توزيع الدخل
هناك عامل محوري في نمو الاتجاه نحو مبدأ الجماعية في هذا القرن — على الأقل في البلاد الغربية — تمثل في الإيمان بالمساواة في الدخل كهدف اجتماعي والرغبة في استخدام سلطة الدولة في النهوض به، ولكنَّ هناك سؤالين مختلفان للغاية لا بد من طرحهما لتقييم هذا الاتجاه المؤيد لمذهب المساواة والإجراءات المؤيدة للمذهب التي نتجت عنه. السؤال الأول معياري وأخلاقي: ما مبرر تدخل الدولة لتعزيز المساواة؟ والسؤال الثاني إيجابي وعلمي: ماذا كانت نتيجة الإجراءات التي اتُّخِذَتْ فعلًا؟
(١) أخلاقيات التوزيع
إن المبدأ الأخلاقي الذي يمكن أن يبرر التوزيع المباشر للدخل في مجتمع قوامه السوق الحرة هو «يُوَزَّعُ الدخلُ وفقًا لما ينتجه كل فرد بمساعدة أدواته الخاصة» حتى إن عمل هذا المبدأ يعتمد ضمنيًا على تدخل الدولة. تعد حقوق الملكية مسائل قانونية وأعراف اجتماعية، وكما شاهدنا، فإن تعريفها وتطبيقها من أهم وظائف الدولة. ومن الممكن أن يعتمد التوزيع النهائي للدخل والثروة في إطار عمل هذا المبدأ تمامًا على قوانين الملكية التي تتبناها الدولة على نحو واضح.
ما العلاقة بين هذا المبدأ وغيره الذي يبدو مستحسنًا من الناحية الأخلاقية، ألا وهو المساواة في المعاملة؟ إن المبدأين غير متناقضين جزئيًا؛ فقد يكون الدفع وفق الناتج مبدأً ضروريًا لتحقيق المساواة الحقيقية في المعاملة. لنفترض أن هناك أفرادًا لدينا استعداد لاعتبارهم سواسية في القدرة والموارد الأساسية، إذا كان بعضهم يفضل أكثر السلع الترفيهية وآخرون يفضلون السلع التجارية. في هذه الحالة يصبح عدم المساواة في العائد عبر السوق ضروريًا لتحقيق المساواة في العائد الإجمالي أو المساواة في المعاملة. قد يفضل شخص وظيفة روتينية بها وقت استرخاء كبير يستدفأ خلاله بأشعة الشمس عن وظيفة مرهقة تقدم له راتبًا أعلى، فيما قد يفضل شخصٌ آخرُ العكسَ. وإذا تساوى كلاهما في الراتب، ستكون هناك حالة أكثر جوهرية من عدم الإنصاف في دخليهما. وعلى نحو مماثل، تقتضي المساواة في المعاملة أن يتلقى الفرد إذا عمل في وظيفة سيئة وغير جذابة أجرًا أكبر من أجره إذا عمل في وظيفة جيدة ومُرْضِيَة، وهذا النوع من انعدام المساواة هو الأوضح. وتعوض الاختلافاتُ في الدخل النقدي الاختلافاتِ في السمات الأخرى من المهنة أو الحرفة، وباللغة الاصطلاحية الخاصة بعلماء الاقتصاد، تسمى الاختلافات في الدخل النقدي «اختلافات تعادلية» لازمة لجعل كافة «المزايا الصافية» النقدية وغير النقدية متطابقة.
وهناك نوع آخر من انعدام المساواة يظهر خلال عمل السوق وهو ضروري أيضًا بأسلوب أكثر دقة لتحقيق المساواة في المعاملة، أو — بعبارة أخرى — لإرضاء ميول الأشخاص. ويمكن توضيح هذا الأمر ببساطة أكثر من خلال مثال عن اليانصيب. لننظر إلى مجموعة من الأفراد لديهم في البداية مواهب متساوية ووافقوا جميعًا على الاشتراك طواعية في اليانصيب بجوائز غير متكافئة للغاية. سنجد أن الناتج من انعدام المساواة في الدخل أمر ضروري فعلًا للسماح للأفراد المذكورين بتحقيق أقصى استفادة من المساواة المبدئية بينهم، ويعادل توزيع الدخل بعد ذلك حرمانهم من فرصة الاشتراك في اليانصيب. وتتضح أهمية هذه الحالة عند التطبيق العملي أكثر مما تتضح إذا ما نظرنا لفكرة «اليانصيب» بشكلها الحرفي. يعود اختيار الأفراد الوظائف والاستثمارات وما إلى ذلك جزئيًا إلى مقدار تقبلهم لفكرة النتائج غير المضمونة؛ فالفتاة التي تسعى لأن تصبح فنانة سينمائية بدلًا من موظفة حكومية تختار عمدًا الاشتراك في اليانصيب، وبالمثل الفرد الذي يستثمر في أسهم يورانيوم منخفضة القيمة بدلًا من السندات الحكومية. إن التأمين ليس سوى طريقة للتعبير عن موقف الأشخاص من الأمور مضمونة النتائج، وحتى هذه الأمثلة لا توضح تمامًا المدى الذي قد يكون فيه انعدام المساواة الفعلية هو النتيجة المتحققة من للنظم الهادفة إلى إشباع ميول الناس، وأيضا تتأثر نفس نظم دفع الأجور للموظفين وتوظيفهم بهذه التفضيلات. فإذا كان لدى جميع الفنانات المحتملات ميل ضد الأمور غير مضمونة النتائج، قد تظهر «جمعيات تعاونية» من فنانات سينمائيات، يتفق أعضاؤها مسبقًا على اقتسام إيرادات الدخل بينهن بالتساوي بشكل أو بآخر؛ ومن ثم يكون لديهن ضمان من خلال المشاركة في تجميع المخاطر. وإذا انتشر ذلك الاتجاه على نطاق واسع، ستصير شركات متنوعة وضخمة تجمع بين المشروعات المحفوفة بالمخاطر والمشروعات الآمنة، وسيصبح من النادر وجود منقبين عن النفط في منطقة غير معروفة بإنتاج النفط، وكذلك منشآت خاصة، وشراكات صغيرة.
وحقًا، فليس ما سبق إلا طريقة واحدة فقط لتفسير الإجراءات الحكومية لإعادة توزيع الدخل من خلال الضرائب التصاعدية وما شابه. ويزعم البعض أنه لسبب أو لآخر — ولعله التكاليف الإدارية — لا تستطيع السوق توليد مجموعة اليانصيب أو نوع اليانصيب الذي يرغبه أفراد المجتمع، وتلك الضرائب التصاعدية ما هي إلا مشروعًا حكوميًا — إن جاز التعبير — لتحقيق ذلك. ليس هناك شك في أن وجهة النظر هذه تنطوي على شيء من الحقيقة، وفي الوقت نفسه، يمكنها بالكاد تبرير الضرائب الحالية، لا لشيء إلا لأن الضرائب فُرِضَتْ بعدما عُرفَتْ على الملأ هوية مَن سحب الورقة التي تحتوي على الجوائز ومَن سحب الورقة الفارغة في يانصيب الحياة، وأصبح الأفراد الذين يعتقدون أنهم سحبوا الورقة الفارغة ممن يؤيدون الضرائب في الغالب. وفي ذلك السياق، يمكن للمرء أن يبرر تأييد أحد الأجيال لتطبيق برامج ضريبية على جيل لم يأت بعد. وفي اعتقادي، قد يسفر أي إجراء من ذلك النوع عن برامج ضريبة دخل أقل تصاعدية للغاية من البرامج الحالية، على الأقل نظريًا.
ومع أن قدرًا كبيرًا من انعدام المساواة في الدخل والناتج عن دفع الأجور وفقًا للإنتاج يعكس اختلافات «تعادلية» أو إرضاءً لميول الناس تجاه الأمور غير مضمونة النتيجة، يعكس جزء كبير الاختلافات المبدئية في المواهب سواء الخاصة بالمقدرة البشرية أو بالممتلكات، وهذا الجزء ما يثير القضية الأخلاقية الصعبة بحق.
هناك نقاش واسع النطاق بشأن ما إذا كان من الضروري التمييز بين انعدام المساواة في المواهب الشخصية وبين انعدامها في الممتلكات، وبين انعدام المساواة الناتج عن الثروة الموروثة وبين ذلك الناتج عن الثروة المكتسبة. إن انعدام المساواة الناتج عن الاختلافات في القدرات الشخصية — أو الناتج عن الاختلافات في الثروة التي جمعها الشخص الذي نحن بصدده — أمر عادي ومقبول، أو على الأقل ليس شديد الغرابة كما هو الحال في الاختلافات الناتجة عن الثروة الموروثة.
إن التمييز غير مبرر؛ هل هناك أي مبرر أخلاقي للعائدات المرتفعة التي يحصل عليها الفرد الذي ورث عن والديه صوتًا مميزًا عليه طلب كبير أفضل من مبرر العائدات التي يحصل عليها فرد ورث ممتلكات؟ لدى أبناء المسئولين الحكوميين في روسيا احتمالات أعلى للحصول على الدخل — وربما لسداد الديون أيضًا — من أبناء الفلاحين. هل هذا أمر مبرر أكثر أو أقل من الاحتمالات الأعلى للدخل التي يتمتع بها ابن مليونير أمريكي؟ يمكننا النظر إلى هذا السؤال نفسه نظرة مختلفة. يمكن للأب الذي يمتلك ثروة ويرغب في نقلها لولده فعل ذلك بطرق مختلفة؛ فيمكنه استخدام مبلغ ما من المال لتمويل تدريب ابنه، كمحاسب قانوني معتمد على سبيل المثال، أو بتقديم مال له لتأسيس مشروع تجاري، أو إنشاء صندوق ائتمان يوفر له دخل ملكية. في أي من هذه الحالات، سيكون لدى الطفل دخل أعلى مما هو متوقع. لكن في الحالة الأولى، سيعتبر دخله ناتج عن القدرات البشرية، وفي الحالة الثانية سيعتبر دخله ناتج عن الأرباح وفي الثالثة كناتج عن ثروة موروثة. هل هناك أي أساس للتفريق بين هذه الفئات من الإيرادات على نحو أخلاقي؟ في النهاية يبدو أنه من غير المنطقي القول إن فردًا له الحق فيما أنتجه بقدراته الشخصية أو فيما تولده له ثروته التي جمعها، ولكنه ليس له الحق في نقل ثروته لأبنائه، أو القول إنه يمكن للمرء استخدام دخله في حياة عامرة بالملذات لكن لا يمكنه إعطاء دخله لورثته، ولا شك أن الاحتمال الأخير إحدى طرق استخدام هذا الفرد لمكاسبه.
إن حقيقة عدم صحة هذه الحجج المناهضة لما يسمى بالمبدأ الأخلاقي الرأسمالي لا تؤكد بالطبع أن المبدأ الأخلاقي الرأسمالي مقبول، فأنا أرى أنه من الصعب تبرير قبوله أو رفضه، أو تبرير أي مبدأ بديل، كما أنني أجد نفسي منساقًا إلى الاعتقاد بوجهة النظر القائلة إنه يستحيل النظر إلى المبدأ الأخلاقي الرأسمالي في حد ذاته كمبدأ أخلاقي، وأنه لا بد من اعتباره ذريعة أو نتيجة مباشرة لمبدأ آخر كالحرية.
ويمكن لبعض الأمثلة الافتراضية أن تقدم لنا توضيحًا للصعوبة الأساسية. لنفترض أن هناك أربعة أفراد من شخصية روبنسون كروزو، يعيشون وحدهم تمامًا فوق أربع جزر في المنطقة نفسها. سقط أحدهم فوق جزيرة كبيرة وغناء مما مكنه من العيش برفاهية، فيما تصادف أن الثلاثة الآخرين سقطوا فوق جزر صغيرة وقاحلة مما جعلهم يعيشون بصعوبة بالغة. وذات يوم، اكتشفوا وجود بعضهم بعضًا، وبالطبع سيكون من كرم أخلاق كروزو الذي يعيش فوق الجزيرة الكبيرة إذا دعاهم للانضمام إليه واقتسام ثروته معهم. لكن لنفترض أنه لم يفعل ذلك، هل من المبرر أن يتحد الثلاثة الآخرين ويجبرونه على اقتسام ثروته معهم؟ قد تستهوي الموافقة على هذا الأمر العديد من القراء، لكن قبل الاستسلام لذلك الميل، لننظر إلى موقف مشابه تمامًا في صورة أخرى. لنفترض أنك أنت وثلاثة من أصدقائك تسيرون بمحاذاة الشارع وتصادف أنك لمحت ورقة نقدية قيمتها عشرون دولار فوق الرصيف وأخذتها. سيكون من كرم أخلاقك بالطبع إذا قسمتها بالتساوي بينكم، أو على الأقل دعوتهم لاحتساء مشروب. لكن لنفترض أنك لم تفعل ذلك، هل من المبرر أن يقوم الثلاثة الآخرون بالاتحاد سويًا وإرغامك على اقتسام العشرين دولار معهم بالتساوي؟ أعتقد أن معظم القراء سيميلون إلى الإجابة بالنفي. ومع مزيد من التفكير، من الممكن أن يستنتج القراء أنه من الواضح أن اقتسام المال من البداية ليس في حد ذاته الفعل «الصحيح». هل نحن مهيئون لإرغام أنفسنا أو أصحابنا بأنه ينبغي للفرد الذي تتخطى ثروته متوسط ثروة جميع الأشخاص في العالم التخلص من الزيادة عن طريق توزيعها بالتساوي على باقي سكان العالم؟ قد نبدي إعجابنا وإشادتنا بهذا الفعل إذا قام به حفنة قليلة؛ بيد أن احتفالات لتبادل الثروات والهدايا — على غرار احتفال بوتلاتش عالمي لدى الهنود الحمر — قد يجعل وجود عالم متحضر ضربًا من المستحيل.
بأية حال، ليس من الصواب تدارك الخطأ بخطأ مثله. إن عدم استعداد روبنسون كروزو الثري أو الرجل المحظوظ الذي عثر على العشرين دولار لعدم اقتسام الثروة لا يبرر استخدام الآخرين للإكراه. هل يمكن تبرير أن نكون الحكام في حالتنا الخاصة بحيث نقرر بأنفسنا متى يجب استخدام العنف لننتزع ما نراه حقنا من الآخرين؟ أو ما نراه ليس حقهم؟ يمكن النظر إلى معظم الاختلافات في المكانة الاجتماعية أو المنصب أو الثروة كنتاج الفرصة بدرجة كبيرة. إن الرجل الذي يعمل بكد ويدخر ننظر إليه باعتباره «جديرًا بالتقدير»، مع أن هذه الصفات ترتكز بدرجة كبيرة إلى الجينات التي كان محظوظًا بما يكفي (أو غير محظوظ) لوراثتها.
وبالرغم من الولاء الكاذب الذي ندعيه للجدارة مقارنة بالحظ، فنحن مستعدون لقبول عدم المساواة الناشئ عن الحظ أكثر من استعدادنا لتقبل عدم المساواة المنسوب إلى الجدارة. إن الأستاذ الجامعي سيحسد زميله الذي يربح سباق خيول، ولكن من غير المحتمل أن يكن لزميله الرابح حقدًا أو يشعر بالظلم في المعاملة. لكن إذا تلقى زميله علاوة طفيفة جعلت من راتبه أعلى من راتب ذلك الأستاذ الجامعي، فمن المحتمل كثيرًا أن يشعر الأستاذ بالاضطهاد. بالرغم من ذلك، إن الحظ — كما العدالة — أعمى؛ فزيادة الراتب كانت حكمًا متعمدًا يرتكز إلى جدارة نسبية.
(٢) الدور الوسيلي للتوزيع وفق الناتج
في مجتمع يقوم على السوق، لا يكون الدور الفعال للدفع وفق الناتج توزيعيًا في الأساس، بل تخصيصيًا. وكما أشرنا في الفصل الأول، فإن المبدأ المحوري لاقتصاد السوق هو التعاون عبر التبادل الطوعي؛ فيتعاون الأفراد مع غيرهم لأنه يمكنهم بهذه الطريقة إشباع رغباتهم بأسلوب أفعل، لكن ما لم يتلقَ الفرد كل ما يضيفه إلى الإنتاج، سيدخل في تبادلات على أساس ما يمكن أن يتلقاه لا ما يمكن أن ينتجه. إذا تلقى كل طرف ما أسهم به في الناتج الكلي، فلن تحدث التبادلات التي كان من الممكن أن تكون مفيدة لجميع الأطراف. بالتالي بصبح الدفع وفق الناتج ضروريًا كي تُستَغَلُّ الموارد بأكبر قدر ممكن من الفاعلية وذلك في ظل نظام يعتمد على التعاون الطوعي على الأقل. ومع وجود المعرفة الكافية، يمكن أن يحل حافز المكافأة محل الإكراه مع أنني أشك في إمكانية ذلك؛ إذ باستطاعة المرء العبث في نظام الأشياء الجامدة من حوله، أو يمكنه إجبار الأفراد على التواجد في أماكن بعينها في أوقات بعينها، لكن من الصعب عليه أن يجبر الأفراد على بذل أقصى ما في وسعهم. بعبارة أخرى، يؤدي إحلال التعاون محل الإكراه من إلى تغيير مقدار الموارد المتوفرة.
مع أن الوظيفة الجوهرية للدفع وفق الناتج في إطار مجتمع يرتكز على السوق هي التمكين من تخصيص الموارد بفاعلية دون حدوث إكراه، فمن غير المحتمل أن تُقْبَلَ ما لم يُنْظَرْ إليها على أنها تحقق عدالة توزيعية، ولا يمكن أن ينعم أي مجتمع بالاستقرار ما لم تكن هناك منظومة أساسية من الأحكام التقديرية التي يسلم بها الأغلبية العظمى من أفراده. فبعض الأعراف يجب تقبلها باعتبارها «مطلقة» وليست «وسيلية» فحسب. وأعتقد أن الدفع وفق الناتج كان إلى حد بعيد — ولا يزال — واحدًا من بين تلك الأحكام التقديرية أو الأعراف.
يمكن توضيح هذا الأمر عن طريق فحص الأسباب التي هاجم على أساسها المعارضون — من داخل النظام الرأسمالي — توزيع الدخل الناتج عنها. من بين السمات المميزة لمنظومة القيم الرئيسية لمجتمع ما هي أن جميع أفراده يسلمون بها، سواء اعتبروا أنفسهم مؤيدين أو معارضين لنظام المؤسسة الاجتماعية، وحتى أشد المنتقدين بالداخل للرأسمالية وافقوا على الدفع وفق الناتج كمبدأ عادل أخلاقيًا.
جاءت الانتقادات الأعمق أثرًا من الماركسيين؛ فقد زعم ماركس أن العمال يتعرضون للاستغلال. لماذا؟ لأن العمال يخرجون الإنتاج كله ولا يحصلون سوى على جزء منه؛ والباقي «فائض القيمة» عند ماركس. حتى إذا سلمنا بالحقائق المتضمنة في هذا الزعم، فإن الحكم التقديري يترتب عليها فقط إذا وافق المرء على المبدأ الأخلاقي الرأسمالي؛ فالعمال يتعرضون «للاستغلال» فقط في حالة إن كان للعامل حق في ما ينتجه، وإذا سلم المرء بدلًا من ذلك بالمقدمة المنطقية الاشتراكية التي تفيد بأن الدخل يُوَزَّعُ «من كلٍ حسب مقدرته، ولكلٍ حسب احتياجاته.» — بقطع النظر عما يمكن أن تعنيه هذه العبارة — فإنه من الضروري مقارنة ما ينتجه العامل، ليس مع ما يحصل عليه لكن مع قدرته، والمقارنة بين ما يحصل عليه العامل ليس مع ما ينتجه لكن مع ما يحتاجه.
لا شك أن حجة ماركس خاطئة بناء على أسباب أخرى أيضًا. بادئًا ذي بدء، هناك خلط بين الناتج الكلي لكافة الموارد المتعاونة وبين الكمية المضافة إلى الناتج؛ وهو ما يطلق عليه علماء الاقتصاد الناتج الحدي. وما يثير الانتباه أكثر أن هناك تغيرًا غيرَ معلن في معنى «العمالة» عند الانتقال من المقدمة المنطقية إلى النتيجة؛ فقد أدرك ماركس دور رأس المال في إخراج المنتج لكنه اعتبر رأس المال عاملًا مضمنًا. من ثم، إذا أعدنا صياغة المقدمة المنطقية للقياس المنطقي الماركسي إعادة كاملة، ستسير على هذا النحو: «إن العمال الحاليين والسابقين يخرجون الناتج كله، ويحصل العمال الحاليون على جزء من الناتج فقط.» ستكون النتيجة المفترضة هي «تعرض العمال السابقين للاستغلال،» والإجراء الذي يجب اتخاذه هو أنه يجب أن يحصل العمال السابقون على جزء أكبر من الإنتاج، على الرغم من الغموض التام لكيفية فعل ذلك، سوى بتسجيل أحقية العمال في ذلك الجزء على شواهد قبور أنيقة.
إن تطبيق تخصيص الموارد دون وقوع إكراه هو الدور الوسيلي الرئيسي في سوق يطبق التوزيع وفق الناتج. لكنه ليس الدور الوسيلي الوحيد لما نتج من عدم مساواة. لقد أشرنا في الفصل الأول إلى الدور الذي يلعبه عدم المساواة في تقديم بؤر سُلْطَة لموازنة تركيز السلطة السياسية، إلى جانب الدور الذي يلعبه في تعزيز الحرية المدنية من خلال توفير «رعاة» لتمويل نشر الأفكار غير الشائعة أو الجديدة ببساطة. علاوة على ذلك، يوفر عدم المساواة — في الميدان الاقتصادي — «رعاة» لتمويل التجريب وتطوير منتجات جديدة لشراء أول سيارة وأجهزة التلفزيون التجريبية، ناهيك عن اللوحات الانطباعية. في نهاية المطاف، يساعد عدم المساواة في أن يتحقق التوزيع دون الحاجة إلى «السلطة» — وذلك أحد أوجه الدور العام للسوق الرامي إلى تحقيق التعاون والتنسيق دون إكراه.
(٣) حقائق توزيع الدخل
يمكن وصف نظام رأسمالي ينطوي على الدفع وفق الناتج بأنه يتضمن قدرًا كبيرا من عدم مساواة في الدخل والثروة، وهو كذلك على المستوى التطبيقي. لكن كثيرًا ما يساء تفسير هذه الحقيقة بحيث تعني أن الرأسمالية والاقتصاد الحر ينتج عنهما قدر أكبر من عدم المساواة عما في النظم البديلة، وكنتيجة مباشرة، انطوى اتساع نطاق الرأسمالية وتطورها على قدر متزايد من عدم مساواة. وما عزز من سوء التفسير هذا الطبيعةُ المضللةُ لمعظم المعدلات المنشورة حول توزيع الدخل، لاسيما إخفاقها في التمييز بين عدم المساواة على المدى القريب والمدى البعيد. لننظر إلى بعض الحقائق الأوسع مجالًا حول توزيع الدخل.
إن أبرز الحقائق — والتي تأتي على عكس الكثير من توقعات الناس — تتعلق بمصادر الدخل. كلما كانت الدولة رأسمالية أكثر، انخفض ذلك الجزء من الدخل الذي يدفع مقابل استخدام ما يعتبره الناس عامة رأس مال، وارتفع الجزء الذي يُدْفَعُ مقابل الخدمات البشرية. في البلدان النامية، كالهند ومصر وغيرهما، ما يقرب من نصف إجمالي الدخل هو دخل من الممتلكات، أما في الولايات المتحدة فإن ما يقرب من الخمس هو دخل من الممتلكات، وفي غيرها من البلدان الرأسمالية المتقدمة، لا تختلف النسبة كثيرًا. ولا شك أن هذه الدول تمتلك رأس مال أكبر كثيرًا من الدول البدائية لكنها أغنى كثيرًا في القدرة الإنتاجية لمواطنيها. من ثم، كلما ارتفع الدخل من الممتلكات، انخفضت النسبة من إجمالي الدخل. لم يكن الإنجاز الأعظم للرأسمالية في مراكمة الممتلكات، بل تمثل في الفرص التي قدمتها للرجال والنساء لتعزيز قدراتهم وتطويرها وتحسينها. ومع ذلك، يهوى أعداء الرأسمالية انتقادها بقسوة باعتبارها مادية وكثيرًا ما يعتذر الموالين للرأسمالية عن مادية الرأسمالية كتكلفة ضرورية للتقدم.
ثمة حقيقة أخرى لافتة للنظر، فعلى النقيض من التصور العام، تؤدي الرأسمالية إلى تقليص عدم المساواة أكثر من النظم الاقتصادية البديلة وأن تطور الرأسمالية قلص بشكل كبير من نطاق عدم المساواة؛ فالمقارنات — في كل مكان وزمان على حدٍ سواء — تؤكد وجهة النظر هذه، ومن المؤكد أن هناك قدرًا أقل كثيرا من عدم مساواة في المجتمعات الرأسمالية الغربية كالدول الاسكندنافية وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة عن المجتمعات المرتكزة على المنزلة الاجتماعية كالهند أو البلدان المتخلفة كمصر. أما المقارنة مع دول شيوعية كروسيا أكثر صعوبة نظرًا لندرة الدلائل وعدم موثوقيتها. لكن إذا قسنا عدم المساواة وفقًا للاختلافات في مستويات المعيشة بين الطبقات الثرية وغيرها، فمن المرجح أن تكون عدم المساواة هذه أقل بلا ريب في البلدان الرأسمالية منها في البلدان الشيوعية. وعلى ما يبدو فإنه في البلدان الغربية وحدها تقل عدم المساواة — بأي معنى من المعاني — كلما زادت درجة رأسمالية المجتمع؛ فهي أقل في بريطانيا عن فرنسا وأقل في الولايات المتحدة عن بريطانيا — بالرغم من هذه المقارنات صعبة نتيجة لمشكلة ضرورة الأخذ بعين الاعتبار طبيعة التركيب السكاني. فعلى سبيل المثال، كي نعقد مقارنة عادلة، ينبغي للمرء المقارنة بين الولايات المتحدة وليس بين المملكة المتحدة وحدها لكن بين المملكة المتحدة إلى جانب جزر الهند الغربية والمستعمرات البريطانية في أفريقيا.
إن السمة الرئيسية للتقدم والتطور على مدار القرن المنصرم أنهما حررا عامة الناس من الكدح المرير، ووفرا لهم المنتجات والخدمات التي كانت في السابق حكرًا على الطبقات الأعلى، دون زيادة المنتجات والخدمات المتوفرة للأغنياء بأي قدر مماثل. وبخلاف مجال الطب، وفرت التطورات التكنولوجية في معظمها وسائل الترف لعامة الناس والتي لطالما كانت متوفرة بصورة أو بأخرى للأغنياء فعلًا. وعلى سبيل الذكر، تقدم السباكة الحديثة والتدفئة المركزية والسيارات والتلفزيون والراديو لعامة الناس سبل راحة متكافئة مع تلك التي طالما حصل عليها الأغنياء بتشغيلهم للخدم والفنانين وطواقم الترفيه وما إلى ذلك.
من الصعب الحصول على الدلائل الإحصائية المفصلة حول هذه الظواهر في صورة توزيعات للدخل ذات مضمون وقابلة للمقارنة، مع أن مثل تلك الدراسات التي أجريت تؤكد النتائج العامة التي أشرت إليها توًا. ومع ذلك، يمكن أن تكون تلك البيانات مضللة للغاية، إذ لا يمكنها التمييز بين الاختلافات في التوازنية وغير التوازنية الدخل. على سبيل المثال، تعني الحياة العملية القصيرة للاعب البيسبول أن الدخل السنوي أثناء سنوات نشاطه لا بد من أن يكون أعلى كثيرًا من الوظائف الأخرى المتوفرة أمامه لجعلها على نفس درجة الجاذبية من الناحية المادية. لكن هذا الاختلاف يؤثر في النسب بالطريقة نفسها التي يؤثر بها أي اختلاف آخر في الدخل، كذلك تعد وحدة الدخل التي توضع مقابلها النسب ذات أهمية كبيرة أيضًا. دائمًا ما يُظهر التوزيع لمتلقي الدخل الفردي عدم مساواة أكبر كثيرًا من توزيع الدخل للوحدات الأسرية: فالكثير من الأفراد ربات بيوت يعملن بدوام جزئي أو يتلقون قدرًا ضئيلًا من دخل من الممتلكات، أو أن الكثير من الأفراد أعضاء آخرون في الأسرة في أوضاع مماثلة لربات البيوت. هل التوزيع المرتبط بالأسر تصنف فيه الأسر وفقًا للدخل الأسري الكلي؟ أم وفقًا لدخل لكل شخص؟ أو لكل وحدة مماثلة؟ هذا ليس جدالًا فارغًا على الإطلاق، فأنا أعتقد أن التوزيع المتغير للأسر وفقًا لعدد الأطفال هو العامل الأهم الذي ساهم في تقليص عدم المساواة في مستويات المعيشة في هذه البلاد إبان نصف القرن المنصرم؛ فقد فاق أهمية ضرائب الدخل والتركات التصاعدية. لقد كانت مستوياتُ المعيشة المنخفضة للغاية الناتجَ المشتركَ للعائلات ذات الدخل المنخفض والأعداد الكبيرة نسبيًا من الأطفال، إلا أن متوسط عدد الأبناء انخفض، والأهم من ذلك، أن هذا الانخفاض صاحبه وأدى إلى حدوثه عامةً قضاء فعلي على العائلات الضخمة للغاية. كنتيجة لذلك، لا يوجد إلا اختلاف بسيط بين الأسر الآن فيما يتعلق بعدد الأبناء؛ مع ذلك لن ينعكس هذا التغيير في توزيع الأسر وفقًا للحجم الإجمالي للدخل الأسري.
ثمة مشكلة كبيرة في تفسير الدلائل حول توزيع الدخل تتمثل في الحاجة إلى التمييز بين نوعين من عدم المساواة بينهما اختلافات أسياسية؛ اختلافات مؤقتة وقصيرة الأجل في الدخل واختلافات طويلة الأجل في وضع الدخل. لننظر في مجتمعين لهما التوزيع نفسه من الدخل السنوي. في أحدهما هناك حراك وتغير كبير لذا تتغير هرمية الدخل كثيرًا من عام لآخر، وفي الآخر هناك جمود كبير بحيث تقبع كل عائلة في الوضع نفسه عام بعد آخر. من الواضح أن المجتمع الثاني سيكون — بأي شكل من الأشكال — الأعلى في مقدار عدم المساواة. إن النوع الأول من عدم المساواة ممثل للتغير الديناميكي والحراك الاجتماعي والمساواة في الفرص؛ أما الآخر، فيمثل مجتمعًا يُعلي من قيمة المكانة الاجتماعية. إن الخلط بين هذين النوعين من عدم المساواة له أهمية خاصة، وتحديدًا لأن الرأسمالية التنافسية القائمة على الاقتصاد الحر تميل إلى إحلال أحدهما محل الآخر. إن المجتمعات غير الرأسمالية تتجه إلى أن يكون فيها عدم مساواة أوسع نطاقًا من المجتمعات الرأسمالية، حتى إذا قسنا عدم المساواة هذا بالدخل السنوي؛ علاوة على ذلك، يميل عدم المساواة فيها إلى أن يكون دائمًا، في حين أن الرأسمالية تقوض الأوضاع الاجتماعية الراكدة وتحدث الحراك الاجتماعي.
(٤) الإجراءات الحكومية المستخدَمة لتعديل توزيع الدخل
من الوسائل التي استخدمتها الحكومات على نحو واسع لتغيير توزيع الدخل ضريبةُ الدخل وضريبةُ التركات التصاعدية. وقبل النظر في مدى قبول هذين النوعين من الضريبة، يجدر بنا التساؤل عما إذا كانت نجحت هذه الضرائب في تحقيق هدفها أم لا.
يتعذر تقديم إجابة حاسمة عن هذا السؤال في إطار المعلومات الحالية المتوفرة لدينا. إن الحكم التالي رأي شخصي، مع أنني أتمنى ألا يكون رأيًا يفتقر تمامًا للمعلومات، وتحريًا للإيجاز أذكر هذا الرأي بثقة أكبر مما تبرره طبيعة الأدلة. رأيي هو أنه كان لهذه الإجراءات الضريبية أثر ثانوي نسبيًا — إلا أنه جدير بالاهتمام — في تقليص الاختلافات بين الوضع المتوسط لدى مجموعات من العائلات مقسمةٍ وفقًا لبعض المعايير الإحصائية للدخل. مع ذلك، تسببت هذه الإجراءات أيضًا في حالات عدم مساواة شديدة التعسفية ذات تأثير كبير بين الأشخاص داخل فئات الدخل هذه. نتيجة لذلك، ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كانت زيادة المساواة أو الإنقاص منها هو الأثر الصافي من زاوية الهدف الأساسي للمساواة في المعاملة أو المساواة في الناتج.
إن معدلات الضرائب نظريًا عالية وتصاعدية للغاية؛ بيد أن تأثيرها كان تبديديًا بطريقتين مختلفتين. أولًا، تمثل جزء من تأثيرها ببساطة في جعل توزيع الدخل قبل اقتطاع الضريبة غير متساوٍ؛ وهذا بمثابة التأثير العرضي المعتاد لفرض الضرائب. من خلال إعاقتها الدخول في أنشطة مرتفعة الضرائب وهي في هذه الحالة الأنشطة المنطوية على مخاطرة كبيرة وأضرار غير نقدية، ترفع العائدات في تلك الأنشطة. ثانيًا، تدفع هذه المعدلات المرتفعة التشريعات والقوانين الأخرى إلى تجنب ما يسمى «الثغرات» القانونية كنسبة الاستقطاع عند نضوب المورد الطبيعي، والإعفاء من الفائدة على سندات الولايات والبلديات، ومحاباة الأرباح الرأسمالية، وحسابات النفقات، والطرق الأخرى غير المباشرة للدفع، وتحويل الدخل العادي إلى أرباح رأسمالية وما إلى ذلك في أعداد وأنواع محيرة، وأيضًا كان تأثيرها في جعل المعدلات الفعلية المفروضة أقل كثيرًا من المعدلات الاسمية، ولعل الأمر الأهم هو جعل فرض الضرائب متغيرًا وغيرَ متساو؛ حيث يدفع الأشخاص المنتمون إلى نفس المستوى الاقتصادي ضرائب مختلفة للغاية حسب مصدر دخلهم والفرص المتاحة أمامهم للتهرب من الضريبة. وإذا تم تفعيل المعدلات الحالية تمامًا، فمن الممكن أن تكون العواقب على الحوافز وما شابه خطيرة للغاية إذ تتسبب في خسائر فادحة في إنتاجية المجتمع؛ ومن ثم قد يكون التهرب الضريبي ضروريًا للرفاهية الاقتصادية. وإذا كان كذلك، فإننا اشترينا المكسب على حساب إهدار كبير للموارد مع التسبب في إشاعة عدم مساواة على نطاق واسع. من الممكن أن يكون وضع مجموعة أقل كثيرًا من المعدلات الاسمية — مع قاعدة أشمل تتحقق من خلال ضرائب أكثر تساويًا لكافة مصادر الدخل — نظاما أكثر تقدمية في متوسط فرض الضرائب وأكثر تساويًا في التفاصيل وأقل إهدارًا للموارد.
هناك الكثير من الباحثين في المجال يعتنقون الرأي الذي يفيد بأن ضريبة الدخل الشخصي كانت تعسفية في تأثيرها وذات فاعلية محدودة في خفض عدم المساواة، ومن بينهم العديد ممن يؤيدون استخدام الضرائب التصاعدية لتقليص عدم المساواة تأييدًا شديدًا، ويحثون أيضًا على خفض معدلات الشرائح العليا بشكل كبير وعلى تُوسيع القاعدة.
هناك عامل آخر كان من شأنه تخفيف تأثير هيكل الضرائب التصاعدية على عدم المساواة في الدخل والثروة وهو أن هذه الضرائب تكون أقل كثيرًا على المرء في حالة ما إذا كان ثريًا عنها في حالة ما إذا أصبح ثريًا. وفي حين أنها تقيد من استخدام الدخل من الثروة الحالية، فإن إعاقتها ادخار الثروة تتزايد بقدر أوضح، مع استمرارها على فاعليتها. إن فرض ضرائب على الدخل من الثروة لا يفعل شيئًا في خفض الثروة نفسها، بل يقلص ببساطة من مستوى الاستهلاك والإضافات إلى الثروة التي يمكن لأصحابها تحملها. تقدم الإجراءات الضريبية دافعًا لتجنب المخاطرة ولتضمين الثروة الحالية في صور ثابتة نسبيًا، وهذا من شأنه تقليص احتمالية تبديد الثروات المتراكمة الحالية. على الجهة الأخرى، إن السبيل الرئيسي لمراكمة الثروة يكون من خلال الدخول الضخمة الحالية والتي يُدخر جزء كبير منها ويُسْتَثْمَرُ في الأنشطة المحفوفة بالمخاطر، والتي سيحقق بعض منها إيرادات مرتفعة. وإذا كانت ضريبة الدخل ذات فاعلية، فستغلق ذلك السبيل؛ وبالتالي سيتمثل تأثيرها في حماية أصحاب الثروة الحاليين من المنافسة مع أشخاص جدد. من الناحية العملية، يضعف هذا التأثير من خلال حيل التهرب التي سبق وأشرنا إليها. ومن الجدير بالملاحظة أن جزءًا ضخمًا للغاية من مراكمة الثروة كان في مجال النفط، حيث وفر استقطاع الضريبة عند نضوب المورد الطبيعي سبيلًا يسيرًا للغاية لتلقي دخل معفي من الضرائب.
عند الحكم على مدى فاعلية ضرائب الدخل التصاعدية، يبدو لي أنه من الأهمية بمكان التمييز بين مشكلتين، بيد أن التمييز لن يكون دقيقًا من حيث التطبيق. المشكلة الأولى جمع الأموال لتمويل نفقات الأنشطة الحكومية المقرر تنفيذها (بما في ذلك وسائل القضاء على الفقر الذي ناقشته في الفصل الثاني عشر)؛ ثانيًا، فرض الضرائب لأهداف إعادة التوزيع فحسب. قد تستدعي الأولى بعض الإجراءات التصاعدية تستند إلى كل من تقييم التكاليف وفقًا للمساعدات المالية ومعايير المساواة الاجتماعية. بيد أن المعدلات الاسمية المرتفعة المفروضة على شرائح الدخل المرتفعة والتركات من الصعب تبريرها على هذا الأساس لمجرد أن أرباحها متدنية للغاية.
كليبرالي، أرى أنه من الصعب تبين أي مبرر لفرض ضرائب تصاعدية لإعادة توزيع الدخل؛ فهذا يبدو لي حالة واضحة لاستخدام القهر لأخذ مال من البعض وإعطائه لآخرين ومن ثم للتعارض مباشرة مع الحرية الفردية.
وبعد أخذ كافة الجوانب في الاعتبار، يبدو لي أن أفضل شكل لهيكل ضريبة الدخل الشخصي هو ضريبة بمعدل ثابت على دخل غير خاضع للإعفاء، مع تعريف الدخل عامةً والسماح بالاستقطاعات فقط لنفقات الدخل المكتسب المحددة تحديدًا دقيقًا. وكما سبق وأشرنا في الفصل الخامس، من الممكن أن أمزج هذا البرنامج مع إلغاء ضريبة الدخل على الشركات، وكذلك مع كل من شرط إلزام الشركات بنسب دخلها لحاملي الأسهم، وشرط إلزام حاملي الأسهم بتضمين هذه المبالغ في العائدات الضريبية الخاصة بهم. تتمثل التغييرات المحبذة الأخرى الأهم في إلغاء خصم الضريبة عند نضوب الموارد الطبيعية كالنفط وغيره من المواد الأولية، وإلغاء الإعفاء الضريبي على الفائدة على الأوراق المالية الخاصة بالولايات والبلديات، وإلغاء المعاملة الخاصة للأرباح الرأسمالية، والتنسيق بين ضرائب الدخل والعقارات والهبات، وإلغاء العديد من الاستقطاعات المسموح بها الآن.
يبدو لي أن الإعفاء الضريبي يمكن أن يكون درجة مبررة من الضرائب التصاعدية (راجع المزيد من النقاشات في الفصل الثاني عشر). إن تأييد تسعين بالمائة من السكان فرض ضرائب على أنفسهم وإعفاء عشرة في المائة أمر يختلف تمامًا عن تأييد تسعين بالمائة من السكان فرض ضرائب عقابية على العشرة في المائة الآخرين، وهو ما كان يحدث في الواقع في الولايات المتحدة. إن الضريبة التناسبية ذات المعدل الثابت قد تتضمن دفع أشخاص يحصلون على دخل أعلى كثيرًا مبالغَ مالية مقابل الخدمات الحكومية، وهو أمر ليس من الواضح أنه غير ملائم، وذلك بناءً على المساعدات المالية المقدمة. ومع ذلك، ستتجنب هذه الضريبة التناسبية موقفًا يؤيد فيه عدد كبير فرض ضرائب على الآخرين لم تؤثر أيضًا على العبء الضريبي الخاص بهم.
إذا كانت حصيلة المعدلات شديدة التصاعدية الحالية منخفضة للغاية، ستكون نتائج إعادة التوزيع منخفضة بالضرورة أيضًا، ولكن هذا لا يعني أنها لا تحدث ضررًا. يرجع سبب الانخفاض الكبير في الإيرادات الضريبية جزئيًا إلى تكريس بعض من أكفأ الرجال بالبلاد كل طاقاتهم لابتكار أساليب للحفاظ على انخفاضها، وإلى أن غيرهم من الأشخاص يخططون الأنشطة التي سيزاولونها وهم يضعون في الحسبان التأثيرات الضريبية عليهم. كل هذا إهدار ليس إلا، وماذا نأخذ في المقابل؟ على أقصى تقدير، شعور بالرضا لدى البعض بأن الدولة تعيد توزيع الدخل، وحتى هذا الشعور يرتكز على جهلنا بالنتائج الفعلية للهيكل الضريبي التصاعدي، وهذا الشعور سيتبخر بالتأكيد إذا ما عرفت النتائج.
وعودة إلى توزيع الدخل، هناك مبرر واضح لاتخاذ إجراء اجتماعي يختلف تمامًا في نوعه عن الضرائب من أجل تعديل توزيع الدخل. إن الكثير من حالات عدم المساواة تنبع من أوجه قصور بالسوق، وقد نشأ الكثير منها نتيجة للتدخل الحكومي أو يمكن القضاء عليها بالتدخل الحكومي. هناك أسباب وجيهة لتعديل قواعد اللعبة في سبيل القضاء على مصادر عدم المساواة هذا. على سبيل المثال، إن من مصادر عدم المساواة امتيازاتُ الاحتكار الخاص التي تمنحها الحكومة والتعريفة الجمركية وغيرها من التشريعات القانونية التي يستفيد منها مجموعات بعينها. فإذا قُضِيَ على ما سبق، سيرحب الليبراليون بذلك. إن زيادة الفرص التعليمية وتوسيع رقعتها كانت عاملًا رئيسيًا يؤدي عادة إلى تقليص عدم المساواة، ومثل هذه الإجراءات لها ميزة إدارية وهي أنها ستقضي على مصادر عدم المساواة بدلًا من مجرد تخفيف الأعراض.
مع ذلك، لا يزال توزيع الدخل مجالًا آخر تلحق فيه الحكومة ضررًا من خلال تطبيق مجموعة من الإجراءات أكبر من الضرر الذي كانت قادرة على التخلص منه بمجموعة أخرى من الإجراءات. إن ذلك مثال آخر على التدخل الحكومي المتصل بالعيوب المزعومة بنظام الاقتصاد الحر عندما تكون الكثير من الظواهر التي يشتكي منها المؤيدون للحكومة المهيمنة على مجريات الأمور في حد ذاتها من صنع الحكومة نفسها، سواء كانت مهيمنة أم لا.