الفصل الثالث
الشعور بَحْثٌ يدفعُه الحُب
إبَّان تدريبي، تشبَّعتُ مبكرًا بالنظرة الدنيوية التي تُميِّز العلم. وبلا تساؤل،
تقبَّلْت إقرارات من قبيل «ليس للعواطف مكان في العلم»، و«العلم مُتحرِّر من القيم».
وكنت
أطرح تبريرًا عقليًّا لمشاريع أبحاثي، وأسير وفقًا لخُطَى المنطق في حلِّي للمشكلات التي
تعرض ذاتها. وإذ انهمكت في عملي كنتُ أشعر بأنني قد أفقد المصداقية إن كشفتُ عن مشاعري،
ما
دمتُ رأيت نساء أخريات جرَى استبعادهنَّ؛ لأنهن عاطفيَّات جدًّا. ويَسطَع في ذاكرتي زميل
من
علماء الكيمياء الحيوية يستهجن عالِمة متخصِّصة في الجهاز العصبي «لأن مشاعرها إزاء عمَلِها
ليست فاترة تمامًا!»
مُجرَّد مفرَدات وصْفِ المشاعر فقدْتُها مع مرور الأعوام. وباتت أحلامي تعكس هذا
الجمود
في المشاعر بصورة درامية، حتى يتراءى لي في نومي أنني لم أعُد أُبدِي استجابة شعورية
للرعب
في عيون أطفال يَتعذَّبون. وبعد أن انغمستُ خمسة عشر عامًا في المجال العلمي، حدَث أن
أخذتُ
دورة دراسية في إدارة الاتصالات.
١⋆ وأدهشتني
المستويات الجميلة للتمييز التي تتيحها اللغة لتعكس العاطفة والقيمة، والحق أن هذه اللغة
غير مستخدَمة في بيئتي العلمية.
وثَمَّة مقالتان في مجلة «تعليم العلوم» العام ١٩٣٨م تَعرِضان بوضوح لهذا الحياد
العاطفي
المنتَظر من العلماء. إحدى المقالتين تهيب بالعلماء أن «يعمدوا إلى التَّنصُّل من كل
عاطفة
أو صَبْوة.»
٢ وتحت عنوان «الاستعداد للتفكير ببرود» تنادي المقالة الأخرى بأن يكون العلماء
«لا شَخصِيِّين ومُتَّسمِين بالنزاهة في تفكيرهم.»
٣ وفي الواقع لا يَتنصَّل جميع العلماء المُمارِسين من عواطفهم، وعلى الرغم من
ذلك وقع العلماء — خصوصًا الذين ما زالوا يَسعَون نحو احتلال وضعهم في المنظومة العلمية
—
تحت هيمنة توقُّع هذا التَّجرُّد من العواطف. وفضلًا عن هذا، عادة ما يبدي العلماء أمام
العامة ذلك الوجه السُّلطوي المتجرد من العواطف.
وفي دراسة إيان ميتروف للعلماء الذين شاركوا في رحلات أبوللو إلى القمر، طلَب منهم
تقويم
أزواج من الصِّفات مرتبطة بشخصية العالِم المِثالي وطرازه المعرفي من قَبيل:
العدوانية / الانكماش على النَّفْس، الصلابة / المرونة، الانفتاح / الانغلاق،
التعمية / الدقة، الإبداعية / الافتقار للخيال. وقد أكَّدُوا على صورة العالَم المثالي
كعدواني صَعْب القياد، ويحقق أغراضه، نَزَّاع للقُوَّة وسُلْطوي، شكَّاك، جاد ودقيق.
ولكن
حين تَطرَّق الأمر إلى البُعد: ودود/بارد، رفض ٣١٪ منهم مجرَّد اعتماد هذا التصنيف؛ إذْ
حكموا بأنه غير ملائم بالمرَّة للعِلْم، قائِلين:
لا أستطيع أن أدين العالِم على هذا؛ إنه أمْر لا يَعنينا.
هذا المجال غير ملائم إطلاقًا للعِلم.
ليس لهذا علاقة بالعلم.
إذا كان العالِم يَتعامَل مع زملائه، يجب أن يكون وَدودًا. أما إذا كان يتعامل مع
موضوع
البحث، فيجب أن يكون باردًا؛ إنك لا تستطيع أن تُقحِم عواطفك في التفسير العلمي البارد
للوقائع.
العالِم الفاتر المَشاعر والبارد، الذي يجعل حياتَه بأَسْرِها تَسير على هذه الوتيرة
حَرِي به أن يفتقد ذلك السبب الذي يَدفَع العلماء لمُمارَسة العلم؛ أي من أجْل صالح الجنس
البشري. ولسوف أميل نحو العالِم الودود إذا استطعتَ أن تأتيني بمثل هذا الشخص، ويمكن
أن
يواجه مشاكل إذا كان ودودًا جدًّا [أنا التي جعلتُ الحروف الأخيرة مائلة].
٤
هذه العبارة الأخيرة تؤكد نُدرة الوُدِّ في العلم، والمَسار الرَّهِيف الذي ينبغي
أن
يسلكه الشخص «الودود». وانتهى ميتروف إلى أن «الحكم الغالب بعدم ملاءمة هذا البعد يمكن
تأويله على أنه كَبْت للاستجابات الوجدانية أو للمشاعر».
٥
ولأن الشعور غريب هكذا عن العلم، راح أحد أساتذة الفيزياء يَستخدمه لكي يحدث تأثيره
الصادم في طلابه. إنه إبرهارد ريدل I. Riedel المتخصص في
فيزياء المادة الكثيفة النظرية، وقد التقَيتُ به في عشاء عامٍّ لجمعية كارل يونج في سياتل.
وفيما بعد التقيتُ به على الغداء في مطعم ياباني، وتبادَلْنا أطراف الحديث حول مناهجه
للتدريس. قال إنه في قاعة الدراسة يَكتُب المعادلة على السبورة، ثم يجلس في الصف الخلفي
ويسأل طلابه: «أي شعور أثارته فيكم؟» إنه يريدهم أن «يَحْتَووا المعادلة في داخلهم» وليس
مجرد تسجيلها في دفاترهم. وحين سألْتُه عن كيفية استجابة طلابه، قال ضاحكًا:
بَدَوا وكأنهم وقعوا في أُحْجِية! وهذا بالضبط ما أريده، أريد أن أحدث لهم صدمة.
قد لا
يتذكرون المعادلة، لكن يتذكرون شيئًا ما غريبًا حدث لهم. وأتَوقَّع تمامًا أن يدور في
أذهانهم، «يا له من أحمق!» ولكني لا أبالي. وأتبع هذا بالآتي: «ماذا شعرتم في عظامكم،
في
بطونكم، في أطراف أناملكم؟ أريدها أن تنفذ إلى حدسكم … ومن حيث القيمة لا ينبغي أن
تُسلِّموا بالعبارات التي قُلتُها، أو المعادَلات التي دَوَّنتُها على السبورة، بوصفها
صحيحة.» أريد منها أن تثير الإحساس بصورة أكثر شمولية، واضعًا في اعتباري كل الافتراضات
وإمكانية التطبيق المحدودة والمحاذير، لا أريدهم أن يعودوا ليقولوا: «هذا هو ما عليه
الأمر،
ويجب أن يكون على هذا النحو.»
٦
في العلم طويلًا ما حامَت الشُّبهات حول العواطف والرغبات والانفعالات والمحبة والمشاعر
بوصفها مصدر الانحياز، وثَمَّة سبب وجيه لهذا إلى حد ما. فيمكن أن تُضفي العواطف غشاوة
على
مدركاتنا. يغالي الخوف والهستريا من شأن الوقائع حتى لا تعود تتناسب مع الموقف. الرَّغْبة
في رؤية ما تتوقع أن تراه، كرؤية قزم (رجل صغير القَدِّ) في النطفة، تؤدي إلى ملاحظات
غير
دقيقة. وإذا تَعلَّقَت بأهداب نظرية أثيرة، في مواجهة بينة جديدة شديدة الإلحاح، فإن
هذا
يوصد أبواب العقل أمام طُرق مُستجَدَّة للنظر إلى العالِم. وبينما يمارس العلم الإقناع
عن
طريق البَيِّنة والحجج المنطقية، نجد الدعاية والإعلان يُمارِسان تأثيرهما من خلال العواطف.
ولكن بدلًا من أن نكبت الشعور وننكره تمامًا، دَعونا نستكشف العاطفة والشعور وكيف يمكنهما
أن يُوازنَا العلم أحادي الجانب ويتقدَّمَا بإسهام إيجابي فيه عن طريق:
-
لفت الانتباه إلى القيم والأخلاقيات.
-
المُعاونة في تقويم المواءمة ودعائم التناسب.
-
أن يكون البحث مدفوعًا بحب الطبيعة، بدلًا من الرغبة في التحكم.
-
احترام الطبيعة، بدلًا من استغلالها وكأنها سلعة.
-
مراعاة مشاعر الآخرين.
نظرية يونج في الأنماط السيكولوجية
بعد مرور عامين على مُقرَّر الإدارة المذكور آنفًا، أصبحتُ أكثر اهتمامًا بعلم نفس
يونج. بدأتْ قراءاتي المُمتِعة تلف وتدور حول علم النفس، ثم توغلت في التحليلات
اليُونجِيَّة. لقد بت على وعي بعواطفي، وفضلًا عن هذا اكتشفتُ دورًا أعمق للشعور من حيث
هو وسيلة لإصدار الحُكْم على القيمة. وأيضًا وجدتُ نظرية يونج في الأنماط السيكولوجية
تُقدِّم نموذجًا مفيدًا لأنماط الشخصية التي يجتذبها العلم، وتلك الأنماط المُفتَقدة
في
العلم. إن العلم يجتذب أنماطًا معيَّنة من البشر، بسبب الطريقة التي تحدَّد ومُورِس
بها. وغدَت هذه الطريقة المعيَّنة لدراسة الطبيعة قادرةً بذاتها على أن تَبقى وتدوم،
حتى إن الخصائص المميزة لأنماط الشخصية العلمية مرادفة تقريبًا للعلم ذاته.
٧
والآن كثيرًا ما يُستعمَل مؤشِّر نمط مايرز-بريجز
Myers-Briggs Type
Indicator كمقياس لميول الشخصية وما تُفضِّلُه، وهو مؤشر قائم على
نظرية يونج في الأنماط.
٨ وكل عام يَستخدِم هذا المؤشر واحد ونصف مليون من البشر في هيئات المال
والأعمال وفي المؤسَّسات التربوية، والاستشارات الشخصية والمهنية، والإدارات الحكومية.
تستخدمه الهيئات لتحديد طراز القادة وفِرَق العمل، وتحسين الاتصالات، ومن أجل تطوير
الإدارة، وحل النزاعات، يَستخدمه التربويون لتطوير مناهج التدريس ولِتفَهُّم الفوارق
بين أشكال ودوافع التعلُّم، يعتمد عليه المستشارون المِهَنيون في إرشاد العملاء إلى
التخصصات الدراسية والمهنية، وتَولِّي المناصب، وأوضاع العمل التي يمكن أن يَنجحوا
فيها.
لقد وصف يونج أربعة مناحٍ للتوجُّه نحو العالِم: التفكير والشعور والإحساس والحدس.
ونظر إليها بوصفها تُشكِّل محورين:
في الطفولة، نعتمد أساسًا على وظيفة واحدة. بعض الناس لا يُطوِّرُون أبدًا أكثر من
هذه الوظيفة الواحدة، ولكن مع النضج، كثيرون مَنَّا يُطوِّرون وظيفة مُساعدة من المحور
المقابل. على سبيل المثال، نجد نمط التفكير يُطوِّر الإحساس كوظيفة ثانية. وفيما بعد،
قد طور وظيفة ثالثة من المحور نفسه بوصفها وظيفة مساعدة، وهي الحدس في هذه الحالة.
والوظيفة المقابِلة لوظيفتنا الأولية هي آخِر ما يتم تطويره، إنها الشعور في مثالنا.
ومن بين هذه المَناحي الأربعة للتُوجُّه، تَميَّز العِلم الغربي بالتفكير والإحساس.
٩
إن الإحساس والحدس سبَيلان للإدراك يُزوِّداننا بالمعلومات. يَمدُّنا الإحساس بمعارف
عن العالَم الخارجي من خلال الحواس. إننا ندرك العالَم من حولنا عن طريق ما نراه ونسمعه
ونَشمه ونَلمسه ونَتذوَّقه، أو عن طريق ما هو امتداد لحواسنا كأجهزة المِجهَر
(الميكروسكوب) أو المِقْراب (التلسكوب) أو مِنْوَسة الذبذبات أو عدَّاد جَيْجَر. يلتقط
الحدس ما هو في العالَم الداخلي ويُتيح لنا أن نَغتنِم مَعارف أو أفكارًا بطريقة
كُلَّانيَّة. وبغتة تتهاوى في الحيز كل نُتف الأحبولة. في ومْضَة، تُشكل الآلاف من
شظايا المُعْطَيات مخططًا مترابطَ الأواصر. إن الحدس منفتحٌ على الوعي الفجائي، على
التأمل وعلى الخيال، على كل المُمكِنات.
في العلم، نمط الإحساس هو النمط التجريبي الذي يجمع أشتات المُعْطَيات ويزودنا بوقائع
جديدة، ونمط التفكير هو النمط النظري الذي يشيد نماذج ومنظومات منطقية. يعتمد معظم
العلماء أساسًا على مَزيج من هاتين الوظيفتين. (في الفصل التاسع سوف نستكشف دور الإحساس
والحدس في العلم.) مثلًا، نشر الاتحاد الأمريكي لتقدم العلم تقريرًا في العام ١٩٨٩م،
«يعتقد العلماء أن البشر من خلال استخدام العقل، وبمساعدة الأدوات التي تَمُد نطاق
الحواس، يستطيعون اكتشاف مُخطَّطات الطبيعة بأسرها»،
١٠ ولا يَرِد ذِكْر للحدس أو للشعور.
إن التفكير والشعور كليهما يتقدَّمان بسُبل للتقييم والحكم التفكير هو وظيفة التمييز
المنطقي والاختيار اللاشخصي: وعن طريق التدبُّر في مُعْطَيات موضوعية يخرج التفكير
بالاستنتاجات العقلية ويُشيِّد أنظمة. يخبرنا بالخطوة المنطقية التالية التي ينبغي أن
نقطعها. إنه الوظيفة المُستخدَمة لتنظيم حياتنا اليومية، لتطوير خطط البحث التفصيلية
المطلوبة في المشاريع المقدَّمة للمِنَج، لرسم تخطيط تمهيدي للتسلسل المنطقي لمسار
التجارب على مدى السنوات الخمسة المقبلة. التفكير هو وظيفة حل المشكلات. إنه ينحو إلى
ترتيب الأشياء أو الوقائع أو الأفكار في تسلسل أو تراتُب هرمي (هيراركي) له معناه
ومغزاه، من قبيل تصنيف كل النباتات والحيوانات على كوكب الأرض في منظومة من شُعبة
ورُتبة وطائفة وجنس ونوع. وإذا بدا هذا خشنًا وجافًّا؛ فذلك لأن التفكير خَشِن وجاف.
ولكنه أيضًا ذو قدرة تفوق التصور.
وعُلُو شأن وظيفة التفكير في العلم قد نشأ عنه قاعدة الحياد؛ ذلك أن العلم مَعنِيٌّ
فقط بإنتاج معارف جديدة وليس بعواقب استخدامها. مثلًا، تتجلَّى وظيفة التفكير في عملية
كتابة ومراجَعة مشاريع الأبحاث المقدَّمة للمِنَح. وها هي ذي بيجي جونسون
P. Johnson كبيرة هيئة العلماء في شركة
للتكنولوجيا. الحيوية، تتحدث عن أسلوب مَعاهِد الصحة القومية في تقييم المِنَح. وبوصفها
خبيرة في مجالها، فقد عملت في قسم الدراسات، وهو لجنة تحكيم النظراء
١١⋆ التي
قيم مشاريع الأبحاث المقدمة في منحة للحصول على استحقاق علمي، دور اللجنة هو تحديد ما
إذا كان المشروع البحثي واقعيًّا وصحيحًا من الناحية العلمية — بعبارة أخرى، هل خطة
التجريب مصمَّمة جيدًا وذات أهداف يمكن إحرازها؛ أي قائمة بإحكام على أساس المُعْطَيات
الأَوليَّة؟ وهل هي مقترنة ببيِّنة تشهد بأن الباحث يمتلك الأدوات والخبرة اللازمة
لتنفيذ المشروع؟ النقاط التي يسجلها قسم الدراسات للمشروع البحثي تحدد، إلى درجة كبيرة،
المشروع الذي سيظفر بالاعتماد المالي. ولاحظت جونسون أن:
الطريقة التي يحكم بها الناس تلك المنح ليست بالنظر فيما إذا كانت الفكرة العلمية
مهمة، بقدر ما هي النظر فيما إذا كانت الخطة العلمية واقعية، بحيث يتضح أن الشيء يُفضي
إلى ما يليه. إن مقدمة عملية التحكيم بأسرها هي أن البحث العلمي الأكثر إيغالًا في
العلوم الأساسية هو مُستحِق في ذاته للإنجاز بغير الحكم المسبق على العائد النهائي من
ورائه. وتمتد هذه المقدمة إلى فكرتنا حول ما يبغي أن يظفر بالاعتماد المالي.
١٢
تصرُّفات أصحاب نمط التفكير تسير بدوافع ذات اعتبارات عقلية. ومناهجهم المُثلى محكومة
بفئة من القواعد الصورية مجرَّدة ولا شخصية. يفضلون اتخاذ القرارات بموضوعية، على أساس
المبادئ والإحصائيات. إنهم ذوو مهارة في أداء المهام التي تتطلب الدقة والتنظيم، في
رؤية المتماثِلات والخروج منها بتعميمات. يتفوَّقون في إقامة النظام وتوضيح الموقف، خلق
النماذج أو النظريات من ركام المُعْطَيات، أو التثبت من «قوانين الطبيعة». مثلًا،
يستطيع أصحاب الأنماط المفكرة أن يخبرونا بكيفية المضي في تنظيم الباحثين والتجهيزات
لنحدد بكفاءة تتابع الجينوم البشري.
وظيفة التفكير مجرَّدة، وينعكس هذا التجريد في اللغة المستخدمة في البحوث العسكرية،
وهي شكل من الكلام التقني الذي يَفْصِل العالِم عن نواتج عمله. القتل الجماعي والأجساد
المشوهة والمعاناة البشرية التي لا يمكن البوح بها، كل هذا يشار إليه بوصفه خسائر
ملازمة ﻟ «ضربات نظيفة جراحيًّا». «القنابل النظيفة» هي عتاد الاندماج النووي الذي
يُطلِق قوة تفجيرية أكثر تدميرًا من القوة التفجيرية لِعتاد الانشطار النووي. وهي نظيفة
ليس لأنها تقتل عددًا أقل من البشر، ولكن لأنها تطلق إشعاعات أقل. لقد قامَت عالِمة
النفس كارول كوهن
C. Cohn بمواجهة عن كَثَب لتحليل
الاستراتيجية النووية، وأعادت صياغة المسار الذي قطعته حتى ينغرس في تفكيرها دفاع
المثقفين عن الاستراتيجيات النووية وذلك على مدار عام قضته في مركز جامعي لتكنولوجيا
الدفاع والتحكم في التسليح. وإذ تعلمت لغتهم في التجريد والرطانة الفنية وجدت نفسها
تتحوَّل مع هذه اللغة، وتدخل في شكل من التفكير مستغرق تمامًا في القوة العسكرية
والوسائل التكنولوجية. وأيضًا وقعت في أسر متعة الانتماء لجماعة من الصفوة، وكانت فخورة
بقدرتها على التحدث بهذه اللغة الجديدة المكشوفة، المثيرة، اللاذعة. بيد أنها وجدت لغة
خطابهم تجعل من المستحيل طرح أسئلة عن الأخلاقيات والقيم. وعلى الرغم من أنها التزمت
بأن تظل على وعي بالحقيقة الكامنة خلف الكلمات، فقد صدمَها أنها قد تقضي أياما «تتكلم
عن الأسلحة النووية بغير أن تفكر مرة واحدة في الناس الذين قد يصطلون بأوارها.»
١٣
عادة ما تكون الأنشطة المعتمدة على الشعور — الذوق الجمالي، والحس الفني، ومراعاة
الأصدقاء، وقضاء الوقت مع الأسرة، وعلاقات الحب — غير متطورة في الفرد ذي وظيفة التفكير
المتطورة كثيرًا. وليس الأمر أن نمط التفكير لا يمتلك عواطف عميقة، بل بالأحرى لأنهم
يُفضِّلون أن تقوم أحكامهم على عَرْض لا شخصي للأسباب. خبرتهم في التجريد والتعميم تهمل
الفرد الإنساني الفريد وتنحو نحو «التفكير الإحصائي». يبدي هذا النمط استجابة لكلمات
من
قبيل الموضوعي، والمعايير، والقوانين، والمبادئ، والمقولات، والمقاييس، والتحليل،
والثبات. وما دامت الأنماط المفكرة تُشكِّل الغالبية العظمى من العلماء، وما دامت
مؤسَّسات العلم تُحبِّذ هذا الأساس اللاشخصي للاختيار، فغالبًا ما يُنْظَر إلى العلماء
على أنهم مُفكِّرون في أعلى العِلِّيين، وروَّج العلم ذاته لسمعتهم بوصفهم «على
بُرُود»، و«بلا قلب». مثلًا، في المسلسل التلفزيوني
Star
Trek يصور سبوك (
Spock) المسئولين
عن العلم، وكأن الواحد منهم شبيه فلكان
١٤⋆
(الفُلكانات كيانات منطقية خالصة) ومُعطًى معرفي، إنسان أوتوماتيكي عاجز عن
الشعور.
وظيفة الشعور
يستخدم يونج مصطلح وظيفة الشعور للإشارة إلى طريقتنا في تقييم شيء ما على أنه جدير.
وبوصفه مصطلحًا مترجَمًا عن الألمانية، ربما كان من الأدق أن نسميه وظيفة التقييم أو
تحديد القيمة. إنه ليس مجرد عاطفة؛ فالعواطف تكون من قبيل الحبور والاستثارة والغضب
والخوف والعار، وبوصفه جانبًا من جوانب البنية البشرية، إنما يقوم بتبصير كل الوظائف.
وتُرسِي وظيفة الشعور أُسس الأحكام على الوقع الشخصي الذي قد يتركه شيء ما على البشر
أصحاب الشأن. وقد وضعت آن دي فور A. de Vore، وهي
المعاونة النفسية في كلية للهندسة، تقريرًا عمَّا يحدث في حالة غياب هذه الفحوى
للترابطية الذي ينبع من وظيفة الشعور:
بينا كان رئيس قسم الهندسة الكيميائية في إجازة يوم السبت المُقدَّس بإنجلترا، صوَّت
أعضاء مجلس القسم الأحد عشر (ستة في مُقابِل خمسة) على تنصيب رئيس جديد للقسم. ولا أحد
من الكلية أخبر رئيس القسم القديم بأنه أُزيح مِن منصبه. وحين عاد إلى القسم، دَعَت
الزوجات في الكلية قرينته إلى عشاء في الخارج وأخبرْنَها أن زوجها لم يَعُد رئيسًا
للقسم. وهكذا اكتُشِف الأمر. كل أولئك الرجال كانوا أصحاب نمط التفكير ولا يستطيعون
التعامل مع الشعور. وحين وجب على عميد الكلية أن يفصل الطلبة غير الجادِّين، لم يمتلك
الكياسة لكي يُخبرَهم بنفسه. جعل سكرتيرته تُخبرهم، وترَكَها لتتعامل مع الناشئة التي
تولول.
١٥
إن وظيفة الشعور تخلق الدفء حيثما تُوجَد البرودة، وتخلق الجمال حيثما يوجد القُبح.
وتؤدِّي، في شكلها الانبساطي، إلى مهارات اجتماعية في الحث والإقناع، وتَبْني جسورًا
بين البشر، يميل أصحاب أنماط الشعور إلى الاستجابة الإيجابية لكلمات من قَبيل ذاتي،
وقِيم، وإنساني، وخير أو شر، وتلطيف الظروف، والانسجام، والسياق، والكيفية.
إن أصحاب نمط الشعور لديهم حِسٌّ قوي بالقيم، ويستجيبون بتلقائية للبشر والأحداث
والأفكار. وأحكام الشعور لها عَقلانِيَّتها الخاصة بها القائمة على حِس ملائم مشحوذ
جيدًا، حِس بالخير والشر، الصواب والخطأ، الجميل والقبيح، وبمستويات الأهمية والانسجام.
تعتمد مثل هذه الأحكام على سياق الموقف، بدلًا من أن تَعتمد على فِئة من القواعد
الموصوفة. ومن حيث هي هكذا، يمكنها أن تُلقِي أُسس تقييم الأولويات والأخلاقيات في
العلم، العلم الذي رزح طويلًا تحت نِير الدَّعوَى «بالخلو من القيم». وعلى أية حال،
أحكام أصحاب نمط الشعور دائمًا ما تبدو حيثياتها غير معقولة أمام أصحاب نمط التفكير؛
لأنها قائمة على أساس القيم بدلًا من أن تقوم على أساس المَنطق، وهم بهذا المغزى
يتحدَّثون لغة مختلفة. وحين يكون شيء ما ذا أهمية بالنسبة لذي نمط الشعور، فلا شيء
البتة سيقف في سبيل تحقيقه. وسوف تلاقي العقلنة أو الاستنتاج المنطقي رفضًا إذا كان
ثَمَّة شعور بأنها شر أو خطأ. مثلًا، سيبدو غير ملائم بالمَرَّة النظر إلى القيمة
الذاتية للغابات المطيرة، أو الحيوانات التي تُواجِه خطر الانقراض بوصفها ذريعة تنتقص
من أرباح صناعة الأخشاب.
وفي عملية تَعلُّم استخدام وظيفة الشعور لديَّ، وجدتُ أن جسدي يمكن أن يكون أداة
حساسة. إن جسدي يستجيب في أمور الجماليات: يشعر بالسلاسة و«النعومة الداخلية» إذ أرنو
إلى زهرة وأستشعر هزة بألوانها التي تعتلج. وحين آخذ أخلاقيات الموقف في الاعتبار،
تخبرني وخزة في أحشائي «ليس ثَمَّة شعور بأن هذا صواب» آخَرون قد يستجيبون بإحساس
بالضغط أو عدم الارتياح. قد يشعرون بجسدهم يَتردَّد أو يستجيب بالخوف أو الجفول أو
البهجة أو الاستثارة. إلا أن آخَرِين قد ينظرون إلى جسدهم فقط من أجل شعور فوري إيجابي
أو سلبي بالانجذاب أو النفور. وعَبْر هذه السبل، يمكن لمشاعر الجسد وعواطفه أن تُعطِي
المحتوى لوظيفة الشعور من أجل إصدار أحكام القيمة. وحين الالتجاء لأحكام القيمة، في
المناقشات، لاحظتُ أن المستمِعِين يَتريَّثون بُرْهة قبل الاستجابة؛ لأنهم في حاجة إلى
بعض الوقت كي «يستشرفوا الأمر من خلال أجسادهم». وغالبًا ما يُسجَّل هذا التباطؤ الزمني
على أصحاب نمط الشعور؛ لأن أصحاب نمط التفكير عادة ما يَستجيبون بعقولهم استجابة
أسرع.
ها هو ذا الفيزيائي إبرهارد ريدل وعيناه تَلمعان إذ يقول إنه يستشير جَسَده بشأن صواب
معادلة ما. وعلى الرغم من أن جَسَده غالبًا ما يقول: «لستُ أفهم هذا»، فإن ريدل يُنصِت
إلى مشاعره قبل أن ينشر نظرياته:
إن المعادَلة بالنسبة لي شيء ما دينامي، ذو مُتغيِّرات عديدة. إنك تكتب المعادلة
وتُعبِّر عن أحد المتغيرات في حدود عدد من الباراميترات
١٦⋆
الأخرى، التي نَعتبِر بعضًا منها راسخًا أو ثابتًا. وتعمل عقلك في الأحجية ويَحدُث شيء
ما لأحد المتغيِّرات التي ربطتها بفيزياء يفترض أن تَصفها. يجب أن أحتويها داخلي
وأتساءل «هل يمكن أن يكون ذلك صوابًا؟ هل يتَّفِق مع إحساسي بالعملية؟»
١٧
يوضح ريدل، عن طريق استشارة جسده شأن المعادلة، كيف يستطيع الجسد أن يُبصر وظيفة
الشعور بالحكم بما إذا كان شيء ما صوابًا أم خطأ ونستطيع أن نتعلَّم بالتدريج كيف
نستجمع المحتوى من كل أجزاء ذواتنا، وليس من الرءوس فقط.
إن الشعور، في العلم، هو الوظيفة التي تتساءل عمَّا إذا كان مشروع ما مثل مشروع
الجينوم البشري يستحق الاضطلاع به — ما إذا كانت كل الجينات في الكروموسومات البشرية
تستحق أن نُحدِّد تَتابُعَها — بينما تظل وظيفة التفكير مهمة لتحديد تَتابُع قواعد
الجينوم البشري «لأنَّها قائمة» وتستمسك بفكرة «العلم من أجل العلم»، «المعرفة من أجل
المعرفة». تُعطِينا وظيفة التفكير المُقدِّمة القائلة «إن كل بحث علمي يستحق في حد ذاته
الاضطلاع به» ومن الناحية الأخرى، تتساءل وظيفة الشعور عن أولوية المشروع وعواقب
المعرفة: ماذا سنفعل بمعرفة الجينوم البشري؟ مَن الذي سيُعطَى حق الوصول إلى هذه
المعارف؟ وهل سيتم الانحياز ضد أشخاص حين يتقدَّمُون لوظائف أو للحصول على تأمين إذا
كان تكوينهم يحوي جينات لإدمان الكحول أو انفصام الشخصية أو مرض أَلْزْهايمِر؟ ما هي
المشاريع البحثية التي سنُضحِّي بها من أجل تحويل التمويل إلى تحديد تتابُع الجينوم
البشري؟ هل من الضروري تحديد تتابُع الجينوم بأسْرِه، أم يجب إعطاء الأولوية لجينات
مختارة؟ وما دام ٩٥٪ من الجينوم البشري نُسمِّيه في الوقت الراهن «لَغوًا»، فهل من
الأهم اكتشاف معنى هذا اللغو أم التركيز على الجينات التي نعتقد أنها تُسبِّب أمراضًا
معيَّنة؟ لسْتُ أقصد الهجوم على هذا المشروع بالذَّات، بل فقط أن أعطي مثالًا على
التساؤلات التي يُثيرُها نمط الشعور في دوره الناقد. كثيرون من العلماء يَمقُتون هذه
الأسئلة الشائكة عمَّا نُقدِّره حق التقدير؛ لأنها قد تَعوق الطريق. في إثارة مثل هذا
السؤال، غالبًا ما يكون ثَمَّة صمْت حائر، ورَوَغان في البصائر، وحينئذٍ يعود بنا
النقاش إلى الخوض في إنجاز المهمة.
على أية حال، أرسى جيمس واطسون
١٨⋆ سابقة
غير معهودة حينما أصبح مديرًا لمشروع الجينوم البشري في المعاهد القومية للصحة. فقد
أعلن أن نسبة مئوية محدَّدة من ميزانية المشروع سوف تخصص للنظر في المسائل الأخلاقية
والقانونية والاجتماعية التي يثيرها البحث. وحسبما أعرف، هذه هي المرة الأولى التي
يُخصَّص فيها تمويل منذ بداية مشروع للنظر في عواقبه الاجتماعية، بينما يشق العلم
طريقه. إن فريق العمل المُتَّحد في المسائل الأخلاقية والقانونية والاجتماعية التابع
للمعاهد القومية للصِّحَّة – قسم الطاقة، قد دعا إلى مهمة بينية تفرِض أوراقًا بحثية
لتحديد المسائل وتطوير السياسات وتتكفَّل بها. جَمعَت وِرَش العمل بين أناس لم يَعتادوا
أن يتحدَّثوا معًا: العلماء العاملين في الأبحاث والمُمارسِين لعلاج المَرْضى والمعنيين
بأخلاقيات البيولوجيا، ودارسي الإنسانيات. وكنتيجة لمثل هذه التفاعلات بينهم، يَضْطَلع
بعض علماء البيولوجيا الجزيئية الآن بمواجهة شد ما هو مُحتَمَل من نتائج قصيرة الأمد
لأبحاثهم: بسبب وجود فترات زمنية مُحتمَلة قد تَمتَد إلى سنوات أو عقود، تقع بين تحديد
التَّسلسُل الجيني وبين الأمراض الوراثية المُرتبطة به، يمكن الحيلولة دون التَّشوُّهات
الوراثية ومنع الاستعداد للإصابة بأمراض مُعيَّنة عن طريق التشخيص الذي يتم قبل الولادة
وإجهاض الأجِنَّة المُشوَّهة. هكذا نجد المعرفة بالدنا
D.N.A البشري تُثير مَسائل عن القيمة والجدارة
تُجبِرنا على مواجَهة تساؤلات أساسية حول معنى وغرض الحياة البشرية. مثلًا، بينما تُعلي
حضارتنا من شأن الصحة البدنية، والقُدرات العقلية، فإنها تُهمِل إلى حد كبير قيمة الصحة
العاطفية والروحية، وهي مجالات ذات أهمية مكافئة في الوضع البَشري، ويمكن أن نتعلَّم
عنها الكثير من أولئك «المُشوَّهين» أو «العاجزِين». ولسوء الحظ، فإن دوائر النقاش التي
تَمَّت برعاية فريق العمل التابع للمعاهد القومية للصحة — قسم الطاقة — لم تَضمُّ
النساء الحوامل والأُناس العاجزين:
لقد شرع علماء آخَرُون، مُستخدمِين وظيفة الشعور لديهم، في طرح تساؤل حول ما إذا
كانت
«ممارَسة العلم الجيد» كافية. كتَب روبرت سِنشيمر R.
Sinsheimer الرئيس السابق لقسم البيولوجيا في معهد كاليفورنيا
للتكنولوجيا، يقول:
إن المَعاهد العلمية، كمعهد كَلْتك ومَعاهد أخرى، تُكرِّس أكبر قدر من الطاقة والجهد
والمواهب من أجل تقدُّم العلم. إنَّنا نرفع قيمة التمويل، ونُقدِّم المَعامل، ونُدرِّب
الطلاب وما إليه. وفي القيام بهذا نُطبِّق أساسًا معيارًا واحدًا — يجعل العلم من حيث
هو علم جيدًا — وهو أن العمل مُبتكَر، أُنجِز بمهارة، ويَحتلُّ قَصَب السَّبْق في
مجاله. وإذ نَدنُو من نهاية القرن العشرين، هل يُعَد هذا كافيًا؟ هل تلتزم كَلْتك
والمَعاهد العلمية الأخرى، وبوصفها مؤسَّسات اجتماعية، بمتابَعة النواتج المُحتملة
للأبحاث التي ترعاها؟ وإذا كانت تضطلع بمثل تلك المسئولية، فبأية كيفية تفعل هذا؟
١٩
وينتهي سِنشيمر، بشيء من الأسف، إلى أن العلماء قد لا يُكونون مَهيَّئين لمواجَهة
مثل
هذه التساؤلات. وينادي بالتركيز على السياق الاجتماعي للعلم وتأثير العلم على مُجمَل
الحياة على سطح الأرض. ويشعر سنشيمر بأنه بات لِزامًا علينا أن نَنتَقي مَشاريع أبحاث
موائمة للسياق الاجتماعي، كأحرى من أن نعمل بفكرة المعرفة من أجل المعرفة. وبنبْرَة
مُماثِلة، كتب روبرت مورِسون R. Morison المدير السابق
للعلوم الطبية والطبيعية في مؤسَّسة روكفلر يقول:
على مَدى رَدَح من الزَّمن طويل إلى درجة مهولة، والمجتمع العلمي يَؤُم حياة معيَّنة
لم يضعها موضِع التساؤل … وبكل تواضُع، يجب … الإقرار بأنه من المستحيل بتاتًا إنكار
أنَّنا قد بَلغْنا موضعًا حيث يجب أن نهجر الاعتقاد بأن المعرفة (في كل الحالات) أفضل
من الجهل. إننا ببساطة نفتقر إلى القُدرة على وضْع تنبُّؤات دقيقة.
٢٠
لعل وظيفة التفكير من بين الوظائف السيكولوجية الأربع، هي آخِر ما يتمثل في الحياة
العاملة للعالِم. وفي الواقع جَرى إهمال وظيفة التفكير إلى حدٍّ زعم معه الكثيرون أن
العلم خِلْو من القيمة. ومع هذا، فإن وظيفة التفكير جوهرية في وضع تَميِيزات دقيقة بين
الأولويات، وفي تقييم أهمية مشروع البحث، وفي جَنْي مَغانم الأفكار وتَبيُّن القيمة
الجمالية وفرض أخلاقيات الموقف. إن التفكير والشعور كليهما لَبيب في وظائف التمييز.
ليست وظيفة الشعور انفعالية أو ارتجالية أو مُشوَّشة، بل هي بالأحرى تَستنِد إلى طائفة
من القواعد، تضع وظيفة الشعور الأحكام المُتعلِّقة بالموقِف والسياق.
تُبيِّن لنا مارشَا لاندولت
M. Landolt أستاذ المصايد
في كلية علوم البحار والمصايد بجامعة واشنطن، كيف أن تساؤلات السياق تدخُل في صميم بنية
الحياة اليومية للعالِم. لاحظَتْ أنها تستعين كثيرًا ﺑ «… الاستثارة الكبيرة التي ستحدث
من تفاصيل إجراء جديد أو أداة جزيئية مُؤنقة بعض الشيء.» أنا التي يمكن أن أقول: «أجَل»
ولكنْ ما هو السؤال؟ أنتم على حَق في أن هذا رائع، ولكنْ ما الذي سنفعله به؟ «ثمة
مقارَبة مختلفة.»
٢١ وبدلًا من أن تجعل مارشا لاندولت باستخدام الأداة المُؤنَّقة فقط في
تَراكُم المزيد من الوقائع، فإنها تَستخدِم وظيفة الشعور لديها في السؤال عن أهمية
المعرفة التي يُحتَمل أن نَجنيها، وفي تحديد أولويتها بالنسبة للأسئلة التي يمكن أن
تُثار، وفي اختيار العمل الذي سيخضع للتطوير. وقبل أن تستثمر وقْتَها وطاقتها، تريد أن
تعرف كيف يمكن أن ترتبط الواقعة الجديدة بالصورة الأوسع. وحين سألتُ عن كيفية استجابة
زملائها لهذه الأسئلة، قالتْ: «إنها تختلف. هي في العادة واقِع جيِّد يُعايَن، وعادة
يبدون لي في وضعهم الأليف حين القول: آه، في واقع الأمر ليس في ذهني سؤال، فقط أردتُ
أن
أتعلَّم كيف أفعل ذلك.»
٢٢
وبينما يكون تعلُّم استخدام أدوات جديدة ضروريًّا، نكون نحن أكثر كفاءة إذا اضْطلَعنا
بهذه المهمة عن وعي داخَل سياق أرحب. يتفَوَّق العلم الحديث في تطبيق التكنولوجيا لحل
مشاكل محدَّدة تحديدًا جيدًا. ولكن غالبًا ما نقع نحن في شِراك سلسلة حلزونية من طرح
أسئلة؛ لأننا نملك أدوات الإجابة عليها، للتَّسلِّي بها أو لنُحرِز إضافة لقائمة
الأبحاث المنشورة. وبينما نَجِد التَّسلية وتوصيل المَعارف جوانب مدهِشة للعلم، نَجِد
تقدُّم العلم واتِّجاهَه يعتمد على الأسئلة التي نطرحُها. تُعبِّر أسئلتنا عن رؤيتنا،
تقودنا إلى خِضَم المستقبَل، وتركز الأضواء على المدى المجهول. تُشابِه الطبيعة إلى
حدٍّ كبير إمام مذهب الزِّن Zen الذي ينتظر حتى يَطرَح
الطالبُ السؤالَ السديد؛ فحينئذٍ فقط يكون الطالبُ مستعدًّا للاستماع إلى الإجابة. إن
السؤال هو الخطوة الأولى نحو الحكمة. وتَستطيع وظيفة الشعور أن تُرشِدنا إلى الأسئلة
المهمة وأن تساعدنا لتَفهُّم جوهر الطبيعة، بدلًا من تجميع طائفة من الوقائع المُنظَّمة
جيدًا.
تتبنَّى لاندولت دورًا مشابِهًا في تمثيل وظيفة الشعور، وذلك حين تُسدِي النُّصح
للطلاب المُكافحِين. تسألهم عمَّا يُحبِّذون ويريدون، عمَّا يُعلِون من قيمته، وما الذي
كانوا يَوَدُّون أن يفعلوه:
أميل إلى الجلوس مع الطالب لأقول: «هيَّا انتبِه، هل التحقْتَ بهذا المجال عن خطأ؟»
لعلهم لم يُفكِّروا في هذا أبدًا، أو حتى إذا كانوا قد فعلوا، فبَعْد عامين من قَبول
منحة مالية منا قد تَرتعِد أوصالهم إذا كان عليهم أن يقولوا «كنتُ أُقرِّر الالتحاق
بكلية الحقوق.» لكنِّي نصحتُ اثنين أو ثلاثة من الطلاب بقولي: «هيَّا انتبِه، نعم
التجربة لا تجري في مَسارها. ولكن ثَمَّة ما يُزعجك أكثر من هذه الواقعة، فما هو؟» ربما
كان هذا من ناحية ما لأنني أرغب لو أن أحدًا كان قد تحدَّث معي مبكرًا، وسألَني: هل
تُحبِّين هذا فعلًا؟ هل تَستمتعين به؟ لستُ أدري كيفَ كان يمكن أن تأتي الإجابة؛ لأن
ثَمَّة بالتأكيد جانبًا مِنِّي لا يستمتع بهذا، لكنَّ ثَمَّة جانبًا آخر يَزدهي حقًّا
به. وإذا أمكن العود إلى الوراء في الزمن عشرين عامًا فرُبَّما سأتخذ هذا المسار نفسه
بالضبط.
٢٣
وعلى أساس مِن قِيمِنا يَقوم الشُّعور باجتزاز الأشياء عن طريق التمييز والنَّبْذ.
إنه يُخبرُنا بما نريده وما لا نريده، ما نحبه وما لا نحبه، بدلًا من ذلك الذي ينبغي
أن
نفعله على أساس العقل أو ما يُفترَض أن نُحبَّه. نستطيع من الناحية المنطقية أن نُقنِع
أنفُسَنا بأي شيء. وفي الحد الأقصى، نستطيع تبرير عَمِلَة من قبيل تَجارِب النازي
الطبية على اليهود
٢٤⋆ بقائمة
من الأسباب المعقولة. لكنَّ شيئًا ما داخلنا يُخبرُنا بأنه خطأ. إن الشعور يقينًا من
إلحاق الضَّرر بأنفسنا وبالآخرين. وبعد أن تَتخِذ وظيفة الشعور القرار، نستطيع حينئذٍ
أن نُدعِّم قرارنا بالوقائع والأسباب.
في الأجواء التي يكون تَمويل البحوث فيها شحيحًا، لزامًا على المَعاهد العلمية أن
تُقرِّر أي الأبحاث يَستحق التمويل، وعلى أساس «العِلم الجيد» فقط. وتُعلِّق بيجي
جونسون على نفور المُحكِّمِين من إصدار أحكام الاستحقاق على أساس وظيفة الشعور:
كان دَور قِسم الدراسات [وهو لجنة تحكيم النُّظَراء] كما رأيتُه مَعنِيًّا في المقام
الأول بمسألة تصنيف المِنَح الدراسية في حدود كيفية جعلها مطروحة معًا بشكل جيد، بغير
محاولة إدخال عامِل «هل ستؤدي بهذه الصورة إلى مزيد من اقتحام الآفاق أو مزيد من تقدم
العلم؟» في الوضع الراهن، يتدخل هذا في الأمر ربَّما أكثر ما كان مقصودًا منه؛ لأنه
حينما تكون خمسون في المائة على الأقل منحًا جيدة، لكنك تعلم أن خمس عشرة في المائة فقط
هي التي ستظفر بالتمويل، فحينئذٍ ستبدأ تشديدات أكثر لتَصطنِع ما يراه قسم الدراسات
علمًا مهمًّا. إن الذين عملوا في الماضي في قسم الدراسات، في أجواء مختلفة للتمويل، هم
على الخصوص الذين ينزعجون من وضْع مِثل هذه الأنواع من الأحكام؛ لأنَّها تُعارِض
المقدِّمة القائلة: إن كل بحث في العلوم الأساسية له قِيمتُه. وهذا يجعلها عملية مؤلِمة
كثيرًا لأعضاء دورة الانعقاد.
٢٥
لاحظَتْ جونسون أن المحكِّمِين في مرات عديدة يُسجِّلون نقاطًا أعلى للبحث الذي يَعِد
بتقدُّم ذي اعتبار في المعرفة العلمية، أو بتحسين الصحة البشرية، أو حفظ الحياة. إنهم
يرفعون من قيمة البحث الذي يتقدَّم به باحث له طريقة مُستجَدَّة للنظر إلى شيء ما يمكن
أن يتمخَّض عن اقتحام للآفاق ويؤُدِّي إلى فَهْم أفضل لحيِّز ظل راكدًا على مدى عقود
من
الزمان، إلا أنَّهم، في بعض الحالات، يأخُذُون اعتبارات أخرى في الحسبان. وعلى سبيل
المثال كان ثَمَّة مقاوَمة لإعطاء نقاط ضعيفة لباحث أكبر سنًّا كان قد أسهم في العلم
على مدى خمسين عامًا. وإذ يفعل المُحكِّمون هذا، فإنهم اختاروا أن يأخذوا في حُسبانهم
قيمة عَملِه السابق في سياق استحقاق المِنحة موضِع النظر. وفي حالات أخرى، يكون
المُحكِّمون مَعنيِّين برعاية إسهامات متوقَّعة من باحثِين شُبَّان واعدِين. في هذه
القرارات جميعًا، لا بُدَّ أن يَتجاوَز المُحكِّمون وظيفة التَّفكير لديهم ويصطنعون
أحكامًا قيمية.
وأيضًا في تقييم أخلاقيات البحث تَتدخَّل وظيفة الشعور في صُلب العلم. وبهذا المَغزى،
يقوم الشعور بوظيفة أخلاقية. في حالات كثيرة، ثَمَّة مُخاطَرة نَتجشَّمها في الحصول على
المعرفة. وبالتالي يجب أن نُقيِّم الأمر: ما هو ثَمن المعرفة؟ هل يستحق الأمر الاضطلاع
بتلك المُخاطَرة من أَجْل المعرفة المُجرَّدة، على سبيل ممارَسة لعبة العلم؟ هل تستحق
المعرفة التي نظفر بها أن نختبر مستحضَرات التجميل على الأرانب، أو عَزْل قرود
الشمبانزي التي تُحِب التجمُّع في أقفاص مَعدنية من أَجْل دراسة سيكولوجية، أو
المخاطَرة بمستوى صحة مَريض من أَجْل اختبار عَقار جديد؟ في بعض الأحيان أجل، وفي بعضها
الآخَر ربما لا. ويَنبغي مُعالَجة كل حالة على حدة. هيئات تَحكيم المَعاهد، ولِجان
تحكيم النُّظراء، كِلا الطَّرفَين مُكلَّف بفرض الأبعاد الأخلاقية في البحث المقترَح.
وفي مواضع عديدة تَختصُّ بالمِنح التي لها طبيعة إكلينيكية، هم مكلَّفون بضمان أن
الذوات البشرية تَلقَى المُعامَلة اللائقة، ودخلَت في مجال التجربة عن مُوافَقة وعلم
بكل الظروف. قالت بيجي جونسون:
أحد الأشياء المُلقاة على عاتِقنا النَّظَر فيما إذا كان أي شيء لا أخلاقيًّا.
والمُعتاد في قِسم الدراسات أن ذلك سوف يَعنِي استخدام المَرضَى بصورة غير لائقة.
مثلًا، تَطلَّبَت إحدى المِنَح الدراسية التي حَكَّمتُها تنفيذ إجراء طبي على طفل صغير
جدًّا. في قسم الدراسات هذا كان نصف الأعضاء على الأقل حامِلِين لدرجة الدكتوراه في
الطب، وكان ثَمَّة قَلق عظيم عَبَّروا عنه بأنه ليس أخلاقيًّا إخضاع طِفل صغير لهذا
الإجراء من أَجْل مُواصلة البحث العلمي. وُضِعت تلك المسائل في نصابها حتى إن المسئول
عن المَعاهد القومية للصحة أُحِيط علمًا بهذه المشكلة. وأيضًا، طُولبْنَا بضمان قطعي
لأن نضَع في اعتبارنا حين التحكيم أية مِنَح تَستخدِم حيوانات في الأبحاث وتوحي بأنها
ستفعل أي شيء لا إنساني.
٢٦
في العام ١٩٩١م طُولِبتْ أقسام الدراسات في المعاهد القومية للصحة لأول مرة بتقييم
مشاريع الأبحاث المقدَّمة للمِنَح من حيث جنس الخاضِعِين للدراسة، وبمراقبة النِّسبة
التقريبية للاختلاط بين الرجال والنساء الذين يشملهم البحث.
إن ذوي الأنماط الشعورية مَعنِيُّون بالغايات العليا والقِيَم في كل الأنشطة،
بالجدارة التي تُميِّز الفرد. وبدلًا من التحيز للاستنتاج المنطقي، يزن ذو النمط
الشعوري بعناية عواقب الموقِف بالنِّسبة لكل أصحاب الشأن فيه. يهيب كل موقف باستجابة
فريدة. النَّمط الشعوري له وعي حادٌّ بمُجمَل شَبَكة العلاقات التي تتأثَّر
بالموقِف.
حين يدرك بشَر أنهم اشتَطُّوا في اتجاه واحد، فتلك لعنة أو كارثة حلَّت بهم. مثلًا،
من دون التوازُن عن طريق الشعور، يُصبِح الفيزيائيون ذوو النَّمَط المُفكِّر في مشروع
مانهاتن غارقِين في حل مشاكل الانشطار النووي المُهمَّة حتى إنهم يفقدون استبصار
المأساة البَشرية الآتية من جرَّاء قُنبُلتِهم، يستطيع النمط الشعوري أن يَهدِي العلماء
إلى رفض إجراء بحث يشعرون أنه خطأ، أو يمكن أن يُسيء المجتمَع استغلاله. وثَمَّة على،
سبيل المثال، ليز ميتنر
L. Meitner، وهي أوَّل من قام
بحساب الطاقة الهائلة التي يمكن أن تنطلق عن انقسام ذرَّة اليورانيوم، وقد أبَتْ أن
تقوم بدور في مشروع مانهاتن. وعلى الرغم من دعوَتِها للعمل في تطوير القنبلة، فقد
عارضَت تحويل «أرضها الواعدة بالطاقة الذَّرِّية» إلى سلاح وأعلنَت أنها ترجو إخفاق المشروع
٢٧ والمرعِب أنَّ كشْفَها سرعان ما تحوَّل إلى مِثْل ذلك السلاح الخبيث، لقد
عَمِلت من أجْل التعاون الدولي لمنع الاستخدام المُدمِّر للطاقة الذرية. وبعد أن انمحق
البَشَر بفعل الرجل السمين والصبي الصغير (هكذا سُمِّيت القنبلتان) وتحوَّلَت هيروشيما
وناجازاكي إلى هَشيم وأطلال دوارِس، علقت ميتنر قائلة: «تتحمَّل النساء مسئولية عظمى
وهُنَّ ملزَمات بأن يحاولن قَدْر المُستطاع منع نُشوب حرب أخرى.» أشعر أن هذا عبء يجب
أن نُشارِك جميعًا في حَلِّه.
وفي آونة أحدَث، وقَّع الفيزيائيون في الجامعات والطَّلبة المتخرِّجون في أقسام
الفيزياء على عريضة يتعَهَّدون فيها بألَّا يعملوا في مبادَرة الدفاع الاستراتيجي (حرب
الكواكب). ومنذ العام ١٩٩١م تضع الحكومة الفيدرالية مِيزانية اثنين وخمسين في المائة
من
اعتماداتها من أجْل بحْث وتطوير مَجال الدفاع الحربي (مقارنة ﺑ ١٣٫٨٪ من أجْل الصحة
والخدمات الاجتماعية، و٠٫٦٪ من أجل حماية البيئة، و١٫٨٪ من أجل الزراعة)،
٢٨ هؤلاء العلماء يُخاطِرون بِفقْد اعتمادات مالية من أَجْل حِسِّهم الأخلاقي.
تستطيع وظيفة التفكير أن تساعدنا في اتخاذ القرار بشأن البحث الذي نجريه والبحث الذي
نعارضه بأن تعيد تأطير تعريفاتنا للتقدُّم والنجاح في العلم. وسوف نناقش في الفصل
الحادي عشر دَوْر وظيفة الشعور في خَلْق حِس بالمسئولية الاجتماعية لدى العلماء.
العارفون العاطفيون
لاحَظ يونج أن الحب والقوة يستبعد كلاهما الآخر.
٢٩ إذا سِرْنا من منطلق الحب، فلن تشغلَنا حينئذٍ الحاجة إلى التَّحكم في
موضوع وُجدانَاتنا. ومن الناحية الأخرى إذا سادت القوة العلاقة فلن يدخلها الحب. إذا
قال أحدُهم إنه يفعل شيئًا ما ضد إرادتنا «من أَجْل صالحنا»، فإنهم يَتحدَّثون بلغة
القوة، وليس بلغة الحب. الشعور يأتي العلم بطراز من البحث مدفوع بحب الطبيعة، بدلًا من
الرَّغْبَة في التحكم. الانبهار بجمال الطبيعة، الإحساس العاطفي بالعمل، الاستثارة
بتعلُّم أشياء جديدة، الحبور برؤية نموذج ينبثق، الوجد في الاكتشاف، التَّلذُّذ بالبحث
عن الحقيقة، الابتهاج بالعلاقات مع الزملاء، هذه المشاعر يمكن أن تُلهِم بالتحليل
المنطقي للمُشكِلات المهمة، وأن تعمل على إنمائه.
أصحاب النَّزعة البنائية الذين تصفهم بِلِينكي وزميلاتها هم عارفون عاطفيون،
«العارفون الذين يدخلون في وحدة مع ما سيُعْرَف.»
٣٠ مثل هذا الارتباط بالطبيعة ينشأ عن الإخلاص للآخَرين. وفي مُقابِل دافع
التَّنبُّؤ والسيطرة، فإن العلماء الذين هم عارفون عاطفيون يريدون أن يعرفوا بسبب الحب،
تمامًا كالتَّوْق العاطفي من العاشق تجاه المعشوق.
تفحص إيفيلين فوكس كيلر في كتابها «تأمُّلات في الجَنْوَسة والعلم» أُسس الافتراضات
المفطورة في العلم وذلك عن طريق استكشاف لغتها وتعبيراتها المجازية. فهي تضع مثلًا
تعارضًا بين العارف الأفلاطوني الذي يَسترشِد بالحُب في بحثه عن «الاقتراب والوحدة» مع
الطبيعة الجوهرية للأشياء، وبين العالم البِيكُوني الذي يُرادِف بين المعرفة والقوة.
وبينما كتَب السيميائي باراسيلسوس
Paracelsus٣١⋆ أنَّ
«جذور فنِّ الطب تصدُر عن القلب»، وأن سُبل العلاج الشافي نكتشفها عن طريق «الحب
الصادق»، حذَّرَنا جوزيف جلانفيل عضو الجمعية الملكية من أن «وجداناتنا يسهل أن تغوي
أفهامنا بسب قوة سلطانها علينا.»
٣٢ على العكس من هذا، بحث السيميائيون في عصر النهضة عن التعاون بين الذَّكَر
والأنثى، واستخدَموا الزَّواج كتعبير مَجازي عن مبدأ الانسجام الذي يَكمُن خلْف علاقة
الروح بالمادة، والعقل بالطبيعة. كتب السيميائي جيامباتستا ديلا بورتا
G. Della Porta في القرن السادس عشر «أن العالَم
بأسْرِه مُتشابك ومترابط بصُلْب ذاته؛ لأن العالَم مخلوق حي، الذَّكَر والأنثى كلاهما
في كل نحو من أنحائه، وتَقترِن أجزاؤه معًا … بسبب الحب المتبادَل بينهما.»
٣٣
وأيضًا عالِم عصر النهضة وفنَّانه ليوناردو دافينشي (١٤٥٢–١٥١٩م) تناوَل دراسة
الطبيعة بخشوع ورهبة. جمعَتْ رسوماته التشريحية بين الملاحَظة الدقيقة والحِس المُرهَف
بالجمال. حب عظيم لكل شيء في الطبيعة ألهمه بدراساته للحشرات والنباتات.
٣٤⋆ كتب
يقول:
يولَد الحب العظيم عن معرفة عظيمة بالأشياء التي يحبها المرء. وإذا لم تفهمها تستطيع
أن تُعجَب بها فقط إعجابًا كسيحًا، أو لن تُعجَب بها إطلاقًا، وإذا أحببتَها لمجرَّد
الخير الذي تنتظره منها، وليس بسبب حاصل صفاتها، فأنت حينئذٍ كالكلب الذي يهز ذيله لشخص
يعطيه عَظْمَة. الحب وليد المعرفة، ويكون الحب عميقًا بقدر ما تكون المعرفة مؤكَّدة،
الحب يغزو الأشياء جميعًا.
٣٥
هذه العاطفة نحو معرفة الطبيعة كمعشوق واصَلَت دفْعَها لحركات تَدور في الخفاء بين
العلماء المُحدَثين في سائر مجالات الدَّرس. تدرُس بيكا ديكشتين B.
Dickstein التَّعايُش التكافُلي
symbiosis (أنْ يُقيم اثْنان من الكائنات العضوية
غير متماثِلَين وشيجة نفعية متبادَلة، من قبيل حزاز الصخر الذي تَشكَّل من طحالب
وفطريات) أساسًا على مستوى البيولوجيا الجزيئية، لكنها أيضًا تَجاوزَت التفاصيل الصغيرة
بخطوة أبْعَد وتحدَّثَت برهبة وانبهار عن جمال نموذج المنظومة لديها. وعلى العكس من
القالب النمطي للعالِم المنفصل عن موضوعه، تشعر ديكشتين بالانغماس الحميم في موضوعات
بَحثِها وهي تَفكُّ شفرة حِوار جيني بين الفِصَّة
alfalfa وإِلْفِها من البكتيريا المثبِّتَة
للنيتروجين:
«جزء من ماهيتي، جزء من تكويني، مِنِّي أنا، الأرض والسماء والعلياء والزجاج
المُبَرْقش والألوان التي أُحبها، ليس هذا فحسب، بل أيضًا
الدنا.
D.N.A والتعايش التَّكافُلي، والنباتات قد
أصبحت بِشكل ما جزءًا مكمِّلًا لي. بهجة عظيمة ألقاها دائمًا حين التفكير في التعايش
التَّكافُلي، التَّفكير في سُبل الفِصَّة وكفيلها المجهري [البكتيريا المُثبِّتة
للنيتروجين] في تبادُلِهما الحديث معًا حتى إنهما يستطيعان الذهاب معًا لقضاء شئونهما.
هذا العلم مُبهِج، ويعني الكثير جدًّا بالنسبة لي.»
٣٦
يَمَس جَمال الطبيعة شِغاف قلبها، في عمَلِها وفي حياتها الشخصية على السواء. تُنْصِت
بمجامعها إلى الفِصَّة وهي تدعو البكتيريا للقيام معًا بالمَهامِّ المعيشية ويبحثان
حدود علاقتهما. تتأمَّل ديكشتين التعايُش التكافلي، وأنه موضوع فريد للبحث النِّسْوي،
ما دام يَتضمَّن نوعين مُختلِفَين من الكائنات العضوية يَشقَّان طريقًا لكي يَنسجَا
معًا خيوط حياتيهما حتى إنَّ كلًّا منهما يخرُج بمغنم من هذه العلاقة، موقِف المكسب
المتبادَل بين الطرفين. وسوف نستكشف في الفصل الثامن كيف أن التعايُش التَّكافلي
يَهبُنا نموذجًا بيولوجيًّا للتعاون.
شعور الارتباط بالطبيعة
بينما أمتطي صهوة تأليف هذا الكتاب، وجدْتُ نفرًا من النِّسوة يُحيِّرُهن السؤال
«ماذا تشعرين إزاء عملك؟» الحديث عمَّا فعلْنَه يريحُهن أكثر من الحديث عمَّا يَشعُرن
به إزاءه. أُخرَيات يُرحِّبْن بفرصة الكَشْف عن عالَم الشعور الخبيء، وهُن في العادة
يَتركْنَه مسكوتًا عنه.
في أُمسية لتناوُل الشَّاي والحَلْوى بغُرفة المعيشة لدى صديقتي، تحدَّثَت ثلاث نساء
من علماء بيولوجيا الخلية عن عملهن. كانت لُغتُهن ودودة وشخصية، وفي بعض الأحيان
عاطفية. حين تَحدَّثْن عن الخلايا، أحْسَسْن بنشوة ماثلة. تَناوبَت على أصواتهن دورات
من الحَماس والانشراح، ثم الصَّمْت والتضاؤل والرَّهبة. في البداية تبادَلْن نظرات
مُستتِرة، ارتَبكْن قليلًا بالمشاعر الجيَّاشة التي انبثَقَت. أوْجَزَتْ سيجريد ميردال
S. Myrdal وهي من كبار العلماء العاملِين في بحوث
السرطان في بريستول-مايرز سكويب؛ عِلَّة انشراحهن فقالت:
«حين تنظرين من المِجْهَر تَرَينَ حياة؛ أشياء تتحرَّك أمام ناظريك، أو تصبغينها
فتتبلوَر: ألياف كِراتين جميلة، أو فيبرونكتين وأكتين، أو خلايا سرطانية لها تلك
الأذرُع والتجَعُّدات الجميلة على الحوافِّ. إنها مليحة! تنطوي على جماليات. الغالبية
العظمى من الرجال لن يَفهمُوها أبدًا، لكني عرفتُ فتًى تَفهَّم هذا حقًّا، وأحسَب أن
هذا ربَّما كان بسبب الأُنْثَوِية فيه.»
٣٧
أولئك الباحثات شَعرْن بالترابط مع موضوع بحثهن، حرَّك جمال الطبيعة مشاعرهن، بدلًا
من أن يرصدنها ببرود من عَلٍ. مشاعر الرهبة والخشوع من هذا القبيل لا تُسبِّب انحيازًا
أو حُيودًا في نتائج البحث. وبدلًا من هذا تَخلُق انفتاحًا على التعلُّم. وتمامًا كما
يُثير عشق المعشوق فضولنا لأن نعرف كل شيء عنه، فإنَّ حُب الكائنات (أو الظواهر) يستحضر
الرغبة في المعرفة.
وفيما يبدو، ليس ثَمَّة أي كائن عضوي أقل من أن يستحق الحب. وها هي إنجريث ديرب-أولسن
I. Deyrup-Olsen أستاذ علم الحيوان في جامعة واشنطن
في سياتل، وتبلغ من العمر سبعين عامًا، تصف لنا بحبور وبهجة موضوع بحثها، «رخويات
البَزَّاقة العريانة slugs»:
معظَم الناس يعتقدون أن «البَزَّاقة العريانة، لا شيء البتة!» لكنك حيثما تشرع في
دراسة كائن حي، يأخذك الانبهار بجماله وتعقيده. وأنا دائمًا أذهل وتتحرك مشاعري بطريقة
هذه الحيوانات في حل المشاكل المَهولة التي تواجهها، والتي دائمًا ما تكون فعلًا عين
مشاكلنا نحن. وبلَغ بي الأمر احترامًا وإعجابًا متينين، وأيضًا وجدْت أن هذا مجالٌ
مُدهِش ليضم غير العلماء. لحظة تشرع في أن تبين للناس كيف أن البَزَّاقات مُعقَّدة
جدًّا، وأنها حيوانات مثيرة للاهتمام لها احتياجاتها ومَطالبها، يبدأ الناس في النظر
إليها نظرة مختلفة تمامًا. لقد تأثَّرَت كثيرًا بأصالة البَزَّاقة والدينامية الهائلة
فيها لمواصلة الحياة. وأخيرًا أحسب أن هذا هو الذي جعَلَني أواصل الطريق، وليس يهم كيف
كانت التجارب مُخيِّبة للآمال في ذلك الوقت.
٣٨
ها هنا تُلمِّح ديرب-أولسن إلى جوانب عديدة من الترابطية: الحب والاحترام العميقين
للبَزَّاقات، التعاطف مع مَشاكلها، وتقدير التعقيد في الكائن العضوي ككل، العلاقة
الحميمة مع غير العلماء، حِس بالمساواة حتى إن دراسة سُبل البَزَّاقات لمواجَهة
احتياجاتها يمكن أن تُعلِّمَنا شيئًا ما عن أنفسنا.
معظم ما كُتِب عن النساء العالِمات يصف إنجازاتهن العلمية، ونادرًا ما تحاول تلك
الكتابات استكشاف معتقَدات المرأة وقِيَمها وتوجُّهاتها نحو العلم ومقارَباتها إياه.
وكاستثناء لهذا نجد كِتاب إيفيلين فوكس كيلر «شعور بالكائن الحي: حياة وأعمال بربارة
ماك كلينتوك» يُجسِّد قيم مبدأ الأُنْثَوية. تناوَلَت ماك كلينتوك، بوصفها عالِمة
جينات، موضوع دراستها بخشوع وتواضع. وبدلًا من أن تَنفصِل عاطفيًّا عن موضوعات دراستها
باتَت مُشبَّعة حتى النخاع بنباتاتها، نباتات الذُّرة. وفي وصْف عملها، يحمل قاموسها
مُفرَدات الوجدان والقربى والتعاطف، بدلًا من مفرَدات التَّعارُك والنِّضال ومَعنى
المواجَهة. وكمثال على هذا، تقول:
٣٩
«لا نَباتَيْن متماثلان تمامًا. كلها تختلف، وكمحصِّلة لهذا، لزامًا عليك أن تعرف
هذا
الاختلاف. أنا أبدأ بالنَّبْتة الصغيرة، ولا أريد أن أتركها. لا أشعر أني عرفتُ القصة
حقيقةً إذا لم أَرقُب النبات بكل السُّبل على طول المَدى، هكذا أعرف كل نبتة في الحقل.
أعرفها معرفة حميمة، وأجِد بهجة حَميمة في معرفتها.»
٤٠
ليس العلم بالنِّسبَة لماك كلينتوك قائمًا على أساس الانفصال بين الذات والموضوع،
بل
بالأحْرى على المُجامَلة كشكْل من أشكال الحب. وبينما يَركَن العديد من علماء الوراثة
الآخَرِين إلى الإحصاء وحساب الاحتمالات، تريد ماك كلينتوك أن تعرف كل مُفرَدة. ما كان
الشعور بالكائن الحي أن يُضفي انحيازًا، أو يعرقل عمل ماك كلينتوك أبدًا، دانى بينها
وبين الكروموسومات التي تدرسها، وشد من عضدها كعالِمة:
«اكتشفتُ أنني كلَّما عَملتُ أكثر وأكثر مع الكروموسومات، باتَت هي أكبر وأكبر، وحين
أعمل معها فعلًا لا أكون أبدًا خارجَها، كنتُ في خِضَمِّها. كنتُ جزءًا من المنظومة،
كنتُ معها بكل ما في الكلمة من معنًى، وكل شيء بات أكبر وأكبر. بل كنتُ قادرة على رؤية
الأجزاء الداخلية من الكروموسومات، كان كل شيء مطروحًا حقيقة. أذهلني هذا لأنني شعرتُ
كما لو كنتُ في عالَمها بكل ما في الكلمة من معنًى، وكانت الكروموسومات أصدقائي … حين
تنظر إلى هذه الأشياء تصبح جزءًا منك. وتنسى نفسك.»
٤١
وأيضًا تضرب ماك كلينتوك مثالًا على وظيفة الشعور فيما يتعلَّق بالنواتج
والمُعقِّبات. حين تتفكر مليًّا في المآسي البيئية مثل «قناة لاف»،
٤٢⋆ توبخ
العلماء لانكبابهم على مَحْض تَراكُم المعلومات، بغير أن يَتريَّثوا للنَّظَر في الأمر،
وعلى تطبيق التكنولوجيا من دون النظر في تَضمُّناتها:
«لقد أفْسدْنَا البيئة بهذه الصورة المُريعة مُعتقدِين أننا كنا بارِعِين؛ لأننا
استخدمْنَا تقنيات العلم … كنا نَفترِض افتراضات ليس لنا الحق في افتراضها … لم نكن
نُمعِن النَّظَر فيها، بل فقط نَتقيَّؤها … التكنولوجيا بارعة، لكنَّ العلماء
والمهندسين يُفكِّرون في مشاكلها من جانب واحد فقط. يقومون بحل جوانب معيَّنة، وليس
المشكلة في جُملَتها، وكنتيجة لهذا ترتد المشكلة صَفْعة على وجوهنا بالغة القسوة.»
٤٣
ماك كلينتوك مُنشغِلة البال دائمًا بالتعقيد الخبيء الذي يكمن حتَّى في أكثر
المنظومات دقة ووضوحًا في المَعالم، فتحذِّر من طرْح الافتراضات حول كيفية عمل المنظومة
ككلٍّ إذا كانت هذه الافتراضات قائمة على معرفة ببعض الجوانب فقط إنها تَنصحُنا
بمقارَبة الطبيعة بتواضع.
حين يكتب العلماء عن الطبيعة، ننتظر منهم أن يتَّخذوا منظور المراقب المنفصل. الورقة
البحثية تُجاهِد للتواصل مع المفاهيم اللاعاطفية إذ هي مكتوبة بنبرة سلبية خِلْو من
الشعور. يصدر هذا الانفصال عن العهود الأولى للجمعية الملكية في لندن وكَتَب هنري
أولدنبرج، أول سكرتير للجمعية الملكية، يقول: «يتَّسِم الطبيعيون الفرنسيون بالاستطراد
أكثر من اتسامهم بالفاعلية والسِّمة التجريبية. وفي الوقت نفسه يصدق القول الإيطالي
المأثور:
Le parole sono femmine, i fati
maschii (الكلمات مؤنَّثة، أما الوقائع، أو بالأحرى
الأفعال، فهي مُذكَّرة).»
٤٤ وبالتالي، يُجرِّد العلماء أحاديثهم من كل بلاغة غير ضرورية. وكتب جوزيف
جلانفيل، نصير الجمعية الملكية وبَطلُها، «أنَّ المعنى الرُّجولي الذي يَتدفَّق ببلاغة
طبيعية وغير مُتكلَّفة، يُرضيه أكثر من إيقاع وتشويق الاستعارات المَجازية، وتراقُص
اللغة المُنمَّقة بالمُحسِّنات البديعة.»
٤٥
ومع هذا جرُؤت قليلات من العالِمات؛ أمثال راشيل كارسن R.
Carson على أن يَنفُخْن رُوح الدهشة في كتاباتهن. لم تَستطع كارسن
أن تفصل الجَمال عن الطبيعة، ورأت الجمال مُكمِّلًا للعلم، وحين تسلمت جائزة الكتاب
القومي عن كتابها «البحر مِن حولنا» في العام ١٩٥٢م قالت:
«هدَف العلم اكتشاف الحقيقة وجَلْوُها، وأنا أُسلِّم بأن هذا هو هدف الأدب، سواء
أكان
سيرة ذاتية أو تاريخًا أو قصصًا وروايات؛ لذا يبدو لي أنه لا يمكن فصل الأدب عن العلم
…
وإذا كان ثَمَّة أشعار في كتابي عن البحر، فليس هذا لأني تَعمَّدْت أن أضعَها فيه، ولكن
لأن أحدًا لا يستطيع أن يكتب بصدق عن البحر وينصرف عن الشعر.»
٤٦
أما كتابها اللاحق «الربيع الصامت»، فيستجوب اتجاه المجتمَع الصناعي نحو العالَم
الطبيعي. انصب هذا العمل على الآثار البيئية للمبيدات الحشرية، ومن أجْل زعزعة الثِّقة
في هذا الكتاب أسْمَى النقاد كارسن «عاشقة الطير»، و«عاشقة الهِرَّة»، و«عاشقة
الأسماك». وهذه الألقاب، في واقع الأمر، مَقصود بها الانتقاص من قَدْرها، مما يبين كيف
أن الكشف عن الشعور يُعَد مُخاطَرة في عالَم العلم. ولكن وظيفة الشعور لدى كارسن دفَعتْ
بها نحو إدراك مُعقِّبات الاستخدام الواسع النطاق للمبيدات الحشرية؛ كانت شديدة العناية
بالمخلوقات التي تَدُب على البسيطة حتى وضعَتْ وثيقة شديدة التدقيق في تفاصيل تلك
المُعقِّبات.
شعور الارتباط بالطبيعة لا ينطبق فقط على علماء البيولوجيا وشعورهم بالكائنات الحية،
إنه ينطبِق بالمثل على فيزيائيين؛ أمثال: إبرهارد ريدل، وعلى متخصصين في الأرصاد
الجوية، وعلى مهندسين، على كل العلماء. كانت إحدى المهندسات يراودها وهي طفلة حَلم
الحصول على وظيفة بحيث يمكنها أن تَستيقظ في الصباح وتقول «آه يا فتاي، أنا ذاهبة لأفعل
شيئًا مُسلِّيًا!» بدلَا من أن تقول، «آه يا رَجُلي أنا ذاهبة لأفعل شيئًا أمقُته فقط
لأجلب نفقات ضرورية للمنزل.» وقد حققت طموحها والآن تُعبِّر بحماسة مفرِطة عن تَفرُّد
كل منشأة، حتى ولو كانت المنشآت جميعها مُشيَّدة عن التصميم نفسه. عشقها للإنشاءات
يَبثُّ الحياة في أعطاف عَملِها. قالت بتحمس: «إنها مَحْض كائنات صريحة وجميلة! أمكثُ
ها هنا وأنظر من النافذة إلى منشآت ماثلة الآن، وما هي إلا شيء يُمتَثل جميلًا لطيفًا.
ومن الوجهة الجمالية المحضة، أنا أعشقها حقًّا!»
منظورات مُستجَدَّة
إن شعور الارتباط بالطبيعة يَحُول بيننا وبين التعامل مع «مُنتَجات» الأرض وكأنها
مجرَّد بضائع لاستعمالها والاستغناء عنها. وعلى مدار السنين أشعر بالرعب بفعل بعض من
المنتجات التي أخرجها العلم كنتيجة لانفصاله عن الطبيعة. مثلًا، تقوم شركة وييرهويزر
Weyerhaeuser بتسويق مُنتَج أَسمَتْه المتداخل
Interiorized نباتات-نباتات حقيقية، منذ ظهور طلائع
أشجار البلوط حتى بلوغها ستَّة عشر قدمًا طولًا يتم تحنيطها بعملية كيميائية تحفظها في
«حالة تشبه حالة الحياة» لا تتطلب النباتاتُ ضوء الشمس، أو الرَّي، أو التَّشذيب
والتقليم، أو السيطرة على الحشرات الضارة، أو إعادة وضْعِها في أُصص، لينتج عنها بضاعة
جدباء «بلا فوضى، بلا هرج أو مرج» خلو من الحياة. وتَعرِض شركة أخرى خدمة تجفيف
الحيوانات المنزلية للأسرة لحفظها في حالة مُتجمِّدة فيستطيع صاحب الحيوان أن يضعه
قريبًا من المدفأة ويزعم أن كلبه الأليف لم يَمُت أبدًا. ويمكن الآن فعلًا ترخيص براءات
اختراع حول جوانب من فيض جينات الطبيعة. ويَقبَل مكتب براءات الاختراع والعلامات
التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية طَلبات الحصول على براءة اختراع أشكال من
الحياة. ويضع تعريفًا للكائنات الحية المُهندَسة وراثيًّا بأنها «تخليق أو تأليف
للمادة.»
بينت سيي مونتجمري S. Montgomery في كتابها «نزهة مع
القردة العليا» كيف أن جان جودال J. Goodall، وديانا
فوسي D. Fossey، وبيريوت جالديكاس B.
Galdikas قد ركَّزْنَ على الفروق بين الأفراد (وهذه سمة دامغة
لوظيفة الشعور). حين بَدأْنَ عملهن كُنَّ واقعات تحت ضغوط لكي يتحدَّثْن عن الذكور
البالغة والإناث البالغة، ويُشِرنَ إلى الحيوانات بالأرقام. لقد عمل علماء الإيثولوجيا
على التنظير للآليات التي تَكمُن خلْف السلوك بصفة عامة، بدلًا من اكتشاف الدوافع
الفردية للاستجابات المختلفة. وحتى ذهبت جان جودال إلى جومب ريزيرف
Gombe Reserve لم يكن أحد البتة قادرًا على دراسة
حيوانات الشمبانزي في البراري. حاولت جان جودال أن تفكر كما تفكر قرود الشمبانزي، وأن
تتخيل ماذا يكون عليه الأمر لو أنك واحد منها، مما فتح أمامها المجال لطرح تساؤلات
جديدة عن العلاقات وأشكال السلوك الفردية. وفي وقت أحدث، دفَعَها حبُّها للشمبانزي إلى
الدفاع عنها في البراري، وبالمِثْل العمل على تحسين أوضاع حياتها في حدائق الحيوان
والمختبَرات.
لقد ترعرع نجاح جان جودال عن حبها وأُلْفتها مع قردة الشمبانزي. تعلَّمَت لغتها، لغة
لُهاث الأنفاس المُتقطِّعة، والزَّمجرة، وإطلاق الصيحات، وتعبيرات الوجه. وكشأن ماك
كلينتوك مع نباتاتها — نباتات الذرة، عرفَت جودال كل قرد من قردة الشمبانزي على حِدَة.
أعطَتْ كلًّا منها اسمًا (فلو، فلنت، ديفيد، جريبرد، فيفي، السيد ورزل)، عَرَفَت
أُسَرها وتتبُّع مَسيرتها عَبْر الحياة. وبسبب حبها للحيوانات التي راقَبَتْها، خاضَت
في منحدَرات غرارة عَبْر غابات تبدو غير قابلة للاختراق، عانتْ من الملاريا، وذبابات
التسي تسي، واعتلال الصحة. وبفَضْل صبر جودال وتفانيها، باتَت أوَّلَ من رصَد طُرُز
الأدوات التي شاعَت في عالم الشمبانزي (وكان يُظَنُّ من قَبْل أنها أدوات إنسانية على
الأصالة). ولكن المُشْرِف على بحث جان جودال للتَّخرُّج دفَعَها إلى إجراء قياسات
وتحليلات رقمية، بدلًا من توصيفات مُداعَبة الشمبانزي «فلو» لوليدها «فلنت». وحين
تقدَّمَت بأول ورقة بحثية لها للتحكيم من أَجْل النشر العلمي، أعادها إليها المُحرِّر
مُصِرًّا على أن تضع أرقامًا لحيوانات الشمبانزي بدلًا من إطلاق الأسماء عليها. وأيضًا
حذَف المُحرِّر إشارات إلى الشمبانزي بضمائر الأشخاص، ووضع بدلًا منها إشارات إليها
كحيوانات. ولحُسْن الحظ، حين رفَضَت جودال إجراء التعديلات، نَشَروا البحث كيفما اتفق.
يأتي هذا الإصرار على الخصوصية، على الفوارق الفردية، من وظيفة الشعور التي تُقاوِم
«التفكير الإحصائي».
يستخدم الباحث كاواي ماساو رئيس الأساقفة الذُّكور الكلمة اليابانية كيوكان (التي
تُتَرجَم يشعر-بالواحد) لتعني «أن يصبح منشغلًا بحياة القرود؛ حيث الشعور المتبادَل من
خلال القنوات الحدسية.»
٤٧ وبدلًا من مُجرَّد العمل على تجميع جدَاول للمعطَيات والمَعلومات الإحصائية
عن سلوك الحيوان، فإن هذه المقارَبة تهيب بالعلماء أن يَعرِفوا كل فرد، وأن يبحروا مع
الحيوان وينظروا إلى الحياة بعيونه، أن يُتِيحوا لأنفسهم التَّحوُّل والتَّبدُّل عن
طريق مشارَكة الحيوان حياته؛ لكي يَرَوا ما لا يستطيع أن يراه البشر العاديُّون. يومئ
عمل عالِمات من أمثال: ماك كلينتوك، وجودال إلى أن القُدرة على التَّوحُّد مع موضوع
الدراسة، الشعور بالقربى والتواصل، يفضي إلى معرفة أعمق. الكيوكان أو «الشعور بالكائن
الحي» لا يحل مَحل المعلومات التي نخرج بها عن طريق المقارَبة الإحصائية. الأحرى أن
يتكامل معها عن طريق استخدام وظيفة الشُّعور لفهم أهمية وتفرُّد الفَرد. وتمامًا كما
يتحدَّث الكُتَّاب بأكثر الصيغ عمومية حين يكشفون عن مشاعرهم الشخصية جدًّا، يستطيع
العلماء بالمِثل أن يكتشفوا العالم في «حبة رمل». وبهذا المعنى يكون الشعور ضروريًّا
لاكتشاف الحقيقة وإنتاج أفضل علم.
حين نفكر في أنفُسِنا بوصْفِنا أبناء وبنات الطبيعة، وشركاء الطبيعة، نفكر مرتين
قبل
أن نُسيء إليها. يعلق رائد الفضاء تيلور وانج T. Wang
عن خِبرته برؤية جمال الأرض من الفضاء:
يقولون إذا كنتَ ستخوض في الترحالات، فلتجلس بعيدًا عن النافذة. بالنسبة لي، كنتُ
منشغلًا تمامًا وأنا في المركبة الفضائية «دروب دينامِكس»، حتى إنني لم أظَفَر بمجرَّد
فرصة للنَّظر من النافذة إلا في اليوم الأخير من رِحلتنا عَبْر الفضاء، ولكن حين نظرتُ
انبهرتُ حقيقة. تتحدَّث أقصوصة صينية عن بضعة رجال أُرسِلوا للنَّيل من فتاة صغيرة؛ وإذ
طالَعوا جمالها، باتوا حُماة لها لا مُغتصِبِين إياها. وهذا هو ما شعرتُ به حين رأيتُ
كوكب الأرض لأوَّل مرة. «لم أكن أملك إلا أن أحبها وأُدلِّلها.»
٤٨
إن الشعور بالتواصل مع الطبيعة يخلق نزوعًا لحبها واحترامها. حب جودال لحيوانات
الشمبانزي دفعَها لأن تحميها، وحُب الأرض يمكن بالطريقة نفسها أن يجعلنا نقوم برعايتها
على أفضل وجه. وبالعقل المطبوع على الحب والاحترام، يغدو البحث حوارًا مع الطبيعة بدلًا
من «وضْعِها على المخلعة
٤٩⋆
واستنطاقها أسرارها»، على نحو ما نَعت فرنسيس بيكون قوة العلم الرجولية في اقتحام
الطبيعة وإخضاعها.
الوُد في العلم
بشراسةٍ ناهَضَ علماء رحلات أبوللو إلى القمر الفكرة القائلة إن الوُدَّ له أدنى
علاقة بعملهم، ومع هذا، فالعلم نشاط اجتماعي إلى حد كبير؛ إنه يعتمد على بشر يَتعاوَنون
ويتقاسمون عملهم. نوعية تفاعُل العلاقات بين الأشخاص ومَشاعرهم تُلقِي بثقلها على نوعية
العمل الذي يقومون به، على الرغم من أن الكثيرين قد يميلون لإنكار هذا، ويَحصرون
مشاعرهم في نطاق حياتهم الشخصية في المنزل. والسِّمة الدامغة للاحتراف المِهَني هي ألا
تكشف عن شعورك، وأن تكون واقعيًّا ومقتدرًا، واثقًا وموثوقًا به. ويعني هذا بشكل عام
ألا تكشف عن شعورك بأنَّك قابِل للانجراح. إلا أننا في البيئة الودودة نستطيع أن نجعل
أنفُسَنا إنسانيين بالمعنى الأتم. نستطيع أن نمارس الاستكشاف مُتحرِّرين من القلق خشية
أن نبدو حمقى.
في بعض الأحيان تذهب عالِمة الجو كريستينا كتزاروس
K.
Katsaros في جولات تكون فيها المرأة الوحيدة. وفي إحدى هذه الرحلات
ارتكب واحد من ملَّاحي السفينة غَلطة شنيعة، دمَّر معها فرصة الحصول على مجموعة بيانات
برنامج المُقايَسة. وبالتالي راح هذا الرَّجل الذي كان في العادة بشوشًا مُبتسمًا يجول
في السفينة وقد غطَّتْ وجْهَه سيماءُ الكآبة. أبدت كريستينا الاهتمام بمشاعر الحزن التي
سيطرَت عليه، وأكَّدَت له أن أحدًا لن يُسجِّل عليه هذه الغلطة بصفته الشخصية. ومَنَحه
هذا فرصةَ التعبير عن أسفه؛ إذ كان سببًا في مثل هذه الانتكاسة الكبيرة. وفيما بَعدُ
عَبَّر كبير العلماء عن تقديره لتلطيفها الأوضاع. قال أحد زملائها: «أنتِ رائعة فعلًا
في هذه التجربة. عادة ما تَضطرم الأمزجة في مثل هذه الأحوال. هناك فارق كبير بحضورك،
وقد لاحظتُ هذا مرات عديدة من قبل.» وعلى الرغم من أن العناية بمشاعر البشر ليست
بالضرورة جزءًا من العمل، فإنَّها تُزكِّي مزيدًا من التواصل وتبادُل المساعدة
والتعاون. كثيرون من زملاء كريستينا الرجال قالوا إنهم يُحبِّذون وجود امرأة في مجال
العمل؛ لأن «الناس تَتصرَّف بصورة أكثر تحضُّرًا إلى حد ما».
٥٠
قد يبدو هذا أمرًا سطحيًّا، لكن نبرة الشعور تُلَطِّف البيئة وتُخفِّف من حِدَّة
الضغط. قدْر أكبر من الطاقة يمكن أن ينطلق في اتجاه الأنشطة الخلَّاقة، وقدْر أقل في
اتجاه المناورات الدفاعية، وذلك عن طريق مراعاة المشاعر، وخَلْق بيئة ودودة حيث يشعر
الناس بالارتياح وبأنَّهم محل تقدير. أما أن يَحوطنا دائمًا الضغط والتَّوتُّر فإن في
هذا استنزافًا. حين راعت كريستينا مشاعر الخِزْيان التي سيطَرَت على زميلها، جعلَت من
المُمكن له أن ينفث عن مشاعره ويبرأ منها بدلًا من أن تَفُتَّ في عضده، وحين كان قابعًا
في وضْع المُحتَرِس من الخطر، متوقِّعًا هجمة عليه بقارعة من التأنيب، تحوَّلَت طاقته
عن العمل الإنتاجي واتَّخذَت شكْل الاحتفاظ بِسَواتر دفاعية. أَجَلْ، تبدو مراعاة
الشعور شيئًا بغيضًا؛ فهي تَستهلِك الوقت والطاقة من أَجْل التعامل مع المشاعر، إنها
غير مريحة، ومع هذا إذا لم نُمارِسها فغالبًا ما يتوقَّف العمل.
وجدَت عالِمة الفيزياء الحيوية سينثيا هَجرتي C.
Haggerty أن وُدَّها وحماسها يُوجِدان شعورًا نافذًا بالاستثارة
والإبداعية في مُختبَرها:
أحببتُ ما كنتُ أقوم بعمله، وبات هذا أمرًا تنتقل عَدْواه. إذا رأيتُ شيئًا ما في
المجهر الإلكتروني وكان مُثيرًا وجديدًا، كنتُ أدعو الفَنِّيِّين في المُختبَر ليأتوا
ويَروا ما وجَدْتُه وأسأل: «ماذا تعتقدون بشأن هذا؟» أحدُهم وجَد قطاعًا من بيضة السمك
به فويهة متناهية الصِّغر حيث تختبئ نطفة في قلب البيضة. وكانت صورة عجيبة! … انبثقَتْ
منَّا استثارة تَتفشَّى بيننا. اتَّقَد حماس البعض في مُختبَري حتى إنهم عادوا قافِلِين
إلى مقاعد الدراسة، وبالتالي كان عَليَّ أن أُدرِّب أناسًا جُددًا. ولكن لَم أُبالِ
بمتاعِب تَغيِير فريق العمل؛ لأن هذا كان أمرًا طيِّبًا بالنِّسبة لهم، وكان أمرُا
سديدًا بالنسبة لهم.
٥١
أضفى حب هَجرتي لعمَلِها قوَّة وطيدة دافعة، لنفسها وللعامِلين مَعها على السواء،
وبسبب من هذا الحُب، كان الناس في مُختبرِها يَعملون أحيانًا حتى منتصف الليل أو خلال
عُطلة نهاية الأسبوع، من أَجْل البهجة الصافية في مُقاسمة اكتشافاتها مع العامِلين
معها. وفي الوقت نفسه كانوا ذَوي إنتاج غزير في مَجال الأبحاث المنشورة. هذه الدينامية
من الحُب الكامِن خَلْف العمل أوجَدَت مُختبَرًا مليئًا بالبهجة والضحك، وبالمِثل
تمامًا بالعمل الجادِّ.
في العلم، كما في الحياة، نَستخدم التفكير من أجْل غايات عينية: للتخطيط، للتدَبُّر،
للحساب، لاستنتاج الأشياء. يستطيع الشعور أن يُوسِّع من نطاق التفكير وأن يرفع من شأنه.
ولكن الشعور بمُفردِه يمكن أن يكون سلاسل تُطوِّق أعناقنا، تَستنْزِفنا بأشكال المَحبة
والتواصل، فتنهمر شِلال عواقب تُعرقِل خُطانا وتُعقِّدها، حين يرتبط التفكير والشعور
معًا بطريقة سيميائية، يفقد كل منهما الخاصَّة التي تَحدُّ من نِطاقه: يوسِّع الشعورُ
من الضِّيق العيني للتفكير؛ وفي الوقت نفسه يُوسِّع التفكير من سَلاسل المحبة التي
يفرضها الشعور إذا ترابَطَا معًا بصورة ملائمة، نستطيع أن نَردَّ هذا في شَكْل طريق
إبداعي جديد، طريق أكثر من مُجرَّد مُرونة اختيار أحد النَّمطَين أو الآخَر بوصفه
المُلائم للموقف. حين يَتَّحِد التفكير والشعور؛ يفقد كلاهما وَخْزَته، ويتبدَّلان. من
الناحية السيميائية، يَهَبنا اتحادُهما إكسير الحياة.
وما دام سيفُ العقل قد لَعب دورًا نافذًا في تُطوُّر العلم الحديث، دعونا الآن نَنتقل
لنرى ماذا يمكن أن يَهبَنا إيَّاه كأس التَّلقِّي.