مقام الحياة في الكون
(١) هل الحياة غاية الوجود؟
فهل في أشكال الموجودات وظاهراتها ما يُؤيد هذه العقيدة؟ بنظرة عامَّة في نشوء العوالم، كبيرها وصغيرها، وتطوُّراتها؛ يظهر لنا أنَّ الحياة لم تكن غاية الوجود المادي البتة، بل جاءت عرضًا على الأرض؛ لأنَّ الظروف المُلائمة لها وُجدت عرضًا أيضًا، ليس الأمر كذلك فقط، بل إنَّ الوجود المادي لم يحبل بها لكي يتمخضها، ولا خطرت له ببال، إذا تصوَّرنا له إرادة حرَّة، بل بالأحرى إذا تعمقنا في البحث رأينا أنَّ الوجود المادي عدوٌّ لدود للحياة، لا يُراعي لها شأنًا ولا رغبة ولا مصلحة، ولا يحسب لها قيمة. وإليك البيان:
الحياة محدودة بحدين من درجات الحرارة: بين درجتي الجليد والغليان. وبعد هذين الحدين تتلف الخليات الحية وتهلك حيويتها، وبالتالي لا تنشأ بتاتًا، حتى إن نمو الأحياء وتوالدها مُتوقفان على درجات الحرارة الوسطى بين ذينك الحدين، المصحوبة بالأشعة الضوئية وجاراتها القريبة. فهل في العوالم أجرام كأرضنا لا تتراوح الحرارة فيها بأقصى من ذينك الحدين؟
الفلكيون الذين درسوا السيارات درسًا دقيقًا وجدوا أن الظروف اللازمة للحياة غير موجودة في غير الأرض، بل بالعكس وجدوا أنه يُحتمل قليل الاحتمال وجود شكل من الحياة في المريخ يختلف بعض الاختلاف عن شكل الحياة في أرضنا، أو إنه يختلف عنه أكثر مما يشابههُ.
أما في النجوم فلا أمل بوجود الحياة بتاتًا؛ لأنها كلها في حالة الغازية، وقلَّ ما هو منها في حالة السيولة أو حالة المزيج من السيولة والغازية، وحرارتها تفوق حرارة الأرض ألوف بل ملايين الأضعاف. بقي الأمل في أن يكون لبعض تلك النجوم القصية سيارات كسيارات أرضنا، ربما صلح بعضها للحياة كصلاحية الأرض لها، ولكن الكيفية التي تولَّدت السيارات بها من الشمس تذهب بهذا الأمل وتقطع كل رجاء.
- الأول: أن رحاب الفضاء الخالية من الأجرام بين نجم ونجم واسعة جدًّا، فإذا كان معدل المسافات بين النجوم كالمسافة التي بيننا وبين أقرب نجم لنا «ألفاقنطورس» وهي نحو ٤ سنين نورية وخُمس؛ فلا أمل في أن يقترب نجم إلى نجم آخر اقترابًا كافيًا للتأثير الجاذبي فيهما بحيث ينشئ مدًّا وجذرًا إلا في مُصادفة نادرة جدًّا جدًّا.
- الثاني: أن الأجرام في قرص المجرَّة تسير متفاوتة في اتجاه واحد دائرة حول مركز المجرة بسرعات متفاوتة كما تدور السيارات حول الشمس؛ فعلى تلك الأبعاد السحيقة التي بينها ينقطع الأمل بأن يُصادف مرور نجم آخر بحيث يُحدث كلٌّ منهما مدًّا يسلخ منه نطفات صغيرة فتتجمد سيارات دائرة حوله.
(٢) الحياة مقصورة على الأرض
فلذلك يغلب الظن أن شمسنا هي الوحيدة في عالم المجرَّة التي تلقحت باقتراب نجم آخر إليها فولدت سياراتها، وأرضنا هي الوحيدة التي صلحت لتمخض الحياة، وإن كانت هذه الصدفة قد طرأت لجرم آخر فهيهات أن تكون الظروف المناسبة للحياة متوفرة لها كما توفرت لأرضنا. وإن كانت ظروفها مُناسبة أو مُقاربة لظروف أرضنا، فإنْ كان ثمت عملٌ كيماوي ينتج شيئًا كالحياة التي نشأت على أرضنا، فظاهراته تختلف كل الاختلاف عن ظاهرات حياتنا.
زد على ذلك أن دهر الحياة على الأرض قصيرٌ بين دهور التطورات الأرضية؛ فقد سبقه دهر الغازية، فدهر السيولة، فدهر التجمُّد الذي كانت الحرارة فيه لا تزال فوق درجة الغليان أمدًا طويلًا، ثمَّ سيليه دهر البرودة والجليد، وهو أطول دهور الأرض، وبعده دهر الفناء التشعُّعي البطيء جدًّا، وهو أطول من دهورها جميعًا.
فعمر الحياة على الأرض قصيرٌ جدًّا بالنِّسبة إلى عُمر الأرض، وبالأحرى بالنِّسبة إلى عُمر الشمس وسائر النجوم.
فترى مما تقدم أنَّ العالم المَادي يتطوَّر تطورات مُختلفة ليست من مصلحة الحياة، بل بالعكس هي تطوُّرات قاضية على الحياة؛ فإذا تبينت طور الحياة من خلال تلك الأطوار تراءت لك لمعة لمعت مصادفة في مجرى الوجود كأنها فلتة شاذة.
فلو كانت غاية الوجود إنشاء الحياة وخدمتها ووضع نفسه كأداة بين يديها، ما انحصرت الحياة في الأرض، وهي أقل من ذرَّة في الأكوان، ولا انحصر نشوء الجرم الصالح للحياة بسيار واحد حول شمس واحدة، ولا كان عمر الحياة كلحظة من زمن الوجود.
فإذا حسبنا عملية الحياة مجدًا وفخرًا في الخليقة فمجرتنا وسائر المجرات غير شاعرة بهذا المجد الذي لا ينطفئ لمعانه لدى لمعان أمجادها السموية، وإنَّما للأرض وحدها أن تفتخر وتتمجد بأنَّ هذه العملية العجيبة — في نظر العقل البشري — كانت من حظها وحدها. وكانت مهدًا لنشوء العقل الذي هو أعجب منها وأمجد، ويُمكن أن نُسميه فخر الوجود كله.
فعلى سطح هذا السيار الأرضي وحده نشأ مصادفة أعجب آيات الخليقة وأغربها وأمجدها — الحياة. ثم العقل. ثم العقل الاجتماعي. ثم … ماذا؟