حَجْب الجانب الأُنْثَوي من العلم
على مدار الخمسين عامًا الماضية، أسفَرَت الإنجازات الرائعة للعلم والتكنولوجيا عن عواقب وخيمة لم يتوقَّعْها أحد، تَعصِف بصميم بناء الطبيعة. إن الفيزياء التي هَبطتْ بالإنسان على سطح القمر، قد نجم عنها أيضًا عالَم واقع في شِبَاك التهديد بحرب نووية. والكيمياء التي طوَّرَت تنوعًا هائلًا من اللدائن، خَلَّفتْ أيضًا رُكامًا من نُفايات لا تستطيع الطبيعة أن تستوعبها. والبيولوجيا التي قادت الثورة الخضراء قُدمًا من خلال المُخصِّبات، ومبيدات الحشائش الضارة، والمبيدات الحشرية تُهدِّد بأن تُفضي بنا إلى ربيع صامت.
وبَيْنا أشعر بخيبة الأمل والخوف بشأن الطريقة التي نَتخيَّرها لاستغلال قوة العلم، أشعر أيضًا بالاحترام لتلك القوة وتبجيل إنجازاتنا العقلية. إني لعميقة الاهتمام بما يحدث على سطح هذا الكوكب للنوع البشري وللأنواع الأخرى على السواء. عندما أقرأ عن الكارثة الإيكولوجية الأخيرة، أستشعر الألم بِصميم وُجودي أشعر أيضًا بعناء الأصدقاء والزملاء الذين يجاهدون للبقاء في مؤسَّسات علمية لا تَأبَه بهذا أو لا تنشغل به. ودونت كتابات عن الأمل في تَغيُّرات تلحق بطرائق الأفراد للتفكير بشأن الأولويات والأهداف والعواقب وصميم مسار العلم، تَغيُّرات يمكنها أن تُحيل العلم إلى قوة للحرية، والحقيقة، والإبداع للكائنات طُرًّا. وأحسب أن الأُنْثَوية الكامنة في كل منا — هذا الجزء منا الذي يرى الحياة في سياق، في التواصل المتبادَل بين كل الأشياء وعواقب أفعالنا على الأشياء المقبلة — يمكن أن تساعد في إبراء جراح كوكبنا. لهذه الأسباب نَحَّيتُ العلم التجريبي جانبًا، وكَرَّستُ سنواتٍ أربعًا من عمري لهذا الكتاب.
الكثيرون يُساوِرهم القلق بشأن تأثير التكنولوجيا في البيئة. والبعض يُحمِّلون العلم مسئولية الدمار الذي لحق بكوكبنا. الآخرون يرون العلم أداة يمكن أن تستخدم للحَسَن أو للقبيح، ويعتمد هذا على قِيم البشر الذين يَبرعون في استخدام تلك الأداة. فضلًا عن هذا، يخضع غالبية الأمريكيين للتهويل من شأن العِلم، وبالتالي يجفلون من الإسهام فيه. يتناقص عدد الطلبة الأمريكيين الذين يلتحقون بدراسة العلم. الكثيرون يَتحوَّلون عنه ليس لأنه صعب، بل لأنه يبدو جافًّا وكئيبًا وغير مُرتبط بحياتهم. عامًا إثر عام تَتَّسع الفجوة بين العلماء والعامَّة، طالمَا يتحدث الباحثون لغة تُمعِن في انعزالها. الجديد من الكلمات والألفاظ الأوَّلِيَّة تصف أجزاءً أضأَل وأضأل من الطبيعة: الكواركات والبوزونات، الإكزونات والإنترونات، إتش آي في وإيه زد تي. هذه العملية التحليلية والمنطقية التي تختزل الطبيعة إلى الأجزاء المكوِّنة لها، خاصَّة مميزة للمقارَبة الذُّكورِيَّة التي ترسم مَعالم العلم وحدوده. وحتى آونة حديثة، رأى غالبية العلماء أن الصفات الأُنْثَوية من قَبيل الشعور والعناية غير ملائمة لعملهم — إن لم تكن وخيمة العواقب عليه. أجَل نحتاج إلى لغة تصف كل أجزاء الطبيعة، لكن نحتاج أيضًا إلى استحضار الطبيعة مترابطة الأواصر في منظور أوسع.
المفاهيم الغربية للذكورية والأُنْثَوية
عَكست كتابات أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) التفكير في عصره وهَيمَنت على الفكر الغربي لما يربو على ألفين من السِّنِين. إن أرسطو، وهو أعظم مَن قام بجمع وتصنيف المعارف في العالم القديم، يطرح العَرض النَّسقي الأوحد للمعارف حتى عصر النهضة. فكيف نظَر إلى العالم؟ ماذا كَتب عن المرأة؟ هل أقر بقيمة الأُنْثَوية؟
عَبْر القرون الأخيرة، أُهدِرت قيمة الروح، وتَمثَّل هذا في المعاني الدلالية التي تُوحِي بها الأُنْثَوية، وتم إسقاطه على المرأة.
وحتى يومنا هذا، يشعر رجال كثر بالأنوثة بوصفها غريبة و«آخر» تمامًا. والنساء، من حيث هُنَّ كائنات للإنجاب، يُجسِّدْن الطبيعي وغير النظامي واللاعقلاني. الرجال غالبًا لا يَفهمون المرأة؛ إنها تبدو غموضًا ولُغزًا. وفضلًا عن هذا، قد تُثير المرأة في الرجل عواطف وأحاسيس مُتضاربةً، مشاعر قد يراها غير مُؤاتية؛ الحب والكراهية، الحُبور والأسف، الخوف والحَنَق، العار والذَّنْب، تُؤثِّر على سلوك الشخص بطرق مُعقَّدة، وفي الغالب يَصعُب التَّنبُّؤ بها، لِتخلُق الفوضى والشَّواش. المرأة تَحول دون التَّفكير الواضح الفَعَّال الدقيق. ولكي يَشقَّ الرِّجال طريقهم في هذا العالَم، عَملوا على إسقاط العديد من الصِّفات المُهترِئة غير المرغوبة، على ما يبدو من الناحية التاريخية مصدرًا لها، على المرأة، حتى يُنكِروا أي مَنشأ لها عن ذواتهم. بهذه الطريقة أَلْصَق الرجال بِطاقة الأُنْثَوية على تلك الصفات التي لاحظوها في المرأة، بِمعِيَّة تلك الصفات التي ينكرونها على أنفسهم. وبالمِثْل، تم إسقاط تلك الخصائص غير المرغوبة على الناس من الأعراق والقوميات والأجيال والأديان الأخرى. الحضارة الغربية ترَى أن الرَّجُل الناجح هو الموضوعي النابه المنطقي الفَعَّال العقلاني المُستقِل، القَوِي الشَّكيمة، والمُغامِر الشجاع المُهاجِم والمنافِس، الذي يُبدِع ويخترِع ويتحكَّم في مشاعره. لقد أعْلَت الثقافة الغربية من قيمة هذه الصفات، وباتَ لها مردود مادي جَيِّد. يشعر الرجل بالإهانة إذا قيل له إنه «يفكر كما تُفكِّر المرأة».
ساد الحطُّ من قيمة الصفات الأُنْثَوية وكَبْحها في العلم الغربي، مثلا انحطت وكُبِحَت في المجالات الذُّكورِيَّة الأخرى كالأشغال الاقتصادية والقانون. ولا يزال مُصطلَحَا «الأُنْثَوية» و«العلم» بالنسبة للكثيرين يَستبعِد الواحدُ منهما الآخَر، مِن المفترَض قبلًا أن العلماء رجال. كثيرات من النساء العالمات يَقُلن جهارًا نهارًا: «آه، لا نحسب أن ثَمَّة أي شيء خاص بالنساء في العلم، العلم هو العلم.» إنهن لا يجرُؤْن على الحديث بشأن الاختلافات بين الجنسين، ويُحاوِلن إقناع الآخَرِين بأن الاختلافات لا وجود لها. كوكبة من العالِمات يُحْجمنَ عن التعبير عن الصفات الأُنْثَوية في عملهن خوفًا من أن يَفقدْنَ مِصداقيَّتهنَّ. واعترفت عالِمة مُتخصِّصة في عِلم الحيوان:
لسوء الحظ، نحن جميعًا سواء في الخضوع لتلك الآراء النَّمطية الشائعة عن السلوك «الأُنْثَوي» وذلك حيث يكون رَدُّ فِعلنا أن نذهب إلى الحد الأقْصَى الآخَر المُقابِل لها، فنستبعدها من مخزونِنا الشُّعوري — وننكر عليها التعبير — في حين أنَّنا نُسايرها تمامًا.
إني أتذكَّر إجابة عن سؤال المُعلِّم حول كيفية عمل الطائرة. وكان هذا شيئًا أفهمُه تمامًا. وبعد الاستماع لإجابتي، سادَ الفصلَ سكونٌ لبُرْهة، ثم نَظرَ المعلم إلى الأولاد في الصف الخلفي قائلا، «لا تَنزعِجوا؛ الفتيات يَستحضِرْن هذه الأشياء من الذاكرة فحسب، إنها في الواقع لا تفهمها.»
وهاك مهندسة كان أكثر من تِسعين في المائة من أساتذتها يَشدُّون من أزْرِها، وعلى الرغم من هذا تستحضر شعورها بأنها مَحجوبة في بعض فصولها الدراسية: «حين كان الأستاذ يُلقي سؤالًا، حدَث أكثر من مرة أن كنتُ أنا فقط مَن يرفع يده للإجابة. كانت عيناه تجوبُ في أنحاء الفصل الدراسي لِيعلن: حسنًا، لا أرى أحدًا يستطيع الإجابة هذا شيء لا يُصدِّقه العقل. تقريبًا أستاذ مِن بين كل عشرة أساتذة على هذه الشاكلة.»
وأحسب أن مُعظَم الرجال لا يَتصرَّفون بهذه الطريقة عن خُبث أو تعمُّد للأذى، بل عن جهل وبِلا وعْي. مثلًا، ذهبتُ مؤخَّرًا إلى الجمعية الزراعية للاستشارة بشأن فحص التُّربة في منزلنا. أعطاني البائع استمارة، وبطريقة وَدودة اقترح عليَّ أن آخذها إلى المنزل حتى يمكن أن يملأها زوجي. والآن أنا التي أقوم بفِلاحة حديقة الأسرة، وأنا كيميائية وأعرف أكثر كثيرًا من زوجي عن أمور من قَبيل الحِمْضِي والقَلَوِي، لكن كل ما في الأمر أنه لم يَخطر على بالِ البائع أن امرأة يمكن أن تكون ذات معرفة ومَقدرة في هذا الأمر. وما زِلْنَا، بطُرق عديدة، نرفع الحجاب عن الإنكار الجَمْعي. والآن يجب علينا، فردًا فردًا، أن نُرسِل أبصارنا إلى ما وراء حدود العقل الجَمْعي، ونعمَل على تَصوُّر الإمكانيات التي نَتَّفق جميعًا وبلا وعْي على إنكارها.
المَنظورات الثقافية المُتقابِلة للذكورية والأُنْثَوية
إن المفاهيم الذُّكورِيَّة كالسَّيِّد العُلْوي الذي لا يُبارَى في القدرة على الفعل والتَّعقُّل والرَّوِية، والأنثى الدُّنيا الأرضية التي تُمثِّل السلبية، والمادة، والفناء، ليست البَتَّة مفاهيم عمومية شاملة. على سبيل المثال، نقَضَت الكوزمولوجيا المصرية كثيرًا من الخصائص المُميِّزة التي نَقرِنها الآن بالذُّكورِيَّة والأُنْثَوية. فقد أرْبَكت ربة السماء «نت»، زوجها «جب» رب الأرض، وفي رسمه يَضْجَع على ظهره بقضيبه المُنتَصِب المُمتَد صَوْب نت. وحين تَلاقَى الاثنان، نشأ الخَلْق، أما «ماعت»، مبدأ النظام والحقيقة والقانون والعدالة والانسجام، فقد تجلَّتْ كربة واقترنت بالتوافق العُلوي في مجال التناسل. وكان الرَّب الذَّكر «تيفون» أو «ست» هو الذي يُمثِّل الشَّواش والفوضى والدمار. كان الرب أوزوريس إله الموت، سيد الفيضان والزَّرع. ولعبت زوجته إيزيس دورًا فعالًا في الأساطير المصرية، وذلك ببحثها عن الأشلاء المتناثرة لجسد أوزوريس المُمزَّق.
أَجَل تمثَّلَت السماء والأرض في آلهة منفصلة، لكن قدماء المصريين لم يَفصِلوا الأرض عن السماء؛ لم يكن ثَمَّة ثُنائية بين الإنسانية والطبيعة. تَجلَّت الحقيقة المُقدَّسة في شَتَّى جوانب الخلْق. عند المصريين، عكسَت الإنسانية بوصْفِها الكون الأصغر ذلك الكون الأكبر: كل ما هو بالداخل يعكس ما كان بالخارج؛ ماهِيَّات البشر وماهِيَّات الأكوان النظامية واحدة، ما هو عُلْوي يُماثِل ما هو دُنيَوي.
وبينما أرسى أرسطو أحكامًا قِيميَّة على صفات الأُنْثَوية والذُّكورِيَّة، اختلقَت ثقافات أخرى أنظمة للتصنيف لم تكن مُثْقلة بالقِيم على تلك الشاكلة. مثلًا، يصف العلماء الطاويون الصينيون المفهوم الذي يشمل الحياة بأسْرِها، وبواسطته اندرجَت في سياق الحركة، وهو مفهوم تبادُل الأدوار الثابت بين طاقَتين حَيوِيَّتين: مبدأ الين السلبي (كل ما هو مؤنَّث)، ومبدأ اليانج الإيجابي (كل ما هو مُذكَّر). وعن الين واليانج معًا ينشأ كل شيء في العالم، «الأشياء العشرة آلاف».
في هذا النظام، لا يملك جانِب بمفرده الحياة، بل يُوجَد كلاهما في تفاعُل تكاملي مع الآخَر. الين واليانج كلاهما يُعاوِن الآخر؛ وهما معًا يُشكِّلان التوازن والانسجام. وعلى الرغم من التقابُل، لا تَعارُض بينهما ولا تَضاد: وعلى الرغم من الاختلاف، يتمم كلٌّ منهما الآخَر. ثَمَّة حركة متواصلة بينهما، بلا بداية وبلا نهاية، عندما يَصِل اليانج إلى لحظته الخِتامية، يَتجلَّى الين حينئذٍ؛ وحينما يكتمل الين يبدأ اليانج مُجدَّدًا، وبدلًا من التَّراتُب الهَرَمي (الهيراركي) لصفات عُليا ودُنيا، نَجدُهما يُمثِّلان ثُنائية تَتواجد في علاقة انسجاميه، بوصْفِهما جُزأين ضَروريَّيْن من الكل.
الرمز الرامز لهذه العلاقة هو الدائرة التي انقسَمت إلى مُنحنَيين متساوِيَين، الجزء الأيمن المُظلِم يُمثِّل الين، والجزء الأيسر المُنير يُمثِّل اليانج. في سويداء الين بقعة من اليانج، وفي سويداء اليانج نقطة من الين، بما يُبيِّن أن كلًّا منهما يَحوي عنصرًا من الآخَر. يتحرَّك الخط الممتد بينهما حركة مَوجِيَّة مُمثِّلًا لتواصل قوة الحياة، التي هي حركة. ويختلف هذا اختلافًا بائنًا عن تصوُّر أرسطو للعلوي الذي لا يتحرَّك ولا يتناسل، وأن التَّغيُّر فَساد.
الين | اليانج |
---|---|
استسلام | قوة أولية |
مُتلقٍّ، هامد | مُقتحِم، فعَّال، ديناميكي |
الشعور | التفكير |
الإيروس، مبدأ الترابطية | اللوجوس،* مبدأ الاهتمام الموضوعي بالواقع والمنطق |
تطبيق المعرفة | المعرفة من أجل المعرفة |
الشمولية | التحليلية |
لا انضباطية | انضباطية |
الشَّواش | النظام |
البهجة، المتعة | الإنجاز والفعالية |
الأمان، الألفة | التجربة، المغامرة |
حس الجماعة | التنافس |
الوعي المشتت | تركيز الانتباه |
الروح، الجسد | الرأس، الذكاء |
الحدس | المعرفة المجتناة عن طريق الحواس |
غير المحسوس | المحسوس |
الاسترخاء | التركيز والتصميم |
الخضوع، التحفظ | المتابَعة، البناء |
ناعم | صلب |
الأرض، الماء | النار، الهواء |
رطب | جافٌّ |
الظلام، الليل | النور، النهار |
القمر | الشمس |
بارد | حار |
الشتاء | الصيف |
سلبي | إيجابي |
أفقي | رأسي |
الخضروات | اللحوم |
هكذا احتوى العِلم الصيني منذ بواكيره على صفات جرَى تعريفها في الغرب على أنها أُنْثَوية. وبدلًا من استلهام الهيمنة على الطبيعة، اتَّخذ الصينيون العلاقة الانسجامية مع الطبيعة مثلًا أعلى لهم:
كان الطَّاوِيُّون في الصين هم المسئولين أساسًا عن تقدُّم العلم التجريبي، بينما نجد الدارس الكونفوشي لا يَقبَل أبدًا أن يلطخ يديه بعمل من أي نوع، اعتبر الطاوي العلم التجريبي جانبًا من بَحثِه عن الطاو.
لم يَفصِل العلم الصيني الرُّوح عن المادَّة البتة، أو العقل عن الجسد. أعرضت فيزياؤهم عن المادية الميكانيكية، والاختزالية الفيزيائية، وظلَّت مُخلِصة لنموذجها الأصلي وهو النظرية المَوْجية للين واليانج، والعناصر الخمسة (الماء، والنار، والخشب، والمعدن، والأرض). وأبدًا لم تخضع هذه الأفكار للاختزالية؛ لأن العناصر المكونة ظلَّت دائمًا مترابطة معًا وغير قابلة للانفصام في الكل المُتَّصل. وما أمكن البتة فصْل الين عن اليانج، ولا عَزْل الواحد منهما عن الآخَر أو تخليصه، ولا حتى من ناحية النظرية. تَجنَّب العلم الصيني تلك المعرفة المُجرَّدة لمنطق إما «أ» أو «لا أ» وذلك من أجْل علاقات القُوَّتين التي لا تُستبْعَد أيهما. لقد أعلى الطاويون من شأن الشِّدَّة من دون خشونة، والطاقة بغير حِدَّة، والحيوية بغير تَوتُّر.
تكشف النَّظرة الفاحصة للعلم الصيني عن أن التَّوجُّه الغربي نحو استنزاف التكنولوجيا في الهيمنة على الطبيعة، والاستهلاك الحادِّ للطاقة في إزالة الغابات، والتَّعدين، والزراعة القائمة على أساس الكيمياء، ليس هو الطريق الوحيد لاستغلال القوة الهائلة التي وهَبَنا العلم إياها. يعمل الطب الصيني التقليدي على التكامل بين الروح والعقل والبدن، الحمية والأحلام، تَدفُّق الطاقة والاستشعار الفيزيقي، ويظل يُحرِز النجاح التجريبي، بينما يقاوم كل الجهود الرامية لإدخاله في حدود مَقولات الاختزالية الفسيولوجية. وعلى سبيل المثال، يَعجز العلم الغربي عن تفسير فاعلية الوَخْز بالإبر.
لسوء الطالع، هَيمنَت على العلم الصيني بيروقراطية الصفوة التي قاومَت إدخال العلم الحديث والتكنولوجيا ما لم يُحقِّق هذا منافِع ملموسة للبيروقراطية. وحينما بلغَت الصين وضعًا اجتماعيًّا مستقِرًّا نسبيًّا، قليلًا ما عَمِل كبار الموظَّفِين الصينيين على تشجيع الابتكار أو الاتصال التجاري مع العالَم الخارجي. وكنتيجة لهذا، تَخلَّفَت الصين عن الغرب في المهارات التكنولوجية، وخضَعَت لقوة الغرب العسكرية.
نموذج كارل يونج للذكورية والأُنْثَوية
ربط يونج اللوجوس بالعقل، والتفكير الواضح، والفاعلية، والتَّعقُّل رفيع المستوى، وحل المشاكل، والتمييز، وإصدار الحكم، والاستبصار، والتجريد، والحقيقة اللاشخصية التي نصل إليها بموضوعية. ولأن يونج لاحَظ أن التطور الأحادي الجانب لهذا المبدأ أو للآخَر له تأثيرات مُعوِّقة، فقد أكَّد أهمية ترابطية الإيروس بالنِّسبة للرجال، وأهمية تَوجيه اللوجوس بالنسبة للنساء. ولاحَظ أن النمو الذي يُشدِّد على جانب واحد يجعل الفرد مُعاقًا وعاجزًا وفاقدًا للمرونة:
والعكس بالعكس، الارتكان المُفرِط على مبدأ الأُنْثَوية يستدرج الوعي إلى خِضَم من حيث تَحتجب كل الاختلافات. يفقد الشخص القدرة أو الإرادة للفعل والتفكير كفرد. إن مبدأ الذُّكورِيَّة ضَروري من أجْل القُدرة على تعيين الصفات الأُنْثَوية المختلفة وتَفهُّمها. إنه يَهَب الشخص القُدرة على تَمييز وخَلْق مَغْزى الذات المُستقِلة، وهو جوهري. من أجْل التَّفهُّم العقلي. كلٌّ من هذين المبدأين يَرى العالَم بعدسات مختلفة، وبالتالي يستقبل عوالم مختلفة. تَطوير نمطي الوعي يجعل الشخص قادرًا على خلْق صورة أكثر ثراء واكتمالًا. وعلى مدى سنوات من المِران والعمل، تَمثَّلت النساء العالمات القدرات «الذُّكورِيَّة». على التمييز، والتحليل، والتفكير العقلاني، والتجريد، وهي قدرات ضرورية لمُمارَسة العلم. أحيانًا تضيع الأُنْثَوية في هذه العملية؛ لأن العلم يحدِّد ذاته بالحدود الذُّكورِيَّة لدرجة أن الأُنْثَوية تبدو غير موائمة لهذه العملية الموضوعية التجريبية.
وبينما تومئ الحتمية البيولوجية إلى أن خصائص الذَّكَر والأنثى مُتوشِّجَة ومحكومة بالجينات (المورثات) والهورمونات، يومئ المنظور التطوري لارتقاء الوعي إلى أن هذه الخصائص سِمات إنسانية مُتاحة لنا جميعًا. وعلى الرغم من أن الصفات يمكن أن تَتطوَّر في سياق مختلف، أو يُعبِّر عنها النساء والرجال بطُرق مختلفة، فإن غرَض كل شخص هو تطوير إمكانياتنا الإنسانية الكاملة. ودَعْنا الآن نُلقي نظرة على الأُنْثَوية والذُّكورِيَّة داخل سياق نظرية كارل يونج في ارتقاء الوعي. وأعتَقِد أن هذا المنظور يمكن أن يضفي المعنى على التطورات التاريخية (هذا كمُقابِل للخوض في المَلام والعتاب)، ويعلو بالنقاش فوق مستوى المسائل التي ارتبطَت ارتباطًا وثيقًا بالجَنْوَسة. وبالطريقة نفسها التي نظَر بها يونج والطاويون إلى الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية، الين واليانج، سوف أشير إلى هذين المبدأين، ليس بوصفهما تعريفين تَحدَّدَا بحسم، بل بالأحرى بوصفهما حاوِيَيْن مَرِنَين طَيِّعيْن لصفات معيَّنة يمتلكها النساء والرجال كلاهما.
الارتقاء النَّفْسي وتطوُّر الوعي
يضع إريش نيومان في كتابه «أصول الوعي وتاريخه» تخطيطًا مُوجزًا لمراحل ارتقاء الوعي قائمًا على أساس نظرية يونج. وعن طريق تناوُل تطوُّر التصورات الأسطورية يُناقش نيومان تاريخ الوعي الغربي، وكيف أنه يُوازي ارتقاء الوعي في الفرد. وبالنسبة لما نستهدفه الآن، سوف نقتصر على استعراض عامٍّ مُوجَز للمراحل الكبرى في هذا السِّياق للارتقاء.
في البدء كان التَّمام والكُلَّانية؛ في جنَّات عدن، قبل السقوط الكبير. الكل في واحد، الأفعى التي تَلتفُّ على ذاتها في دائرة وتَعض ذَيلها، تَرمُز لهذه المرحلة الكائنة قبل ترسيم حدود المُتقابِلات والفَصْل بينها.
إن ارتقاء الأنا يتيح لنا معالَجة خُسران الأشخاص والأشياء؛ لأنه قد أصبح ثَمَّة مسافة بيننا وبينهم، لكنَّنا بِتْنا في اغتراب متزايد عن الطبيعة وعن وَعْينا. هذا هو الثمن الذي ندفعه كلَّما ارتَقَت الأنا. نفقد جذورنا المُمتدَّة في شيء ما أرْحَب من ذواتنا. في البداية، إذ يَستبِد بنا الجَيَشان نحو أن نصبح نحن أنفسنا، نجد الحرية مَلهاة عُظمى. على أية حال، يَتخلَّى الكثيرون في منتصف العمر عن الحرية التي غنموها في أواخِر المُراهَقة، وأوائل العشرينيات من العمر. يبدأ حِس الاغتراب عن الكل يُؤلِمُهم ويَستبِدُّ بهم الخوف. يبدو أن شيئًا ما قد سار في طريق خاطئ. الدَّهْشة، والجمال، والإبداعية، والاحتمالات غير المحدودة كلها تَذوِي. قد يؤدي هذا إلى الاكتئاب وافتقاد الطاقة المتاحة. وكَردِّ فِعْل لهذا الاكتئاب ثَمَّة اتجاه كبير نحو الارتكاس، نحو مُحاوَلة الأوبة إلى الماضي الآمن الذي يُشدُّنا إليه حَنين مَرَضي (نوستالجيا)، نحو الارتداد إلى أساليب عملت في الماضي.
عند هذه النقطة، نجد أن ما يفيد تَقدُّم الوعي هو إعادة تشكيل ارتباط رمزي بنظام طاقة أكبر كُنَّا قد فَقدنَاه، بناء معبر حي نحو إنعاش الأُنْثَوية التي خلَّفْنَاها وراءنا. ليس يَعْنِي هذا العود مُجدَّدًا إلى التَّشارك الروحي في الطفولة. فنحن لا نَتخلَّى عن الأنا فِينا، بل نعمل على إثرائها من خلال ارتباط أفض بخلفية أوسع. بعض الأفراد ذَوُو الصفات البطولية الذين يَشقُّون هذا الطريق يعملون على استنقاذ تلك البكورية المفقودة من وكر التِّنِّين، استنقاذها من تِنِّين الأمان، وتِنِّين المنزلة، وأنساق المعتقَدات القاطعة الجازمة، توقُّعات المجتمَع وقواعده، وبهذا يُطلِقون الإبداعية، والدهشة، والطاقة المُستجَدة.
عن صعود الأنا وهَيمنَته ينشأ الوعي أُحادي الجانب. وبانبثاق الذكورة كقوة حاكمة للتمايز، تَتراجَع الأُنْثَوية إلى مضمار مَطمور تحت السطح وتصبح، في واقع الأمر، القوة الحاكمة لللاوعي. وكشأن خسوف القمر، تُفضي الذُّكورِيَّة إلى خسوف الأُنْثَوية وتسحبها مؤقَّتًا إلى الظلال المُعتِمة. وبينا اعتبر فرويد اللاوعي مَقْلب نُفايات تُلْقى فيه صنوف الكبت الجنسي، وجَد يونج في اللاوعي منبعًا للإبداعية والتجديد. كَتب يونج في وقت مُبكِّر، أثناء علاقته بفرويد، يقول إنه يرى هدَف حركة عِلم نَفْس الأعماق ينبغي أن يكون في استنقاذ الأُنْثَوية. ومن حيث المبدأ، لا بُدَّ أن يجيء الوقت الذي يرتفع فيه مجدَّدًا هذا الكيان المطمور تحت السطح.
في هذا السياق، يمكن النَّظر إلى بزوغ الأُنْثَوية بوصفه الخطوة الطبيعية التالية في تَطوُّر الوعي. لقد فَقدت الأُنْثَوية بخسوفها التَّجلِّي والقوة. بَيْد أنَّ هناك خبرات مُعيَّنة لا يكتسبها المرء إلا في المنفى أو في الظِّلال المُعتِمة. وعلى مدار القرون، استجمَعت الأُنْثَوية نوعًا مختلفًا من القوة والحكمة. وإذ تبزغ الأُنْثَوية مُجددًا، فإنها تبزغ بوصفها قوة واعية وأكثر وعيًا إلى حد كبير، وبدلًا من التباكي على خسوف الأُنْثَوية، دَعْنا نتناول قُواها كما هي كائنة في الظلال المُعتِمة ونستكشف معا كيف نستطيع أن نُعاوِن في بزوغها.
من الناحية التاريخية، يُمثِّل العلم قوة مُهمَّة في تطوُّر الوعي. وبدلًا من السَّير في طريق الخوارق أو التسليم بأقوال السُّلطات الكنسية، يفحص العلم العالَم مباشَرة ويختبر الافتراضات. وعن طريق النَّظر إلى العالم في حدود الاستقطابيات ورَد الطبيعة إلى الأجزاء المكوِّنة لها، كدَس العلم المعارف الشاسعة والقوة. لقد وصَلْنا الآن إلى النقطة التي تَتفاعَل فيها الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية، ونستطيع أن نتطلع إلى اتحادهما الذي ينشأ عنه شيء ما أعظم وأهَم من كليهما، شيء ما مُستجد بالكلية.
أعتقد أن المنظور الأوسع للارتقاء السيكولوجي الفردي، وتطوُّر الوعي في الثقافة الغربية إنَّما يستحضر هدفًا أبعد من مجرد شَد أزْر المزيد من النساء للالتحاق بالعلم. إنها مُهمَّة مُشترَكة، يضطلع بها الرجال والنساء على السَّواء. وما دُمْنا قد فحَصْنا اتجاه ارتقاء الوعي والتاريخ السيكولوجي للنوع البشري، فإننا نَتبيَّن بمزيد من الجلاء كيف غَنِمنا من تطورات الماضي. وأيضًا نستطيع أن نرى مَهامَّنا الراهنة، والتي تَقتضِي منَّا أن نجعلها مَحَط عنايتنا، لكي نقطع الخطوة التالية في المسار.
إن الافتراض المَبدئي لهذا الكتاب هو أن مآتي الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية كِلتيهما تُثْري كل فرد، وبالمِثل تُثْري المؤسَّسات الثقافية كالعلم. والآن سوف نَنظُر بعين الفَحْص كيف تَحدَّدتْ مَعالم العلم بالمَنزع الذُّكُوري إلى التمييز والتَّوجُّه نحو هدف، والطريقة الاختزالية في دراسة الطبيعة.
ميلاد العلم
لا يتخذ القالب النمطي لرَجُل العلم صورة العُنف، الفتى الوسيم لرجل إعلانات مارلبورو، مَتين البنية، مفتول العضلات، حَليق الذقن، ذو الملامح القوية. بل على العكس، تستند سُلطة العلم على قوة الذهن بدلًا من القوة الجسدية. رجل العلم في قالبه النمطي هزيل جافُّ المَشاعر، تَترسَّم سيماؤُه كرجل العَقل ذي الظَّهْر المُحني الذي يرتدي مِعطف المُختبَرات الأبيض. وحتى وقْت قريب كانت المرأة العالِمة اجتماعًا لِلفظَين مُتناقضَين، وتضادًّا بين حَدَّين.
العلم بوصفه فلسفة ذُكورية
أجَلْ، لم يأتِ العلم الغربي أبدًا عن ضربة واحدة أو كخامة متجانسة، إلا أنه كمؤسَّسة اجتماعية، أو طريقة لاكتساب المعرفة، اكْتسَى بعوائد وتوجُّهات مُعيَّنة في استشرافه للأمور: وانعكس الوعي الذُّكُوري في هذه المؤسَّسة؛ لأن الغالبية العظمى من العقول المسئولة عن تَشييد العلم كانت ذُكورًا.
استبَدَّ الأمل برجُل العلم في أن يستطيع ملاحَظة العالَم من حوله ملاحَظة دقيقة، وذلك عن طريق الاستمساك بنظرة مُنفصِلة للعالم، غير مُتأثِّرة برغباته الشخصية أو حُبِّه لآرائه الخاصة. ومن ثَمَّ استخدَم المنطق والعقل لاستنباط عِلل الظواهر الطبيعية، ولتكوين نظريات، والتَّنبُّؤ بما سيجيء. لقد رفَع من قيمة الموضوعية؛ فالعواطف البشرية تُعرقِل انتظام التفكير. تنعدم الكفاءة مع الإصغاء لصوت المشاعر. إن المُقارَبة العاطفية للمباحث العلمية تجعل المجال مفتوحًا أمام العالم لتحريف تأويل المُعطَيات، وتُفقِده ثِقة الآخَرِين بعمله. لا يثق رجُل العلم إلا بما يُستطاع قياسه وإعادة إجرائه بطريق يُمكِن التعويل عليها.
من موقع خارج الطبيعة، يُصوِّب الباحث المتجرِّد تفكيره على أجزائها الأصغر والأصغر. وما كان الإنسان يستطيع أن يأمل في تُفهُّم مسارات عمَل الطبيعة إلا عن طريق اختزال تعقيدات نِظامها. إن التفكير الخَطِّي والتحليل الكَمِّي الدقيق خلَعَا مَغزَى النظام على الشَّواش البادي في العالَم الذي يَلتفُّ كالدَّوَّامات حول الباحث. أفْضَى التبسيط والتجريد إلى التَّوصيف الرياضي للمبادئ الكامنة وراء سير الطبيعة. تَفكَّر رجل العلم في أنه عن طريق اختزال الطبيعة إلى فِئة من المعادَلات أو من الوحدات البنائية، سوف يستطيع أن يفهم الكل، بأن يعيد بناء المُعادلات أو الوحدات البنائية معًا مرة أخرى.
استبصار الاطراد والأنماط النظامية قد حَمل في طَيَاته مَغزى الأمان. أمكن الركون إلى الطبيعة: الليل يعقب النهار، الربيع يتلو الشتاء، وليس يَعني الكسوف الشمسي نهاية العالَم. دلَّ التَّنبُّؤ الدقيق على نجاح النظرية. نَظَّم العلم الفوضى الضاربة في العالَم، مانحًا الإنسان الأمل في تأمين بقائه عن طريق السيطرة على بيئته. على أن العلم يرفض كل ما لا يطابق العقل، وبهذا عَزل نفسه تمامًا عن مجال اللاوعي الذي يبدو لاعقلانيًّا وشواشيًّا. العلم في الهند على العكس مِن هذا، يَتضمَّن «العلم الجُوَّاني» ويدرس الحالات البديلة لللاوعي. وعادة ما يَعتَبر الغرب هذا المجال مرتبطًا بمَقولة العلم الزائف، ما دام يُعالِج ظواهر لا يمكن قياسها بِتقنيَّاتِنا الراهنة.
أفضى تحديد قوانين الطبيعة إلى خَلْق أدوات وتِقنِيَّات مُعقَّدة لمعالَجة أمر البيئة. تَبوَّأ العلم مَوقِع السُّلطة في الثقافة الغربية، بِفضْل قُدرة المنهج العلمي وفاعليته. وعن طريق إيضاح الارتباطات بين العِلَّة والمعلول، حلَّ العلم مَحل الخوارق. والآن يَنتظِر منه المجتمع أن يَخلق مَوادَّ جديدة وأساليب لإثبات كفاءتها وأنها آمنة ويمكن الارتكان إليها. وحتى وقت حديث نسبيًّا، آمَن مُعظَم الناس أن سائر المشاكل سوف تجد مع مرور الوقت حلًّا عن طريق تطبيقات العلم والتكنولوجيا.
انبثقَتْ مُؤخَّرًا جوانب من مبدأ الأُنْثَوية في عدَّة فروع من العلم، في صورة طُرق مُستجَدة لرؤية العالَم، كتلك التي يُعبِّر عنها الفيزيائيون الجُدد، وبالمثل كذلك في صورة التمثيل الأكبر للنساء في العِلم. وما دامت النساء بشكل عام أكثر وَعيًا بالأُنْثَوية من الرجال، فإن مشاركتهن في المشروع العلمي يمكن أن تُسهِم في تَغيُّرات تصل إلى أعمق مستوًى.
أزمة العِلم في مُنتَصف عُمره
وإذ واجهتُ مسائل شخصية تتعلق بمنتصف العمر، فقد راعني أنَّ العلم ذاته يُواجِه المشاكل المُميِّزة لمنتصف العمر. لقد كوَّنْت نفسي في هذا العالَم خلال النصف الأول من حياتي، واستقر بي الأمر في نماذج سيكولوجية مألوفة. وحين بلَغْت السادسة والثلاثين تُوفِّيَت أمي؛ وبات دُنُو أجَلِي أنَا حقيقة ماثلة. بدأ الشَّيْب يغزو مفرقي، وزحفت التجاعيد إلى وجهي. وعلى الرغم من أن وظيفتي تُدرُّ عليَّ دخلًا جيدًا، فقد بدَتْ روتينية مُملَّة وغير ذات مَعنًى. أحسَستُ أنني أتحرَّر من الوهم، وأُصابُ بالإحباط في الحياة، يَتملَّكني الحُزن لفقدان شيء ما غامِض. أرَدتُ ما هو أكثر، ولكن ليس الأكثر من الشيء نفسه، لقد حَلَّت بي أزمة مُنتصَف العمر. ولكي أتفهَّم قَلقِي، عُدْت إلى عِلم نفس يونج، وهو عِلم نفس يُصوِّب اهتمامه على مسائل تُواجِهنا في النصف الثاني من الحياة.
حلم الشباب بأن «نحيا إلى الأبد في سعادة» يتبدَّد مع إدراكنا لحدود الحياة في مُنتصَف العمر، وهذا نموذج نمطي. بعد مراجعة حياتنا، نترك خَلْفَنا حِسَّنا الأسبق بالهُوِيَّة، وهَمَّ الاستغراق في تَصاعُد ونَماء مُتَّصل، افتراضاتنا عمَّا نكونه نحن في علاقتنا بالآخَرين، أحلامنا وتوقعاتنا في المستقبل المنتظر. تبدو إنجازاتنا جوفاء. إحساس بالفقدان يُؤجِّج تبدلًا جوهريًّا في مُنحَنى حياتنا وفي العالَم. وإذ يتساقط قِناعنا، تحدث إعادة هيكلة عميقة للنَّفْس، مقرونة بانطلاق عناصر مَكبوتة ولا واعية في الشخصية. نَقفل راجعين إلى الداخل لنعيد تقييم أهداف حياتنا ومِثالياتنا. نغدو أكثر عِناية بإيجاد غاية في الحياة. التَّكرُّس للنجاح الخارجي يحل به التعديل والتكييف ليستوعِب العناية بالعمق، والمعنى، والقِيم الروحية. يَتغيَّر التشديد، في النصف الثاني من الحياة، فلا يعود مُنصبًّا على العالَم الخارجي بل على علاقة واعية بالعالَم الجُوَّاني.
وإذا أتيح المجال لأن تَتكشَّف هذه العملية، يَشرَع الانبساطيون في تطوير الجانب الانطوائي من طبيعتهم ويجدون قُوت قلوبهم في قضاء الوقت على انفراد. يَشرَع ذَوُو نمط التفكير في اكتشاف أن التفكير فحسب له حدوده. أجَل يظل التفكير نافعًا، إلا أنه لا يعود شَيِّقًا أو مثيرًا للتَّحدِّي. في مُنتَصف العمر، يبدأ ذَوُو نمط التفكير في تطوير مَصادر أخرى: الإحساس، الحدس، وأخيرًا الشعور (سوف نسير بهذا إلى مجال أوسع في الفصل الثالث). وبينما يرتحل البعض لاكتشاف جوانب جديدة من ذواتهم، فإن البعض الآخَر قد يَفِر إلى أبنية خارجية؛ مثل الزواج أو الوظيفة، ليبحثوا عن الجزء المُفتَقد فيهم في قَرين شاب أو مغامرات خارجية. الموظفون الذين احترفوا الصعود السريع «يتوقفون فجأة» في منتصف العمر أو «تلين عريكتهم»، ويَقضُون وقتًا في تَنمية الجانب الأُنْثَوي فيهم؛ وربما عَمِلَت ربَّات البيوت على تطوير الجانب الذُّكُوري فيهن من خلال الالتحاق بِدُنيا العمل.
إن مَهام الانفصال عن هُوِيَّة أسبق ومواجَهة جوانب مَكبوتة من ذواتنا تحدُث أيضًا خلال حِقَب انتقالية أخرى في الحياة. ومع هذا تَنفرِد نَقْلة مُنتَصف العمر بواقعة مفادها أنَّنا خلالها نتلَّمس في أنفسنا طبيعة الجنس المُقابِل لنا، الذي أنكَرْنا قُوَّته وتَهرَّبْنا منه؛ يُجابِه الرَّجُل أُنْثَويته اللاواعية، وتُجابِه المرأة ذُكورِيَّتها اللاواعية. تتميز نَقْلة منتصف العمر تَميُّزًا حادًّا بِسمَة الصراعات اللاحقة ومعناها وما نعمد إليه من استجوابات، وتكون حاسمة في محصلتها.
وبالتَّماثُل مع هذا، قضى العلم النصف الأول من «حياته» فاحصًا عالَم الطبيعة الخارجي ومُقيِّمًا دعائم ذاته في العالم كفلسفة ذكورية. وفي صورة مُستصفاة للأنا الواعية، بات العلم هو البطل في حضارتنا، يأخذ بالزِّمام ويمتد نِطاقُه إلى الخارج وإلى الأمام. لقد غدَا العلم رديفًا للتقدُّم. وكشأن البطل، يبادِر العلم ويُباغِت العدو، يَتبوَّأ الصدارة مُسخِّرًا استراتيجيات عدوانية، ويظفر بالمجد. ينتهك العالَم البطولي أسرار الطبيعة عن طريق غزْوها وقهْرها.
يشعر الفرد بِدنُو الأجَل في مُنتَصف العمر، وبالمِثل تمامًا نواجه الآن الموتَ المُحتمَل لكوكبنا في صورة الأخطار النووية والبيئية، من قَبيل النُّفايات السامَّة، والتَّلوُّث، وانقراض أشكال من الحياة، والثُّقب في طبقة الأوزون، كلها باتَت مُحتمَلة بفعل مُنتجات العلم والتكنولوجيا. وبهذا المعنى حطَّ العِلم على أعتاب مُنتصَف العمر. بدأْنَا نُدرِك الآن أننا قد لا «نحيا إلى الأبد في سعادة» وبينما اعتقَدْنا في يوم من الأيام أن العلم قد يستطيع أن يحل مشاكلنا بأَسْرها، يُدرِك البعض مِنَّا الآن أن العلم له حدوده. طَفِق بعض الدارسين في مُراجَعة نقدية لقصة حياة العلم. فُقدان الحلم بالتحكم الكامل في الطبيعة يَبثُّ الحُزن في جوانح بعض العلماء ويبدءُون في استكشاف علاقة مختلفة معها. بعض الكُتَّاب يعيدون تقييم مُثُل العلم وأهدافه، مُعرِضين عن خُيلاء السَّيْر المتواصل في طريق التقدم. شرع بعض الباحثين في دراسة العلوم الجُوَّانية قافِلِين إلى الداخل من أجْل سَبْر أعماق الطبيعة. وثُلَّة من العلماء تبحث في أخلاقيات وعواقب عِلمنا الذي افترضناه مُحايدًا.
وكما عرَضْنا فيما سبق، اعتمد العِلم على الملاحظة والقياس والتفكير، ورفض الشعور والحدس. يُصنَّف هذان العنصران في ظِلال لاوعْيِنا المُعتِمة على أنهما أُنْثَويان. ومُهمَّتنا الآن أن نَستحضرهما في علاقة مع الوعي الإنساني. الأخطار التي تُهدِّد العبور الناجح في نقلة مُنتَصف العمر إنما تأتي من اتجاه نكوصي يَتمثَّل في دفاعات الأنا الطبيعية، وهي تلتقط القناع القديم، والأبنية القديمة لِتُعيدها مُجدَّدًا إلى مواقعها. فاستعادة مَعالِم الهُوِيَّة السابقة تَهب إحساسًا بالأمان. يمكن رؤية هذه الخَنْدقة الدفاعية، والعود القهقرى إلى النماذج السابقة مع أولئك الذين يَتوقَّعون أن مُجرَّد تطبيق المزيد من العلم والتكنولوجيا سوف يَصُون هذا الكوكب.
ليس يعني الإبحار الناجح لنَقْلة مُنتصف العمر هُجران العلم والتكنولوجيا، بل بالأحرى الدخول في علاقة جديدة مع عناصر جَرى سابقًا كَبتُها، وعلى وجه التعيين العناصر الأُنْثَوية. على أية حال، يُمكننا توقُّع أن التكامل مع الأُنْثَوية عملية بطيئة وعسيرة. من الناحية السيكولوجية، يَظلُّ الجانب المَكبوت غير المستخدم بدائيًّا وغير مُتمايِز. قد ينبثق في وقت غير ملائم وبطُرق فجَّة، مُسبِّبًا ذلك النوع من الارتباك الذي يجعلنا نُنكر فورًا ومن جديد التعبير عنه. من المطلوب الصبر والإيمان بالمنافع طويلة المدى للخصائص المكبوتة.
أما وقد وقَفْنا على أعتاب النصف الثاني من حياة العلم، فإننا في حاجة إلى أن نعيد مُجدَّدًا طرح السؤال: ما هي أهداف العلم؟ هل هي التَّنبُّؤ بمسارات الطبيعة وتأمين بقاء الإنسان؟ تَحسين مستوى معيشه الجنس البشري؟ التحكم في الطبيعة والسيطرة والهيمنة عليها؟ العيش في وفاق مع الطبيعة؟ أن نفهم الحقيقة؟ أن نعرف الله؟ أن نعرف أنفسنا؟ المشارَكة في إبداعية قُوَّة الخالق؟ أن نرتقي بِتطوُّر الوعي؟
أحسب أن الوقت قد حان للاضطلاع بمهمة تكامُل الأُنْثَوية مع الفلسفة الذُّكورِيَّة للعلم. على مدار هذا الكِتاب سوف نُعاين معًا المقارَبة الذُّكورِيَّة أُحادِيَّة الجانب وكيف كانت تُعرقِل العلم دائمًا، ولا بُدَّ أن يبحث الآن عن الأُنْثَوية، عن الين، لكي يتوازن. سوف نعيد اكتشاف خصائص من الظِّلال المُعتِمة يمكنها أن تجعل «الإنسان» والطبيعة مُتوشِّجَين معًا، وسوف ينتج عن هذا تَحرُّك صوب الكُلَّانية في تصوُّرنا للكون. كانت الأُنْثَوية حاضرة دومًا في العلم، كامنة في كل إنسان بدرجات مُتفاوتة، لكنَّها كانت مَحجوبة. والآن يَستكشِف بعض من النساء والرجال قيمة الأُنْثَوية في أنفسهم وفي عَملِهم؛ وجدوها تمنح رؤية قَشيبة للعالَم، طريقة جديدة للتفكير. إنها تنفخُ الرعاية في رُوح العلم، وتَفتَتِح منابع خفية. تَهَبُنا مرونة وخيارات أكثر، وتتقدَّم بمعنى جديد يمكن أن تَتغيَّر معه أولوياتُنا. ومع إعادة تقييم الأُنْثَوية، يُغيِّر بعض العلماء أفكارهم عن «التقدم» وما الذي يصنعه العلم «الجيد». ثُلَّة تواصل المدى حتى تجاهر بأن بقاءنا على كوكب الأرض مُرتَهن بالتكامل بين الأُنْثَوية وصَميم العِلم.
(springfield. Mass.: Merriam-Webster, 1989), pp. 1126-1127.