسلم بصحة فرض الروح. نريد برهانًا إن تعذر الشعور.
يقول بعض المناقشين بهذا الموضوع: إذا كنت لا تحس ولا تشعر ولا تجد برهانًا فلا تستطيع أن تنكر؛ لأنك لم تُحِطْ علمًا بكل شيء، فما تجهله لا تستطيع أن تنكره.
فهل منطقٌ أسخف من هذا المنطق؟
أجل، لا يحق لي أن أنكر ما أجهله، اللهمَّ إن كان ثمت أشخاص آخرون يعلمونه، وهل يحق لك أن تفرض ما تجهله أنت؟ فهل يستطيع هؤلاء المناقشون أن ينبئونا ماذا علموا وماذا فهموا، وكيف علموا وكيف فهموا، لكي نفهم نحن أيضًا؟
أليس غريبًا أن تطلب مني أن أعتقد بالمجهول كأنه شيء موجود وأنت نفسك أشد جهلًا به مني؟
إذن تستطيع أن تفرض ألوف الفروض وتعطي لكل مفروض اسمًا، ثم تفرض عليَّ الاعتقاد بوجودها من غير أن تُحدد ماهيتها على الأقل. هل تستطيع؟ وتُبرهن لي هذه الماهية.
هذا منطق أسخف من السخافة.
إذا كنت لا تفهم سر هذا المجهول فكيف علمت بوجوده؟
تحاول أن تثبت لي وجود الروح وخلودها، فأرجو أن تُفْهِمَني أولًا ما هي الروح لكي أعلم ماذا تريد أن تثبت، وإلَّا فكأنك تريد أن تثبت لي وجود الأحرف الثلاثة — ر. و. ح — وهي لا تحتاج إلى إثبات. هي موجودة بين الحروف الأبجدية … ا.ﻫ.
والنتيجة: أنه لا يوجد شيء وراء الوجود المادي سوى الفراغ اللَّامتناهي — العدم.
•••
بقي بحث في موضوع الخلق نكف عنه رحمة بالعقول السقيمة.