الرأسمالية والتمييز العنصري
إنه لمن الحقائق التاريخية اللافتة للنظر أن تطور الرأسمالية صاحبه تراجع كبير في مستوى العراقيل الخاصة التي مارست فيها الجماعات الدينية أو العرقية أو الاجتماعية لأنشطتها الاقتصادية؛ أو — كما يقال — تراجع مستوى تعرضهم للتمييز. كان إحلال النظام القائم على العقود محل النظام القائم على المكانة الاجتماعية الخطوة الأولى نحو تحرير العبيد في القرون الوسطى. كذلك أمكن حماية اليهود في العصور الوسطى من خلال قطاع من الأسواق يمكنهم في إطاره العمل وحماية على أنفسهم بغض النظر عن الاضطهاد الرسمي. وأيضا استطاع البيوريتانيون وأعضاء جمعية الأصدقاء الدينية البروتستانتية المعروفة باسم (الكويكرز) الهجرة إلى الأمريكتين لأنه كان بإمكانهم ادخار الأموال اللازمة للهجرة من خلال عملهم بالسوق، بالرغم من المعوقات التي فُرِضَت عليهم في جوانب أخرى من الحياة. واتخذت الولايات الجنوبية بعد الحرب الأهلية إجراءات عديدة لفرض قيود قانونية على الزنوج؛ ومن بين هذه الإجراءات إجراء لم يُؤْخَذْ على أي مستوى من قبل وهو وضعُ عوائق أمام الملكية سواءً العقارية أو الشخصية. وكان من الواضح أن الإخفاق في فرض هذه العوائق لا يعكس أي رغبة في تجنب فرض قيود على الزنوج، بل عكس إيمانًا راسخًا بالملكية الخاصة، وأدت قوة ذلك الإيمان إلى تجاهل الرغبة في التمييز العنصري ضد الزنوج. مثل الحفاظ على القوانين العامة للملكية الخاصة وللرأسمالية مصدرًا رئيسيًا للفرص أمام الزنوج، وسمح لهم بتحقيق تقدم أكبر مما كانوا سيحققونه بأية طريقة أخرى. لنأخذ مثالًا أَعَمَّ، إن مجالات التمييز في أي مجتمع هي أكثر المجالات التي لها طبيعة احتكارية، في حين يقل التمييز ضد المجموعات ذات اللون أو الديانة المحددين إلى أدنى مستوى في المجالات التي يتاح بها أكبر قدر من حرية المنافسة.
وكما أشرنا في الفصل الأول، فإنه من مفارقات التجربة — بالرغم من هذا الدليل التاريخي — أن جماعات الأقلية تحديدًا هي من زود المجتمع على نحو مستمر بمعظم المؤيدين المعروفين بالصراحة للتغيرات الجذرية في المجتمع الرأسمالي؛ فقد اتجهت هذه الجماعات إلى تحميل الرأسمالية مسئولية القيود المتبقية التي عانوها بدلًا من الاعتراف بأن السوق الحرة كانت العامل الرئيسي الذي جعل هذه القيود تصبح على هذا المستوى الضآلة التي هي عليه.
لقد شاهدنا فعلًا كيف تميز السوقُ الحرةُ الكفاءةَ الاقتصاديةَ من الصفات غير ذات الصلة. وكما لاحظنا في الفصل الأول، فإن مشتري الخبز لا يدري ما إذا كان الخبز مصنوعًا من قمح زرعه رجل أبيض أم زنجي، أو مسيحي أم يهودي؛ بالتالي يكون منتج القمح في موقف يتيح له استخدام الموارد بفاعلية قدر استطاعته، بصرف النظر عن مواقف المجتمع تجاه اللون والديانة أو الصفات الأخرى للناس الذين يعملون لديه. علاوة على ذلك، وربما الأهم، فهناك حافز اقتصادي في السوق الحرة لفصل الكفاءة الاقتصادية عن السمات الشخصية للفرد؛ فرجل الأعمال أو صاحب المشروع الخاص الذي يعبر عن تفضيلاته في نشاطه التجاري — والتي ليست متصلة بالكفاءة الإنتاجية — يُعَدُّ خاسرًا مقارنة بالأفراد الآخرين الذين ليست لديهم مثل تلك التفضيلات. إن ذاك الفرد يفرض على نفسه في الواقع تكلفة أعلى من الأفراد الآخرين الذين ليست لديهم تلك التفضيلات؛ وبالتالي فإنه في إطار من سوق حرة، سَيُسْتَبْعَدُ من المنافسة.
وربما كان الأمر كما تقول هذه الملاحظات، فهناك مشكلات حقيقية في تعريف التمييز العنصري وتفسيره. إن الرجل الذي يمارس التمييز العنصري يدفع ثمنًا مقابل ممارسته هذه؛ فهو، إن جاز التعبير، «يشتري» ما يعتبره «منتجًا». من الصعب اعتبار أن التمييز له أي مدلول بخلاف كونه «مذاق» للآخرين لا يشترك فيه صاحب «المذاق» مع الآخرين. إننا لا نعتبر الأمر تمييزًا — أو على الأقل ليس بالمعنى المثير للاستياء — إذا كان الفرد يرغب في دفع ثمن أعلى للاستماع إلى مطرب بعينه عن آخر، وإذا كان يرغب في دفع ثمن أعلى للحصول على خدمات يقدمها إليه شخص بلون ما عن شخص له لون آخر. يكمن وجه الاختلاف بين الحالتين في أنه في الحالة الأولى نشترك معه في الميول، وفي الحالة الأخرى لا نتفق معه. هل هناك أي اختلاف من حيث المبدأ بين الميول التي تقود رب الأسرة إلى تفضيل خادمة جذابة عن أخرى قبيحة، والميول التي تقود شخص آخر إلى تفضيل زنجي عن آخر أبيض أو أبيض على زنجي، باستثناء أننا نتعاطف مع ميول واحد منهما وقد لا نتفق مع الميول الآخر؟ أنا لا أقصد أن أقول إن كافة الميول جيدة بتساوٍ؛ بل على العكس من ذلك، أنا شديد الإيمان بأن لون بشرة الإنسان أو ديانة والديه لا تمثل — في حد ذاتها — سببًا لمعاملته معاملة مختلفة، وبأنه يجب الحكم على الإنسان بناءً على شخصيته وما يفعله وليس بناءً على الصفات الخارجية. أنا أرثي ما يبدو لي تحيزًا وضيق أفق يعاني منه الذين لهم ميول تختلف عني في هذا الصدد، ولا أتفق معهم. لكن في إطار مجتمع يرتكز على النقاش الحر، يعد السبيل المناسب لي هو السعي وراء إقناعهم أن ميولهم سيئة وأنه لا بد من أن يغيروا وجهات نظرهم وسلوكياتهم، وليس استخدام القوة القهرية لفرض ميولي ومواقفي على الآخرين.
(١) تشريع ممارسات التوظيف العادل
تأسست في عدد من الولايات لجان تطبيق التوظيف العادل المنوط بها مهمة منع التمييز في التوظيف لأسباب عرقية أو لونية أو عقائدية، وينطوي ذلك التشريع بشكل واضح على تدخلات في حرية الأفراد في إبرام عقود طوعية مع بعضهم البعض؛ فهو يجعل تلك العقود خاضعةً لموافقة أو رفض الولاية؛ ومن ثم يعد هذا تدخلًا مباشرًا في نوع من الحريات من الممكن أن نعترض عليه في أغلب السياقات الأخرى. علاوة على ذلك، وكما ينطبق على معظم التدخلات الأخرى في الحرية، قد لا يكون الأفراد الخاضعون للقانون هم من يراد التحكم في أفعالهم، حتى من وجهة النظر المؤيدين للقانون.
على سبيل المثال، لنأخذ موقفًا فيه متاجر بقالة تخدم حيًا يسكنه أناس لديهم مقت شديد تجاه أن يقوم موظفون زنوج على خدمتهم. لنفترض أن أحد المتاجر به وظيفة شاغرة لموظف وتصادف أن يكون أول متقدم مؤهل للوظيفة من نواح أخرى شخصًا زنجيًا. ولنفترض أنه بموجب القانون أصبح المتجر ملزمًا بتعيينه. ستكون نتيجة هذا الإجراء انخفاضًا في حجم التجارة بالمتجر وفرض خسائر على مالكه. فإذا كان تفضيل المجتمع قويًا بما يكفي، قد يتسبب تعيين الزنجي في إغلاق المتجر. لذا فعندما يعين صاحب المتجر موظفين بيض بدلًا من زنوج في غياب القانون، فإنه بذلك لا يعبر عن أي تمييز أو تحيز أو ميول خاص؛ وإنما يعبر ببساطة عن ميول المجتمع؛ فهو، إن جاز التعبير، يقدم الخدمات التي يرغب المستهلكون في شرائها. مع ذلك، فهو يتعرض للضرر، وقد يكون فعلًا المتضرر الوحيد، بموجب قانون يحظر عليه فعل هذا الأمر، أي قانون يمنعه من إشباع أذواق المجتمع بتوظيف موظف أبيض بدلًا من زنجي. سيتأثر المستهلكين، الذين يهدف القانون إلى كبح رغباتهم، تأثرًا شديدًا بقدر ما يكون عدد المتاجر محدودًا؛ ومن ثم لا بد لهم من دفع ثمن أعلى لأن أحد المتاجر أغلق أبوابه، ويمكن تعميم هذا التحليل. في عدد كبير للغاية من الحالات، ينقل أصحاب العمل تفضيلهم لعملائهم أو للموظفين الآخرين لديهم، عندما يتبنون سياسات توظيف تتعامل مع العناصر غير ذات الصلة بالإنتاجية المادية الفنية كعناصر مرتبطة بالتوظيف. لدى أرباب العمل عامةً حافز فعلًا، كما أشرنا سابقًا، لمحاولة إيجاد طرق للالتفاف على تفضيلات عملائهم أو موظفيهم، إذا كانت تلك التفضيلات تفرض تكاليف عالية عليهم.
يزعم مؤيدو لجان تطبيق التوظيف العادل أن هناك مبررًا للتدخل في حرية الأفراد في إبرامهم عقود بعضهم مع بعض فيما يتعلق بالتوظيف، لأن الفرد الذي يرفض توظيف شخص زنجي بدلًا من آخر أبيض — عندما يكون كلاهما مؤهلًا من ناحية القدرة الإنتاجية المادية — يضر الآخرين، أي الجماعة ذات اللون أو الديانة المحددة التي لدى أفرادها فرصة توظيف محدودة في تلك الأثناء. تنطوي هذه الحجة على خلط خطير بين نوعين مختلفين تمامًا من الضرر؛ النوع الأول هو الضرر الإيجابي الذي يجلبه فرد لآخر بالقوة البدنية أو بإرغامه على إبرام عقد معه دون موافقته، والمثال الواضح لرجل يضرب آخر فوق رأسه بإبريق، والمثال الأقل وضوحًا هو تلوث نهر وقد ناقشناه في الفصل الثاني. أما النوع الثاني فهو الضرر السلبي الذي يحدث عندما يكون هناك فردان غير قادرين على إيجاد عقود مقبولة من كلٍ منهما، مثلما الحال عندما أكون غير راغب في شراء شيء يريد شخص آخر بيعه لي؛ ومن ثم يكون في موقف أسوأ مما كان إذا اشتريت ذلك الشيء. إذا كان أفراد المجتمع لديهم تفضيل عامًا لمطربي البلوز على مطربي الأوبرا، فهم بالتأكيد يسهمون في زيادة الرفاهية الاقتصادية للمطربي البلوز عن الآخرين. فإذا أمكن لمطرب بلوز محتمل العثور على وظيفة ولم يتمكن مطرب أوبرالي من ذلك، فهذا يعني ببساطة أن مطرب البلوز يقدم خدمات يراها المجتمع جديرة بدفع مقابل لها بينما مطرب الأوبرا المحتمل ليس كذلك؛ من ثم يتعرض مطرب الأوبرا للضرر نتيجة لأذواق المجتمع؛ وإذا تبدلت أذواق المجتمع، فقد يكون أفضل حالًا ويتعرض مطرب البلوز للضرر. من الواضح أن هذا النوع من الضرر لا ينطوي على أي تبادل إلزامي أو فرض لتكاليف أو منح لفوائد لأطراف ثالثة، وهناك حجة قوية لاستخدام الحكومة لمنع شخص من فرض ضرر إيجابي، ألا وهي منع وقع إكراه. ليس هناك أية حجة على الإطلاق لاستخدام الحكومة لتجنب النوع السلبي من الضرر؛ بل على العكس، إن مثل هذا التدخل الحكومي ينقص من الحرية ويقيد التعاون الطوعي.
إن التشريعات التي وضعتها لجان تطبيق التوظيف العادل تنطوي على قبول مبدأ قد يجده المؤيدون كريهًا في كل تطبيق آخر. فإذا كان من الملائم للدولة أن تقول إنه لا يجب على الأفراد التمييز في التوظيف للون أو العرق أو الديانة، فيصبح من الملائم أيضًا للدولة أن تقول أنه يجب على الأفراد التمييز في التوظيف على أساس اللون أو العرق أو الدين، شريطة أن تؤيد الأغلبية ذلك. تعد كل من قوانين نورمبرج التي أقرها هتلر والقوانين المعمول بها في الولايات الجنوبية والتي تفرض معوقات خاصة على الزنوج مثالين على قوانين تشبه — من حيث المبدأ — قوانين لجان تطبيق التوظيف العادل. إن المعارضين لمثل هذه القوانين ممن يؤيدون لجان تطبيق التوظيف العادل لا يمكنهم أن يزعموا أنه لا يوجد أي خطأ بها من حيث المبدأ، ولا بأنها تنطوي على نوع من تدخل الدولة الذي لا يجب السماح به. إنهم لا يمكنهم سوى زعم أن المعايير الخاصة المستخدمة غير ذات أهمية، وليس أمامهم سوى السعي وراء إقناع الآخرين بأنه ينبغي لهم استخدام معايير أخرى بدلًا من هذه.
إذا نظرنا إلى التاريخ عامةً وركزنا على نوع الأمور التي ستقتنع بها الأغلبية في حال قررنا البت في كل قضية بشكل منفصل بناءً على جوانبها المميزة بدلًا من كونها جزءًا من مبدأ عام، لن يكون هناك إلا قليل من الشك في أن تأثير القبول واسع النطاق لمدى صلاحية التدخل الحكومي في هذا المجال ستكون غير محبذ تمامًا، حتى من وجهة نظر هؤلاء الذين يؤيدون الآن لجان تطبيق التوظيف العادل. فإذا كان مؤيدو لجان تطبيق التوظيف العادل حاليًا في موقف يجعل وجهات نظرهم مؤثرة، فهذا يرجع إلى الموقف الدستوري والفيدرالي فحسب؛ حيث قد تكون الأغلبية الإقليمية في أحد أجزاء البلاد في موقف يتيح لها فرض رؤاها على أغلبية أخرى في جزء آخر من البلاد.
كقاعدة عامة، إن أية أقلية تعتمد على تدخل معين من الأغلبية للدفاع عن مصالحها هي أقلية ليس لديها نفاذ بصيرة. إن قبول تطبيق قوانين إنكار المصلحة الشخصية على فئة من القضايا قد يحول دون استغلال أغلبية بعينها لأقليات بعينها. وفي غياب مثل تلك القرارات، من المؤكد أنه يمكن الاعتماد على الأغلبية لاستخدام سلطتها في تنفيذ تفضيلاتها — أو إذا أردت أن تقول — انحيازاتها، لا لحماية الأقلية من تحيزات الأغلبية.
لنفسر الموضوع تفسيرًا آخر وربما أكثر وضوحًا؛ لنعتبر أن فردًا يؤمن بأن نمط الأذواق الحالي غير محبذ ويؤمن بأن الزنوج يحظون بفرصة أقل مما يريد أن يراهم يحظون بها، ولنفترض أنه مارس معتقداته ممارسة فعلية عن طريق اختيار المتقدم لطلب الوظيفة زنجيًّا دائمًا، متى كان العديد من المتقدمين للوظيفة مؤهلين على نحو متساوٍ تقريبًا في جوانب أخرى. وفي ظل الظروف الحالية، أينبغي منعه من فعل ذلك؟ من الواضح أن منطق لجان تطبيق التوظيف العادل يقول أنه ينبغي منعه.
إن المفهوم المناظر للتوظيف العادل في المجال الذي تطورت فيه هذه المبادئ على نحو أكبر من غيرها، ألا وهو مجال التعبير عن الرأي، هو «التعبير العادل عن الرأي» وليس حرية التعبير عن الرأي. في هذا الصدد، يبدو موقف اتحاد الحريات المدنية الأمريكي متناقضًا تمامًا؛ حيث يؤيد كلًا من حرية التعبير عن الرأي وقوانين التوظيف العادل في الوقت نفسه. من بين مبررات حرية التعبير عن الرأي أننا لا نؤمن أنه من المحبذ أن تقرر الأغلبية المؤقتة ما ينبغي أن يُنظر إليه — في أي وقت — على أنه الرأي المناسب. نحن نريد سوق حرة في الأفكار، بحيث تحصل الأفكار على فرصة في الفوز بأغلبية أو قبول يقارب الإجماع، حتى إذا آمن بها حفنة قليلة في البداية. تنطبق الاعتبارات نفسها تحديدًا على التوظيف أو على نحو أعم على السوق بالنسبة للسلع والخدمات. هل يستحسن أن تقرر أغلبية مؤقتة أي الصفات متصلةٌ بالتوظيف أكثر من أن تقرر أي الآراء ملائم؟ هل تستطيع سوق حرة للأفكار أن تصمد طويلًا حال انهيار سوق حرة للسلع والخدمات فعلًا؟ سيقاوم اتحاد نقابة الحريات المدنية الأمريكية حتى الموت لحماية حق رجل عنصري في أن يخطب عن مبدأ التمييز العنصري في الشارع، لكنه سيؤيد سجنه إذا تصرف بناءً على مبادئه ورفض توظيف شخص زنجي في وظيفة بعينها.
كما أكدنا من قبل، إن السبيل الملائم لمن يؤمن منا أن معيارًا محددًا كاللون غير ذي أهمية هو إقناع إخواننا باعتناق الرأي ذاته، وليس استخدام القوة القهرية للدولة لإجبارهم على التصرف وفقًا لمبادئنا. ومن بين كل الجماعات، ينبغي أن يكون اتحاد الحريات المدنية الأمريكي في صدارة من يعترف ويعلن صحة هذا الأمر.
(٢) قوانين الحق في العمل
أقرت بعض الولايات ما يسمى بقوانين «الحق في العمل» تحظر هذه القوانين بشكل قانوني طلب العضوية في أي نقابة كشرط للحصول على الوظيفة.
تتطابق المبادئ المُتَضَمَّنَةُ في قوانين الحق في العمل مبادئ متطابقة مع تلك المُتَضَمَّنَةُ في قوانين لجان تطبيق التوظيف العادل؛ فكل من هاتين المجموعتين من المبادئ تتدخلان في حرية عقود العمل، وذلك عن طريق تحديدهما أن لونًا بعينه أو ديانةً بعينها لا يمكن أن يكون شرطًا للتوظيف من ناحية؛ وأن عضوية النقابة غير ممكنة من ناحية أخرى. وبالرغم من تطابق المبادئ المُتَضَمَّنَةُ في قوانين الحق في العمل وتلك المُتَضَمَّنَةُ في قوانين لجان تطبيق التوظيف العادل، فإن هناك اختلافًا في رؤى قوانينهما بشكل شبه تام. إن جميع من يؤيد قوانين الحق في العمل يعارض قوانين لجان ممارسة التوظيف العادل، وجميع من يؤيد قوانين لجان تطبيق التوظيف العادل يعارض قوانين الحق في العمل. ولكنني كرجل ليبرالي، أعارض كلاهما، مثلما أعارض القوانين التي تحظر ما يسمى ﺑ «العقود المناهضة لنقابات العمال» (وهو عقد عمل يتعهد بموجبه العامل عدم الاشتراك في النقابات العمالية كشرط لتوظيفه).
لنفترض أن هناك منافسة بين أرباب العمل والموظفين، لا يبدو أن هناك سببًا لئلا يكون أرباب العمل أحرار في فرض أية شروط يريدونها لموظفيهم. ففي بعض الحالات، يجد أرباب العمل أن الموظفين يفضلون الحصول على جزء من مكافآتهم في صورة مرافق كملاعب كرة البيسبول أو مرافق رياضية أو استراحات بدلًا من النقود؛ ومن ثم يجد أرباب العمل الأمر مربحًا أكثر عند تقديم هذه المرافق كجزء من عقد العمل بدلًا من عرض أجور نقدية أعلى. وبالمثل، من الممكن أن يوفر أرباب العمل برامج تقاعد، أو يطلبون المساهمة في برامج التقاعد، وما شابه، ولا يتضمن أي من ذلك أي تدخل في حرية الأفراد في العثور على وظائف، ولكنه يعكس ببساطة محاولة من جانب أرباب العمل لجعل صفات الوظيفة مناسبة وجذابة للموظفين. طالما أن هناك العديد من أرباب العمل، سيكون كافة الموظفين الذين لديهم أنواعٌ خاصة من الاحتياجات قادرين على إرضاء هذه الاحتياجات عن طريق العثور على وظيفة بأرباب عمل تتطابق عروضهم مع رغبات الموظفين. في ظل الظروف التنافسية ينطبق الشيء نفسه على الشركات التي لا توظف سوى أعضاء نقابات العمال. فإذا فضل بعض الموظفين في الواقع العمل في شركات لا توظف إلا أعضاء نقابات العمال فيما فَضَّلَ آخرون العمل في شركات لا تعبأ بتوظيف غير الأعضاء في نقابات العمال، ستنشأ صور مختلفة من عقود العمل، بعضها يتضمن الشرط الأول والبعض الآخر يتضمن الشرط الثاني.
لا شك أن هناك بعض الاختلافات المهمة بين قوانين لجان تطبيق التوظيف العادل وبين قوانين الحق في العمل من الناحية العملية، وتكمن أوجه الاختلاف في وجود الاحتكار في صورة منظمات نقابية من جانب الموظفين وفي وجود تشريعات فيدرالية فيما يتعلق بالنقابات العمالية. ومن المثير للريبة في الواقع أن يكون وضع أرباب العمل العضويةَ في النقابات العمالية كشرط للتوظيف أمرًا مربحًا أكثر في سوق عمل تنافسية. وفي حين أننا قد نجد النقابات تفتقر دائمًا إلى أية قوة احتكارية في صف العمال، فإن كثيرًا ما تحوز الشركات التي تضع العضوية في النقابات العمالية شرطًا للتوظيف سلطةً احتكاريةً؛ ودائمًا ما تكون رمز للسلطة الاحتكارية.
إن التجانس بين الشركات التي لا توظف سوى أعضاء النقابات العمالية والاحتكار العمالي ليس حجة في مصلحة قانون الحق في العمل، ولكنه حجة تستدعي اتخاذ إجراء للقضاء على السلطة الاحتكارية بغض النظر عن أية صور أو أشكال خاصة تأخذها. إنها حجة لاتخاذ إجراء مضاد للاحتكار فعال وواسع النطاق في مجال العمالة.
من بين السمات المهمة التي تظهر عند التطبيق العملي هي التضارب بين القوانين الفيدرالية وقوانين الولايات وبين الوجود الراهن للقوانين الفيدرالية التي تنطبق على الولايات كافة، والتي أوجدت ثغرات قانونية لكل ولاية منفردة في إقرار قانون الحق في العمل. قد يكون الحل المثالي هو مراجعة القانون الفيدرالي، وتكمن الصعوبة في أنه لا توجد أية ولاية منفردة في موقف يؤهلها لإثارة هذا الموضوع. ومع ذلك من الممكن أن يرغب الناس في أية ولاية في إجراء تغيير في التشريع الذي يحكم منظومة النقابة داخل ولاياتهم، وقد يكون قانون الحق في العمل السبيل الفعال الوحيد الذي يمكن خلاله تحقيق ذلك؛ ومن ثم يكون أفضل الأسوأ.
ولأنني أميل إلى اعتقاد أن قانون الحق في العمل في حد ذاته لن يكون له أي تأثير كبير في السلطة الاحتكارية للنقابات، فأنا لا أقبل هذا التبرير له جزئيًا على ما أعتقد. تبدو لي الحجج العملية ضعيفة للغاية لدرجة لا تجعلها تفوق أهمية الاعتراض على المبدأ.
(٣) الفصل العنصري في التعليم المدرسي
يثير الفصل العنصري في التعليم المدرسي مشكلة استثنائية لم تتناولها الملاحظات السابقة لسبب واحد فحسب؛ وهو أن التعليم المدرسي — في ظل الظروف الراهنة — يخضع لإدارة وسيطرة الحكومة في المقام الأول، وهذا يعني أنه لا بد من أن تتخذ الحكومة قرارًا صريحًا؛ فلا بد من أن تطبق الفصل العنصري أو الاندماج بين عناصر المجتمع. كلاهما يبدو لي حلًّا سيئًا، فإن من يؤمن منا بأن لون البشرة صفة ليس لها أية أهمية، وأنه يجدر بنا جميعًا الاعتراف بذلك، ويؤمن في الوقت نفسه بحرية الفرد، يواجه بذلك معضلة. فإذا كان على المرء أن يختار بين مساوئ فرض الفصل العنصري بالقوة أو فرض الاندماج بالقوة، فأنا أرى أنه من المستحيل ألا أختار الاندماج.
يطرح الفصل السابق — الذي كُتِب في البداية دون اهتمام على الإطلاق بمشكلة الفصل أو الاندماج العنصري — حلًّا مناسبًا يسمح بتجنب مساوئ الحلين، ويُعَدُّ مثالًا جيدًا على الخطط التي توضع لتعزيز الحرية عامة فتعمل على حل مشكلات الحرية على نحو خاص. إن الحل الملائم هو القضاء على الإدارة الحكومية للمدارس، ومنح الآباء حرية اختيار نوع المدرسة التي يريدون لأطفالهم الذهاب إليها. إضافة إلى ذلك، علينا جميعًا بالطبع أن نسعى قدر استطاعتنا — من خلال أفعالنا وأقوالنا — إلى تشجيع المواقف والآراء التي ستجعل المدارس المختلطة هي القاعدة والمدارس التي تطبق الفصل العنصري هي الاستثناء النادر.
لقد تبنت ولاية فرجينيا خطة بها العديد من السمات المشتركة مع الاقتراح الذي استعرضناه في الفصل السابق. وبالرغم من قبول هذه الخطة بهدف تجنب الاندماج الإلزامي، فإنني أتوقع أن تكون النتائج النهائية للقانون مختلفة تمامًا، وهذا الاختلاف بين النتيجة والهدف يمثل واحدًا من التبريرات الأساسية للمجتمع الحر. من المستحسن أن نتيح للأفراد حرية اتباع منحنى اهتماماتهم الخاصة؛ وذلك لأنه من المستحيل التنبؤ بما بالمسار الذي ستسلكه. وفعلًا، كان هناك في المراحل الأولى من تطبيق الخطة بعض المفاجآت؛ فقد علمت أن أول المطالب بقسيمة لتمويل تغيير مدرسة طالب جاء من أب ينقل ابنه من مدرسة تطبق الفصل العنصري إلى مدرسة تطبق سياسة الاندماج. لم يقدم الأب طلب النقل لهذا الغرض فحسب، لكن قدمه ببساطة لأن المدرسة التي تطبق الاندماج تصادف أنها تقدم خدمة تعليمية أفضل. عند النظر إلى المستقبل، وفي حالة عدم إلغاء نظام القسائم، ستقدم ولاية فيرجينيا تجربة تمكننا من اختبار نتائج الفصل السابق. إذا ثبتت صحة تلك النتائج، ستشهد مدارس ولاية فيرجينيا ازدهارًا، مع زيادة في تنوعها، وارتفاع أساسي إن لم يكن هائلًا في جودة المدارس الرائدة، وارتفاع فيما بعد في جودة باقي المدارس بفعل الحافز الذي يعود الفضل فيه للمدارس الرائدة.
على الجانب الآخر من الصورة، ليس من المفترض بنا أن نكون بلهاء بدرجة تجعلنا نعتقد أن القيم والمعتقدات الراسخة يمكن اجتثاثها على المدى القريب بقوة القانون. أعيش بمدينة شيكاجو، ولا يوجد بشيكاجو قانون يفرض الفصل العنصري؛ بل تدعو قوانينها إلى الاندماج، ومع ذلك تتسم المدارس العامة بشيكاجو في واقع الأمر بالفصل العنصري تمامًا كالمدارس في غالبية المدن في جنوب الولايات المتحدة. ليس هناك شك تقريبًا في أنه إذا طُبِّقَ النظام الموجود بفرجينيا في شيكاجو، ستكون النتيجة انخفاضًا كبيرًا في الفصل العنصري، وازديادًا كبيرًا في نطاق الفرص المتوفرة للشباب الزنوج الأذكياء والأكثر طموحًا.