النجم المشتعل!
كان ميناء «نيويورك» مليئًا بالحركة … فهو ليس أكبرَ موانئ أمريكا الشمالية فقط، بل يُعدُّ من أكبر موانئ العالم برصيفه الذي يمتدُّ إلى ما يزيد عن ١٢٠٠كم، وحيث يَعبُر من خلاله ما يقرب من نصف تجارة أمريكا وراء البحار.
كانت هناك مئات السفن المتراصة في الميناء الكبير، وقد راحَت بعضُها تُفرِغ حمولتَها التي جلبَتها من الموانئ الأخرى عبر المحيط، على حين راح بعضُها الآخر يمتلئ جوفُه بكل أنواع البضائع والصادرات … والرافعات العملاقة والأوناش الضخمة تتحرَّك فوق رصيف الميناء كأنها هياكل عملاقة من المعدن.
ولم تكن حال سفينة «النجم المشتعل» لتختلفَ عن غيرها من مئات السفن حولها … كانت السفينة كبيرة يزيد طولُها عن مائة وعشرين مترًا … وكانت تبدو رشيقةً بيضاء كأنها بجعةٌ راقدة فوق وجه الماء … وقد راح عشرات العمال يقومون بشحنها بصناديق كبيرة وحاويات ضخمة، بواسطة أوناش عملاقة … وقد تكدَّس سطحُ وجوفُ السفينةِ بآلاف الصناديق المغلقة.
وكانت العبارات المكتوبة فوق الصناديق المغلقة تقول بأنها تحوي أدوات منزلية وأجهزة كهربائية قابلة للكسر. وتحذِّر من التعامل معها بشدة … غير أن الذي يعرفه الكثيرون، هو أن الموت والدمار يختفيان في قلب كلِّ صندوق من صناديقها …
كانت «النجم المشتعل» هي السفينة المقصودة … المحمَّلة بالذخيرة والسلاح والقنابل، لتنقلَ الموتَ والخراب إلى شعبٍ مسالِم أنهكه طولُ القتال الذي لا هدفَ له.
ووقف «عثمان» و«أحمد» على مسافةٍ يُتابعان مشهدَ شحن السفينة بحمولتها، وقد بدَت هيئتُهما مثلَ بحَّارَين عاطلَين عن العمل بملابس زرقاء من الجينز وكاسكيت قديم، وقد بدآ يتحرَّكان بطريقة خاصة كعادة البحارة المتمرِّسين.
ظهر ربَّان السفينة وهو يُشرف على شحنها، وكانت له هيئة ضخمة ولحية كبيرة ووجه أحمر. وأخذ ربَّان السفينة يُعطي تعليماتِه لبحَّارته الذين كان عددُهم لا يزيد عن الثلاثين وهو أمرٌ عجيب بالنسبة لسفينة ضخمة. ولكن دواعي الحذر والسرية كانت تقتضي تقليلَ عدد البحارة إلى أقصى حدٍّ.
تساءل «أحمد»: هل تظن أن بحَّارة «النجم المشتعل» يعرفون ما تحتويه سفينتُهم؟
عثمان: هذا لا شك فيه.
ألقى «أحمد» نظرةً إلى ساعته، وقال: باقي ثلاث ساعات على بَدْء الرحلة لهذه السفينة الجهنمية.
عثمان: لقد انتهى شحنُ السفينة … وأظن أن الساعات المتبقية بمثابةِ ساعاتِ لهوٍ لبحَّارتها، فهذه هي عادة البحارة في هذا الميناء.
كان «عثمان» على حقٍّ؛ فما كاد ينتهي شحنُ آخرِ صندوق حتى لوَّح الربان بيدَيه لبحَّارته، طالبًا منهم أن يحصلوا على قليل من الراحة قبل رحلتهم الطويلة.
تدافع البحَّارة مسرعين إلى رصيف الميناء … ثم تفرَّقوا وكلٌّ منهم يبحث عن وسيلةٍ لقضاءِ فترةِ الراحة الخاصة … وغمزَ «عثمان» بعينَيه ﻟ «أحمد» قائلًا: هيَّا بنا؛ فقد حان أوان العمل …
تساءل «أحمد»: هل اخترتَ أحدًا معينًا؟
أشار «عثمان» إلى أربعة من بحارة النجم المشتعل، كانت تبدو عليهم الشراسةُ وسوءُ الطبع، بالإضافة إلى ضخامتهم غير العادية. قال «عثمان»: هذا هو صيدنا. إنهم يتجهون إلى حانة «القط الأزرق» ليأخذوا كأسًا أخيرًا.
وأكمل بلهجة خاصة: أظن أنه سيكون الأخير لهم بالفعل.
وكانت الحانةُ التي دخلها البحارة عفنةَ الرائحة، امتلأَت بدخان السجائر وروائح المشروبات الرخيصة المقزِّزة، وقد راح الجالسون فيها من البحارة يضحكون بأصوات مرتفعة ويتبادلون الشتائم وهم يحتسون مشروباتهم.
دخل «عثمان» و«أحمد» الحانةَ خلف البحارة الأربعة، وكان عليهم أن يتقمَّصوا دورَهم إلى أقصى حدٍّ؛ فقد كان نجاحُهم في الالتحاق ﺑ «النجم المشتعل» للعمل كبحارة يتوقَّف على ما سيقومون به خلال اللحظات القادمة.
احتل «أحمد» و«عثمان» مقعدَين مجاورَين لمنضدة البحارة الأربعة، الذين راحوا يحتسون الخمر بأصوات مقززة ويتبادلون الحديث والنِّكات والشتائم بأصوات عالية، وغمز «أحمد» ﻟ «عثمان» بعينَيه، فالتفت «عثمان» إلى أقرب البحارة الأربعة إليه، وكان أضخمَهم وأكثرَهم شراسة، فقال له: ما هذه الألفاظ والأصوات العالية؟
التفت البحَّار الضخم ذاهلًا إلى «عثمان»، وقال له: هل تحدِّثني أنا؟
عثمان: ليس هناك مَن يتحدَّث بطريقة أخسَّ منك في هذا المكان لأُحدِّثَه. إن لك رائحةً لا تُطاق تجعلني لا أستمتع بهذا المكان … وقد يكون علاجُك في هذا.
وأمسك «عثمان» بكوب الخمر الممتلئ أمام البحَّار، ثم سكبه فوق الأرض، عندئذٍ غضب البحَّار ولمعَت عيناه ببريقٍ وحشيٍّ جهنميٍّ …
وساد السكونُ بداخل الحانة. وماتَت الضحكات والكلمات … وقد راح كلُّ الجالسين ينظرون، وبالفعل فقد فتح الجحيم أبوابه في اللحظة التالية.