عملية … تنظيف الأموال!
كانت صالةُ الجمانيزيوم بمقرِّ الشياطين السري حافلةً بالنشاط، وقد تناثرَت الأجهزةُ الرياضية الحديثة في أركان الصالة المتسعة. وراح الشياطين يُمارسون تدريباتِهم الرياضية العنيفة عليها.
كان هذا هو النشاط الأكثر أهمية بالنسبة للشياطين، عندما لا تكون هناك مهمةٌ تَشْغلهم، وكان قد انقضى وقتٌ ليس بالقصير منذ آخر مهمة للشياطين اﻟ «١٣» … ومن هنا كانت جديَّتُهم وحماسُهم في صالة التدريب للاحتفاظ بلياقتهم عاليةً استعدادًا لأيِّ مهمة قادمة، أما في ركن القاعة فكان يجري مشهدٌ آخر … حيث كان الشيطان الأسمر «عثمان» يقوم بتدريبات من نوع آخر … كانت حركاتُه تبدو كما لو أنه يمارس رقصةً استعراضية عجيبة، أو طقسًا من الطقوس السحرية القديمة … غير أنه في الحقيقة كان يقوم بأداء بعضِ التدريبات الاستعراضية لرياضة اﻟ «كونغو فو»، تلك الرياضة الشبيهة بالكاراتيه … غير أنها أكثرُ خطرًا … بحيث إن ضربةً واحدة منها قد تكون هي القاتلة … وحيث تمتلئ تلك اللعبةُ الرياضية الصينية بحركاتٍ استعراضية لا مثيلَ لها … حيث يُشبِه بعضُها «حركة الثعبان» أو «وثبة النمر»، وتأخذ نفسُ الحركات أسماءَها من تلك الحيوانات.
توقَّفَت «إلهام» عن ممارسة الألعاب السويدية التي كانت تقوم بها … وراقبَت «عثمان» باسمةً، وانضمَّ إليها «أحمد» وهو يقول: إن صديقنا «عثمان» ماهرٌ حقًّا في اﻟ «كونغو فو»، حتى إنني لا أشك أنه قد يتغلَّب على أبطالها إذا ما صارعهم.
إلهام: هكذا هم الشياطين … إذا مارسوا شيئًا أتقنوه إلى درجة الامتياز … فهذا هو شعارنا …
أحمد: أرجو أن يعثرَ «عثمان» على مهمة تحتاج إلى مواهبه الجديدة.
وفي نفس اللحظة لمعَت اللمبة الحمراء الصغيرة في مقدمة صالة الجمانيزيوم مصحوبة بموسيقى خفيفة. وكان هذا يعني الانتباهَ بالنسبة للشياطين، وأن هناك رسالةً عاجلة إليهم. وأنصتَ الشياطين في ترقُّبٍ ولم يَطُل انتظارهم؛ فقد كان هناك استدعاءٌ عاجل لاثنين منهم؛ «أحمد»، و«عثمان» …
قالت «إلهام» باسمةً: يبدو أن الوقت قد حان ليقيس «عثمان» مواهبَه الجديدة بطريقة عملية.
ابتسم «عثمان» وتوقَّف عن أداء تمارينه وهو يجفِّف عرقه، ثم اتجه خارجًا من الصالة مع «أحمد»، وأخذ الاثنان حمَّامًا باردًا … وخلال أقل من عشر دقائق كانَا يأخذان مكانَهما في قاعة الاجتماعات.
كانت القاعة خالية … خافتةَ الإضاءة … تنبعث منها موسيقى شرقية هادئة تَبْعثُ على الاسترخاء.
فقال «عثمان»: أظن أن المهمة القادمة ستكون مهمةً صغيرة.
أحمد: ولماذا تظنُّ ذلك؟
عثمان: الاستدعاءُ غيرُ العاجل الذي اقتصر علينا نحن فقط … وتلك الموسيقى الهادئة …
أحمد: مَن يدري … إن أهدأَ المهام قد تنقلب إلى جحيم مشتعل لسببٍ ما … ولديَّ إحساسٌ بأن مهمتَنا القادمة بمكان ما في الشرق … ربما بسبب تلك الموسيقى الشرقية التركية.
– أنت على حقٍّ تمامًا يا «أحمد».
كان هذا هو صوت رقم «صفر» …
وفوجئ «أحمد» و«عثمان» بوجوده في مكانه المعتاد، وقد جلس إليه دون أن يُلاحظاه … ودون أن تظهرَ ملامحُه الغارقة في الظلام كالعادة … وأضاف رقم «صفر»: مرحبًا بكما … مضى وقتٌ منذ كانت آخر مهمة … وأسعدني أنكم جميعًا لم تُضيِّعوا لحظة واحدة … استعدادًا للمهمة القادمة … وهي تحتاج لكلِّ قدراتكما بالفعل …
تساءل «عثمان»: تُرى هل ستكون مهمتُنا القادمة في تركيا؟
رقم «صفر»: سوف تَجْري أحداثُ العملية القادمة في أماكن عديدة … غيرَ أنها ستحمل طابعَ الشرق … ورائحته؛ فإن الصيدَ الكبير الذي ستسعيانِ خلفه هذه المرة صيدٌ شرقيٌّ له مهارةُ الثعلب في التواري والاختفاء … وتوحُّش الذئب في الانقضاض …
صمت رقم «صفر» لحظة … ربما ليُهيِّئَ الشيطانَين لما سيقوله … وكان الفضول قد استبدَّ ﺑ «أحمد» و«عثمان»، فبقيَا صامتَين ينتظران ما سيقوله رقم «صفر» …
– أنتما تعرفان أنه في عالمنا الآن توجد أنشطةٌ عديدة مشبوهة لا يمكن حصرها أبدًا؛ فكلُّ مجال من مجالات حياتنا الواسعة صار يمتلئ بالشر والعنف والعمليات المشبوهة، فكما أن هناك أخيارًا فهناك أشرار، وإذا كنَّا في كثير من الأحيان نقوم بالكشف عن مصادر الشرور وعقاب أصحابها وتخليص المجتمع من شرِّهم فإننا في أحيان أخرى لا نتمكَّن من ذلك، ولأسباب عديدة متنوعة.
وأضاف رقم «صفر» بعد لحظةِ صمتٍ: إن بعض هذه الأسباب قد يكون لبراعة هؤلاء الأشرار وقُدْرتهم على إخفاء أنشطتهم جيدًا … وأحيانًا لأنهم يشغلون مناصب ذات حماية … أو لأن هناك مَن يقوم بحمايتهم والتستُّر عليهم من أصحاب المناصب العليا … فالمال قد بات يفعل الكثير في عالمنا، ومن أجله ينتصر الشرُّ ويبقى في أحيان كثيرة؛ لأن هناك دائمًا ضعافَ النفوس أمام المال … خاصة إذا كان هذا المال بالملايين … أو آلاف الملايين … حيث يتم كلُّ شيء دائمًا بطرق قانونية لإبعاد الشبهة … والمثل الواضح على ذلك هو البنوك السويسرية … انتبه «أحمد» و«عثمان»، وقد ظهر على وجهَيهما بعضُ الدهشة … كانَا لا يفهمان العلاقةَ بين أشرارِ العالم وطُرُقِهم الشيطانية وبين البنوك السويسرية أو النظام المالي العالمي.
أكمل رقم «صفر» قائلًا: لعلكما تندهشان لما قلتُه … ولكن وكما قلت منذ لحظة بأن المال قادرٌ على أن يجذبَ ضعاف النفوس بل وأن يُقنِّن الشر … وحتى عندما عرفنا كانت المفاجأة بالنسبة لنا كبيرةً جدًّا … فقد اكتشفنا أن هناك نوعًا من الاحتيال بآلاف الملايين كان يتم إجراؤه بين هؤلاء الأشرار والمجرمين والمشبوهين، وبين بعض البنوك السويسرية العالمية فيما يسمَّى بعملية «تبييض الأموال».
صمت رقم «صفر» وتذكَّر «أحمد» أنه كان قد قرأ شيئًا عن هذا الموضوع في مجلة عالمية، وإن كان لم يُلمَّ به بالكامل.
أحمد: إن أرباح بعض الأنشطة الإجرامية يُقدَّر بآلاف الملايين من الدولارات … هذه الأنشطة المحرَّمة الممنوعة، ما بين القمار والمخدرات وتجارة الأسلحة والإرهاب وغيرها. هذه الأنشطة الإجرامية التي تُدِرُّ على أصحابها آلافَ الملايين كلَّ عام … وبالطبع فإن أصحابها لا يمكن أن يحتفظوا بها في بيوتهم، ويكونون مضطرين لإيداعها في البنوك … ولأن بنوك سويسرا هي الأشهر في هذا المجال بسبب ما توفِّره من سرِّية وحماية لهذه الأموال ولأصحابها؛ لذلك اتجه إليها أصحابُ الأنشطة المشبوهة ليضعوا فيها أموالَهم بعيدًا عن العيون.
عثمان: ولكن … حتى هذه البنوك لديها القوانين التي تنظِّم إيداعَ الملايين فيها، وهي تشترط أن تكون هذه الملايين معلومةَ المصدر ومن طريق شريف قبل أن تقبل بنوك سويسرا أو غيرها إيداعَ هذه الملايين بها.
رقم «صفر»: هذا صحيح تمامًا يا «عثمان»، وما قلتُه منذ لحظة عن «تبييض الأموال» هو ببساطة تحويل هذه البلايين الناتجة من أرباح أنشطة محرمة، أو ما يُطلَق عليه اسم «أموال سوداء» … إلى أموال بيضاء عن طريق القيام بعمليات عجيبة وغريبة لإثبات أن هذه الأموال ناتجة من تجارة عادية، وهذه العملية تتم من خلال عدة أساليب؛ فمثلًا إذا افترضنا أن هناك تاجرَ مخدرات لديه أرباحٌ بالملايين يرغب في إيداعها في بنوك سويسرا … فإنه لا يقوم بإيداعها مباشرة … بل يُنشئ شركةً وهمية تُمارس أيَّ نشاط، وفي نهاية العام تُقدَّر أرباح هذا النشاط بالملايين … فيتم تحويل هذه الملايين إلى بنك عادي باعتبارها أرباح نشاط مشروع … ثم يقوم هذا الشخص بتحويل هذه الملايين من بنك إلى آخر ولحساب أشخاص آخرين … وبذلك لا يمكن لأحد إثبات أن هذه الأموال جاءت بطريق غير مشروع. وما قلتُه يعتبر مثلًا بسيطًا … ففي ظل أرباح بالبلايين لتجارة المخدرات … فإن الأمر يستلزم من أصحاب هذه التجارة إنشاء عشرات ومئات الشركات لإثبات أرباح وهمية تنتقل من بنك إلى بنك ومن شخص لآخر حتى تتحول إلى أموال نظيفة … يصعب بل يستحيل إثبات أن مصدرها الأساسي هو تجارة المخدرات مثلًا … وبذلك يعيش صاحبُها آمنًا مطمئنًا.
عثمان: هذا مذهل! … ولكن ألَا تعرف البنوك التي تقبل هذه الملايين سرَّ تلك اللعبة الجهنمية؟
رقم «صفر»: إنها تعرف بكل تأكيد … ولكن وكما قلت فإن المال يفعل الكثير … وهذه البنوك أو بعضها تتظاهر أنها لا تعرف حقيقةَ ذلك المال … وبمعنى أدق فإنها تُغمض عينَيها عن تلك الحقيقة؛ إما مقابل نسبة من هذا المال، وإما لكيلا يذهبَ العميل إلى بنك آخر يقبل هذه الأموال مهما كان مصدرها.
أحمد: إن هذا معناه وجود متورطين كثيرين في هذه اللعبة …
رقم «صفر»: هذا صحيح تمامًا يا «أحمد»، وهؤلاء المتورطون في سويسرا أو غيرها ممن لهم علاقةٌ مباشرة بالنظام المالي العالمي قد يكونون مديري بنوك أو ضباطَ شرطة كبارًا أو حتى بعض القضاة وأصحاب الحصانة … بالإضافة طبعًا إلى جيش من المحامين والمحاسبين البارعين في مثل تلك الألعاب المالية العالمية … ليس هذا فقط … بل إن هناك بعضَ الصغار أيضًا ممن يشتركون في هذه اللعبة وبطرقٍ مبتكرة تُبعدهم عن الشبهة … فمثلًا إذا افترضنا أن هناك شخصًا ولنُسمِّه مستر «×» … وأن هذا الشخص قام بخدمةٍ ما لتاجر مخدرات كبير يتعامل بالبلايين … من ثَم استحقَّ «×» مبلغًا من المال مقابل هذا التعاون المشبوه … وبالطبع فإن «×» لو تقاضَى مليون جنيه لتعاوُنِه، فقد يأتي مَن يسأله من رجال الشرطة عن مصدر هذه النقود … ومن ثَم تُفتضَح علاقته بتاجر المخدرات الكبير … فماذا يفعل «×» ليحميَ نفسه ويُبرِّرَ حصولَه على هذا المبلغ من المال … إن الحل هنا جهنميٌّ بالفعل … فعلى سبيل المثال أنتما تعرفان أن القمار تُدرُّ مبالغَ كبيرةً جدًّا في الغرب، لذلك يذهب مستر «×» إلى إحدى صالات القمار الكبيرة المنتشرة في «كان» أو «ينسى» أو «سان فرانسيسكو» أو غيرها من عواصم القمار العالمية … ويلعب «×» القِمارَ على مبلغ صغير … وقبل أن يغادر الصالة يكون قد ربح مليون جنيه في نفس المساء بضرباتِ حظٍّ متتالية … وبالطبع فلا بد أنكما قد خمنتما بأن عملية الربح مدبَّرة … لأن القائمين على صالة القمار هم أنفسهم من رجال تجار المخدرات.
عثمان: هذا مذهلٌ تمامًا! … إنه تفكير جهنمي! … ولا بد أن هناك العشرات من أمثال هذه الحِيَل التي تُتيح لهؤلاء المجرمين إثباتَ أنهم حصلوا على أموالهم الملوَّثة بطرق شرعية …
رقم «صفر»: هذا صحيح تمامًا … وفي بعض الأحيان يتخفَّى الرأس الكبير وسط هذه الدوامة من العمليات البارعة … ويقوم بأعماله المحرَّمة ويكسب البلايين من هذه التجارة المشبوهة، على حين يظل ظاهريًّا يمارس نشاطًا محترمًا لا يمكن لإنسان أن يشكَّ فيه … ومن أجل ذلك وضعنا خطة مضادة في المقابل … بمراقبة كازينوهات القمار وغيرها؛ بحيث إن كلَّ مَن يكسب مبلغًا ضخمًا بطريقة مفاجئة من مثل هذه الأعمال فإننا نعتبره متورِّطًا في نشاط مشبوه … وقد ثبت صحةُ هذه النظرية بنسبة ٩٩٪ … وكانت سببًا في كشفنا لأخطر شبكة لتنظيف أو تبييض الأموال … وبالتالي استطعنا أن نعرف مَن هو مَلِك تنظيف الأموال في العالم. وظاهريًّا فإن هذا الرجل يبدو بعيدًا كلَّ البعد عن أيِّ نشاط مشبوه … فله اسمٌ محترم في بورصة المال والأعمال … فهو صاحب شركات عديدة للاستيراد والتصدير … وصاحب آبار بترول هائلة … وصاحب عدد لدور الصحف، بالإضافة إلى أكثر من شركة سينمائية ذات أسماء عالمية يعمل فيها نجومٌ كبار. ولكن بمزيد من التحرِّي الدقيق والصبر استطعنا أن نكشفَ النشاط الحقيقي لذلك الرجل … وسوف تندهشان بالفعل إذا عرفتما بنشاط هذا الرجل، إنه يتاجر في أكثر من تجارة محرَّمة … وأغلب هذه التجارة تأخذ طريقَها إلى منطقة الشرق الأوسط وبُؤَر الصراع فيها … ومن أجل هذا اتخذنا قرارَ التخلص بأسرع وقت وبأية وسيلة.
صمت رقم «صفر» قبل أن يُضيفَ: إن مهمَّتَكما القادمة … هي التخلُّص من «أوزال أفران»!
ولم يكَد رقم «صفر» ينطق الاسم حتى اتسعَت عينَا «أحمد» و«عثمان» بالدهشة العظيمة؛ فما كان ليتخيلَا لحظة واحدة أن اسم أكبر بليونير في العالم قد يكون متورِّطًا في أنشطة مشبوهة … وهو الذي تنشر الجرائد والمجلات صِوَرَه باعتباره «رجل الأعمال الكبير» و«المحسن الكبير» و«راعي الفن والأدب الأول» … وحيث تمتلئ الحفلات التي يُقيمها بكبار النجوم والممثلين والأدباء والرياضيِّين بل ورؤساء الوزراء والملوك!