رقصة النمر!
زأر البحَّار في صوتٍ متوحش كأنه حيوان سجين، ثم اندفع نحو «عثمان» وقد صوَّب إليه ضربةً هائلة لو أصابَت حائطًا من الصخر لحطَّمَته.
كان الشيطان الأسمر يتوقَّع تلك الضربة، ويعرف الكثيرَ عن أساليب البحَّارة في القتال؛ ولذلك وبكل بساطة فقد قفز إلى الوراء في رشاقة وهو يحني رأسَه جهة اليسار مثل راقصي الباليه، فطاشَت الضربة واختلَّ توازنُ البحار … وبنفس الخفة والرشاقة امتدَّت يدُ «عثمان» لتردَّ الضربة التي أصابَته وجعلَت عينَيه تجحظ من الألم الشديد، ومرة أخرى كان ردُّ الفعل قاسيًا … غبيًّا … فقد طارَت قبضتُه اليسرى نحو «عثمان» ومرة أخرى قفز الشيطان الأسمر إلى الخلف متجنِّبًا مسارَ القبضة الهائلة فطاشَت أيضًا … ووثَب «عثمان» مثل فهد فصار خلف البحَّار، وقام بضربِه ضربةً خفيفة. وزأر البحَّار مرة أخرى في جنون، وتمالَكَ كلَّ قوتِه ليجذبَ «عثمان» من ذراعه، ثم هوَى برأسه فوق رأس «عثمان» في ضربة ارتجَّ لها المكان …
وشعر «عثمان» كأن قنبلةً انفجرَت في رأسه، وقبل أن يصوِّبَ له البحَّارُ ضربةً أخرى، كان «عثمان» قد تأهَّب تمامًا لتقديم رقصة النمر …
وهكذا راحَت أصابعُ «عثمان» وقدماه تتحركان بطريقة عجيبة واستعراض شيِّق للعبة «الكونغ فو» في استعراض رقصة النمر … فبدَا الشيطان الأسمر، وكأنه نمرٌ بشريٌّ لا مثيلَ له.
فُوجئَ البحَّارُ الثائر بحركاتِ «عثمان» الغريبة، ثم اندفع البحار نحو «عثمان» ثم وجَّه له ضربةً قوية … وكان ذلك خطأَه الأخير … فقد تحاشَى «عثمان» الضربةَ في نفس الوقت، وطارَت قدمُه برشاقة لا مثيلَ لها. وقام بضرب البحَّار بها وكأنها قذيفة، وكانت شديدةً بحيث ألقَت بالبحار إلى الوراء، فسقط فوق مائدة حطَّمها تمامًا.
وجُنَّ جنونُ البحارة الثلاثة لما حدث لزميلهم، فاندفعوا نحو «عثمان» في غضب شديد شاهرين أسلحتَهم.
ولكن أوقفهم صوتُ «أحمد» وهو يقول: مهلًا أيها الرجال؛ فلا يصح أن تتقاتلوا جميعًا مع شخص واحد …
صاح أحد البحارة الثلاثة: حسنًا … فلتكونَا اثنين فيزيد عددُ القتلى هذا اليوم … وهوَى البحَّار بضربةٍ فوق «أحمد» … ولكن وقبل أن تُلامسَه الضربة كانت قدمُ «أحمد» قد طارَت إلى البحار فجعلَته يشهق من الألم، وقبل أن يفكِّر حتى في الردِّ على الضربة طارَت القدمُ الأخرى للشيطان الوسيم فألقَت بالبحَّار فوق المائدة الأخرى حطَّمها وتمدَّد بجوار زميلِه الفاقد الوعي … واندفع البحَّاران الباقيان نحو الشيطانَين شاهرَين أسلحتَهما.
ومع اندفاع البحَّارَين … اندفع بقيةُ روادِ الحانة من البحَّارة ليشاركوا في المعركة ضد «أحمد» و«عثمان».
وتحوَّل المكان إلى ساحة قتال هائلة … وأكثر من عشرين بحَّارًا يقاتلون ضد شخصَين أعزلين من السلاح.
ولكن مَن قال إن الشيطانَين بحاجة إلى سلاح ليُدافعَا عن نفسهما خاصةً إذا كانَا من طراز «أحمد» و«عثمان»؟!
وهكذا كان أول الضحايا ثلاثة بحَّارة استقرَّت رءوسُهم بين حطام الأخشاب، عندما اندفعوا نحو «أحمد» شاهرين أسلحتَهم، فاستقبلهم «أحمد» بمنضدة خشبية كبيرة حطَّمها فوق رءوسهم … أما «عثمان» فطار في الهواء مسدِّدًا ضربتَين كأنه «الرجل الوطواط»، فطار البحَّاران … واصطدمَت رأساهما بزجاجات المشروبات وحطَّمَتها في فوضى شديدة وطارَت الزجاجات والمقاعد.
ولم تستغرق المعركة غيرَ دقائق ثم توقَّفَت … ليس لأن الشيطانَين قد أُصيبَا في المعركة أو هربَا من المكان … بل لأنهما لم يجدَا مزيدًا من الرجال لقتالهم … فقد كانت نتيجة الجحيم الذي اشتعل في الحانة هو سقوطُ بحَّارتها جميعًا فاقدي الوعي …
تلفَّتَ «عثمان» حوله وهو يقول ساخرًا: أليس هناك مزيدٌ من الأغبياء للقتال؟
وفي تلك اللحظة اصطدمَت عيناه بربَّان «النجم المشتعل» الذي كان واقفًا في مدخل الحانة وهو يُلقي بنظرة غير مصدقة إلى البحَّارة المصابين.
وكان من الواضح أن المعركة التي دارَت في الحانة قد جذبَت انتباه الربَّان، وعشرات من البحارة الذين تدافعوا أمام باب الحانة حاملينَ كلَّ ما وصلَت إليه أيديهم من سلاح للانتقام من «أحمد» و«عثمان». ولكن إشارة الربان أوقفَتهم في أماكنهم، وتقدَّم الربان من «أحمد» و«عثمان» وهو يتأملهما بدهشة عظيمة، ثم قال: مَن أنتما؟
أجابه «أحمد» في خشونةٍ: ألَا تعرفنا؟!
الربان: إنكما تبدوان لو كنتما من البحارة، غير أنه لا أحدَ يعرفكما هنا أو يشاهدكما في هذا الميناء من قبل.
عثمان: وكيف يرانا أحد وقد كنَّا في مكان خاص لمدة عامين … فهم لا يفرجون عن السجناء في هذه البلاد ليذهبوا إلى الحانات.
الربان: إذن فقد كنتما سجينَين … ولكن لماذا؟
قال «عثمان» ساخرًا: لأننا لم نعرف كيف نسوِّي أمورنا جيدًا مع رجال الشرطة في هذه البلاد، فقبضوا علينا بتهمةِ جلبِ المخدرات. إنَّ كلَّ ما كنَّا نحمله هو نصف كيلو من الهيروين فقط لا يساوي البقاءَ خلف القضبان يومًا واحدًا.
الربان: إذن فقد كنتما تعملان في تهريب الهيروين.
أحمد: إن الربان الذي كنَّا نعمل فوق سفينته كان رجلًا غبيًّا لا يدفع بسخاء؛ لهذا رأينا زيادة دخلنا بجلبِ بعض المخدرات إلى هذه البلاد. ومن المؤسف أنهم أمسكوا بنا قبل تصريفِها.
قال الربان في شك: ولكنها المرة الأولى التي أرى فيها بعضَ البحَّارة يقاتلون بالمهارة التي قاتلتما بها.
عثمان: إننا لم نقضِ وقتَنا في السجن عبثًا … فقد كان يُزاملنا هناك رجلٌ صيني كان بطلًا للعالم في «الكونغ فو» قبل أن تبعث به المخدرات أيضًا إلى السجن، ولحسنِ حظِّنا فقد تعلَّمنا منه أشياء كثيرة أفادَتنا مع هؤلاء الأغبياء.
مرَّت لحظةُ صمت، وبدَا على الربان الاقتناع، ونظر في ساعته. كان الوقت يجري بسرعة ولم يَعُد باقيًا غير دقائق قليلة على ميعاد رحيل سفينته «النجم المشتعل»، وأشار الربان إلى بعض بحَّارته قائلًا: أيقظوا زملاءَكم واحملوهم خارجًا.
ولكنها كانت مهمةً فاشلة؛ فإن البحارة الأربعة كان مستحيلًا عليهم الإفاقةُ من الغيبوبة التي سبَّبَتها لهم ضرباتُ الشياطين.
قال أحدُ البحارة الآخرين للربان: إنهم فاقدو الوعي. وقد لا يُفيقون قبل أسبوع.
قال الربان في قلق: وما العمل الآن؟! … لا يمكنني الإبحار بستة وعشرين بحارًا فقط.
تدافع بعضُ البحارة العاطلين نحو الربان عارضين عليه الإبحارَ معه بدلًا من البحارة الأربعة المصابين، ولكنَّ عينَي الربَّان توقَّفَت نحو «أحمد»، و«عثمان»، وارتسمَت ابتسامةٌ واسعة على شفتَيه وهو يقول: أعتقد أنني قد عثرتُ على ما أريد … هل تُبحرانِ معي؟
تساءل «أحمد»: ما هي وجهتُكَ؟
أجاب الربان: أنا لا أحبُّ الأسئلة الكثيرة … سأدفع لكلٍّ منكما عشرة آلاف دولار في رحلة لن تستغرقَ أكثرَ من أسبوعين، فما رأيكما؟
ردَّ «عثمان» قائلًا: حسنًا … إن هذا أفضلُ من البقاء بلا عمل.
وألقى نظرةً باسمة إلى «أحمد» … فقد تحقَّق هدفهما … وها هما قد صارَا من بحارة «النجم المشتعل».