كشف المحجوب
تمامًا كما تكون مهمة الفرد في فترة منتصف العمر أن يجد معنًى للحياة، فإن مهمة العلم في منتصف عمره الآن أن يعيد تقويم معنى العلم. وداخل جماعية العلم، يقع على عاتق الأفراد عبء الاضطلاع بهذا، والإسهام في تطوُّر الوعي، وتنمية الحدس والشعور؛ أي استحضار الأُنْثَوية من منطقة الظِّلال المُعتمة. إن الجزيئات في الماء الساخن تُشكِّل تلقائيًّا نماذج أكثر تعقيدًا، بالمثل تمامًا يستطيع العلماء أن يشرعوا في التغيُّر، في تلقِّي العون والمَدد من شبكة عمل، وأن يصلوا إلى الذات الممتلئة من خلال لولبيات التغذية الاسترجاعية، ويُشكِّلوا تلقائيًّا أنماطًا جديدة للتنظيمات. وأحسب أن مواقف العلم سوف تتغير حين نبلغ عَتبة النقطة الحَرِجة حين يَعبُرها الأفراد. بَيْد أنَّ هذا سوف يَتطلَّب قَبلًا العزم والإرادة والتكامل وشجاعة الاختيار، من أجل تخويل العلم قيمًا جديدة قائمة على ترابطية الأُنْثَوية. سوف ندفع ثمنًا باهظًا للغاية إذا لم نستحضر الشعور والأُنْثَوية من منطقة الظلال المُعتِمة ونحط بهما في ضياء الوعي الساطع.
في نقطة ما من حياة العالِم تقتحم الأُنْثَوية المكبوتة نطاق الوعي وتطرح السؤال: «ماذا يعني كل هذا؟ ما الذي أسهمَتْ به؟ كيف سيفيد الجنس البشري أو الكوكب الأرضي من هذا؟» وإذا اكتشف العلماء أن عملهم غير مهم أو بلا معنًى، فجأة سوف يَرون حيواتهم وأنفسهم ناضِبة لا تساوي شروى نَقِير، برغم الصيت الذائع أو النجاح المادي. إن فحوى الهُوِيَّة وتقدير الذات يأتي من قيمة عملهم؛ لأنهم كرَّسوا حياتهم بأَسْرها للعلم فقط. يتذبذبون لوهلة بين إحساس مُتضخِّم بالتفوُّق وبين شعور مفجع بالخواء، حتى يفوق واقع الخواء قدرتهم على الرفض والعقلنة. والجانب الأُنْثَوي المظلم، بمعاناته الطويلة من التجاهل والسحق، يغمرهم باليأس القنوط. بعض العلماء يضعون حدًّا لحياتهم العلمية حين يدركون أنهم لن يُحدِثوا اختلافًا جذريًّا بأي شكل من الأشكال. آخَرون يبدلون بشكل مفاجئ تَوجُّه مسارهم المهني وحيواتهم.
ويشارك العلم في مثال الضريح الفخيم، على قدر ما يلتصق بأهداف التَّنبُّؤ والتَّحكُّم. يخدَعنا اليَقيني البسيط والقابل للتَّنبُّؤ بأمانٍ مَوهوم. ونحن ننشد الثقة في أن العالم مُشيَّد بطريقة محدَّدة لكي نسوس حياتنا اليومية. نحتاج إلى الإيمان بأن الشمس سوف تُشرق، ولن يقتحم شيء غير متوقَّع. إن رغبتنا في الإيمان لهي آلية دفاعية ذات قيمة عالية، بيد أنها أيضًا سجن من الإنكار يَستبقِينا أسرى للطُّرق القديمة في رؤية العالَم. وكل شيء غير متوقَّع يبدو خطيرًا. ثَمَّة نزوع لجعل الحياة أكثر أمنًا وبساطة عن طريق اجتياز بُعد واحد فقط من أبعاد الواقع، أحد طرفي المُتقابِلات، ثم إسقاط واقع آخر. تساعدنا أشكال الخداع والدفاع تلك على استبقاء وصْمة محدوديتنا والاحتفاظ بتقديرنا للذات. ولكن لا مَندوحة لها عن حصر إدراكنا لذواتنا وللآخَرين وللواقع لكي نحرز وَهمًا مُريحًا بالتحكُّم والسيطرة، تَنزل على أعيننا غِشاوة فلا نرى ثَراء أبعاد كل الذي هنالك. العالم يبلغ النماء العقلي في مَجالات عديدة مُضحِّيًا في هذا بنمو جوانب سيكولوجية أخرى، وكما قال يونج:
ماهية الحياة هي التَّغيُّر والحركة الدائمة والاندماج والتحلُّل وإعادة الاندماج، إنها رقصة الأقطاب السيميائية المُستمِرَّة الغامضة. وحتى وقت حديث، كان العلم يقسم الشَّواش الأرضي إلى «الكون» و«الفساد» في الطبيعة، ويسقطهما على الأُنْثَوية ليوحوح عليهما. ويكشف الأمر عن تناقُض بين أطرافه، حين نجد العلم ذاته قد بات أمضى معاملات التغيُّر، وذلك في سياق مُحاولته لتدجين الطبيعة وترويضها بتحويلها أكثر فأكثر إلى مسار قابل للتَّنبُّؤ.
بل إن ثَمَّة ما يكشف عن تناقُض ذاتي أكثر من هذا، وهو أن الناس عَبْر العقدين الماضيين الذين تَحرَّروا من الوهم بفعل العلم، راحوا يُسقطون على العلم مخاوفهم من التَّغيُّر ومن المستقبل. بعض هذه المخاوف لها ما يبررها. إذ ينبع بعضها من نقص التعليم والفهم. ويأتي البعض الآخَر من فصل العلم عن المجتمع، الذي تدعم بفعل اللغة المنفصلة والرطانة، وانعزال الباحثين الذين يقضون حَيواتهم بين جدران المُختبَر. بعضهم استنفَدَت المشاغلُ العلمية طاقاته فلا يعود قادرًا على الإسهام في الحياة الجمعية. ولكن حين يَنعزل الناس عن المجتمع، يقعون في أحابيل الإسقاط. ومِن دون دفء التواصل الإنساني الذي يُبدِّد غيوم الإسقاط، يُوصَف الباحثون بأنهم علماء مَجانين تخرج منهم أمساخ شائهة فرانكشتينية. والواقع أن السينما ووسائل الإعلام الجماهيرية نادرًا ما تَرسم صورة للعلماء كأشخاص عادِيِّين يُجاهدون لحل مشاكل عادية.
ظلال العلم المُعتِمة
قبل ارتقاء الوعي، تكون الظلال فقط هي اللاوعي بأَسْره. والظلال من حيث هي مُعتِمة وعديمة الحياة وجانب مكبوت من الأنا، تحوي كل ما هو بداخلنا مما لا نستطيع أن نعرفه معرفة مباشرة، تحوي كل العمليات الجارية في خلفيات العقل مما لا نكون على إدراك مباشر له، تحوي كل الخصائص التي لا نَعترف بها أو لا نَتقبَّلها؛ لأنها غير متوافقة مع الخصائص التي اخترناها. وشيئًا فشيئًا نستطيع فرز وتصنيف ثلاثة أقسام للاوعي: الوظيفة الدنيا (وهي رابع وظيفة سيكولوجية تَتطوَّر، في علم الأنماط عند يونج)، والعناصر العكسية فيما بين الجنسين، ثم قسم من الظلال المُعتِمة يحوي العواطف الغشوم والأجزاء غير المرغوب فيها من نفوسنا التي نقوم بكبتها. هذه الخصائص المكبوتة أو غير المتطورة يمكن أن تكون بَهِيَّة وحَسنة وبالمثل تمامًا يمكن أن تكون مُظلمة وهدَّامة. مثلًا، قد تنتاب بخيلًا نوبة من كرم طارئ، تُحيِّره فيما بعدُ.
حينما لا نتقبل خاصية تأتينا من الظلال المُعتِمة، فإنها حينئذٍ سوف تعمل من وراء ظُهورنا، وتنساب من حيث لا نتوقعها. نقول إن شيئًا ما «حل بنا»، ذلك أننا لا نعرف ما الذي «استحوَذ علينا» لكي نفعل شيئًا ما، أو أن «اليد اليمنى لا تعرف ما الذي تفعله اليد اليسرى». كل البشر وكل المؤسَّسات وكل الثقافات لها ظلالها المُعتِمة. على الرغم من أنَّنا لا نستطيع في العادة أن نرى الظلال المُعتِمة الخاصة بنا، فإننا نعلَم عنها من خلال رَد فِعل الناظرِين. وثَمَّة على وجه الخصوص صعوبة في رؤية الظلال الجمعية لمجموعة ما أو لأمة؛ وذلك لأن الناس يُدعِّمون بعضهم البعض في إلقاء الغشاوة على أبصارهم، وقد كان أحد أدوار النقد النِّسْوي للعلم، وبوصفه نقدًا من الخارج، أن يُعيِّن بعض جوانب ظلال العلم المُعتِمة.
وثمة طريق آخَر لإلقاء الضوء على الظلال المُعتِمة، وهو أن نغدو على وعي باستجابات عاطفية قوية مُعيَّنة، مثل الانجذاب غير المتناسب أو الاشمئزاز غير المتناسب إزاء شخص آخر، أو نُفور العلم من الظواهر النفسانية. وحين نقع في إسار الظلال الجمعية يكون ثمة شعور وكأن «جِنِّيًّا يتملَّكنا». الإعدام الجماعي للغوغاء من دون مُحاكمة مثال حادٌّ على هذا. بَيْد أن هذه الشياطين الجَمعِية قد استحوَذَت علينا لأن هناك شُدفًا صغيرة منها في نفوسنا. ومن هذا الباب سوف تَتسرَّب إلينا الظلال الجماعية المُعتِمة، إذا لم يكن فينا جانبٌ متكامل بقدْرٍ كافٍ مع ظلالنا المُعتِمة الخاصة بنا.
إن متطلَّبات خَلْق درجة من الأمن والأمان عن طريق التَّنبُّؤ والتحكُّم في الطبيعة، قد دفعت العلماء مع ميلاد العلم إلى خَلق نظام مُستخدِمين في هذا وظيفة التفكير، وهي أفضل وظيفة مُهيَّأة لاكتشاف نظام ما في شواش الطبيعة. وأصبحَت «الفلسفة الذُّكورِيَّة» للعلم، وبوصفها نظامًا عقلانيًّا، في ذات الهُوِيَّة تقريبًا مع هذه الوظيفة. وبينما تنامى الإحساس بشكل جيِّد على أيدي التجريبيين، لم يلتفت أحد إلى الشعور والحدس إلا قليلًا. بَقِيَا في اللاوعي واشتَبكَا مع المكنونات الأخرى للظلال المُعتِمة، مثلهما في هذا مثل خصائص أخرى مكبوتة أو لم تَلْق تقديرًا.
ولكي نستحضر الأُنْثَوية من الظلال المُعتِمة، يجب أن نشع بضوء الوعي على خصائصها. وحين نتوصَّل إلى إدراك قيمة تلك الخصائص، نتعلم كيف نتكامل معها، ونُعبِّر عنها بشكل ملائم من حيث هي متطلبات الموقف. إن إنجاز هذا لَيحتاج إلى الشجاعة؛ لأن أولئك الذين يحيطون بنا قد يُثبِّطون مِن عَزمِنا على التَّغيُّر ما دام يعني أنهم هم الآخرون عليهم أن يُعيدوا النظر فيما تَكيَّفوا معه، ونحن نَتحرَّر من طغيان أي من هؤلاء، بالدَّرجة التي نستطيع فيها أن نستخدم بوعي الوظائف الأربعة جميعًا.
الوظيفة السيكولوجية التي تَتخلَّف عن الرَّكب في مَسار التَّمايُز أطلق عليها يونج اسم «الوظيفة الدنيا». وذلك لأنها الأقل تطورًا، ولا تزال في اللاوعي وتندمج مع مكنونات اللاوعي الأخرى. ما زِلنا لا نستطيع مُمارستها ممارسة إرادية وبصورة ملائمة. وما دامَت الوظيفة الأقرب إلى اللاوعي، فإنها تحمل خاصِّيَّة سحرية تُوحِي بالرُّوحانية. وفي حالة العلم نجد الشعور الجمعي، والشعور الفردي لِلَفِيف من العلماء، هو الوظيفة الدنيا (بمعنى الوظيفة الأقل تطورًا، وليس الأقل قيمة). إن الشُّعور بالنِّسبة لغالبية العلماء، مسألة تأتي بعد الانتهاء من مَشاغل العلم، إن كانت ستأتي أصلًا. بَيْد أنَّ المفكِّر الذي يُستثار شُعوره بغتة يمكن أن تغمره قوة ساحقة من عاطفة غير متوقَّعة. إن الوظيفة الدنيا، بسبب من العروة الوثقى بينها وبين اللاوعي، يمكن أن تكون بوابة تُفضِي إلى كِلَا الطريقين، الطريق الشيطاني، وبالمِثل تمامًا السبيل إلى التجديد فينا. وهذا يَجعلُها آمرة بتطوير الشعور كجانب واعٍ من العلم؛ لأنها الوظيفة الدنيا للعلم مثلما هي الخاصة المكبوتة المرحَّلة إلى الأُنْثَوية.
باب الشر
أما وقد أدركنا أن الشعور هو الوظيفة الدنيا في العلم، فيمكن بمزيد من اليُسر أن نكون في مأمن من أن يَتسلَّل الشَّر إلى اللاوعي خُفية ليضل بنا الطريق. يجب علينا أن نأخذ العبرة من مثال ألمانيا النازية ونُدرك التهديد الذي يأتي من التطوير المُفرِط للتفكير والشعور غير المُتكيِّف. إن الافتقار إلى وظيفة الشعور السَّديدة في ألمانيا، وهي أمة بلغَت أعلى مراقي التفكير المُتطوِّر، قد فتح الباب على مصراعيه لشرور نظام حكم هتلر. وباسم تنقية الأمة الألمانية، استخدم هتلر ورفاقه المُقرَّبون وظيفة التفكير في تنفيذ إعدام الملايين من اليهود والغَجَر والشواذ. لم يكن لدى هؤلاء النَّازيِّين وظيفة تفكير ملائمة في الوعي ليقوموا بها حول أفعالهم البَشعة. كانت وظيفة الشعور لدى جوبلز تَسير في الاتجاه الخاطئ حتى إنه أجهش في البكاء لموت عصفورِه الكَناري، ومع ذلك افتقر إلى التقدير الصائب لقيمة الحياة الإنسانية. وإذ تسير وظيفة التفكير في الاتجاه الخاطئ، لم يستطع نازيون كُثُر التقويم الواعي والسَّديد لشرور أفعالهم، ومن ثَمَّ مارَسوا أعمالهم بمزيج من الرَّهافة العاطفية والوحشية الصَّلدة.
وكذلك يَعبُر العلمُ الخطَّ الفاصل المؤدِّي إلى الشر، تحت لواء الدفاع عن الوطن. أجَل يمكن إقامة الحجة لاستخدام القنابل النووية في حماية الوطن من الأعداء، ولا نَضُر المواطنين، ولكن في غضون هذا نجد أن أموال الضرائب التي ندفعها دَعمَت أيضًا بحوثًا تحت اسم الحرب النَّفسية والأمن القومي وهو بحث أَلحَق الضَّرر بمئات من طلاب الجامعات والمَرضى النفسيين، ومن الصعوبة بمكان اعتبارهم أعداء لنا.
في معهد آلن ميموريال، استخدم كامرون أسلوبًا فنيًّا أسماه الدافع النفساني وذلك كمنهج عِلاجي «لدفع» المرضى ﺑ «التلميحات اللفظية» للمساعَدة في إعادة هندسة شخصياتهم. شكَّلت النساء «العصابيات» الغالبية العظمى من البشر الذين كانوا موضوعًا للتجارب العلمية في هذه الدراسات. وفي إحدى الدراسات التي تَستَّرت في هيئة علاج طبي، كان ثَمَّة امرأة شَعرتْ برفض حادٍّ من قِبَل زوجها وأُجبِرت على الإنصات مرارًا وتكرارًا إلى عبارات سبق تسجيلها بصوتها، تتضمن: «لا أستطيع الاعتماد على زوجي وأمي … التفكير في ماضِيَّ يقودني إلى الجنون، حين أكون وحيدة هكذا … كم أنا وحيدة». استمر مثل هذا الدافع النفساني في جلسات مُغلَقة على مدى عشرة أيام متوالية ولمدة ست عشرة ساعة يوميًّا. وبشيء من اللُّطف كان كامرون ينبذ «دفاعات مَرضاه ضد الدافع النفساني»، وذلك بأن يُغلِق على نفسه أبواب مَكتبه أو يحاول الهروب من المعهد «تفاديًا لمثل هذا الموقف».
اشتملت دراسات أخرى على عقاقير مُنوِّمة مَصحوبة بأشكال مُكثَّفة من العلاج بالصدمة الكهربية. بعد مَدًى يتراوح بين ثلاثين وستين صدمة، أصبح الخاضعون للعلاج في حالة اضطراب كامل، لم يتعرَّفوا على أي شخص، ولا عَرفوا أين هم، كانوا في حالة بهيمية، ويَجدون صعوبة في أداء أبسط المهارات الحركية. وأظهرتْ دراسة قام بها باحثون آخَرون تابعت أولئك المرضى على مَدى عشر سنوات أن غالبية المرضى عانَوا مِن فقدان دائم للذَّاكرة. إن العلاج بالتشنجات الكهربية يمحو من خبرة المريض ما يتراوح بين ستة أشهر وعشر سنوات، وعلى الرغم من أن أولئك الباحثين الآخَرين تَلقَّوا توصِية بإيقاف الصدمات الكهربية المكثَّفة، فإنها لا تزال معمولًا بها.
لقد تشكلت مجالس متابعة أعمال المؤسَّسات وسياسة الموافَقة على إجراء التجارب من أجْل الحيلولة دون سوء معامَلة الأشخاص الخاضعين للتجارب، ومع هذا وافقَت لجان تحكيم الأنداد على البحث الذي أجراه كامرون وهوف، ووافقَت على تمويله، وأَوصَوا بِنشْر البحث. وبعد ذلك بِعقدين من السنين، كانت أوساط مِهنة الطب النفسي لا تزال ترفض الاعتراف بأن رائدًا بارزًا في هذا المجال قد أجرى تجارب على البشر لا أخلاقية، ومُدمِّرة، ولا إنسانية بِاسم العلم والعلاج الطبي. وعندما تُوفِّي كامرون عام ١٩٦٧م، أَثْنَت عليه مجلة رابطة أطباء الأمراض النفسية الكَنديين بأنه «باحث عن المعرفة مُثابر حقًّا» أتى ﺑ «فهم أعمق لأهمية ودلالة الحياة العاطفية للإنسان». وقد يبدو هزلًا أن رجلًا بمثل هذا الشعور غير المتطوِّر يمكن أن يُكرِّس حياته لفهم الحياة العاطفية للإنسان، ولكن كما هو مطروح في الفصل الخاص بالذاتية، ربما يعكس بَحْث كامرون رغبة مُلحَّة في تطوير وظيفة الشعور لديه من خلال الوعاء السيميائي لعمله.
إن طب الأمراض النفسية مَجال من الطب نفترض فيه أن يَشفي النَّفْس، فكيف له أن ينتهكها بدلًا من أن يَشفيها؟ لستُ أقصد الإلماح إلى أن البحث السيكولوجي شَر، بل بالأحرى أقصد الإشارة إلى أن أفاضِلَنا يمكن أن ينفتحوا على فعل الشر، فيما نعتقد أنه أخلص المقاصد النبيلة. وفي الواقع، كل شكل من أشكال الوعي ينتج منطقة الظلال المُعتِمة الخاصة به، إنه نوع اللاوعي الخاص به. وكثيرًا ما يصطنع ذلك الشكل من الوعي صميم الشر الذي يدعي أنه يحتقره ويشمئِزُّ منه. أَجَل، بحَث كامرون عن «فَهْم الحياة العاطفية للإنسان»، ولكنه في غضون هذا دفع ثمنًا باهظًا من الحياة العاطفية للمرضى الذين اسْتُودِعوا تحت رعايته، لقد افتقر إلى ترابطية الأُنْثَوية لكي تصل بينه وبين مرضاه وتمنعه من مُواصَلة التجارب على حسابهم.
كيف يمكن عَقلَنة مثل هذا السلوك؟ أولًا وقبل كل شيء، نحن نُدافع عن أنفسنا عن طريق الإنكار، فنقول أشياء من قبيل: «نحن لا نؤذيهم دائمًا، هذه مُغالاة وتَضخيم للأمور، المَرضى كانوا عُصابِيِّين بالفعل، إن هذا من أجْل صالِحهم، أنا لا أؤذي أحدًا البتة». أو قد نُجيز هذا تحت اسم الأمن القومي، والبحث عن المعرفة، وما إليه، ونفعل «كل ما يمكن أن يستدعيه» ذلك السَّبب. ومن أجْل الصالح العام، نقول إن الغاية تُبرِّر الوسيلة. ويمكن أن تستحوذ علينا أهداف من قَبيل تحقيق الأمن القومي، أو القضاء على الجوع، أو مساعدة البلدان النامية، أو علاج الأمراض. وإذ نَتَّجه بقصارى العزم لتحقيق هدف نبيل، فإننا نَغضُّ النَّظر عن الخطوات المُثيرة للجدل التي تُؤدِّي بنا إلى تحقيق ذلك الهدف. مثل هذا الاستحواذ وحَصْر التركيز يَهبُنا طاقة عُظمى ما دام تفكيرنا لن يَتبدَّد في الصراع الأخلاقي. وغالبًا نعرف متى يكون شيء ما خطأ، لكننا ننفلق عن تفكيرنا ونتحوَّل إلى أقسام مُجزَّأة منفصلة مما يتيح لنا الاستمرار في العمل، من دون أن يُثقِل خُطانا أسَف أو شعور بالذَّنب. إن العلماء يَجرفهم تيار الشَّغف العقلي، والثقة الفائقة في قوة التفكير، فيمكنهم قَطْع الخطوة الواثقة المُؤدِّية إلى أفظع الشُّرور المرعبة من دون مُجرَّد ملاحَظة لما يفعلونه.
والشر من حيث هو شيء يجلب أذًى أو معاناة، يُوجد في أبسط صوره كواقعة من وقائع الطبيعة التي يجب أن نقهرها أو نهرب منها، نحاربها أو نتفاداها. القِلة هي التي تَمر بخبرة وَخْز الضمير الخُلقي بشأن محارَبة خطر داهِم يوشك أن يأتي على الأخضر واليابس فينا. ثَمَّة انهيار بات أضخم من احتمالنا فلم يَعُد أمامنا خيار سوى الفِرار. إننا نفعل ما يجب أن نفعله لكي نواصل البقاء. لكن حين يحدث الصراع بين قيم مختلفة، لا بُدَّ أن نمارس خيارات أخلاقية. كيف نوازن بين سؤال المعرفة وبين الرغبة في ألا نأتي ضررًا؟
وحتى حين نحاول أن نكون أخلاقيين على المستوى النظري والمستوى العملي، نفعل جميعًا أشياء سيئة لا نلاحظها. وحين نلاحظها، عادة ما تَلتمِس عُذرًا: كنتُ مصدَّع الرأس، ليس خَطئي أنا، بل خطأ الشخص الآخَر، لم أستطع أن أساعد نفسي، لقد طَلبوا هذا، إنهم يَستحقُّون هذا؛ كنتُ أُؤدِّي وظيفتي فحسب، كل شخص سواي يفعل هذا. أو نَتغافل عن الواقعة. على أن بعض الناس ذوو حِس أخلاقي أعلى من الآخَرِين. يمكن أن يعاودهم الإحساس بالذَّنْب والأحلام المزعجة أو الكوابيس من جَرَّاء تجاوز قد لا يقلق شخصًا آخر أكثر تبلُّدًا في الحس الخلقي (أو أكثر لاوعيًا). وكلما اقترب الجانب الأُنْثَوي فينا من النور أصبحنا أكثر وعيًا بالكل، بالتواصل المتبادَل بين كل منا وبين الإنسانية والطبيعة، نُواجه المزيد والمزيد من الصراعات. نكتشف أننا لم نَعُد نستطيع الاكتفاء بمثل هذا الأسلوب المُراوغ من الإنكار أو التَّغاضي عن السلوك العُدواني أو السفيه — حتى ولو كان النظام الذي تَعتمده الجماعة يتجاوز عنه. يأتي الوقت الذي تُجبِرنا فيه الأخلاقيات والاستقامة الشخصية على اتخاذ موقف. إن الوظيفة الخُلقِيَّة فينا واستشعارنا للترابطية يربطانَا بالآخَرِين ويُمثِّلان ناهيًا أخلاقيًّا أمامنا. ولكن قد نعجز عن الحركة أو نقع شهداء إذا حاوَلْنا أن نكون أخلاقيين بصورة مُطلَقة على المستوى النظري والعملي. يجب على كلٍّ منا أن يتخذ قرارًا بشأن المَدى الذي يستطيع بلوغه. وفي مجاهداتنا لصراعات الواجب والقيم، نكتسب مزيدًا من الحس الخلقي وبالتالي نُساهم في ارتقاء الوعي.
إن الحياة مَشاغل ملتبسة، ومشاغل العلم ليست استثناءً من هذا الالتباس. لا أحد منا يستطيع الزعم بالاستحواذ الكامل على القُطبِيَّات الدَّوَّارة داخلنا ومن حولنا. والعبء الأخلاقي الماثل هو أن نَبذُل قصارى ما نستطيع ونستحوذ على الجانبين المضيء والمظلم من طبيعتنا ولا نُسقطها على الآخَرِين، على الرغم من كل الإغراءات. ويكمن الخطر الأعظم في تفكيرنا أُحادِي الجانب؛ فحيثما نكون أكثر يقينًا وقطعًا، حيثما نكون أكثر قابلية للانجراح بفعل الخطأ. وبدلًا من الإصرار على وَهْم التطهر الزائف القائل إننا لا يمكن أن نرتكب خطأ ونحن نبحث عن المعرفة من أَجْل المعرفة، يمكننا استخدام وظيفة الشعور لدينا ومبدأ الترابطية في الأُنْثَوية كي يساعدانا على تقويم كل موقِف مُعقَّد وتقويم كل مشروع بحث في سياقه، تقويم المَخاطر، وبالمثل تمامًا تقويم المنافع.
٥٥ انبلاج الضوء في الظِّلال المُعتِمة
في علاقات التزامل، نستطيع أن نبدأ فيضًا من الأريحية، نَهَب معونتنا وأفكارنا. ولكن إذا وجَدْنا أنفسنا موضع استغلال، نستطيع أن نُغلِق الصنبور ولا نهب شيئًا. وإلا فسوف نُغذِّي شيطان ذلك الشخص أو ذاك النظام، ونُسهم في قيد رد الفعل. قد يكون التكامل في مثل هذه الأنظمة أكثر أهمية من التفكير العقلاني، أو الذكاء أو ضَبْط النَّفس.
ولكي نَتجنَّب اندلاع الشر في العلم، يجب أن نَحجب إسقاطاتنا ونتحمَّل المسئولية عن الظلال المُعتِمة فينا. ومثلما حدث مع إوين كامِرون، سوف يظل الشر يَندسُّ من وراء ظهورنا، إلى أن نستطيع سَحْب عبء الظلال المُعتِمة الخاصة بنا. وحين يُطلِق الرجال سراح الأُنْثَوية في نفوسهم، ويحجبون إسقاطاتهم، سيتيحون للنساء أن يَكنَّ ذواتهن.
نستطيع أن ننظر إلى العملية السيميائية لترشدنا في عملية تحرير الأُنْثَوية من ظلال العلم المُعتِمة. المَرحلة تستلزم تقويض دعائم التعريفات القديمة للعلم من حيث هو «فلسفة ذكورية» ونَبْذ العقائد القائلة إن شعور الأُنْثَوية وترابطُيَّتها غير ملائِمَين للعلم. وهذا يستلزم الاعتراف بإسهامات النساء والاستكشاف المنفتح لقيمة الأُنْثَوية. وحين نُصوِّب ضوء الوعي الساطع على كل خاصَّة من خواصها، سنتمكن من استلقاط منظورات جديدة مُجدية.
وفيما بعدُ تمر بخبرتنا الطُّرق الجديدة للربط بين التفكير والشعور، بين العدوانية والتَّلقِّي، بين الموضوعية والذاتية، بين التَّعدُّدية والتَّراتُب الهَرَمي، بين الشخصي والمهني، بين التَّنافُس والتعاون، بين الإحساس والحدس، بين الاختزالية التحليلية والترابطية. يمكن أن نتوقَّع بزوغ صراع وخَلْط إذ تشرع الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية في التفاعل معا كَنِدَّيْن. سوف تجهض أشكال الاتحاد الضارة. وفي النهاية، ينشأ عن أشكال الاتحاد النافعة علم مدهش جديد تمامًا.
عند هذه النقطة، تقدَّم أستاذ آخَر بشجاعة ليسحب إسقاط مسألة أن المرء مغلوب على أمْره واعترف: «إنك تعرف، أحسَب أننا كهيئة تدريس نَشعر بأننا مغلوبون على أمْرِنا.» وحين أدرك جونستون لحظة حافلة باحتمالات الخلق والإبداع في وقفة واعدة سادت القاعة، سأل: «كيف أمكن أن يحدث هذا؟ إنكم تَشغَلون مناصب أعضاء هيئة التدريس، وأنتم علماء، ولستم عالمات، ولستم في قسم الدراسات الإنسانية. إن كان لأحد أن يشعر بأنه مُفوَّض بالأمر في هذه الثقافة، لوجب أن يكون هو أنتم. وأنتم تشعرون بأنكم مغلوبون على أمْرِكم.»
أدْرَكوا أن هيئة التدريس إن لم تشعر بأنها مُلهَمة ومُستَثارة ومُفوَّضة بالأمر، فلن يشعر الطلبة بأي شيء من هذا. تساءل جونستون عن الذي يُحسب لأعضاء هيئة التدريس لكي يشعروا بأنهم مُفوَّضون بالأمر. تواترَت إجابات صماء عن مزيد من التمويل، مكان أرحب، مزيد من الاعتراف والتقدير، وبعدها قال أحد الأساتذة: «نحن نحتاج إلى مزيد من الحوار بين بعضنا البعض. إننا في انعزال شديد داخل مُختبَراتنا ونحن نُجري الأبحاث الخاصة بنا. ولكي نشعر بمغزى القوة والمعنى والإسهام فيما نفعله، نحتاج إلى مواجَهة المعسرة، ومواجهة التساؤلات المُهمة حول إسهام الكيمياء في المستقبل. أحسَب أننا نَهاب هذا ونَنفر منه لأن كل سؤال في الكيمياء الآن هو سؤال أخلاقي».
ولكي نشع بالضوء على الظلال المُعتِمة في مؤسَّسات العلم، يمكن أن نُنْشئ عن وعي جماعات تنشغل بعمليات للتقويم لكي تضم أفرادًا من كل نمط. من أنماط يونج السيكولوجية. يمكن أن نُرحِّب بأصحاب الأنماط الشعورية ونُولِي إسهاماتهم حق قَدرها ما داموا هم الذين يعملون بجدية وإيجابية من أجْل إثارة المسائل الأخلاقية. إن فِرَق البحث، والقُوى التي تضطلع بحل المشكلات، والجماعات التي تُعنى ببحث الأفكار السانحة، هيئات مَنْح التمويل، لجان تحكيم النظراء، مجالس وضْع الخطط، أعضاء هيئات التدريس بالأقسام، اللجان التي تبحث المسائل الأخلاقية، وشَبكات المعلومات العلمية؛ يمكنهم جميعًا أن يَغْنموا من الانفتاح على وجهات النَّظر المتفاوتة المعروضة من قِبَل ذوي الوظائف السيكولوجية المختلفة. وإذ يفعلون هذا يمكنهم أن يشرعوا في سحب إسقاطاتهم. وبالمثل، يمكن لعمليات التقويم الواعية المقصودة أن تشمل النساء والمُلوَّنين والبشر من خلفيات ثقافية مختلفة.
على الرغم من أننا نَشعر بمزيد من الارتياح مع الناس الذين يماثِلوننا، فإن التقدُّم يأتي من المُساجلات النابضة بين النظرات المُتقابِلة للعالَم. ولكي يكون مثل هذا التبادُل باعثًا للحياة، لا بُدَّ أن يدور في أجواء من الاحترام، الإنصات والتَّلقِّي لما يقوله الآخَرُون، بدلًا من الاقتصار على دعم موقفنا الخاص والدفاع عنه. وبفحص الفروض والمنظورات المختلفة، وتحديها وإنكارها وإسقاطها وأخيرًا تكاملها، سوف تَتجلَّى مكامن القوة والضعف في كل رؤية من الرُّؤى المطروحة. إنها عملية غير مُستقِرَّة، ما دامت الأرض تَرتَج وتَزحل بأُسس منظومات الاعتقاد. ونحن نستطيع الاضطلاع بمغامَرة الوقوف على عَتبة التغيُّر. وخلال مثل هذه العملية، سوف يَتغيَّر الفرد وتتغيَّر المؤسَّسات على السواء.
السبيل إلى التجديد
في مُقابِل الحركة الخَطِّية للتقدُّم، نجد الدائرة العظمى في الأديان السِّرية القديمة ترمُز للأضداد. إنها تشمل الإيجابي والسلبي، الذَّكر والأنثى، النهار والليل، النظام والشَّواش، الوعي واللاوعي. وما دامت التغيرات الإيقاعية للدائرة العظمى تحوي الخُلاصة الكُلَّانية، فإنها تضم الفصول الأربعة، دورات الحياة والموت، الخلق والفناء، حمل الأطفال وعودة الجُثمان إلى الأرض. مع الدائرة العظمى، لا يتشكل مَسار الحياة من تَقدُّم لا رجعة فيه. وبدلًا من هذا يجسد مسار الحياة صراعًا بين النماء والتدهور، حيث لا يمثل النماء إلا أحد جوانبه.
تحمل العملية السيميائية بين طيَّاتها مُعاناة صراع الأضداد ريثما يَتواجَد المحلول المبدع، ريثما يَنبثِق شيء ما غير مُتوقَّع ليفض الصراع على مستوًى آخَر. ليس يعني هذا تجاهُل المشكلة وترجِّي حلٍّ سيظهر بسهولة، بل بالأحرى التطور الكامل لكل جوانب الصراع. وحتى حين نَسير عَبْر السبيل الجديد، يجب أن نظل مع هذا مُنتبهِين لارتكاب خطأ؛ يجب أن نتخلَّى عن اتجاهاتنا نحو اليقين والسيطرة. تُعبِّر ماري-لوي فون فرانز عن هذا:
من الظلال المُعتِمة، تحمل الأُنْثَوية موقفًا تعويضيًّا للوعي, لقد التقطَت الأُنْثَوية دائمًا ما جرى إهماله والتغاضي عنه وكراهيته، ولكن لا يزال مِن الواجب إخضاعه للفحص والإبقاء عليه نابضًا. تُعلِّمنا الأُنْثَوية، في حياتنا، وبالمثل تمامًا في بحوثنا، أن الحل ذا المَغزى يعتمد دائمًا على السياق. إنه فَردي، ويمكن من خلاله أن نبدأ مهمة لا تنتهي أبدًا هي احترام الحياة بكل تَفرُّدها وسواء ما كنا ذكورًا أو إناثًا، يستطيع كل مِنَّا أن يمتلك الشجاعة لجعل الأُنْثَوية فينا تجهر بالحق بالأسلوب الخاص بها وتستخلص ما تُحاوِل أن تهبنا إياه.
وبوصفنا سيميائِيِّي العصر الحديث، يمكننا أن نُجرِّب السُّبل الجديدة للربط والتوليف، للتأليف والفصل، نجمع بين عناصر الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية في نفوسنا ونجعلها تتكامل فيما بينها. نستطيع أن نمد نطاق وعينا ليتجاوز حدود دور العلماء من حيث هم باحثون ومديرون وأساتذة، ليصبحوا مواطِنين أكثر إيجابية، ومُشاركين في المجتمع، ومُحبِّين لرفاقهم، وراعين لآبائهم، ليصبحوا كائنات بَشرية سوية مثلما هم خُبَراء. ليست النساء في حاجة لاتخاذ موقف المرأة التي لا تتميز عن الرجل. مع إعلاء قدر التَّعدُّدية من دون التَّراتُبيَّة الهَرَمية (الهيراركية)، نستطيع قبول الاختلافات المرموز إليها بالذُّكورِيَّة والأُنْثَوية بوصفها تنتمي إلى أعضاء من كِلا الجنسين. وعندما يناضل كل شخص للجمع بين هذين العنصرين، سوف نجد سبلًا جديدة ومختلفة للتضافر بين الشخصي والمهني.
لقد وضعَت كَتزاروس الإيقاع السريع والتنافسي للنظام الأمريكي في تقابُل مع المُقارَبة الاجتماعية في الدول الإسكندينافِيَّة، التي تُعنَى أكثر بالجانب الإنساني. في السويد، المرأة والرجل كلاهما له الحق في الحصول على إجازة من أجل وَليدهما، ورعايته أثناء النهار متاحة طوعًا. بالإضافة إلى هذا، ينشط علماء السويد أكثر في البحوث المتصلة بمشاكل المجتمَع من قبيل التَّلوُّث والنَّقل عَبْر المسافات الطويلة، وتغيُّرات ثاني أكسيد الكربون في المناخ. يستطيعون أن يكونوا أكثر ارتياحًا في عملهم ويقضون عطلات نهاية الأسبوع، التي تَعود بالفائدة على صِحَّتهم وعلى أُسرهم. وهي تجد أن المُقارَبة الأمريكية قصيرة المدى؛ حيث لا تُوجَد ضمانات للتمويل عامًا إثر عام، مَضْيعة للوقت والجهد وليست مَدعاة للاحترام وغَير صحية.
إن رغبة كتزاروس في مزيد من التوازن في العلم إنا يتردَّد صداها لدى عالِم الفيزياء النظرية إبرهارد ريدل. إنه يبغي العلم نظامًا ممتدًّا، يقبل وجود النساء والأُنْثَوية، من دون الحكم عليهن بأنهن أفضل أو أسوأ، بل فقط يَكُنَّ ثَمَّة كجزء من الكل أتَتْه صورته المثالية للمرأة العالِمة من كتاب. وهو يتذكر:
وما دام الرجال يمكن أن يرتاحوا أيضًا للقيام بدور الرعاية، يمكن أن نتصور الأطفال وهم يندفعون بدورهم إلى أحضان آبائهم.
نحن الآن ننتقل إلى النصف الثاني من العمر حيث نواجه الدَّمار المحتمل للحياة على الأرض وقد جعله العِلم ممكنًا. مع الوعي بأخلاقيَّاتنا لا بُدَّ أن نتباحَث أزمة منتصف العمر للعلم. وبدلًا من الدفاع عن تعريفاتنا القديمة المُتحجِّرة للعلم، دَعونا ننفتح على التجديد. دعونا نُرحِّب بالروح، بالأُنْثَوية، في العلم. في منتصف العمر، يميل الوعي إلى أن يستمر في الاتجاهات الراسخة ولا يَلحظ التَّجديد الجُوَّاني الذي يمور تحت السطح. غالبًا من أضعف مَظانِّه، من الأطفال، أو من البسطاء، أو مَن تعارَفْنا على احتقاره كالأُنْثَوية.
أنا لا أؤمن باستنكاف بالتكنولوجيا، ولا أحسب أنَّ فَرْض المزيد من الرواسب البيروقراطية سوف يحل مُشكلات العلم. أرى الأمر كتَحدٍّ أمام الأفراد جميعًا لكي يَفتحوا عقولهم على المُمكنات المُستحدَثة، لكي يَتفكَّروا بعمق، لكي يُعيدوا فَحص قِيمِنا، لكي نقترب من معرفة أنفسنا، لتطوير شعورنا وحدسنا حتى يكتمل تفكيرنا وإحساسنا، حتى تتكامل الأُنْثَوية؛ لكي نغدو بَشرًا أقرب إلى الكل المتكامُل حينئذٍ يستطيع كل منا أن يغرس العلم في قلبه وفي أخلاط الجسم. نستطيع أن نصل إلى الزُّملاء ونُشَيِّد شِبَاك عمل تعاوني قائم على الحب والثقة والشغف. وإذ نفعل هذا، سوف نغدو أحجار الفلاسفة الحية كل من نَمسُّه بروح الحياة فينا سوف يرى القيمة في هذه الطريقة لممارَسة العلم. إنني أؤمن بقوة الشيء الصغير، بالقوة التراكمية للأفراد المؤدية للوعي، للحياة الأخلاقية. وكما يُعلِّمنا علم الشَّواش، حالما نصل إلى العتبة الحَرجة، سوف تعمل مؤسَّسات العلم على إعادة تنظيم ذاتها.
“A Psychiatric Holocaust: Canadian and CIA-sponsored Brainwashing Experiments,” Science for the People (March/April l987), pp. 13–19.