الجحيم المشتعل!
اندفع «أحمد» نحو «عثمان» وصاح به: هيَّا بنا، فليس أمامنا أيُّ وقت؛ فسوف تنفجر السفينة كلها في أقل من خمس دقائق.
ولكن، وقبل أن يتحرك الاثنان من المنفذ الوحيد المتاح لهما الهرب منه، اندفعت مجموعة من البحارة من الناحية الأخرى لتسد عليهما الطريق.
وانهال الرصاص على الشيطانَين من كل اتجاه كالمطر … وجاوب «عثمان» طلقات الرصاص بدفعة متتالية من مدفعه، ثم التفت إلى «أحمد» في قلق شديد وهو يقول: إن كل منافذ الهرب مغلقة ومحاصرة بالبحارة المسلَّحين. ومدفعي الرشاش سوف ينفد منه الرصاص سريعًا …
وفجأة ظهر أحد البحارة وهو يصوِّب مدفعه نحو الشيطانَين، وعاجله «عثمان» بدفعة رشاش ألقَت بالبحار مصابًا … ولكن مدفع «عثمان» توقَّف عن إطلاق الرصاص بعد فراغ خزانته …
ألقى «عثمان» بالمدفع على الأرض في غضب قائلًا: إن الحظ السيِّئ يُصرُّ على ملازمتنا في هذه السفينة الملعونة.
ألقى «أحمد» نظرةً إلى ساعة يده، وقال في قلق شديد: لم يَعُد باقيًا غير ثلاث دقائق فقط على انفجار السفينة.
ولمعَت عيناه وهتف: إن لديَّ فكرة.
وأشار إلى نافذة مستديرة ضيقة على مسافة خطوات منه، وقال: إن هذه النافذة تُطلُّ على المحيط؛ فإذا تمكَّنَّا من الوصول إليها وقفزنا منها إلى الخارج ضمنَّا النجاة … بشرط أن ننجوَ من رصاص البحارة.
عثمان: لا تخشَ شيئًا … فإن رقصة الفهد تُؤمِّن ذلك بسهولة.
وقبل أن يفهم «أحمد» ما يقصده «عثمان»، اندفع الشيطان الأسمر طائرًا في الهواء بطريقة عجيبة وهو يتلوَّى في الهواء فطاشَت كلُّ الرصاصات التي انطلقَت نحوه في الهواء … وبسرعةٍ خاطفة كان «عثمان» يقفز من النافذة الصغيرة الضيقة إلى قلب المحيط.
لم تكن إجادة «أحمد» في مثل تلك اللعبة الاستعراضية كإجادة «عثمان» … ولكن لم يكن أمامه حلٌّ آخر. وقفز «أحمد» في الهواء يتبعه سيلٌ من الرصاص، ولكنه لم يأخذ طريقه إلى النافذة المفتوحة مباشرة التي انصبَّ عليها جحيمٌ من الرصاص، بل قفز جهة اليمين، وبلمح البصر كان يقفز إلى اليسار وتشتَّتَت طلقات الرصاص خلفه وهي لا تدري هدفه الحقيقي، وبنفس اللحظة كان «أحمد» يقفز من النافذة الضيقة إلى المحيط …
وكانت السقطة من العنف بحيث غاص «أحمد» في الماء بقوة عدة أمتار لأسفل، وألقى نظرة إلى ساعته، تبقَّت دقيقتان فقط.
تلفَّت «أحمد» باحثًا عن «عثمان» في قلب الماء، ولكن لم يكن للشيطان الأسمر أيُّ أثر … وصَعِد «أحمد» إلى وجه الماء، فانهال الرصاص عليه من كل مكان بالسفينة، ومرة أخرى غاص «أحمد» بعد أن أخذ نفَسًا عميقًا وسبح مبتعدًا عن مكان إطلاق الرصاص متجهًا إلى ركن السفينة حيث ترك الزورق البخاري السريع.
وصَعِد «أحمد» إلى سطح الماء أمام الزورق بالضبط … وبداخله كان «عثمان» جالسًا بابتسامة عريضة ينتظره.
رفع «أحمد» يدَه بعلامة النصر، وقفز إلى الزورق، وألقى «أحمد» نظرةً أخيرة إلى ساعته قبل أن يُدير محركات الزورق … تبقَّت دقيقة واحدة فقط …
هتف «عثمان»: فلنبتعد عن المكان بأقصى سرعة؛ فسوف يتحول إلى جحيم خلال ثوانٍ.
أحمد: هذا الزورق سيؤمِّن نجاتنا وسنلجأ به إلى أقرب جزيرة على مسافة مائة كيلومتر شرقًا.
وانطلق «أحمد» بالزورق … وفي نفس اللحظة دوَّى صوتُ رشاش سريع … وشعر «عثمان» برصاصة تمرق بجوار وجهه، فهتف في غضب: هؤلاء الملاعين كادوا أن يصيبوني.
أحمد: هناك ما هو أسوأ.
وأشار إلى محرك الزورق الذي اخترقَته رصاصة، فبدأ يُصدر صوتًا مضطربًا، وتناقصَت سرعتُه وتوقَّف على مسافة قريبة من السفينة …
صاح «عثمان»: لقد تعطل الزورق … وليس أمامنا سوى ثلاثين ثانية فقط!
أحمد: فلنسرع بالسباحة مبتعدين …
ألقى الاثنان بأنفسهما إلى قلب الماء … وراحَا يسبحان بأقصى ما يستطيعان من قوة في سباق محموم مع الزمن.
كانت الثواني تمرُّ بسرعة شديدة … وراح الشيطانان يُصارعان الموج والموت والجحيم المنتظر … كانَا قد ابتعدَا بمسافة لا تزيد عن ألف متر … وهي مسافة غير آمنة بأي حال من الأحوال …
نظر «أحمد» مرة أخيرة في ساعته، وصاح: الآن …
بنفس اللحظة أسرع الاثنان يغوصان في قلب المحيط …
وبنفس اللحظة أيضًا دوَّى انفجار هائل كأنما انفجر بركان في قلب المحيط … ودوَّى انفجارٌ ثانٍ وثالث وتناثرَت أجزاء السفينة «النجم المشتعل» على مسافة كيلومترات من المكان، وقد تحوَّل سطح الماء في نفس المكان إلى بقعة مشتعلة من الجحيم ذاته.
غاص «عثمان» و«أحمد» في قلب المحيط عدة أمتار مبتعدين عن المكان، ولكن الانفجار الشديد جعل قلب الماء يهتز بشدة، فاندفع الاثنان إلى الخلف كما لو كان قد لطمَتهما موجةٌ بحرية هائلة.
وشعر الاثنان بالماء يسخن حولهما كأنما شبَّت فيه النار.
وصَعِدَا أخيرًا إلى سطح الماء … كانت آلاف القطع الخشبية الصغيرة متناثرة حولهما، وقد تحول مكان السفينة إلى كتلة من اللهب الذي تُغطِّيه سحابةٌ هائلة من الدخان.
ألقى «أحمد» نظرةً إلى مكان الزورق البخاري المعطوب … ولكن لم يكن للزورق أيُّ أثر، فقال «عثمان»: إن قوة الانفجار دمرَت الزورق أيضًا … ولو كنَّا فوقه لأطاح بنا الانفجار أيضًا.
أحمد: يبدو أنه لا يوجد ناجون غيرنا.
عثمان: إن هؤلاء البحارة السفاحين ممن يعملون في تهريب الأسلحة وبيع الموت لا يستحقون الشفقة.
أحمد: إن الأولى بانتقامنا وعقابنا هو ذلك الرجل الأسطورة … فهو الرأس المدبر لكل هذا وبدون التخلص منه نكون كمَن قطع ذيل الحية لا رأسها.
عثمان: إن مهمتنا القادمة … التي سنقطع فيها رأس الحية بإذن الله.
قال «أحمد» باسمًا: إنك تتحدث كما لو كنَّا قد ضمنَّا النجاة … إن أقرب أرض إلينا تقع على مسافة مائة كيلومتر ولن يمكننا الوصول إليها سباحة.
ضحك «عثمان» فلمعَت أسنانه البيضاء وهو يقول: يكفي أننا على قيد الحياة … فإن هذا يجعلني مليئًا بالأمل!
أحمد: من المؤسف إننا لا نمتلك جهازًا لاسلكيًّا للاتصال برقم «صفر» ليُرسل إلينا مَن ينتشلنا من المحيط.
عثمان: وهل تظن أن انفجار «النجم المشتعل» لم تلتقطه الأقمار الصناعية وأجهزة التجسس العالمية … إن هناك مئات الأشخاص الذي يعرفون تمام المعرفة الآن بأن انفجارًا ضخمًا قد وقع في قلب المحيط.
أحمد: أرجو أن يكون رقم «صفر» قد وصلَته هذه الرسالة أيضًا.
وتعلَّق الاثنان ببعض الأخشاب الطافية فوق سطح الماء، تمدَّدَا فوقها … وأغمض الشيطانان أعينَهما من الشمس الحارقة … وبدَا عليهما كأنهما استغرقَا في النوم …
ومر الوقت ببطء … ثم أفاق الاثنان على الصوت الذي راح يقترب منهما … وفتح الشيطانان عيونهما.
وعلى مسافة قريبة كانت طائرة هليكوبتر تحلِّق فوقهما.
وكان شعار الشياطين واضحًا فوق جسم الطائرة، فصاح «عثمان» مبتهجًا: ها قد أرسل رقم «صفر» ردَّه على رسالتنا بأسرع وقت!
وتدلَّى من الطائرة سُلَّمٌ مجدولٌ من الحبال، فالتقطه «أحمد» وشرع يصعد فوقه، وخلفه «عثمان» إلى أن صار الاثنان في قلب الطائرة التي تقودها «إلهام» والتي حيَّتهما باسمةً وهي تقول: إن رقم «صفر» يُرسل إليكما تحيَّاتِه وتهنئتَه.
وانطلقَت الطائرة بركَّابها إلى الشاطئ، تاركةً جزءًا من جهنم المشتعلة فوق سطح المحيط.