معركة فوق المحيط!
أطلقَت سفينةُ «النجم المشتعل» صفارتَها الأخيرة، قبل أن ترفعَ مراسيَها وتتَّجهَ مُغادِرةً ميناءَ «نيويورك» بلا تأخير.
كان عملُ «أحمد» في صيانة الآلات، وكانت لهما دراية واسعة بميكانيكا الآلات … والمحركات البحرية سهَّلَت لهما القيام بواجباتهما بشكل جيد …
وفي المساء تجمَّع البحَّارة على مائدة العشاء. ولاحظَ «أحمد» و«عثمان» نظراتِ بقيةِ البحَّارة العدائية لهما.
وبلغةِ الأصابع راح «أحمد» ينقل رسالةً إلى «عثمان» يقول فيها: «هل لاحظتَ نظراتِ البحَّارة إلينا؟»
أجابه «عثمان» بنفس اللغة: «إن نظراتِهم العدائية واضحةٌ تمامًا، ومن المؤكَّد أنهم لن يتسامحوا معنا بسبب إيذاءِ زملائهم الأربعة وأخْذِنا مكانهم.»
أحمد: هل تظن أنهم سوف يقومون بأي عمل عدواني ضدَّنا؟
عثمان: مَن يدري؟ … علينا أن نكون في منتهى الحرص.
انتهى العشاء، وانصرف «أحمد» و«عثمان» إلى عملهما بغرفة الآلات …
وفي ركن الباخرة كان يجري مشهدٌ آخر … فقد تجمَّع عددٌ من البحَّارة راحوا يتهامسون فيما بينهم ثم انتهَوا إلى قرار، فتقرَّقوا عائدين إلى أعمالهم.
وفي منتصف الليل انتهَت نوبةُ عمل «أحمد» و«عثمان» … وخرجَا من حجرة الآلات وهما يضحكان متجهَين إلى قمرتهما القريبة من سطح الباخرة.
صاح «أحمد»: حاذِر يا «عثمان».
وفي نفس اللحظة قفز الشيطان الأسمر إلى الوراء مدفوعًا بغريزة الخطر … ودوَّى صوتٌ هائل عندما سقطَت حاويةٌ هائلةُ الحجم مكان «عثمان» … ولولا أنه قفز من مكانه لسحقَته الحاويةُ الضخمة …
تساءل «عثمان» وهو يجفِّف عرقه: تُرى مَن الذي حرَّك هذه الحاوية من مكانها وأسقطها علينا؟
ولم يكن السؤال بحاجة إلى إجابة؛ فقد ظهر خمسةٌ من بحارة السفينة وقد تسلَّحوا وهم يحاصرون «أحمد» و«عثمان».
تحدَّث أحد البحَّارة قائلًا: من العجيب أنكما تهربان من الموت بطرق غريبة.
قال «عثمان» ساخرًا: هذا لأن أواننا لم يَحِنْ بعدُ.
قال البحار: حسنًا … لقد حان الأوان الآن.
واندفع البحارة الخمسة نحو «أحمد» و«عثمان» … وكان من السهل على الشيطانَين أن يواجهَا جيشًا من عينةِ هؤلاء البحارة وأن يُلقوا بهم من فوق حاجز السفينة إلى المحيط في أقل من دقائق معدودة …
لكن «أحمد» و«عثمان» اتبعَا خطةً أخرى … وهكذا تحاشيَا الضرباتِ القاتلةَ الموجَّهة لهما من البحارة، ثم شرعَا في تقديم استعراض لا مثيلَ له.
هكذا راح الاثنان يستعرضان حركاتِ الكاراتيه «والكونغ فو» الاستعراضية، فتراجع البحارة إلى الوراء في قلق.
وتماسك الشيطانان … وبحركة خاطفة طارَا في الهواء … وقبل أن ينتبهَ البحارة إلى هدفهما، كانت أقدامُ الشيطانَين قد أخذَت طريقَهما إلى اثنين من البحارة، فدارَا حول نفسهما من شدة الضربات … ثم سقطَا على الأرض بلا حَراك …
وزأر البحارة الثلاثة الباقون واندفعوا نحو «أحمد» و«عثمان»، وتلقَّى «أحمد» ضربةً من مهاجمِه فوق ذراعه، ثم أطاح بالبحار فسقط في قلب الماء … واستدار «أحمد» ليُمسك بالبحار ويرفعه فوق قدمه بحركة «جودو»، فطار البحَّار في الهواء واصطدم بحاجز السفينة فسقط بجواره بلا حَراك … في نفس اللحظة التي كان فيها مهاجم «عثمان» يندفع إلى الوراء كأنما صدمَته قاطرةٌ واستقرَّ فوق إحدى الحاويات الضخمة. وقبل أن يتمكَّن البحار الخامس من طلب النجدة، أو حتى الهرب، كانت أيدي «عثمان» و«أحمد» تمتدُّ إليه، وبضربتَي سيف شهق البحَّار من الألم … وسقط على الأرض وراح يزحف وهو يئنُّ … ثم توقَّف عن الزحف عندما سدَّت عليه الأقدام الكثيرة الطريق … كان بقيةُ البحَّارة قد تجمَّعوا على سطح الباخرة بسبب صوت المعركة، وصاح البحار الزاحف بصوت متألم أشد الألم لزملائه: لقد هاجمونا وأصابونا. إنهم يبدون كالشياطين … ولا يمكن لإنسانٍ قهرهم.
صاح أحد البحارة: سوف تكون نهايتهم على أيدينا … وأشار إلى زملائه … ولكن قبل أن يتحرك أحدهم ارتفع صوت ربان السفينة في غضب شديد قائلًا: ما الذي يجري هنا؟
تقدَّم «عثمان» من الربان قائلًا: لقد هاجمونا هؤلاء البحارة الخمسة، وأرادوا قتْلَنا فأسقطوا إحدى الحاويات علينا، ثم بادرونا بالهجوم.
أحمد: وبالطبع كان علينا أن نُدافع عن أنفسنا.
ارتسم الغضبُ على وجه الربَّان وهتف: هل نحن في ساحة قتال؟! … إذا حاول أحد هؤلاء الرجال الاعتداء عليكما مرة أخرى، فأقسم أن أُلقيَه في عرض المحيط.
على الفور بدأ البحَّارة ينسحبون في صمتٍ حتى خلا سطحُ السفينة منهم، وحتى البحارة المصابون أسرعوا يغادرون المكان.
تقدَّم الربان من «أحمد» و«عثمان»، وتأمَّلهما بنظرة طويلة، ثم قال: لم يحدث من قبل أن تعرَّض إنسانٌ لهجوم هؤلاء الوحوش وعاش طويلًا.
عثمان: لقد تعوَّدنا على هجوم الوحوش ونعرف كيف ننتزع مخالبها.
الربان: لقد أُعجبت بكما … وربما بعد أن نَصِل إلى وِجْهتنا ونُفرغ الشحنة يكون هناك تعاونٌ كبير بيننا.
أحمد: المهم أن تدفع جيدًا … كثيرًا من المال …
ابتسم الربان قائلًا: اطمئن … ستحصلان على مال كثير … أكثر مما تحلمان به … فإن الرجل الذي ستعملان لديه لا قيمة للمال عنده أبدًا … إنه دائمًا بحاجة إلى رجال لهم مثل مهارتكما … هذا بالإضافة إلى الإخلاص.
عثمان: إننا دائمًا نُخلص لمن يدفع أكثر …
الربان: حسنًا … سنرى فيما بعد … والآن هيَّا اذهبَا إلى قمرتكما؛ فأنتما تحتاجان إلى الراحة بعد تلك المعركة التي خضتماها اليوم.
سار «أحمد» و«عثمان» باتجاه قمرتهما … ووقف الربان نحو حاجز السفينة وهو يتطلع إلى الأفق البعيد المظلم، واقترب مساعدُه منه وهو يقول: إن شيئًا ما يجعلني لا أرتاح إلى هذين البحَّارَين اللذَين التقطناهما من ذلك الحان.
الربان: وما الذي يجعلك لا ترتاح إليهما يا «جاك»؟
المساعد: أشياء كثيرة … مهارتهما غير العادية في القتال؛ فلا يمكن أن يكون لبحَّارة عاديِّين مثل هذه القدرة الهائلة … إنهما يقاتلان مثل النمور أو الشياطين، بالإضافة إلى قصتهما عن سجنهما لا تروقني.
الربان: ماذا تعني؟
المساعد: كان من الواجب أن نتحرَّى عنهما أولًا قبل أن نسمح لهما بالعمل على السفينة … إن عملنا لا يحتمل أقلَّ هفوة.
– ولكنك تعرف أن الوقت لم يكن يسمح لنا بالتحرِّي عنهما.
– ولكن لا يزال أمامنا متسعٌ من الوقت.
– ماذا تقصد؟
ضاقَت عينَا «جاك» مساعد الربان، فبدَا وجهُه مثلَ قرد طويل نحيل، وقال: يمكننا أن نبرق إلى رجالنا في «نيويورك» بأسماء وأوصاف هذين الرجلَين ونطلب منهم التحرِّي عنهما … وسوف يَصِلنا الردُّ خلال ٢٤ ساعة.
لم ينطق الربان في الحال وبدأ التفكير العميق، ثم قال بصوت مبحوح: وما العمل إذا كان هذان الاثنان كاذبَين؟
– ليس هناك غيرُ تصرُّفٍ واحد يا سيدي … قتلهما في الحال.
لمعَت عينَا الربَّان ببريق وحشي وهو يقول: سيكون القتل شيئًا هينًا لما أنوي أن أفعلَه بهما والآن اذهب لتبرق إلى رجالنا في «نيويورك».
اتجه «جاك» نحو حجرة اللاسلكي … وبقيَ الربان وحده فوق سطح السفينة وقد التمعَت عيناه بلون دموي قاتل.