الدورية في الحياة
(١) التكرار عمل دوري Rithm
ليست الدورية في الحياة دورانًا حول مركز في جوٍّ جاذبي، وإنَّما هي تكرار كل عملية حيوية مرارًا لا يُحصى عديدها في أمدٍ طويل؛ تُعاد العملية نفسها المرَّة بعد المرَّة، ولا يحدث فيها تغيُّر إلَّا بعد زمن طويل بحكم تأثير البيئة، ولا يُشْعَر بهذا التغيُّر إلا بمقارنة جديدهِ بقديمهِ إن أمكنتك المقابلة. وهذا هو المراد بالتطوُّر.
على أن الدورية على هذا النحو تتضمن العمل الجاذبي في أدق مجاريها؛ العمل الجاذبي في الذرات بين الإلكترونات والبروتونات، ولولاه لما أمكن حدوث الدورية على الإطلاق؛ إذ لا يخفى عليك أنَّ الدوران الكهيربي — الإلكتروني — حول النواة في الذرة والجزيء هو سبب كل حركة، هو الحركة الأولى الصادرة مباشرةً من ينبوع الطاقة — القوة الجاذبية — فحيثما وجدت عملًا دوريًّا فتعقبت علَّتهُ بلغت إلى دوران الكهيربات حول النوى، يتضح ذلك في ضرب الأمثلة بأهم أنواع الدورية وأظهرها.
في أبسط الخليات الجرثومية ترى تحت المجهر — المكرسكوب — مجرًى بين نواة الخلية — بروتوبلاسم — وغلافها يجري فيه سائل دائر حول النواة، إلى هذا السائل تدخل من الخارج المواد المغذية للخلية، وتخرج منه إلى الخارج المواد التالفة، التي انتهى عملها في حياة الخلية. يدور هذا السائل بفعل انقباض جانب من الخلية وتمدُّد جانب آخر بالتناوب، وهذا التناوب في الانقباض والتمدُّد ناتج من تعاقب العمليات الكيماوية التي تحدث تباعًا في النواة وغلافها وما بينهما من اتصالات، والعمليات الكيماوية هذه نتيجة التآلفات الكيماوية المتعاقبة بين الذرَّات، وما هي إلا الجاذبية في أفلاك الذرَّات.
والتيار العصبي نوع آخر من أنواع الدورية يُشبه كثير الشبه التيار الكهربائي، «والراجح أنه نوع منه»؛ فهو دورة موجية تبتدي من أحد أطراف الجسم مثلًا بسبب تفاعل مع البيئة، وترحل رحلة موجية في سلك العصب الحساس، إلى أن تبلغ إلى مركز عصبي في الدماغ، ثم ترتد منه على العصب المُحرك إلى أن تصل إلى عضل العضو الذي وردت منه أولًا، فتُحرك العضل.
التنفس عمل دوري.
الهضم عمل دوري.
التناسل عمل دوري أيضًا، وهو أكثر الدوريات تركبًا وتعقدًا؛ لأنه يتضمن جميع عمليات الحياة من الولادة إلى النمو إلى التوليد حتى الموت.
(٢) طواف الذرات في الأحياء
فطواف الذرَّات على هذا النحو هو علة تعاقب الخليات في نسيج الحيِّ، وعلة تعاقب الأفراد من النوع الواحد من الأحياء في توالدها، وعلة تفرع الأحياء إلى أنواع؛ ذرات طائفة تتمثل كل حين بعد آخر بشكل جديد على مرور الزمان. والزمان يطوي هذه الأشكال العديدة في أذياله دورًا بعد دور بأساليب مُختلفة لا تُحصى، هذه الأساليب هي دورانات مُختلفة مُركبة مُعقدة مُتجددة، مُبتدعة الصور والأشكال.
لا تجد في الأكوان المادية — غير الحيوية — كالسدم والأجرام مثل هذا الطواف الذري المُنظم الذي يظهر جماعات الذرات في أشكال عديدة مُتنوعة كأنَّها صنعة فنان. لا تجد في السُّدم والأجرام طوافًا ذريًّا إلَّا بشكلٍ كأنه فوضوي لا قاعدة له ولا نظام.
هذا الدوران الذري الذي يجمع الذرات ويُفرقها على التوالي جمع مرارًا عديدة كثيرًا من ذرات الكربون، مع ما تحتاج إليه من أخواتها الذرات الثلاث الأخرى، في نبات وحيوان حتى انشغلت كل ذرَّة منها — ما عدا جانب من كربونات العناصر المعدنية كالكلس … إلخ — في خليات عديدة على التعاقب؛ فكأنَّ كل ذرَّة اشتغلت بعملية الحياة ملايين المرات التي لا تُحصى.
العمل الحيوي استنفد كل ما على الأرض من ذرات الكربون الحرة، وما دُفن منها تحت الثرى بسبب العوالم الجيولوجية، وهي تبعث الآن من مدفنها فحمًا حجريًّا، وتطلق وقيدًا لتعود إلى الحياة في النبات والحيوان. هذه دورات كبيرة عامة تشمل كل ما على سطح الأرض وطبقاتها منذ صلحت الأرض للحياة، وقد تكررت هذه الدورية ملايين المرات، وستتوالى ملايين أخرى إلى أن تذوب الشمس، وتنخفض الحرارة إلى حدٍّ لا تستطيع الألفة الكيماوية عندهُ أن تجمع العناصر الأربعة وتفرقها.
إن عمل هذه الألفة الكيماوية عجيب، تكاد هذه الألفة تتجلى لنا ذات قدرة ذاتية بارعة، وذات إرادة حرة متفننة تتراءى لنا كأنها تتلاعب بأربعة من عناصر الطبيعة دون اﻟ ٩٢ عنصرًا الأخرى؛ فتؤلف من ذرَّاتها كل يوم أشكالًا مادية حيوية جديدة على مرور الزمان، حتى إذا جعلنا نَصِف هذه الأشكال ونُعلل تسلسلها بَذَلنا من المجهود ألوف أضعاف ما نبذله في وصف أجزاء الكون المادي وحركاته وروابطه؛ ذلك الكون العظيم العديد العوالم الذي لا يكاد عالَمنا الحيوي الأرضي هذا يُحسب نقطة وهمية فيه.
ذلك الكون عظيم في ضخامة مادته، وعظيم في رِحاب حيزه، وعظيم في أنهار زمانه الجارية في مجاري الوجود. وأما عالمنا هذا الحيوي فبالرغم من ضآلة مادته وحيزه ومجرى زمانه وقصره، فهو أعظم من ذاك جدًّا في تنظيمه، وأعجب جدًّا في أنظمته؛ فالبيولوجي والبكتيريولوجي والهيستولوجي والفسيولوجي … إلخ يرون من أعمال الحياة وتفاعلاتها المتنوعة العديدة العجب العجاب الذي لا يرى الفلكي الطبيعي مُعادلًا له لا في الكم ولا في الكيف. إن متحف تاريخ الحياة القصير يحتوي على صور مُختلفة لا يفرغ العقل البشري من استعراضها، وأمَّا متحف تاريخ الأكوان الذي يكاد يكون غير متناهٍ ففي وسع العقل أن يستعرضه في فترة من العمر.
(٣) الألفة الكيمية سر الحياة
فلماذا هذا العالم الحيوي الصغير أعظم فنونًا من ذلك الكون الأعظم؟ في حين أنَّ كلا العالمين من مجتمعات مادة واحدة — فوتونات فبروتونات فإلكترونات وذرات وجزيئات — تُرى أين السر؟
لا بدَّ أن يبدر إلى ذهن القارئ أن السر هو في الألفة الكيماوية المختصة بالعناصر الأربعة التي هي عتاد الحياة، فهي أقدر من الجاذبية العامة في التجميع والتفريغ وتنويع الدوريات كما رأيت في غضون هذا البحث. ولكنَّ هذه الأُلفة الكيماوية موجودة في جميع الأجرام التي تجمعت من السدم الشفافة؛ ففي الشموس ترى عناصر متعددة لا وجود لمثلها في أرضنا، وترى جزيئات مُؤتلفة منها وبعضها كما في أرضنا، وما هذه الألفة الكيماوية إلا ضربٌ من الجاذبية.
أجل إن الألفة الكيماوية موجودة هناك ولكن ليس السرُّ في وجودها، بل في قيودها؛ فهي لا تستطيع في أي جرم غير الأرض أنْ تؤلف حياة من عناصرها الأربعة؛ لأنَّ الحرارة هُناك شديدة جدًّا لا تدع للأُلفة الكيماوية أنْ تلعب أدوارها الحيوية في بعض بسائط الجزيئات، وفي الأجرام التي بردت وجمدت كأقزام النُّجوم المزدوجة لا تستطيع الألفة الكيماوية أنْ تلعب أدوارها الفنية العجيبة لعدم وجود الحرارة الكافية لعملها. ما وجدت مسرحًا لها إلا أرضنا، وربما وجدت مسارح أخرى مثلها لا ندري؛ لأنَّ عملها الحيوي لا يحدث إلا حيث تتراوح الحرارة بين الجليد والغليان، وحيث توجد أشكال المادة الثلاثة — الجمود والسيولة والغازية — في جوٍّ هوائي يشمل أوكسجينًا، وفي بحر مائيٍّ يشمل هيدروجنًا، وحيث الكربون والنتروجن مبعثران في الأشكال الثلاثة.
من أين هذه الحرارة المعتدلة في الأرض؟
ليست من حاصلات الأرض؛ لأن الأرض باردة جامدة لا تشع إلَّا النزر اليسير من حرارتها، وإنما الحرارة الواردة من الشمس تُموِّن الأرض بحرارة كافية للعمل الحيوي، لا أقل ولا أزيد مما هو لازم. فالألفة الكيماوية التي تلعب أدوارها على مسرح الأرض الحيوي تعتمد على ما تجود به الشمس من الحرارة من غير تفريط ولا إفراط، أو غير تبذير ولا بُخل، ولولا وجود الشمس على بُعد كافٍ لإرسال ذلك القدر من الحرارة اللازمة ما استطاعت الألفة الكيماوية أن تنتج الحياة البتة.
وما هي الألفة الكيماوية؟ أليست فرعًا من الجاذبية العامة؟ أليست بنتها وربيبتها؟ فلا بدع في أن الجاذبية العامة التي هي علة الدوران والتشعع تجعل الشمس ترسل إلى الفضاء أشعة فوتونات حاملة طاقة وقوة دورانية، فيصيب منها الأرض رشاش يمنح عناصر الحياة الأربع قوة التجاذب — التآلف — والدوران. فالألفة الكيماوية الحيوية مستمدة من الجاذبية العامة، وانحصارها في مجال قصير من الحرارة الشمسية سمح لها أن تلعب أدوارها الفاتنة وتتفنن بها. لم يكن ذلك عن قصد من الشمس ولا من مجيء الأرض عمدًا إلى ظروف مهيِّئتها ملعبًا لهذه الأدوار، وإنما هي الصدفة الغريبة التي لا ندري إن كانت مفعول إرادة مُستقلة حرة — حسبنا أن نعلم أننا حينما رأينا صورة من صور الوجود مألوفة أو غريبة وجدنا هنا الجاذبية تعمل عملها تجميعًا وتفريعًا دوريين.
ولكن هل يقف عملها هنا؟
إذن كيف نشأ العقل؟
(٤) ما هي الحياة التي نراها؟ وكيف نراها؟
في بحثنا الآنف عنها لم نجد إلا ألفة كيماوية تشتغل في ٤ عناصر، فأين الحياة إذن؟ أهي الألفة الكيماوية؟ لا؛ لأننا نعرف ألفة كيماوية بين عناصر أخرى، ولكن ليس فيها حياة، فما هي الحياة إذن؟
لم يتيسر لنا إلا هذا الجواب: ما هي إلا ظاهرة خاصة بتآلف هذه العناصر الأربعة. وما هي هذه الظاهرة؟ هي صور تركبات كيماوية متعددة من عناصرها الأربعة؛ إذن لا ذاتية ولا شخصية للحياة قائمة بنفسها — إذا لم تكن ثمت ذاتية خفية وراء هذه الظاهرات. هذا الكتاب الذي تطالعه مؤلف من العناصر الأربعة وغيرها، فالعناصر ليست الكتاب، وإنما تُجمع العناصر مُتآلفة على هذا الشكل هو الكتاب؛ فالكتاب صورة من صور تجمعها، والبيت الذي تقيم فيه مبني من مواد مؤلفة من عناصر أخرى، فالعناصر ليست البيت وإنما تجمعها على هذا الشكل هو البيت؛ فالبيت صورة من صور تجمعها. كذا الحياة ظاهرة من ظواهر المادة لا المادة نفسها. فهل العقل كذلك؟