دور الحكومة في التعليم
تتحمل الجهات الحكومية أو المؤسسات غير الربحية تكاليف التعليم الرسمي وتتولى إدارته على نحو شبه تام. تطور هذا الموقف تدريجيًّا حتى أصبح الآن أمرًا مسلمًا به كثيرًا لدرجة أننا لم نعد نوجه سوى القليل من الاهتمام الصريح إلى أسباب المعاملة الخاصة للتعليم المدرسي، حتى في الدول التي تنتهج الاقتصاد الحر في الأساس تنظيميًا وفلسفيًا. لقد كانت النتيجة امتدادًا عشوائيًا للمسئولية الحكومية.
وفقًا للمبادئ التي أوضحناها في الفصل الثاني، يمكن تبرير التدخل الحكومي في التعليم بسببين؛ الأول وجود «تأثيرات جوار» جوهرية؛ أي الظروف التي يفرض فيها تصرف أحد الأفراد خسائر كبيرة على أفراد آخرين ويستحيل في هذه الظروف حثه على تعويضهم، أو الظروف التي يتسبب فيها أحد الأفراد في جني أفراد آخرين مكاسب جمة ولا يمكن فيها حثهم على تعويضه؛ أي ظروف يستحيل فيها إتمام تبادل طوعي. السبب الثاني وصاية الحكومة الأبوية بالنسبة للأطفال وغيرهم من الأفراد غير المسئولين. إن تأثيري الجوار اللذين تكون فيهما للوصاية الأبوية نتائج مختلفة للغاية هما: (١) التعليم العام للمواطنين و(٢) التعليم المهني المتخصص. إن أسباب التدخل الحكومي مختلفة للغاية في هذين المجالين، وتبرر أنواعًا مختلفة جدًا من الإجراءات.
هناك ملاحظة أخرى تمهيدية: من الأهمية بمكان التمييز بين «التعليم المدرسي» و«التعليم». فليس كل تعليم مدرسي تعليمًا، وليس كل تعليم تعليمًا مدرسيًا. إن موضوع الاهتمام الملائم هو التعليم. وتقتصر الأنشطة الحكومية في غالبيتها على التعليم المدرسي.
(١) التعليم العام للمواطنين
من المستحيل تأسيس مجتمع مستقر ينعم بالديمقراطية دون حد أدنى من إلمام أغلبية المواطنين بالقراءة والكتابة والمعرفة ودون قبول واسع النطاق لمجموعة من القيم المشتركة. يمكن أن يسهم التعليم في كليهما؛ وبالتالي لا يعود النفع من تعليم الطفل على الطفل أو والديه فحسب، بل أيضًا على سائر أفراد المجتمع. إن تعليم نجلي يسهم في رفاهيتك وذلك لارتقائه بمجتمع ينعم بالاستقرار والديمقراطية، وليس من الممكن تحديد الأفراد المستفيدين (أو العائلات المستفيدة) لكي يُطْلَبَ منهم مقابل للخدمات المقدمة؛ من ثم هناك «تأثير جوار» مهم.
أي نوع من التدخل الحكومي على وجه التحديد يُبَرَّرُ بتأثير الجوار هذا؟ إن النوع الأوضح هو طلب أن يتلقى كل طفل حدًا أدنى من نوع محدد من التعليم المدرسي، ويمكن فرض مثل هذا المطلب على الآباء دون تدخل حكومي إضافي على غرار مطالبة ملاك العقارات — وملاك السيارات في كثير من الأحيان — بالالتزام بمعايير محددة لحماية سلامة الآخرين. ومع ذلك هناك اختلاف بين الحالتين؛ فالأفراد الذين لا يمكنهم تحمل تكلفة الوفاء بالمعايير المطلوبة للعقارات أو السيارات يمكنهم إبراء أنفسهم من الملكية عن طريق بيعها. من ثم يمكن تطبيق المطلب عامةً دون مساعدة من الحكومة. على الجانب الآخر، لا يتفق مطلقًا الفصلُ بين الطفل ووالده — الذي لا يمكنه تحمل تكاليف الحد الأدنى المطلوب للتعليم المدرسي — مع اعتمادنا على الأسرة باعتبارها الوحدة الاجتماعية الأساسية ومع إيماننا بالحرية الفردية. علاوة على ذلك، من المحتمل للغاية في هذه الحالة إنقاص قدر من تعليم الطفل في إطار المجتمع الحر.
إن الاختلاف بين العائلات في الموارد وفي عدد الأطفال، إلى جانب فرض مستوى للتعليم المدرسي ينطوي على تكاليف باهظة للغاية، يجعل تنفيذ مثل هذه السياسة أمرًا بالغ الصعوبة في مناطق عديدة من الولايات المتحدة. تحملت الحكومة التكاليف المادية لتوفير التعليم المدرسي، سواءً في هذه المجالات أو في مجالات أخرى تكون فيها تلك السياسة ممكنة التنفيذ، ولم يقتصر الأمر على تحمل الحكومة تكاليف المستوى الأدنى من التعليم المدرسي المطلوب من الجميع، بل امتد ليصل إلى المستوى الأعلى من التعليم الإضافي غير الإلزامي للشباب. من بين الحجج لكلتا الخطوتين هي «تأثيرات الجوار» التي ناقشناها سلفًا؛ فالحكومة تتحمل التكاليف لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لتطبيق الحد الأدنى المطلوب من التعليم، وتمول التعليم الإضافي لأن أناسًا آخرين يستفيدون من التعليم الذي يتلقاه أصحاب القدرات والاهتمامات الأعلى، نظرًا لأن ذلك يعد سبيلًا لتزويد المجتمع بقيادات سياسية واجتماعية أفضل. لا بد من الموازنة بين المكاسب المتحققة من هذه الإجراءات وبين التكاليف، وقد يثمر ذلك عن إحداث فارق حقيقي في طريقة الحكم على الكيفية التي يُبَرَّرُ بها إنفاق هذا الدعم الحكومي الهائل. مع ذلك، من المحتمل أن يستنتج أغلبنا أن المكاسب كبيرة بدرجة تبرر بعض الدعم الحكومي.
إن هذه الأسباب لا تبرر إلا الدعم الحكومي لأنواع بعينها فحسب من التعليم المدرسي. إنني أسارع فأقول إنها لا تبرر دعم التدريب المهني المجرد الذي يعزز الإنتاجية الاقتصادية للطالب لكن لا يدربه على المواطنة أو القيادة. إن التمييز بوضوح بين نوعي التعليم المدرسي من الأمور بالغة الصعوبة. يضيف التعليم العام في معظمه إلى القيمة الاقتصادية للطالب — لا شك أنه في العصور الحديثة وفي بضعة بلدان فحسب، لم يعد مجرد الإلمام بالقراءة والكتابة يضيف إلى القيمة التسويقية للفرد — وكذلك يوسع التدريب المهني من الآفاق المستقبلية الطالب، مع أن التمييز بين نوعي التعليم له دلالات هامة. فلا يمكن تبرير دعم تدريب الأطباء البيطريين وأطباء التجميل وأطباء الأسنان وغيرهم من المتخصصين — كما يحدث على نطاق واسع في الولايات المتحدة في مؤسسات تعليمية تحظى بدعم حكومي — بالأسباب نفسها التي تبرر دعم المدارس الابتدائية أو كليات العلوم الإنسانية في المستويات العليا. سنتناول بالنقاش فيما بعد في هذا الفصل ما إذا كان بالإمكان تبرير ذلك بأسباب مختلفة كلية أم لا.
إن الحجة الكيفية لمبدأ «تأثيرات الجوار» لا تحدد بالطبع الأنواع المحددة للتعليم المدرسي الجديرة بالدعم أو مقدار الدعم الذي ينبغي أن تحظى به. من المرجح أن المستويات الدنيا من التعليم المدرسي تعود بأعظم قدر من النفع على المجتمع؛ حيث يكون هناك شبه إجماع حول المحتوى، ويتضاءل هذا الإجماع تضاؤلًا مستمرًا مع الانتقال للمستوى الأعلى من التعليم المدرسي، حتى إن هذا الحكم لا يمكن أن يُؤخَذَ كأمر مسلم به تمامًا. دعمت العديد من الحكومات الجامعات قبل دعم المدارس الأدنى بوقت طويل. فتحديد أنماط التعليم التي تعود بأكبر فائدة اجتماعية وتحديد مقدار موارد المجتمع المحدودة التي ينبغي إنفاقها عليها أمران ينبغي أن يقررهما المجتمع عبر قنواته السياسية المقبولة. ليست الغاية من هذا التحليل البت في هذه الأسئلة بالنيابة عن المجتمع بل في توضيح المشكلات المتضمنة في صنع القرار؛ لا سيما ما إذا كان من الملائم اتخاذ القرار على أساس مشترك بدلًا من اتخاذه على أساس فردي.
وكما شاهدنا، يمكن تبرير كل من فرض مستوى أدنى إلزامي من التعليم المدرسي وتمويل الحكومة للتعليم المدرسي بمبدأ «تأثيرات الجوار» للتعليم المدرسي. هناك خطوة ثالثة، ألا وهي إدارة الحكومة الفعلية للمؤسسات التعليمية، إن «تأميم»، إن جاز التعبير، الجزء الأكبر من «صناعة التعليم» أصعب كثيرا في التبرير بناءً على هذه التأثيرات، أو وفق أية أسباب أخرى، حسبما أرى، ونادرًا ما حظيت فوائد هذا التأميم بمناقشة صريحة. موّلت الحكومات في أغلب الأحوال التعليم المدرسي عن طريق تحمل تكاليف إدارة المؤسسات التعليمية مباشرة؛ من ثم بدت هذه الخطوة لازمة مع قرار دعم التعليم المدرسي. وعلى الرغم من إمكانية فصل الخطوتين في سهولة، حيث يمكن للحكومات فرض مستوى أدنى من التعليم وتمويله عن طريق منح الآباء قسائم قابلة للتحصيل بمبلغ مالي محدد بحد أقصى لكل طفل في العام بشرط إنفاقه على خدمات تعليمية «معتمدة». بعد ذلك يكون للآباء الحرية في إنفاق هذا المبلغ وأي مبلغ إضافي يقدمونه لشراء خدمات تعليمية من مؤسسات «معتمدة» من اختيارهم. وأيضًا يمكن أن تقدم شركات خاصة ربحية أو مؤسسات غير ربحية الخدمات التعليمية. إن دور الحكومة سيكون قاصرًا على ضمان أن المدارس تفي بحد أدنى من معايير محددة، مثل إدراج حد أدنى من المحتوى المشترك ضمن برامجها، على غرار ما تفعله الآن عندما تعاين المطاعم لضمان أنها تراعي حدًا أدنى من المعايير الصحية. خير مثال على برنامج من هذا النوع هو البرنامج التعليمي الذي وضعته الولايات المتحدة للمحاربين القدامى في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ حيث مُنِحَ كل محارب انطبقت عليه المواصفات مبلغًا محددًا بحد أقصى سنويًا يمكن أن ينفقه في أية مؤسسة تعليمية من اختياره، شريطة أن تفي هذه المؤسسة بحد أدنى من معايير محددة. مثال أكثر تحديدًا هو شرط مطبق في بريطانيا بموجبه تدفع السلطات رسوم بعض الطلاب الذين يلتحقون بالمدارس غير الحكومية، وآخر في النظام المطبق في فرنسا وبموجبه تتحمل الحكومة جزءًا من تكلفة الطلاب الذين يلتحقون بمدارس غير حكومية.
من بين الحجج المرتكزة على «تأثير الجوار» لتأميم المدارس هي أنه قد يكون من المستحيل تقديم جوهر مشترك من القيم التي تعد عنصرًا ضروريًا لتحقيق الاستقرار الاجتماعي، ففرض حد أدنى من المعايير على المدارس المملوكة لأشخاص — كما هو مذكور أعلاه — قد لا يكون كافيًا لتحقيق هذه النتيجة. ويمكن ضرب مثال واقعي لهذه المسألة بتطبيقها على المدارس الخاضعة لإدارة جماعات دينية مختلفة. هناك مزاعم بأن مثل هذه المدارس ستغرس مجموعات من القيم لا تتوافق مع تلك التي ستغرسها المدارس غير الطائفية؛ بهذه الطريقة يتحول التعليم إلى قوة مسببة للشقاق بدلًا من الاتحاد.
وفي الجانب شديد التطرف لهذه الحجة، قد لا يُنَادَى بالإدارة الحكومية المدرسية فحسب، بل أيضًا بحضور إلزامي إلى هذه المدارس. إن النظم الحالية في الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوربية تمسك بالعصا من المنتصف؛ حيث توفر مدارس خاضعة لإدارة الحكومة لكنها ليست إجبارية. مع ذلك فإن الصلة بين تمويل التعليم المدرسي وإدارته تضر بمدارس أخرى، فلا تحصد القليل أو لا شيء من الأموال الحكومية التي تنفق على التعليم المدرسي — مثل هذا الوضع مصدر للكثير من الخلاف السياسي، لا سيما في فرنسا وحاليًا في الولايات المتحدة. إن القضاء على هذا الضرر قد يعزز بشكل كبير من المدارس الأبرشية ذات الإطار الفكري المحدد؛ ومن ثم يجعل مشكلة الوصول إلى جوهر مشترك للقيم أمرًا أصعب، وهذا ما نخشاه.
ومع أن هذه الحجة مقنعة، فليس من الواضح على الإطلاق أنها حجة صالحة أو أن عدم تأميم المدارس قد يترتب عليه النتائج المشار إليها. من حيث المبدأ، تتعارض هذه الحجة مع مبدأ الحفاظ على الحرية نفسه، فالفصل بين دعم القيم الاجتماعية المشتركة لمجتمع مستقر من جهة وغرس القيم التي تكبت حرية التفكير والاعتقاد من جهة أخرى يعد واحدًا من تلك الحدود الفاصلة المبهمة التي يسهل ذكرها عن تحديدها.
من حيث النتائج، قد يوسع إلغاء تأميم التعليم المدرسي نطاق الاختيارات المتاحة أمام الآباء. وإذا تسنى للآباء كما يحدث حاليًا إرسال أطفالهم إلى مدارس عامة دون دفع رسوم خاصة، سيستطيع أقل القليل إرسال أبنائهم، أو سيرسلون أبناءهم، إلى مدارس أخرى ما لم تكن هي الأخرى مدعومة. إن المدارس محددة الإطار تتأثر سلبًا عندما لا تحصل على أي من الأموال الحكومية التي تكرس للتعليم المدرسي، غير أن لديها ميزة تعويضية وهي أنها تخضع لإدارة المؤسسات التي يتوفر لديها الاستعداد لدعم تلك المدارس ويمكنها جمع التبرعات لذلك. هناك بضعة مصادر أخرى للدعم للمدارس الخاصة. فإذا توفرت النفقات العامة الحالية على التعليم المدرسي أمام الآباء بصرف النظر عن المدرسة التي سيلحقون أبنائهم بها، ستظهر مجموعة متنوعة من المدارس كي تفي بالمطلب. يمكن للآباء حينها التعبير عن وجهة نظرهم في المدارس مباشرةً بقدر أكبر كثيرًا مما هو ممكن الآن، وذلك عن طريق سحب أبنائهم من إحدى المدارس وإلحاقهم بمدرسة أخرى. بوجه عام، يمكنهم الآن اتخاذ هذه الخطوة ولكن بتكلفة باهظة للغاية عن طريق إما إرسال أبنائهم إلى مدرسة خاصة أو تغيير محل إقامتهم. أما بالنسبة للباقين، فلا يمكنهم إلا التعبير عن وجهة نظرهم عن طريق القنوات السياسية المعقدة فحسب. ربما يمكن إتاحة قدر أكبر بعض الشيء من حرية اختيار المدرسة في إطار نظام خاضع لإدارة الحكومة، إلا أنه قد يكون من الصعب التمادي في هذه الحرية بالنظر إلى الالتزام الخاص بتوفير مكان بالمدرسة لكل طفل. هنا، كما في المجالات الأخرى، من الأرجح أن تكون المؤسسات الخاصة التنافسية أَفْعَلَ كثيرًا في الوفاء بمطالب المستهلك من المؤسسات المُؤَمَّمَة أو المؤسسات التي تخدم أغراضًا أخرى. بالتالي قد تكون النتيجة النهائية تضاؤل أهمية المدارس محددة الإطار بدلًا من ازدياد أهميتها.
من العناصر ذات الصلة التي تعمل في الاتجاه نفسه؛ الإحجام المُتَفَهَّم من الآباء الذين يلحقون أبناءهم بمدارس أبرشية تجاه زيادة الضرائب لتمويل النفقات الضخمة على المدارس العامة. وكنتيجة لذلك، تواجه المدارس العامة في المناطق التي تتمتع فيها المدارس الأبرشية بأهمية صعوبة بالغة في جمع الأموال. بقدر ما تتصل الجودة بالإنفاق، وهي تتصل إلى حد ما بلا شك، قد تكون المدارس العامة ذات جودة أقل في تلك المناطق، ومن ثم تصبح المدارس الأبرشية أكثر جذبًا للانتباه.
ثمة حالة خاصة أخرى لحجة أن المدارس التي تديرها الحكومة ضرورية من أجل أن يكون التعليم قوة توحيد؛ وهي أن المدارس الخاصة قد تميل إلى زيادة الفروق بين الطبقات الاجتماعية. فعند منح الآباء قدرًا أكبر من الحرية في اختيار المدارس لإرسال أبنائهم، قد يتجمع آباء من الخلفية الاجتماعية نفسها معًا؛ ومن ثم يحول هذا الأمر دون الاندماج الصحيح بين الأبناء من خلفيات اجتماعية مختلفة تمامًا. سواء كانت هذه الحجة صالحة أم لا من حيث المبدأ، ليس من الواضح على الإطلاق أن النتائج المذكورة سترتب على ذلك الأمر. ففي ظل النظم الحالية، يحد تقسيم المناطق السكنية بفاعلية من التمازج بين أبناء الخلفيات الاجتماعية المختلفة تمامًا. علاوة على ذلك، غير مسموح للآباء الآن إرسال أبنائهم إلى مدارس خاصة. وبعيدًا عن المدارس الأبرشية، لا تستطيع — أول لا ترسل فعلًا سوى طبقة محدودة للغاية إرسال أبنائهم إلى مدارس خاصة، من ثم يترتب على ذلك تقسيم أوسع للمجتمع إلى طبقات.
لا ريب أن هذه الحجة تبدو لي أنها تذهب في الاتجاه المعاكس تمامًا؛ أي نحو إلغاء تأميم المدارس. سل نفسك في أي النواحي يقع ضرر أكبر على أحد ساكني الأحياء ذات الدخل المنخفض، ناهيك عن أحياء الزنوج في مدينة كبيرة. إذا أعطى ذلك الفرد أهمية كبيرة لشراء سيارة جديدة، على سبيل المثال، باستطاعته ادخار مال كافٍ لشراء السيارة نفسها التي يملكها أحد ساكني ضاحية ذات دخل مرتفع. ولفعل ذلك، ليس مضطرًا إلى الانتقال إلى تلك الضاحية. على العكس من ذلك، يمكنه الحصول على النقود جزئيًا عن طريق الادخار أثناء الاستمرار في الإقامة في الحي نفسه الذي يقطن به. وهذا ينطبق بالمثل على الملابس أو الأثاث أو الكتب وإلى آخره. لكن لنفترض أن عائلة فقيرة تعيش في حي فقير لديها طفل موهوب وعلقت قيمة كبيرة على تعليمه المدرسي لدرجة أنها مستعدة أن تقتصد وتدخر بغرض ذلك الهدف. ما لم تحصل هذه الأسرة على معاملة خاصة، أو على منحة دراسية، بأحد المدارس الخاصة القليلة للغاية، ستكون الأسرة في موقف حرج للغاية؛ حيث إن المدارس العامة «المناسبة» موجودة في الأحياء ذات الدخل العالي. قد يكون لدى الأسرة استعداد لأن تنفق شيئًا ما إضافةً إلى ما تدفعه في الضرائب لتحصل عى تعليم مدرسي أفضل لطفلها. لكن من الصعب للغاية أن تتمكن في الوقت نفسه من الانتقال إلى الحي الراقي.
أعتقد أن آراءنا في هذه النواحي لا تزال يهيمن عليها فكرة البلدة الصغيرة التي لا تضم سوى مدرسة واحدة للفقراء والأغنياء على حدٍ سواء. في ظل مثل تلك الظروف، من الممكن أن توفر المدارس العامة فرصًا متكافئة إلى حد بعيد. بيد أنه مع نمو الأحياء الحضرية والضواحي تغير الموقف للغاية، وأصبح النظام المدرسي الحالي لدينا — وهو بعيد كل البعد عن توفير فرص متكافئة — يقوم بالعكس على الأرجح. هذا يجعل من الصعب للغاية على الحفنة القليلة من ذوي المواهب الاستثنائية — والذين يمثلون أمل المستقل — التغلبَ على فقر أسرهم.
من بين الحجج الأخرى لتأميم التعليم المدرسي «الاحتكار التقني». في المجتمعات الصغيرة والمناطق الريفية، قد يكون عدد الأطفال ضئيلًا لدرجة لا تبرر وجود أكثر من مدرسة واحدة ذات حجم معقول؛ ومن ثم لا يمكن الاعتماد على المنافسة لحماية مصالح الآباء والأبناء. وكما في الحالات الأخرى من الاحتكار التقني، الخيارات المتاحة هي احتكار قطاع خاص غير مقيد أو احتكار القطاع الخاص الخاضع لرقابة الدولة أو احتكار القطاع العام — أي علينا الاختيار بين أفضل الأسوأ. إن هذه الحجة، مع أنها صحيحة ومهمة دون شك، قُوِّضَتْ بشكل كبير في العقود الأخيرة مع التطورات التي طرأت على وسائل النقل والتركيز المتزايد للسكان في المجتمعات المتحضرة.
لعل النظام الأقرب للتبرير وفقًا لهذه الاعتبارات — بالنسبة للتعليم الابتدائي والثانوي على أقل تقدير — هو الجمع بين المدارس العامة والخاصة. وفي هذا النظام، سيدفع الآباء الذين يختارون إرسال أبنائهم إلى المدارس الخاصة مبلغًا ماليًا يعادل التكلفة المقدرة لتعليم طفل في مدرسة عامة، شريطة أن يُنْفَقَ هذا المبلغ على الأقل على التعليم في مدرسة معتمدة. إن هذا النظام قد يتطابق مع السمات الجيدة في حجة الاحتكار التقني، وقد يمثل حلًا للشكاوى العادلة للآباء والتي مفادها أنهم عند إلحاق أبنائهم بمدارس خاصة لا تحصل على دعم حكومي يصبحون مطالبين بتحمل تكاليف مضاعفة للتعليم — مرة في صورة الضرائب العامة وأخرى مباشرةً. قد يسمح ذلك بتطور المنافسة؛ ومن ثم تحدث دفعة تجاه تطور كافة المدارس والارتقاء بها. إن دخول عنصر المنافسة سيحقق الكثير للارتقاء بمجموعة متنوعة من المدارس الجيدة، وسيقدم الكثير أيضًا لإدخال عنصر المرونة في النظم المدرسية. ومن أهم فوائد المنافسة على الأخص، أنها ستجعل رواتب المدرسين متجاوبة مع قوى السوق، وبذلك تزود السلطات العامة بمعيار مستقل تحكم على أساسه مستويات المرتبات وتوجد نوعًا من التكيف السريع مع التغيرات في ظروف العرض والطلب.
من الأمور التي تروج على نطاق واسع أن الحاجة الأساسية في التعليم المدرسي هي الحصول على مزيد من المال لبناء مزيد من المرافق ولدفع رواتب أعلى للمدرسين في سبيل جذب مدرسين أفضل. يبدو لي هذا الرأي رأيًا خاطئًا لأن كمية النقود التي تُنْفَقُ على التعليم المدرسي في ارتفاع مستمر، على نحو أسرع كثيرًا من ارتفاع إجمالي دخلنا، وأيضًا فإن رواتب المدرسين ترتفع ارتفاعًا أسرع كثيرًا من العائدات في وظائف مماثلة. إن المشكلة في الأساس ليست في أننا ننفق مبلغًا ضئيلًا للغاية من المال — مع أن ذلك محتملًا — بل في أننا نحصل على القليل للغاية مقابل كل دولار ننفقه. لعل كميات النقود التي تنفق على المباني الفخمة والساحات الفاخرة المحيطة بها في العديد من المدارس والتي تصنف تصنيفًا دقيقًا كنفقات على التعليم المدرسي، من الصعب تقبلها بقدر تقبل النفقات على التعليم نفسه، وهذا الأمر جلي على نحو مماثل أيضًا فيما يتعلق بالدورات التدريبية لصناعة السلال وللرقص في المناسبات الاجتماعية وغيرها العديد من فروع المعرفة. زيادة في التوضيح، لا يمكن أن يكون هناك أي اعتراض ممكن تصوره على إنفاق الآباء من أموالهم الخاصة على تلك الشكليات بمحض إرادتهم، فهذا شأنهم، لكن الاعتراض هو على استخدام المال الذي حُصِّلَ بالضرائب التي تُفْرَضُ على الآباء وغير الآباء على حدٍ سواء لمثل هذه الأغراض. بأي وجه تبرر «تأثيرات الجوار» مثل هذا الاستخدام لأموال الضرائب؟
من أهم الأسباب وراء هذا النوع من استخدام الأموال العامة هو النظام الحالي للربط بين إدارة المدارس وتمويلها. إن الأب الذي يفضل رؤية المال ينفق على جلب معلمين أفضل ووضع كتب مدرسية أفضل بدلًا من الحافلات المدرسية والأروقة لا يملك أية وسيلة للتعبير عما يفضل فيما عدا إقناع الأغلبية بتغيير ذلك الربط بمايؤثر على الجميع. هذه حالة خاصة للمبدأ العام القائل إن السوق يسمح لكل فرد بإرضاء ذوقه؛ أي التمثيل النسبي الفعال، في حين أن العملية السياسية تفرض الإلزام والامتثال. إضافة إلى ذلك، إن الأب الذي يفضل إنفاق مال إضافي على تعليم طفله مقيد للغاية، فليس بوسعه إضافة شيء إلى المال الذي ينفق حاليًا على تعليم طفله ونقل طفله إلى مدرسة مماثلة أعلى ثمنًا. وإذا نقل طفله إلى مدرسة أخرى، لا بد أن يتحمل التكلفة الكاملة لا التكلفة الإضافية فحسب. ولا يمكنه إنفاق نقود إضافية بسهولة سوى على الأنشطة خارج المنهج كدروس الرقص والموسيقى، إلى آخره. وبما أن المنافذ الخاصة لإنفاق مزيد من المال على التعليم المدرسي مغلقة، يظهر الضغط على إنفاق مزيد من المال على تعليم الأطفال في النفقات العامة الآخذة في الارتفاع على البنود ضعيفة الصلة بالمبرر الأساسي للتدخل الحكومي في التعليم المدرسي.
وبالنظر إلى رواتب المعلمين، إن المشكلة الرئيسية ليست أن الرواتب منخفضة للغاية في المتوسط — بل قد تكون مرتفعة للغاية في المتوسط — بل في أنها متماثلة وثابتة أكثر مما ينبغي. يحصل المعلمون غير الأكفاء على رواتب مرتفعة للغاية ويحصل المعلمين الأكفاء على رواتب منخفضة للغاية، حيث تميل جداول الرواتب إلى أن تكون متماثلة وتحدد بناءً على الأقدمية والدرجات العلمية وشهادات التدريس أكثر من الجدارة. يعد هذا أيضًا إلى حد بعيد نتيجة للنظام الحالي من الإدارة الحكومية للمدارس وأصبح أكثر خطورة مع ازدياد حجم النطاق الذي تُمَارَسُ عليه السيطرة الحكومية. لا شك أن هذه الحقيقة بعينها هي سبب رئيسي لتفضيل المؤسسات التعليمية المتخصصة توسيع النطاق بقوة؛ من المنطقة المحلية للمدرسة إلى الولاية، ومن الولاية إلى الحكومة الفيدرالية. في أي منظمة بيروقراطية تعمل في الخدمة المدنية بالأساس، تكون مستويات الرواتب المحددة وفق معايير أمرًا حتميًا، فمن المستحيل تشجيع المنافسة القادرة على توفير اختلافات واسعة في المرتبات وفقًا للجدارة. لذا أصبح للقائمين على العملية التعليمية — والمقصود بهم المعلمون أنفسهم — اليد العليا، فيما لم يعد متاحا للآباء أو المجتمع المحلي إلا قدرًا ضئيلًا من التحكم. في أي مجال، سواء كان حرفة النجارة أو السباكة أو التدريس، يفضل أغلبية العاملين مستويات الرواتب المعيارية ويعارضون التفريق المرتكز على الجدارة، وذلك لسبب واضح أن الموهوبين بصفة خاصة قلائل دائمًا. ذلك ظرف استثنائي للاتجاه العام للناس للسعي وراء التواطؤ سويًا لتثبيت الأسعار، سواءً من خلال النقابات أو احتكارات صناعية. لكن الاتفاقات التآمرية ستقوض عامةً عن طريق المنافسة ما لم تضعها الحكومة موضع التنفيذ أو تمدها على الأقل بدعم كبير.
إذا سعى فرد ما عمدًا إلى وضع نظام لاستقدام الموظفين ودفع مال لهم ويهدف ذلك النظام إلى استبعاد الأفراد المتميزين بالخيال الواسع والجسارة والثقة بالنفس واستقدام الموظفين المتبلدين ومتوسطي الكفاءة، لن تختلف النتائج كثيرًا عن النظام الذي يتطلب وجود شهادات في مجال التدريس ويطبق أطر الرواتب المحددة وفق معايير والذي تطور في نطاق نظم المدن الكبرى والولايات. لعله من المثير للدهشة أن مستوى قدرات التدريس في المدارس الابتدائية والثانوية بمستوى الارتفاع نفسه كما هي الحال في ظل تلك الظروف. لكن النظام البديل قد يحل هذه المشكلات ويسمح بأن تكون المنافسةُ فعالةً في مكافأة أصحاب الجدارة واجتذاب أصحاب القدرة على التدريس.
لماذا تطور التدخل الحكومي في التعليم المدرسي في الولايات المتحدة في ذلك المنحنى الذي سلكه؟ ليس لدي المعلومات التفصيلية اللازمة عن تاريخ التعليم للإجابة عن هذا التساؤل بشكل حاسم. مع ذلك، من الممكن أن تكون بعض الآراء التخمينية مجدية لعرض أنواع الاعتبارات التي قد تؤدي إلى تغير السياسة الاجتماعية الملائمة، ولست متيقنًا على الإطلاق من أن النظم التي أقترحها الآن كانت في الواقع ستبدو مرغوبة، لو طُرِحَتْ منذ قرن مضى. قبل التطور واسع النطاق في وسائل النقل، كانت حجة الاحتكار التقني أقوى كثيرًا، وما لا يقل أهمية أن المشكلة الخطيرة التي عانتها الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لم تكن تعزيز التنوع بل كانت خلق جوهر من القيم المشتركة اللازمة لوجود مجتمع مستقر. وفد إلى الولايات المتحدة أعداد ضخمة من المهاجرين من كل بقاع العالم، يتحدثون لغات مختلفة ولهم عادات مختلفة، لذا كان على «البوتقة» فرض قدر كبير من الامتثال للقيم المشتركة والولاء لها. كان للمدارس العامة دور مهم في هذه العملية، لاسيما فرض اللغة الإنجليزية كلغة مشتركة. في ظل نظام القسائم البديل، كان من الممكن أن يكون استخدام اللغة الإنجليزية من بين بنود الحد الأدنى من المعايير المفروض على المدارس والذي يتحدد على أساسه قبول الطلاب. لكن كان من الممكن أن يكون أكثر صعوبة التأكد من فرض هذا الشرط على المدارس الخاصة والتأكد من تطبيقه. لا أقصد استنتاج أن المدارس العامة كانت أجدر بالتفضيل عن الخاصة، لكن كل ما أعنيه أنه كان من الممكن في ذلك الوقت تقديم مبررات أقوى كثيرًا عن الآن. إن مشكلتنا اليوم ليست في فرض الالتزام؛ بل في أننا مهددين بالإفراط في الالتزام؛ إن مشكلتنا هي تعزيز الاختلاف ومن المتوقع أن يحقق النظام البديل هذا الأمر بفاعلية أكثر من نظام مدرسي مؤمم.
من بين العوامل الأخرى التي كانت على الأرجح على درجة من الأهمية منذ قرن مضى هي الربط بين الخجل العام من المنح النقدية التي تقدم للأفراد (الهبات) وبين غياب الآلية الإدارية الفعالة للتعامل مع توزيع القسائم ومراقبة استخدامها. إن مثل هذه الآلية هي ظاهرة من ظواهر العصور الحديثة التي حققت ازدهارًا كبيرًا مع التوسع الهائل في الضرائب الشخصية وبرامج الضمان الاجتماعي. وفي غياب هذه الآلية، من الممكن أن يكون الناس قد اعتبروا إدارة المدارس الوسيلةَ الوحيدةَ الممكنةَ لتمويل التعليم.
وكما تشير بعض الأمثلة التي استشهدنا بها أعلاه (انجلترا وفرنسا) إن بعض الخصائص المميزة للنظم المقترحة حاضرة في النظم التعليمية الحالية. وفي رأيي إن هناك ضغطًا قويًا ومتزايدًا يدفع نحو وجود نظم من هذا النوع في معظم البلدان الغربية. لعل التطورات الحديثة في الآلية الإدارية الحكومية التي تيسر قيام مثل ذلك النظام تفسر هذا الأمر جزئيًا.
بالرغم من العديد من المشكلات الإدارية قد تنشأ أثناء التحول من النظام الحالي إلى النظام المقترح وفي إدارته، لا تبدو تلك المشكلات غير قابلة للحل أو استثنائية. فيمكن بيع المباني والمعدات إلى الشركات الخاصة التي ترغب في اقتحام المجال، على غرار إلغاء التأميم في المجالات الأخرى؛ من ثم يُتَوَقَّعُ ألا يكون هناك إهدار لرأس المال في عملية التحول. ونظرًا لأن الوحدات الحكومية، في بعض المجالات على الأقل، ستستمر في إدارة المدارس، سيكون التحول تدريجيًا ويسيرًا، وأيضًا ستيسر الإدارة المحلية للمدارس في الولايات المتحدة وبعض البلدان الأخرى من العملية الانتقالية، بما أنها ستشجع التجريب على نطاق صغير. قد تنشأ الصعوبات بلا شك في تحديد مستوى الأهلية الكافي للحصول على المنح من وحدة حكومية بعينها، لكن هذا لا يختلف عن المشكلة الحالية لتحديد الوحدة الملزمة بتقديم التسهيلات المدرسية لطفل بعينه. وقد تؤدي بعض الاختلافات في حجم المنح إلى جعل أحد المجالات أكثر تفضيلًا عن الآخر مثلما أن الاختلافات في جودة التعليم المدرسي لها التأثير نفسه الآن. إن الصعوبة الإضافية الوحيدة من الممكن أن تكون وجود إمكانية أعلى لإساءة استخدام الآباء للنظام بسبب القدر الأكبر من الحرية الذي يتمتعون به في تحديد المدرسة التي سيرسلون إليها أبناءهم. إن صعوبة إدارة النظام المفترضة ليست سوى دفاع نمطي عن الوضع الراهن ضد أي تغيير مقترح، بل إن هذا الدفاع أضعف من المعتاد ذلك لأن النظم الحالية لا بد من أن تتغلب ليس فقط على المشكلات الرئيسية التي تثيرها النظم المقترحة بل أيضًا على المشكلات الإضافية التي تثيرها إدارة المدارس كدور حكومي.
(٢) التعليم بالكليات والجامعات
إن المناقشة السابقة معنية في المقام الأول بالتعليم الابتدائي والثانوي. ولكن بالنسبة للتعليم العالي، فإن حجة التأميم — سواءً على أساس تأثيرات الجوار أو الاحتكار التقني — أضعف. فبالنسبة للمستويات الأدنى من التعليم المدرسي، هناك اتفاق كبير يقترب من الإجماع على المحتوى الملائم للبرنامج التعليمي للمواطنين بدولة ديمقراطية — حيث تغطي القراءة والكتابة وعلم الحساب معظم مجالات المعرفة الأساسية. أما في المستويات الأعلى المتعاقبة، يقل الاتفاق شيئًا فشيئًا. ومن المؤكد أنه ليس هناك قدرًا كافيًا من الاتفاق لتبرير فرض وجهات نظر الأغلبية — ناهيك عن الأكثرية — على الجميع في المستويات الأقل من التعليم العالي الأمريكي. إن عدم وجود اتفاق قد يتمادى في واقع الأمر إلى حد بعيد ليصل إلى إثارة شكوك حول صلاحية الدعم الحكومي للتعليم المدرسي في هذه المرحلة، ومن المؤكد أن يتجاوز كثيرًا حتى يقوض أية حجة للتأميم ترتكز على تقديم جوهر مشترك من القيم. قلما تكون هناك أية شكوك حول «الاحتكار التقني» في هذا المستوى، بالنظر إلى المسافات التي يمكن للأفراد قطعها ويقطعونها فعلًا للذهاب إلى مؤسسات التعليم العالي.
سيؤدي تطبيق تلك النظم إلى تفعيل قدر أكبر من المنافسة بين الأنواع المختلفة من المدارس وفي استغلال أكثر فاعلية لمواردها، وأيضًا سيقضي على الضغط لوجود دعم حكومي مباشر للكليات والجامعات الخاصة؛ ومن ثم سيصون استقلالها التام وتنوعها، وفي الوقت نفسه سيمكنها من النمو مقارنة بالمؤسسات الحكومية. ومن الممكن أيضًا أن يحقق ميزة إضافية وهي الانتباه إلى إخضاع الأسباب التي يُمْنَحُ على أساسها الدعم الحكومي للتدقيق. أدى الدعم الحكومي للمؤسسات بدلًا من الأشخاص إلى وجود دعم حكومي عشوائي لكل الأنشطة التي تلائم تلك المؤسسات، بدلًا من الأنشطة الملائمة لأن تدعمها الدولة؛ حتى أن نظرة خاطفة تشير إلى أنه مع أن هاتين الفئتين من الأنشطة تتداخلان، فهما غير متطابقتين على الإطلاق.
(٣) التعليم الحرفي والمهني
يعكس هذا القصور في الاستثمار في رأس المال البشري على الأرجح وجود قصور في سوق رأس المال؛ فالاستثمار في الأشخاص لا يمكن تمويله بناءً على الشروط نفسها أو بالسهولة نفسها كما في الاستثمار في رأس المال المادي. ومن السهل تبين السبب. فإذا تم منح قرض مالي ثابت لتمويل الاستثمار في رأس المال المادي، يمكن للمقرض الحصول على شيء من الضمان لقرضه في صورة ديون مضمونة برهون أو أصول صافية للأصل المادي نفسه، ويمكنه الركون إلى الحصول على جزء من استثماره على الأقل في حالة تعثره عن طريق بيع الأصل المادي. ولكنه إذا أخذ قرضًا مماثلًا لكي يزيد قدرة فرد ما على كسب المال، فمن المؤكد أن ليس باستطاعته الحصول على أي ضمان مماثل. في إطار دولة مناهضة للعبودية، لا يجوز بيع أو شراء الفرد الذي يجسد الاستثمار. وحتى إذا أمكن ذلك، لن يكون الضمان مماثلًا. لا تعتمد إنتاجية رأس المال المادي في العموم على الروح التعاونية للمقترض الأساسي، أما إنتاجية رأس المال البشري فتعتمد على ذلك على نحو جلي تمامًا؛ من ثم يكون القرض الهادف إلى تمويل تدريب فرد ليس لديه أي ضمان يقدمه سوى كسبه المستقبلي أقل تفضيلًا كثيرًا من قرض يهدف لتمويل تشييد مبنى؛ حيث يكون الضمان أقل وتكون تكلفة جمع الفائدة ورأس المال اللاحقة أعظم كثيرًا.
لا يبدو أن هناك عائقًا قانونيًا في إبرام عقود خاصة من هذا النوع، على الرغم من أنها تعادل شراء نصيب في القدرة الربحية للفرد ومن ثم استعباد جزئي من الناحية الاقتصادية. أحد أسباب عدم شيوع مثل هذه العقود على الأرجح، بالرغ من ربحيتها المحتملة لكل من المقرض والمقترض، ارتفاع تكاليف إدارتها، كحرية الأفراد في التنقل من مكان إلى آخر، والحاجة إلى الحصول على بيانات دخل دقيقة، وطول مدة سريان العقود. ومن المحتمل أن تكون هذه التكاليف مرتفعة بوجه خاص بالنسبة للاستثمار على نطاق ضيق والانتشار الجغرافي الواسع للأفراد الذين يتلقون التمويل. إن هذه التكاليف قد تكون السبب الرئيس لعدم تطور نوع الاستثمار هذا أبدًا تحت مظلة جهات الرعاية الخاصة.
أيًا كان السبب، فقد أدى وجود قصور في السوق إلى قصور في الاستثمار في رأس المال البشري. بناء على ذلك، من الممكن تبرير التدخل الحكومي على أساسسين كلاهما قائم على «الاحتكار التقني،» طالما أن العقبة في طريق تنمية مثل هذه الاستثمارات هي التكاليف الإدارية، وعلى تطوير عمل السوق، ما دام كانت هناك خلافات وثوابت صارمة ببساطة.
إذا تدخلت الحكومة فعلًا، كيف ينبغي لها فعل ذلك؟ من الصور الواضحة للتدخل، وهي الصورة التي أخذها التدخل حتى الآن، الدعم الحكومي المطلق للتعليم المهني أو الفني والذي يُمَوَّلُ من الإيرادات العامة. من الواضح أن هذا النمط غير ملائم؛ حيث لا بد من دفع الاستثمار إلى الحد الذي يغطي فيه العائدُ الإضافيُّ الاستثمارَ ويولد سعر الفائدة للسوق عليه. إذا كان الاستثمار في الأفراد، يأخذ العائد الإضافي صورة مبلغ مالي مقابل خدمات الفرد يفوق المبلغ الذي سيحصل عليه بأية وسيلة استثمار مختلفة. في اقتصاد السوق الخاصة، يحصل الفرد على العائد كدخله الشخصي. وإذا كان الاستثمار مدعومًا حكوميًا، لن يتحمل أية تكاليف. بالتالي إذا تم منح الدعم الحكومي إلى كل من يرغب في الحصول على التدريب ومن الممكن أن يفي بالحد الأدنى من معايير الجودة، فقد يحدث إفراط في الاستثمار في الأفراد، نظرًا لأن الأفراد سيتوفر لديهم حافزًا لتلقي التدريب طالما أنه يولد عائدًا إضافيًا يفوق التكاليف الخاصة؛ حتى إذا كان العائد غير كافٍ للتعويض عن رأس المال المستثمر، ناهيك عن توليده لأية فائدة عليه. ولتجنب حدوث الإفراط في الاستثمار هذا، ستيعين على الحكومة تقييد الدعم. وبعيدًا عن صعوبة حساب القدر «الصحيح» من الاستثمار، قد ينطوي ذلك الأمر على تقنين للقدر المحدود من الاستثمار فيما بين عدد من المطالبين بالتمويل أكثر مما يمكن تمويلهم، وهو التقنين الذي سَيُطَبَّقُ تطبيقًا استبداديًّا في جوهره بعض الشيء. سيتلقى أولئك المحظوظون الذين يحصلون على دعم لتدريبهم كافة العوائد من الاستثمار بينما ربما يتحمل التكاليف دافعو الضرائب عمومًا، وهي عملية إعادة توزيع للدخل استبدادية تمامًا وحمقاء بلا شك.
إن الضروري هنا ليست إعادة توزيع الدخل بل توفير رأس المال بشروط متماثلة لكل من الاستثمار البشري والمادي، فالأفراد ينبغي أن يتحملوا تكاليف الاستثمار في أنفسهم ويتلقون المكافآت، وأيضا ينبغي ألا يتم منعهم من الاستثمار عندما يكون لديهم الاستعداد لتحمل التكاليف نتيجة لقصور في السوق. ومن بين طرق تحقيق هذه النتيجةِ دخولُ الحكومة في استثمار حقوق الملكية في الأفراد؛ فيمكن لهيئة حكومية عرض تمويل أو المساعدة في تمويل تدريب أي فرد تتطابق مؤهلاته مع الحد الأدنى لمعايير الجودة، ويمكن أن توفر مبلغًا ماليًا محددًا سنويًا طيلة عدد محدد من السنوات، شريطة أن تُنْفَقَ الأموال على التدريب في مؤسسة معتمدة، ويوافق الأفراد بدورهم على رد المال للحكومة في كل سنة تالية بنسبة محددة من أرباحه تزيد عن مبلغ محدد لكل ألف دولار تلقاه من الحكومة، ويمكن ربط سداد المبلغ بسداد ضريبة الدخل بسهولة ومن ثم لا يتضمن إلا حدًا أدنى من التكاليف الإدارية الإضافية. إن المبلغُ الأساسيُ ينبغي أن يعادل المتوسطَ المُقَدَّرَ للأرباح دون أن يدخل فيه حساب التدريب المتخصص، ويجب حساب جزء الربح المدفوع بحيث يكون المشروع بأكمله ذاتيَّ التمويل. وبهذه الطريقة، يتحمل الأفراد الذين تلقوا التدريب في الواقع التكلفة كاملة، وبالتالي يمكن أن يتحدد المبلغ المالي المستثمَر باختيار الأفراد. في حال ما إذا كانت هذه الطريقة الوحيدة التي تمول من خلالها الحكومة التدريب الحرفي أو المهني، وفي حال ما إذا كانت تعكس الأرباحُ المقدرة كافةَ العوائد والتكاليف ذات الصلة، سيتجه الاختيار الحر للأفراد إلى توليد المقدار الأمثل من الاستثمار.
قد يكون من المحبذ أكثر للمؤسسات المالية الخاصة والمؤسسات غير الربحية كالمؤسسات والجامعات تطوير هذه الخطة لأسباب عدة. فنظرًا للصعوبات التي ينطوي عليها تقدير الأرباح الأساسية والجزء الزائد عن الأرباح الأساسية التي تُسَدَّدُ للحكومة، هناك خطر كبير من أن يتحول النظام إلى محور لجدال سياسي غير محسوم. فالمعلومات المتوفرة حول الأرباح الحالية في الوظائف المختلفة لا تقدم إلا تقديرًا تقريبيًا للقيم التي تجعل المشروع ذاتي التمويل. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن تختلف الأرباح الأساسية والنسبة من فرد إلى آخر وفقًا لأية اختلافات في القدرة الربحية المتوقعة التي يمكن التنبؤ بها سلفًا، كما في أقساط التأمين على الحياة التي تختلف بين المجموعات التي لديها توقعات حياة مختلفة.
بقدر ما تمثل التكاليف الإدارية العائق في طريق تطوير مثل هذه الخطة على أساس القطاع خاص، فإن الجهة الحكومية المناسبة لتوفير الأموال هي الحكومة الفيدرالية وليست الجهات الأقل شأنًا. إن أية ولاية سوف تتحمل التكاليف نفسها على غرار شركات التأمين، على سبيل المثال، في تتبعها للأفراد الذين قدمت إليهم التمويل. لكن هذه التكاليف قد تنخفض — دون أن تتلاشى تمامًا — في حالة الحكومة الفيدرالية. على سبيل المثال، سيكون على الشخص الذي هاجر إلى بلد آخر، التزام قانوني أو أخلاقي لدفع حصة متفق عليها من أرباحه، على الرغم من أنه قد يكون من الصعب والمكلف فرض هذا الالتزام. وأيضًا قد يتكون لدى الأفراد الذين حققوا نجاحًا كبيرًا حافزًا للهجرة، وهنا تنشأ بالطبع مشكلة مشابهة فيما يتعلق بضريبة الدخل، وعلى نطاق أوسع كثيرًا. إن هذه المشكلة وغيرها من المشكلات الإدارية التي تحيط بعملية تطبيق النظام على المستوى الفيدرالي، لا تبدو خطيرة، مع أنها مزعجة تمامًا بلا ريب. إن المشكلة الخطيرة هي المشكلة السياسية التي سبق وذكرناها: كيف يمكننا منع الخطة من أن تصبح مثار جدل سياسي غير محسوم ومن أن تتحول في تلك الأثناء من مشروع ممول ذاتيًا إلى وسيلة لدعم التعليم المهني.
إلا أنه إذا كان الخطر حقيقيًا، فالفرصة حقيقية أيضًا. إن القصور الحالي في سوق رأس المال يتجه إلى قصر التدريب المهني والفني الأعلى تكلفة على الأفراد الذين لدى آبائهم أو المتبرعين لهم قدرة مادية لتمويل التدريب اللازم، وأيضا يجعل هؤلاء الأفراد مجموعة «غير تنافسية» تختبئ من المنافسة نتيجة لعدم توفر رأس المال اللازم للعديد من الأفراد القادرين؛ والنتيجة هي عدم مساواة سرمدية في الثروة والمكانة الاجتماعية. إن تطوير نظم كتلك التي أوضحناها آنفًا سيجعل رأس المال متاحًا على نطاق أوسع ومن ثم سيحقق الكثير في سبيل جعل تكافؤ الفرص واقعًا، وفي تقليص عدم المساواة في الدخل والثروة، وتعزيز الاستغلال الكامل لمواردنا البشرية. ولن يحقق ذلك عن طريق إعاقة المنافسة وتدمير الحافز والتعامل مع الأعراض، وهو ما سينتج من إعادة التوزيع المطلق للدخل، بل بتعزيز المنافسة وتفعيل الحافز وبالقضاء على أسباب عدم المساواة.