التجمع والتفرع الحيويان
أما وقد انتهينا من بيان أن الحياة ليست إلا عملًا كيميًّا محصورًا في أربعة عناصر برئاسة الكربون، فنعود الآن إلى تطبيق الحياة على قواعد التنظيم جميعًا: التجمع والتفرع أولًا، ثم الدورية ثانيًا.
(١) عملية التجمع والتفرع كيماوية وآلية
رأينا في عملية تنظيم الكون المادي أنَّ التجمع والتفرع جريا معًا جنبًا إلى جنب، وأن هذه العملية كانت آلية «ميكانيكية»، كانت مُجرد تجمع ذرات في جماعات كبرى تربطها الجاذبية العامَّة، ثم تفرَّعت إلى جماعات صُغرى بفعل الدوران، والجاذبية علة الدوران كما علمت.
وأما عملية التجمع والتفرع في الحياة فكيماوية، فضلًا عن كونها ميكانيكية أيضًا، وأما التآلف الكيماوي على الإطلاق — حيوي وغير حيوي — الذي كان يحدث في تجمع العوالم فكان عارضًا — كان نتيجة، لم يكن ذا شأن في تجمعها وليس له يد فيها، اللهمَّ إلَّا في تجمع الجزيء، بل كان يصفي الغازات من السوائل وهذه من الجوامد، وكان التجمع الميكانيكي سابقًا وممهدًا له، على أن هذا التآلف الكيماوي المذكور هو ذو اليد الطولى في التجمع والتفرع الحيويين. والجاذبية سبب كلٍّ من هذين التجمعين؛ لأنَّ الألفة الكيماوية ليست إلا شكلًا من أشكال الجاذبية أرقى من شكلها العام، نقول: إنه أرقى بمعنى أنه أتى بعدَه مُركبًا مُعقدًا، وهذا بسيط، ثمَّ إنَّ الألفة الكيماوية في التجمع الحيوي أرقى من الألفة الكيماوية العامَّة؛ لأنها أتت بعد هذه أكثر تركبًا وتعقدًا.
رأينا في عملية تجمع السُّدُم وتفرعها إلى سُدَيمات وأجرام أن التجمع لا يمكن أن يستمر، إلى أن المجتمع الواحد يلتهم كل مادة هيولية في الكون ويصبح الكون كله كتلة واحدة متقلصة، وإنما يبلغ التجمع إلى حدٍّ لا يعود يستطيع بعدهُ أن يلتهم مزيدًا؛ لأن قوة الجاذبية تضعف عند مُحيطه المُترامي، وهناك ينتهي حد التجمع بحجم لا يقبل المزيد. وثمَّ تبتدئ عملية التفرع؛ إذ تتقطع طبقات الجرم السديمي الخارجية إلى قطع، طبقة بعد طبقة، على نحو ما وصفناه في محله، أما التجمع الحيوي فيختلف عن هذا إلَّا في بلوغه إلى حدٍّ معين لا يتجاوزه؛ وهاك بيان الخلاف.
الخلية البروتوبلاسمية هي أول درجة من درجات التجمع الحيوي، فهي لم تتكوَّن من تجاذب ذرات متجاورة تجمعت حول مركز جاذبي مُتبادل بينها، بل تكونت من سلسلة تفاعلات كيماوية متوالية بين جزيئات يربطها «مبدأ حيوي» مجهول الذاتية مودع في عنصر الكربون على نحو ما بسطناه آنفًا. وهذه الجزيئات المرتبطة بالمبدأ الحيوي تضم إليها جزيئات من الخارج وتدمجها في نفسها إلى أن تبلغ كتلتها حدًّا معينًا من الكبر فلا تعود تتجاوزه؛ عند ذلك الحد تعتبر ناضجة، فلا تضم لنفسها جزيئات جديدة إلَّا تأهبًا لانقسامها إلى خليتين جديدتين كل منهما بنوبتها تضم إليها جزيئات وتدمجها فيها إلى أن تبلغ حد النضوج المذكور، حيث تنشق إلى خليتين أخريين. وهكذا دواليك إلى ما شاء الله.
فترى أنَّ التجمع الحيوي يحدث باغتنام جزيئات من خارجه وإدماجها في نفسه تدريجيًّا، خلافًا للتجمع السديمي الذي ليس إلا تضام ذرات متجاورة بحكم قوة الجذب فقط.
ثم إنَّ بُلوغ التجمع السديمي حدَّه يتوقف على استطاعة قوة الجذب الاستمساك بأقاصي طبقات السديم بتغلبها على قوة التشريد عن المركز، وأما بلوغ التجمع الحيوي حدَّه فلا يتوقف على قوة جذب ولا على قوة دفع، حتى ولا على قوة ألفة كيماوية، بل على استطاعة الخلية الاحتفاظ بالجزيئات الكامنة للقيام بشخصيتها.
ثم إن التفرع السديمي يحدث عند عجز قوة الجذب المركزي عن مقاومة قوة التشريد المتوقفة على سرعة الدوران المركزي، فتستقل الكتل المتطرفة منه بتجاذب فرعي بينها وتنفصل جماعات فرعية قائمة بنفسها. أما التفرع الحيوي فلا يتوقف على قوة التجاذب ولا على قوة التشريد، بل على نضوج الخلية بحيث لا تعود هذه تستطيع الاحتفاظ بالمزيد، أو لا تحتاج إلى مزيد للقيام بشخصيتها فتنشق إلى اثنتين.
إذا اعتبرنا عملية التجمع والتفرع تطورًا؛ فالتطور السديمي تألب جماعة ثم تقلصها بفعل الجذب وتفاوت طبقاتها بدرجات التقلص تبعًا لقانون البُعد عن المركز، ثم تقسم الطبقات المتطرفة إلى جماعات، وأما التطور الحيوي فعمل كيماوي يجتذب الجزيئات من الخارج إلى الداخل ثم يوزعها في الداخل، واللاحق منها يطرد السابق؛ فالعملية إذن عملية امتصاص وإفراز في وقت واحد تخرج بها الجزيئات المفرزة مختلفة اختلافًا كليًّا عن الجزيئات التي دخلت ممتصة.
(٢) تجمع التجمع الحيوي
لا ترى في المجتمع السديمي مثل هذا التنويع في الوظائف؛ فالجماعات أو الفروع الصغيرة كالأمهات الكبيرة ذات طبائع وسجايا متماثلة.
ثم إن لهذا التجمع المركب الحيوي — تجمع الخليات والتصاقها — حدًّا يبلغه أيضًا فلا يتجاوزه، حتى متى بلغت الجماعة إليه وصارت ناضجة انفصلت منها خليات لتنشئ بنوبتها جماعة جديدة — كما هو معروف في عمليات التناسل المختلفة — بنفس الطريقة التي نشأت فيها أمها؛ أي: بالامتصاص من الخارج والاندماج في الداخل والتقسم الخليِّي — الخلوي.
على هذا النحو نشأت أنواع الأحياء من أحقرها إلى أعلاها؛ فتعددت أصناف الخلايا البروتوبلاسمة بتعدد الوظائف اللازمة لحياة كل نوع. تنوعت الأحياء تحت فعل عوامل البيئة من الخارج وعوامل الحياة من الداخل، وإذا بنا نرى هذه الأحياء العديدة الأنواع تجمعات خليات مختلفة — جماعات، وكل جماعة منها مجموعة جماعات أيضًا، كما نرى في الأحياء العليا. انظر إلى الفرد منها تَرَه مجموعة أجهزة — هضم، عصب، تنفس، دورة دموية … إلخ — وكل جهاز منها مجموعة جماعات من الخليات المختلفة بنيةً وسجيةً.
ترى مما تقدم أن التجمع الحيوي الكيماوي أكثر تركبًا وتعقدًا من التجمع المادي الميكانيكي في الأجرام والسدم، وتفرعه عديد التنوع جدًّا. أنواعٌ لا تحصى متدرجة في سلم التطور من الهيدرا إلى سائر المائيات؛ فالصدفيات إلى الضفدعيات إلى الفقاريات فاللبونات إلى أشباه الإنسان حتى الإنسان.
- الأول: ضمٌّ وتوسع في الحيز تحت سيطرة الجاذبية.
- والثاني: إدماج واقتسام للحيز تحت فعل الألفة الكيماوية وتحت سيطرة المبدأ الحيوي الدفين سره في الكربون — إن كان هناك مبدأ حيوي غير العامل الكيمي. ثمَّ إن الأول يجمع الذرات والجزيئات من غير تضامن فيما بينها، يجمعها في جماعات، إلى أن يستنفذها كلها، فلا يبقى في الكون إلا رحاب خلاء بين جماعات شبه أبدية مقصورة على الحركة الدورانية.
وإن الثاني يتصيَّد الذرات الأربع من الهواء والماء والتراب ويدمجها في جماعات إلى أجل قصير، حتى متى أفرغت طاقتها في سبيل حياة الجماعة أطلقتها إلى الفضاء، وبعد أن يستخدم طاقتها في عملية النمو والتوالد يطلق طاقتها أيضًا. والجزيئات المُطلقة تكتسب طاقة جديدة من المتشععات — فوتونات — الواردة من الشمس وتهيئها للاندماج ثانية في خليات حيوية أخرى؛ وهكذا دواليك.
ثم إنَّ الأول يتلاشى بالإشعاع التدريجي على تمادي الزَّمان من غير أن يفقد شخصيته.
والثاني ينحل متى توقف العمل الحيوي فيه، إما لطوارئ خارجية، أو لانتهاء أجل الحيوية فيه بتسلط عوامل هادئة، فتشتت أجزاءه أو ذرَّاته عاجلًا.
(٣) أشكال التجمعات الحيوية
وقد رأينا التجمعات المادية بسيطة الذرات والجزيئات ولا تتخطى ستة أجيال — من السدم إلى الأقمار كما علمت — ولكن التجمعات الحيوية مركبة الجزيئات في أشكال لا يُحصى عددها، ولا سيما في الأحياء العديدة الخليات؛ فلكل عضو من أعضاء الحي صنوف عديدة من أشكال الخليات، خذ خيطًا من خيوط العصب تجده ذا لباب وغلافين. وكل منها ذو صنف خاص من الخليات يختلف عن صنف غيره، وقس على العصب أنواع العضل المختلفة في كل جهاز من أجهزة الجسم المتعددة، فلو أحصيت أشكال الخليات في أصناف الأحياء المختلفة لوجدتها تُعد بمئات الألوف، وحاصل القول أنَّ التجمعات الحيوية متعددة الأشكال، وكل يوم ينشأ شكل جديد منها وينقرض شكل قديم، بمقتضى سنة التطوُّر تحت عوامل البيئة.
ثم إن التجمعات الحيوية سلسلة من الأجيال لا تكاد تُحصى ولا تكاد تنتهي، تتبدل وتتعاقب على مرور الزمان، وتتغير وتتطوَّر على مدى الدوران. وبهذا التطور نشأت ولا تزال تنشأ أصناف أحياء مختلفة لا عداد لها، فينقرض بعض منها بتغلب بعض فيما ينشأ بعض آخر. وما يسمونه المبدأ الحيوي هو السلك الذي تنتظم فيه التجمعات الحيوية جميعًا بفعل الألفة الكيماوية، وأما التجمعات السديمية فسلكها الجاذبية العامة فقط، والألفة الكيماوية هي صورة من صور الجاذبية.
وكان من أهم نتائج النشوء والتطور أن تفرعت الحياة إلى فرعين رئيسيين: النبات والحيوان. ثانيهما يعيش على حياة الآخر، وهذا يعيش على حساب العناصر الأربعة تحت تأثير تشعع النور والحرارة. النبات يختزن جانبًا كبيرًا من الطاقة — القوة — التي يصطحبها، والحيوان ينفقها في حركته.
فانظر ما أعجب عمل الألفة الكيماوية في العناصر الأربعة التي تكونت منها ملايين أصناف الأحياء وعشرات ألوف أنواع الجزيئات. بل ما أعجب فعل الكربون الذي هو واسطة الائتلافات العديدة بين العناصر الأربعة. وانظر الفرق العظيم بين التجمعات المادية والتجمعات الحيوية.
فكأن الطبيعة منحت بعض العناصر هذه الخواصَّ الثلاث الممتازة: الحياة، المغنطيسية، الإشعاع، وهي أهم ظاهرات الطبيعة وأعظمها عجبًا، وبها تتجلى لنا الطبيعة في هيكل جلالها وهيبتها.