شكوك … واحتمالات!
شكوك … واحتمالات.
أطفأ «أحمد» و«عثمان» ضوءَ القمرة، وتظاهرَا بالنوم … وبعد نصف ساعة كاملة غادر الاثنان فراشَهما ووقفَا بجوار باب القمرة يستمعان … ولكن لم يكن هناك أيُّ صوت.
قال «عثمان»: فلنُسرع لاستكشافِ كلِّ أجزاء السفينة قبل الفجر.
أحمد: من الخطر الخروج من القمرة؛ فقد تكون مراقبة من بعض البحَّارة.
تساءل «عثمان» في قلق: هل تظن أنهم يشكُّون فينا؟
أحمد: مَن يدري؟ … إن عداء البحَّارة لنا قد يجعلهم يحاولون أيَّ شيء معنا للتخلُّص منا، وحتى الربان ومساعده فإنني لا أطمئن إليهما.
عثمان: وما العمل الآن؟
أحمد: سنخرج من القمرة، ولكن ليس من بابها، بل من نافذتها الصغيرة المطلَّة على الماء.
عثمان: ولكن هذا خطرٌ جدًّا.
قال «أحمد» بابتسامة واسعة: إن مواجهة الخطر وتحدِّيه هو عملنا الذي نُجيده، هيَّا بنا!
وأمسك «أحمد» بحبل صغير ينتهي بخطاف، وأخرج يده من القمرة، وألقى بالخطاف لأعلى حاجز السفينة فاشتبك به. وتعلَّق «أحمد» بالحبل ثم بدأ الصعود إلى أعلى في خفة الفهد، ومن الخلف بدأ «عثمان» أيضًا صعودَه … وبعد ثوانٍ قليلة استقر الاثنان فوق سطح السفينة المظلم بدون أن يشعر بهما إنسان …
همس «أحمد» ﻟ «عثمان»: علينا أن نكتشفَ أماكنَ وجودِ الأسلحة والقنابل والذخيرة وتوزيعها في كل أنحاء السفينة لنتخذ الخطة المناسبة للتخلص منها.
أومأ «عثمان» برأسه موافقًا … وأشار «أحمد» إليه أن يكون حذرًا، فهزَّ «عثمان» رأسَه بنعم، ثم تحرَّك نحو قلب السفينة فاختفى في ظلامها …
اقترب «أحمد» من الحاويات الكبيرة فوق سطح السفينة، وأخرج من جيبه جهازًا صغيرًا وضعَه فوق إحدى الحاويات، فالتمعَت لمبةٌ صفراء في مقدمة الجهاز الذي أطلق طنينًا خافتًا … وكان معنى ذلك وجود مدافع رشاشة بداخل الحاوية … وتحرَّك «أحمد» إلى بقية الحاويات على السطح … كانت كلها تحتوي على مدافع رشاشة ومدافع صغيرة وذخيرة هائلة من الرصاص.
أنهى «أحمد» مهمتَه، وتحرَّك باتجاه قلب السفينة عندما أوقفه صوتٌ جاء من خلفه يقول: ما الذي تفعله هنا أيها الرجل؟
توقَّف «أحمد» مندهشًا … كانت المفاجأة تامة له، ولا يعرف كيف اقترب منه صاحب الصوت بذلك القدر دون أن يسمعه …
واستدار «أحمد» فشاهد «جاك» مساعدَ الربان واقفًا وقد علَت وجهَه تقطيبةٌ غاضبة مليئة بالشك، وتخلَّص «أحمد» من دهشته، وقال في بساطة: كنت أتجوَّل على سطح السفينة؛ فقد جافاني النوم.
جاك: من العجيب أنك اخترتَ لتجوالك وقتًا مدهشًا … الثالثة فجرًا.
أحمد: وهل هناك قانون يمنع البحَّارة من التجول فوق سطح السفن التي يعملون فيها حتى لو كان الوقت فجرًا؟
لم ينطق «جاك» ورفع «أحمد» يدَه بالتحية باسمًا وهو يقول: للأسف لن أتمكن من البقاء طويلًا معك؛ فقد أتاني النوم أخيرًا … تُصبح على خير.
تحرَّك «أحمد» إلى قمرته … وأدار بابها فانفتحَت … وكان «عثمان» بالداخل مشغولًا بتدوين بعض الأرقام والأشياء أمامه. والتفت إلى «أحمد» قائلًا: إن قاع السفينة مليء بصناديق صغيرة ومتوسطة كلها ممتلئة بمختلف أنواع القنابل … يدوية وفوسفورية وزمنية ودانات المدافع … اقتراب عود كبريت واحد منها كفيلٌ بنسف السفينة كلها.
انتبه «عثمان» إلى صمت «أحمد»، فسأله مندهشًا: ماذا حدث؟
أخبره «أحمد» بما جرى على السطح، فتساءل «عثمان» في دهشة: هل تظن أن هذا الرجل يشك فينا؟
أحمد: إن لهجته وظهوره المفاجئ يدلَّان على أنه بالفعل يشك فينا.
عثمان: وما العمل الآن؟ … هل نقوم بنسف السفينة فورًا؟ …
أحمد: مستحيل طبعًا … وإلا فإننا سنموت بداخلها. إن الحل الأمثل بالنسبة إلينا هو إغراق السفينة بحمولتها. ولكننا لن نتمكن من ذلك قبل أن تقترب السفينة من بعض الجزر المأهولة بالسكان التي يمتلئ بها المحيط، فيمكننا أن نسبح إليها بعد غرق السفينة فنضمن نجاتَنا.
قال «عثمان» في قلق: ولكن إذا كان هذا الرجل يشك فينا فليس مستبعدًا أن يُرسل للتحرِّي عنَّا في «نيويورك» … وقتَها سيعرف أننا قد اختلقنا قصة كاذبة على الجميع … وهذا معناه أن الربان سوف يأمر رجاله بالقبض علينا وربما قتلنا. وإذا افترضنا أن الربان أو مساعده قد أرسلَا هذه البرقية مساء اليوم فلا أظن أنهما سيتلقيان ردًّا قبل مساء الغد. وبذلك لا يكون أمامنا فرصة غير هذا الوقت الضيق لإغراق السفينة.
أحمد: ولكن هذا مستحيل؛ فليست هناك أيُّ جزيرة قريبة نلتجئ إليها.
عثمان: إن لديَّ فكرة أفضل، وهي ألَّا ننتظرَ وصولَنا إلى أية جزيرة، بل أن نقوم بالاستيلاء على أحد زوارق الإنقاذ ونتجه إلى أية جزيرة بعيدة، حتى نعودَ به إلى ميناء «نيويورك»، ولكن طبعًا بعد أن نكون قد نسفنا هذه السفينة الملعونة.
أحمد: من الخطر محاولة تنفيذ هذه الخطة الآن؛ فقد تكون قمرتُنا مراقَبة من بعض البحارة. ومن الأفضل لنا الانتظار حتى الصباح.
تثاءَب «عثمان» وهو يقول: عندك حقٌّ، فأنا أشعر بالنعاس … إننا بحاجة إلى بعض الراحة حتى نكونَ على أتم استعداد غدًا لمواجهة أيِّ احتمال.
وتمدَّد «عثمان» فوق فراشه على حين بقيَ «أحمد» جالسًا في صمتٍ وقد غَرِق في تفكير عميق … والتفتَ «عثمان» مندهشًا إلى «أحمد» وهو يسأله: ألن تنام؟
أحمد: إن هناك سؤالًا يدور في ذهني ويهمُّني أن أسمع إجابتَك عليه.
عثمان: وما هذا السؤال؟
أحمد: لنفترض إننا لم نتمكن من الحصول على قارب الإنقاذ ومغادرة السفينة بواسطته قبل نسفِها، ولنفترض أن الوقت لم يتسع لنا للوصول إلى جزيرة قريبة وانكشف أمرُنا قبلها … فماذا سنفعل؟
تقلَّصَت أصابع «عثمان» فوق رأسه وهو يقول: لن يكون أمامنا غير تصرُّف واحد وهو أن ننسف هذه السفينة بكل حمولتها ومَن فيها … حتى لو كنَّا في قلبها … وإلا فسنكون قد شاركنا في جريمة قتل آلاف الأبرياء في «لبنان».
اكتسى وجه «أحمد» بصلابة وهو يقول: هذا ما كنت أريد أن أسمعه منك؛ فإنني لن أسمح بوصول حمولة هذه السفينة إلى هدفها النهائي بأيِّ شكل من الأشكال، ولو كان الثمن هو حياتنا.