تمهيد طبعة ١٩٨٢
لقد ألقيت المحاضرات التي ساعدتني زوجتي في إخراجها في صورة هذا الكتاب منذ ربع قرن مضى. لذا، صار تذكر المناخ الثقافي الذي ساد في ذلك الوقت أمرًا صعبًا حتى للأشخاص الذين كانوا في ذلك الوقت أشخاصا فاعلين، ناهيك عن نصف السكان الحاليين الذين كانت أعمارهم في ذلك الوقت أقل من عشرة أعوام، أو لم يكونوا قد ولدوا بعد. أما أولئك الذين كان يساورهم منا القلق حيال المخاطر التي تتعرض لها الحرية والرفاهية من نمو الدور الحكومي ومن انتصار سياسة دولة الرفاهة والأفكار الكينزية، فقد كانوا أقلية ضئيلة اعتبرتها الغالبية العظمى من زملائنا المثقفين غريبي الأطوار.
وحتى بعد مرور سبعة أعوام، عندما نشر هذا الكتاب للمرة الأولى، كانت الآراء الواردة فيه بعيدة للغاية عن الاتجاه السائد؛ حتى أنه لم تعلق عليه أي صحيفة أو مجلة قومية رئيسية — سواء نيويورك تايمز أو هيرالد تريبيون (التي كانت في ذلك الوقت تنشر في نيويورك) أو شيكاجو تريبيون أو التايم أو نيوزويك أو حتى سترداي ريفيو — على الرغم من أن مجلة إيكونوميست اللندنية كتبت عنه وكذلك فعلت المجلات المتخصصة الرئيسية. وهو كتاب موجه لعامة الأفراد، وكتبه أستاذ بجامعة مرموقة في الولايات المتحدة وقدر له أن يبيع ما يربو عن ٤٠٠٠٠٠ ألف نسخة في الثمانية عشر عامًا التالية. من الصعب تخيل أن يلقى كتابًا مماثلًا — كتبه عالم اقتصاد له مكانة مهنية مماثلة، لكنه يؤيد سياسة دولة الرفاهية أو الاشتراكية أو الشيوعية — مثل هذا التجاهل.
لقد تأكد مدى تغير المناخ الفكري في ربع القرن المنصرم بالاستقبال المختلف كلية الذي لاقاه كتابي «حرية الاختيار» الذي شاركتني زوجتي تأليفه، وهو ثمرة مباشرة لكتاب «الرأسمالية والحرية» ويستعرض نفس الفكرة الأساسية وصدر عام ١٩٨٠؛ إذ قامت كل مجلة رائدة بنشر نقد للكتاب، وهي كثيرًا ما كانت تأتي في صورة مقالة خاصة مطولة. ولم يتم إعادة طبعه جزئيًا في بوك دايجست فحسب، لكنه ظهر على الغلاف أيضًا. فقد بيع من كتاب «حرية الاختيار» ما يقرب من ٤٠٠ ألف نسخة بغلاف مقوى في الولايات المتحدة في العام الأول، وقد ترجم إلى اثنتي عشرة لغة، وصدر منه نسخة ذات غلاف ورقي خفيف في الأسواق في أوائل عام ١٩٨١.
إننا نعتقد أن الاختلاف في استقبال الكتابين لا يرجع إلى اختلاف في الجودة؛ فلا شك أن الكتاب الأول كان أكثر فلسفة ونظرية، ومن ثم أكثر جوهرية. أما كتاب «حرية الاختيار» كما ذكرنا في تمهيده، ففيه «تزداد التفاصيل العملية ويتضاءل الإطار النظري»، فهو مكمل لكتاب «الرأسمالية والحرية»، وليس بديلًا له. ولكن يمكن أن يرجع الاختلاف في استقبال الكتابين إلى تأثير التليفزيون. فكتاب «حرية الاختيار» يرتكز على حلقات تحمل الاسم نفسه وتذاع بمحطة بي بي إس، وكان معدًا للصدور أثناء إذاعة هذه الحلقات. وليس هناك شك في أن نجاح الحلقات التلفزيونية سلط الأضواء على الكتاب.
وهذا التفسير سطحيًّا نظرًا لأن وجود البرنامج التلفزيوني نفسه ونجاحه يُعَد دليلًَا على التغير في المناخ الفكري. فلم يطلب منا أحد قط في الستينيات تقديم حلقات تلفزيونية على غرار برنامج «حرية الاختيار»؛ فلم يكن هناك إلا عدد قليل ممن يمكن أن يرعوا مثل هذا البرنامج، هذا إن كان هناك أحد من الأساس. فإذا حدث وأُنْتِجَ ذلك البرنامج بأي حال، فلم يكن من المتوقع أن يلقى أي إقبال جماهيري ملحوظ. فالاستقبال المختلف للكتاب الثاني ونجاح الحلقات التليفزيونية نتائج طبيعية للتغير في مناخ الرأي. ولا تزال الأفكار في كتابينا بعيدة عن الاتجاه الفكري السائد، بيد أنهما على الأقل يتمتعان الآن بالتقدير والاحترام في الأوساط الفكرية ومقبولين إلى حد بعيد على الأرجح بين العوام.
إن التغيير في مناخ الرأي وليد التجربة، وليس وليد النظرية أو الفلسفة. لقد تحولت كل من روسيا والصين، اللتين كانتا ذات يوم الآمال العريضة للنخب الفكرية، إلى مأساة كما هو واضح. أما بريطانيا العظمى — التي شهدت نشأة نظرية فابيان الاشتراكية صاحبة التأثير الكبير في المفكرين الأمريكان— فوقعت في ورطة كبيرة. وإذا نظرنا إلى أمريكا نظرة أكثر عمقًا، لوجدنا أن المفكرين، اللذين يمثلون دومًا أنصارًا متحمسين للحكومة المهيمنة كما أنهم في غالبيتهم من مؤيدي الحزب الديمقراطي، قد شعروا بخيبة الأمل بسبب حرب فيتنام، لا سيما جراء الدور الذي لعبه الرئيسان كيندي وجونسون؛ فقد تغير الكثير من برامج الإصلاح العظيمة — تلك التي مثلت، في الماضي، علامات بارزة، كبرنامج الرفاهية والإسكان الشعبي ودعم النقابات المهنية والتكامل في المدارس والدعم الحكومي للتعليم وسياسة التمييز الإيجابي … كل ذلك انهار. أما باقي السكان، فقد تأثرت مواردهم المالية سلبًا بالتضخم والضرائب المرتفعة. وهذه الظواهر، وليس القدرة الإقناعية للأفكار الواردة في كتب المبادئ، هي ما يفسر التحول من الهزيمة الساحقة لباري جولدووتر عام ١٩٦٤ إلى النصر الكاسح لرونالد ريجان عام ١٩٨٠ — وهما رجلان يدعوان، في الأساس، للبرنامج نفسه وللرسالة نفسها.
ما إذن، دور الكتب المشابهة للكتاب الحالي؟ دورها مزدوج في رأيّ. أولًا، طرح موضوع للأحاديث العادية بين الناس. فكما كتبنا في تمهيد كتاب «حرية الاختيار»: «إن الشخص الوحيد الذي يمكنه إقناعك حقًا هو نفسك. عليك أن تدير الأمور في رأسك أثناء استرخائك، ثم عليك أن تدرس الآراء الكثيرة المخالفة. بعد ذلك، دع الأفكار تختمر في ذهنك. وبعد مدة طويلة، حول تفضيلاتك إلى قناعات.»
ثانيًا، الإبقاء على الخيارات متاحة حتى تجعل الظروف من التغيير ضرورة. فهناك جمود هائل — سيادة مطلقة للوضع الراهن — في القطاعات الخاصة وفي القطاعات الحكومية على وجه الخصوص. ولن يتحقق التغيير الحقيقي سوى بالأزمات — سواء كانت قائمة، أو أخذت بوادرها تلوح الأفق. فعندما تحدث تلك الأزمة، تتحدد الإجراءات المتبعة وفقًا للأفكار المحيطة. وهذا، حسبما أرى، هو الوظيفة الأساسية لنا: ابتكار بدائل للسياسات القائمة، والحفاظ على حيويتها وتوفرها حتى يتحول ما هو مستحيل سياسيًا إلى ما هو حتمي سياسيًا.
ويمكن أن تتضح وجهة نظري من خلال القصة الشخصية التالية. في وقت ما في أواخر الستينيات، دخلت في مناظرة في جامعة ويسكونسن مع ليون كيزرلنج، وهو مؤيد متعنت لمبدأ الجماعية. وكان يعتقد أن نقطة تفوقه تكمن في السخرية من آرائي باعتبارها رجعية تمامًا، واختار أن يفعل ذلك بقراءة جزء من نهاية الفصل الثاني من هذا الكتاب، وهو قائمة البنود التي قلت إنها «لا يمكن، حسبما أرى، أن تبرر تبريرًا صحيحًا في ضوء المبادئ الموضحة أعلاه.» كان يلقى استحسانًا كبيرًا من الطلاب الحاضرين أثناء استمراره في تفنيد انتقاداتي لبرامج دعم الأسعار والتعريفة الجمركية وما إلى ذلك، حتى جاء إلى النقطة ١١ وهي: «التجنيد الإلزامي لتزويد النظام العسكري بالجند في أوقات السلم.» لقد لاقى هذا التعبير عن معارضتي للتجنيد الإلزامي استحسانًا متقدًا جعله يخسر تأييد الحضور والمناظرة.
ولمّا كان الشيء بالشيء يذكّر، فالتجنيد الإلزامي كان البند الوحيد، في قائمتي للأربعة عشر نشاطًا حكوميًا غير المبررين، الذي ألُغي حتى الآن — ولم يكن ذلك الانتصار نهائيًا، بأي حال. ففيما يتعلق بالعناصر الكثيرة الأخرى، لا زلنا ننحرف بعيدًا عن المبادئ التي يستند إليها هذا الكتاب — وهو ما يُعَدُّ، من ناحية، سببًا في تغير مناخ الرأي، ومن ناحية أخرى، دليلًا على أن التغير لم يترك إلا تأثيرًا عمليًا محدودًا، حتى الآن. وفي ذلك دليل آخر على أن الموضوع الأساسي لهذا الكتاب وثيق الصلة بالظروف السائدة عام ١٩٨١ تمامًا، كما إنه يرتبط بالمناخ العام الذي ساد عام ١٩٦٢، على الرغم من أن بعض الأمثلة والتفاصيل قد تُعتبر، الآن، قديمة وفي غير محلها.