التَّلقِّي واحد من خصائص الطراز البدائي للأُنْثَوية، ويُرمَز إليه بأشكال شتَّى
من
الأوعية، لا شكَّ أن هذا الترميز مأخوذ من الرَّحم من حيث هو وعاء مُنفتِح للإخصاب. ومنذ
عصر الهيروغليفيات المصرية، تَرمُز الأواني للأوعية التي يحدث فيها تمازُج واختلاط القُوى.
ويَحمِل المِرْجل السِّلْتي١⋆ قُوَى
التَّحوُّل ونَبْت التفريخ. وطويلًا ما رمَز القدَح وكأس خمر القُربان المسيحي إلى
الاحتواء. واحتوى الإنبيق تَفاعلات التَّحوُّل عند السيميائيين. ويتحدَّث علماء النَّفس
مَن
أتباع يونج عن المُحلِّل ليتقدَّم بوصفه «حاويًا» للعملية العلاجية. وداخِل الفرد يَحمل
اللاوعي دوَّامة احتمالات وإمكانِيَّات كَينُونَتنا الداخلية، كل المتقابِلات غير
المُتفاضِلة. وكما تُشير هذه الرُّموز للتَّلقِّي، تَحدُث عمليات مُعجِزة داخل الإناء
الذي
يبدو سلبيًّا.
إن التَّلقِّي الأُنْثَوي يَهَب العلم انفتاحًا على الإنصات للطبيعة والاستجابة فيما
يُشبه الحوار أو التَّشارُك مع الطبيعة. هذه مُقارَبة مختلفة تمامًا عن اتجاه كيميائي
القَرن السابع عشر روبرت بويل نحو الطبيعة التي أسماها «الحامل العظمى من الرب لحركتها
الذَّاتية». وكَتَب بويل يقول: إنه لا يمكن أن يكون ثَمَّة انتصار ذُكوري أعظم من «أن
تعرف
سُبُل أسر الطبيعة، وجَعْلها تفيد أغراضنا.»٢
«إنجاز» العلم
إننا نبخس قيمة التَّلقِّي في ثقافتنا الغربية، التي نزهو فيها بأننا «نعمل حق العمل
ونلهو حق اللهو». وفي أوان مُبكِّر نتعلم أن «العطاء أفضل من التلقي». العطاء يُشعِر
بالقوة وبالقدرة أكثر من التَّلقِّي. تُعلِي الثقافة الغربية من قِيمة ما هو مَرئي،
والفعالية مَرئِيَّة. أما ثِمار التَّلقِّي فهي، على أية حال، لا تَتبدَّى للعيان
فورًا.
في الحلبة العلمية الحامية الوطيس، يَشعُر لَفيف من العلماء أنهم لن يستطيعوا خَوْض
غمار المُنافَسة لو أنهم تَمهَّلُوا التَّمهُّل الكافي للتَّلقِّي. يَبدُون في مكوثهم
للتَّلقِّي وكأنهم لا يَفعلون شيئًا. والبدء من شيء غَير مهم هو عَينُه فَشَل الحمقى.
إن حضارتنا الغربية هي حضارة «الإنجاز». وفي العلم يعني هذا إجراء التجارب، كتابة
المشاريع والأبحاث، مُطالَعة الأدبيات، التدريس، الإدارة والتنفيذ، حضور اجتماعات
اللجان والمُؤتمَرات العلمية. ثَمَّة ضغط لا يَلين لكي تنتج، وأن تنتج شيئًا ما
مُرئِيًّا: مُعطيات، أوراق بحثية. وبسرعة. كثيرون من العلماء يَستنكرون على أنفسهم ألا
يَعملوا سِتِّين ساعة في الأسبوع ويَندفعون بِجنون لإنجاز التَّجرِبة التالية.
العلم الحديث — أساسًا — شيء بالِغ الأهمية. وقليلون هم العلماء الذين يمتلكون الصبر
على الأسئلة التي تَستغرق وقتًا طويلًا وتَتطلَّب الكثير من التفكير، تَتطلَّب الإنصات
وليس فقط العمل والإنجاز. إن الصبر ينطوي على المعاناة الطويلة، وعلى الامتثال للمسار.
وفي خاتمة المَطاف لا تبدو مراقبة البَزَّاقة العريانة على مدى ساعات مسألة فعَّالة أو
مُنتِجة كثيرًا. وبدلًا من أن ندع الطبيعة تَتكشَّف أمام أعيننا، علينا أن نَحثها
وندفعها، نُحلِّلها ونستخرج منها.
بطبيعة الحال، يختلف هذا من مجال إلى آخر، ومن فرد إلى آخر. وبالطبع يتوقَّف العلماء
للتفكير في مُعْطَياتهم وهم يُدوِّنون أبحاثهم ومشاريع الأبحاث المقدَّمة للمِنَح
الدراسية. قطعًا يُوجَد التَّلقِّي في العلم عندما يتفحَّص العلماء مُعطياتهم، عندما
يطالعون أعمال العلماء الآخَرِين ويستوعبونها، وعندما يُنصِتون إلى الزملاء. ولكن بدلًا
من أن نكون مُشاركِين أندادًا في مَنْشَط عُدواني الطابع، عادة ما يَحتلُّ التَّلقِّي
مقعدًا خلفيًّا. ثَمَّة إجبار على الاندفاع نحو المُختبَر، وإنجاز التجربة التالية،
بدلًا من الاسترخاء واستلهام الوحي، أو التَّرجُّل في نزهة خَلَوية بينما تَمُور
المعطَيات في مِرْجَل اللاوعي. وربما يبدو مَعيبًا مُجرَّد الزَّعْم بأن العلم كان
سيغْدُو أكثر تقدُّمًا لو أن الناس أجْرَوا تجارب أقل وقَضَوا وقتًا أطول على الشاطئ
يَتأمَّلون في عملهم.
هذه المِمْخَضة الفعَّالة يَكمُن خَلْفها عدد من المخاوف: إذا لم تَبدُ منشغلًا، فقد
تبدو غير جادٍّ، غير مُتفانٍ أو مُهتمٍّ، وربما يُحمِّلونك المزيد من المَهام التدريسية
أو أعباء حضور اجتماعات اللجان. أما إنجاز التجربة التالية فيُبيِّن أنك «في قمة
الانشغال» ومتملِّكًا لناصية الأمور، بينما يُبدِي التَّراجع إلى الخلف والتأمل شيئًا
من قبول التشكيك، لعلَّك لا تعرف ما الذي يجري أو ما الذي ينبغي إنجازُه في الخطوة
التالية. وإذا لم يحدث شيء، يَستبِدُّ بك الشعور بضياع الوقت سُدًى. يعتمد التَّلقي على
ثقة ضِمنِيَّة بأن ثَمَّة شيئًا ما ذا قيمة سنَتلقَّاه.
يَتطلَّب التَّلقِّي توقُّفًا عن الانشغال والنشاط، غير أنه مع هذا ليس سلبيًّا. إنه
يستدعي الصبر وإيقاظ الوعي والانفتاح والاستجابة. وكما تَدل رمزية الإناء، يحتوي
المُتلقِّي شيئًا ما حيث تَحدُث عملية التجميع وإعادة التجميع. ينبثق شيء مُستجد
بالكلية، عن التفاعلات والتحوُّلات والتَّبدُّلات التي تحدُث داخل الإناء. يَتضمَّن
التَّلقي تَمييزًا: القدرة على أن تقول لا، على أن ترفض وأن تأبَى التَّلقِّي، تمييزًا
يستخدم وظِيفتَي الشعور والتفكير للحُكم ما الذي نتَلقَّاه. أن تكون مُتلقِّيًا لا يعني
أن تكون سَلة مهمَلات تقبل كل شيء يُلقى فيها. إن التَّلقِّي مهم في العلم، في صورة
الملاحَظة، في صورة التأمل في المُعْطَيات وصورة الإنصات إلى الطبيعة. ويعني أيضًا أن
تَتلقَّى الآخَرِين، وأن يَتلقَّاك الآخَرون.
وبدلًا من أن تكون في وضع السيطرة على الأشياء والتلاعب بها، يعتمد التلقي على
ملاحَظة الأشياء وتَركِها تحدث، وأن تَدَع شيئًا ما مطويًّا في حينه. قد يبدو هذا
مَوقعًا غير مُحصَّن، مجرَّدًا من القوة وليس من البطولة في شيء. لا يمكن أن يكون
المُتلقِّي في عجلة من الأمر أو مُجبرًا أو مدفوعًا إنه يَتضمَّن الانفتاح والانتظار.
تصف إحدى المُهندِسات طريقتها في تصميم المُنشأة بوصفها عملية تلَقٍّ، وهي تَستعمل لغة
عضوية حيَّة غير مُتحذْلِقة تختلف اختلافًا جذريًّا عن لغة التحكُّم السُّلطوية:
«خِبْرَتي في هذا هي المزيد من أن أتركه يحدث، وأتركه يتنامى، بدلًا من فرضه. ثَمَّة
شيء ما عن مشروع مُراد إنشاؤه. ويمكنك أن تجاهد لتشكيله.»
نشاط العلماء في شَقِّ طريقهم إلى العمل يمكن أن يكون وسيلة لتفادي المشاعر، وعن طريق
التركيز على حَل الألغاز العقلية المهمة في الطبيعة، يمكن أن نَتجاهل حياتنا الشخصية
وحياتنا الجُوَّانية. أما مع التوقُّف للإنصات والتأمُّل في العلم، فيمكن لخَامة شخصية
طويلًا ما جرى كَبْتُها، أن تتأتَّى في الطليعة فتسترعي انتباهنا. قد تنبثق مشاعر الغضب
وعدم الارتياح وحِس باللامعنى. قد تكون هذه الخبرة مُخيفة وسرعان ما يتم استبعادها
بوصفها مَضيعة للوقت، تَشتُّت غير مُؤات خارج عن موضوع العلم. ولكن يجب أن نُدرِك
أنفسَنا أيضًا، بالإضافة إلى تَلقِّي الطبيعة في صورة مُعطَيات ومعلومات مفتوحة
للإدراك.
والآن لِنفحَص القوة والمقدرة المَفطورتَين في خاصِّيَّة التَّلقِّي الأُنْثَوية
ونستكشف معًا كيف يمكن تطبيقها على الممارَسة اليومية للعلم.
رحلة الاكتشاف
النُّزوع نحو الانفتاح يُفضي بالعلماء إلى الاكتشاف. ومن دون أفكار مُتصوَّرة قَبلًا،
يجد العلماء غُربة في الطبيعة ما كانوا ليستطيعوا توقُّعها في أكثر شَطحات خيالهم
جُموحًا. حقائق جديدة مَطويَّة، أمام أولئك الذين يُبصرون بعيونهم. لسوء الحظ، كثيرًا
ما تنسحب بعض الملاحَظات والأفكار الغريبة إلى هوامش العلم على مدى عقود أو قرون؛ لأنها
لا تَتفق مع المعتقَدات السائدة. مثلًا، الفَلكيون في الغرب، عَجزُوا بمعنى الكلمة عن
رُؤية التَّغيُّر في السموات؛ لأنهم اعتقَدوا أن السموات غير قابِلة للتَّغيُّر. ولم
يُسجِّل واحد منهم ظهور نجوم جديدة حتى فَتح كوبرنيقوس عقول الناس على إمكانية
التَّغيُّر في السموات. لم يكن مُجرَّد اختراع جاليليو للمِقْراب هو الذي أتاح
للفَلكيِّين «رؤية» المزيد. وفي تاريخ أسبق كثيرًا، سجَّل الصينيون، الذين لا تَمنع
مُعتقداتهم الكوزمولوجية التَّغيُّر في السماء، تَغيُّرات في السموات من قَبيل كلف
الشمس وظهور نجوم جديدة.٣
العلوم التي هي أساسًا علوم ملاحَظة كالفَلك تعتمد على التَّلقِّي أكثر من العلوم
التي تجري التجارب. يَسهُل التَّلاعُب بفئران المُختبَر وتَشريحها للأغراض العلمية،
وخلافًا لذلك يصعب دفْع الكون أو حَثُّه قليلًا. انْجذبَت عالِمة الفَلك باولا سزكودي
P. Szkody إلى دراسة النجوم المُتغيِّرة؛ لأنها
أحبَّت تصورًا مُفاده أنك لا تعرف أبدًا ما أنتَ بصدد اكتشافه:
دائمًا تفعل النجوم المُتغيِّرة أشياء مختلفة. إنها لا يمكن التَّنبُّؤ بها. ولعل
النجم الذي عَمِلتْ عليه هو أكثر النجوم المتغيرة من حيث عدم القابلية للتَّنبُّؤ. هذه
النجوم لا تسلك سلوكًا نظاميًّا. لقد انجذبَتْ إلى دائرة اللامعروف وغير اليقيني، وأن
ثَمَّة دائمًا شيئًا ما جديدًا لتكتشفه. وعندما تقوم بالرُّصُودات، عليك تفسير ما يحدث.٤
هذا مَغزًى للانفتاح يمكن أن يُؤدِّي إلى استبصارات جديدة وسُبل جديدة للنظر إلى
الكون. أبنية العقل المنطقية والتحليلية الواعية لها قيمة عظيمة، بَيْد أنها أيضًا
مَحدودة. وعن طريق التَّخلِّي عن أغراضنا الواعية، ترك بذور الأفكار تتساقط في تُربة
اللاوعي الخَصيبة، والثقة بعملية النمو، نَستطيع أن نَتمخَّض عن ثمار إبداعية عظيمة.
يعتقد عالِم فيزياء الجوامد النظرية إبرهارد ريدل أن التَّلقِّي ذو قيمة للعالِم مِثلما
هو ذو قيمة للِفنَّان. «من دون التلقي، من دون هذا النوع من السلاسة، كيف ستدع الشيء
الجديد يَتأتَّى في مَنالك، هذا السؤال عن الإبداعية قريب مني، وأريد أن أتناوله بطريقة
هَيِّنة ولينة.»٥
وبينما تغلب النظرة إلى العالِم والفنان بوصفهما مُتقابِلَين راسخين في طَرفَي
الطَّيف المنظور، نَجد أكثر العلماء نجاحًا ينظرون إلى عملهم كتعبير عن إبداع. إنهم
يُبدِعون نظريات جديدة وفهمًا جديدًا للعالَم ينشأ عنه تقنيات جديدة، وهذه بدورها
تُبدِع عالَمًا جديدًا من أَجْلِنا لنحيا فيه. التصورات الجديدة للواقع التي تَنشأ عن
العلم تُؤثِّر في فَلسفتنا وفي السُّبل التي نَسُوس بها حياتنا اليومية. وتمامًا كما
يحتاج العلماء لهذه السلاسة لتقدير وتَفهُّم شيء ما جديد، يجب بالمثل على مؤسَّسات
العلم (وكالات التَّمويل، ومُحرِّري المجلات العلمية، والعلماء أعضاء لجان المراجعة
والتحكيم) أن تَتلقَّى بهذه السلاسة ما يعرضه العلماء الأفراد. ولسوء الحظ، كثيرًا ما
تُخضِع مؤسَّسات العلم المُجادَلة المُتشكِّكة عديدًا من النظريات الجديدة للتَّشويش
أو
تُعْرِض عنها بدلًا من أن تستقبلها باحترام.
وجدت عالِمة البيولوجيا التطورية إيمي باكن A. Bakken
أن مُقارَبتها التي يسودها التَّلقِّي تَتعارَض مع المُقارَبة التقليدية في
مجالها:
«عندما كنتُ أُعِد أُطْروحتي للدكتوراه، ظَل المُشرِف على بحثي ينتظر مني أن أضع
تَنبُّؤات حول الكيفية التي يُمكِن أن تأتي بها المُعطَيات. ولم أَشأ أن أفعل هذا،
أردتُ أن أنتظِر وأرى. لم أشَأ أن أضَعَ أيَّة ظروف مُتصوَّرة قَبلًا لهذا … فليسَتِ
المسألة أن تُحاوِل فَرْض إجابات مُعيَّنة، بل إن الإجابات ما كانت لتكشف عن نفسها إذا
لم تثق فيها وتظل تعمل معها.»٦
مُجرَّد لغة باكِن في السماح للإجابات بأن «تكشف عن نفسها» تَختلف عن صورة «مُحاوَلات
الطرق المتكرِّرة» على المُشكِلة التي أسمعها تتردَّد دائمًا في العلم وبدلًا من هذا،
تُمهِّد باكن الطريق بواسطة تركيز انتباهها على المُشكلة ودعوة الإجابات بأن تُنصِت
إليها. حينئذٍ يَتبدَّل كل شيء بَغتة ويَكشِف جانبٌ من الطبيعة عن نفسه. وفي تَعارُض
مع
لغة بِيكون عن الصراع، تُشبِّه باكن مُقارَبتها للعلم بأن تدَع الزَّهرة تَتفتَّح
أمامك، لِترَى ما في داخلها، حَيثُ تَتضمَّن العملية كَياسة وحساسية تجاه جمال
الزَّهرة.
يتكون منهج العلم، أَساس العلم، من تشكيل فروض ثم اختبارها لنرى ما إذا كانت ذات
قيمة
تَنبُّؤية. ويَتَّخِذ عمل عالِمة الفيزياء الحيوية سينثيا هَجِرتي
Cynthia Haggerty شكلًا مُختلفًا وهي تَدرُس علم
أمراض الأسماك تحت مجهرها الإلكتروني. وجدَتْ هَجرتي أن عملها ينجح أكثر حين يكون لديها
أسئلة عامَّة مُجمَلة، ثم تُقيم منظومة اختبارية مفتوحة النهايات. وحين جلَست إلى
مجهرها الإلكتروني تساءَلت، «ماذا هنا ينتظرني لأراه؟ ماذا هنا ينتظرني لأعرفه؟ بماذا
تخبرني المادة عن العملية الحيوية، وعمَّا سيصير إليه المَرض؟» موقف التَّلقِّي هذا في
جوهره موقِف تَفانٍ، موقف مَن يأتي إلى المادة مُوقِّرًا إيَّاها، ويَطرَح عليها بعض
الأسئلة بتواضُع واحترام. ومردود هذا فيما قالَتْه هَجِّرتي عن أنها «تَلقَّت
هبة»:
«حينئذٍ بِتُّ حُرَّة في رؤية ما هنالك حقًّا، بدلًا من أن يكون لدَيَّ فكرة مُفتَرضة
قَبلًا عمَّا أريد أن أَجِدَه. وهكذا بات عليَّ أن أُكابِد مشقَّة تشكيل الصورة
بأَسْرها وتكديس مُجْمَل المادة التي تكشف «ماذا هنالك»، ثم أَشرَع في تصنيفها
وتعيينها، وأقول: «تَبدو المسألة على أن هذا هو الذي يحدث. هل نستطيع أن نَختبرها لنرى
ما إذا كانت صادقة حقًّا؟» وحينئذٍ فقط نُجرِي التجربة الدقيقة بالفعل لنحصل على
الإجابة بِنعم أو لا. جُماع العمل الذي قُمتُ به كان يَطرُق مجالًا جديدًا. الكثير من
المادة لم يكن اختبارًا لفرض كنتُ قد شَكَّلتُه فعلًا، بل كان ممارَسة فِعل المُلاحَظة
وإبداع مجالات جديدة للعمل. لقد عَشقتُ العمل! شَعرتُ بأنه شديد الإبداعية بالنسبة لي.»٧
وبعد اﻟ «آه، ياه!» المَبدئية يَتطلَّب الأمر خِبرة ومعرفة لِتدرك أن البيضة الذهبية
قد سَقطت في مُختبَرك. ثم يَتطلَّب كمًّا هائلًا من الخطوات المنطقية والتحليل والتركيب
من أَجْل ضَمِّ كل هذا معًا. وكان هذا يعني لهَجرتي أن كل ما رأتْه قَبلًا لا بُدَّ أن
يتواءم معًا في منظومة حَية وتَستنتج منها ما يُقال عن وظيفة الكائن العضوي ككل. إنها
تُلاحِظ ما يَعمَل وما يَفشَل، وتَندهَش لماذا تَختَمر المُلاحَظات داخل الحاوي الذي
هو
ذاتها. وفي المَجالات التي تعمل فيها وظائف الحَدس لديها بصورة أفضل، يكون عقْلُها قد
تَهيَّأ بسنوات من القراءة والملاحَظة والخبرة. وحين تَتلقَّى بعد هذا مُلاحَظات جديدة،
تَجد تلك الأفكار تَتشكَّل. في هيئة نَمَط عضوي من السُّبل، يَتضمَّن التحليل المنطقي
ولكن ليس يقوده المنطق. وفقط عند هذه النقطة تَشرع في التساؤل: هل هذا كذا أم كذا؟ وهي
تشعر أن الباحِثِين لا يستطيعون أن يعملوا بكفاءة في أي مجال جديد من مَجالات المعرفة
—
والعلم يكاد يكون معرفة جديدة — وهم مُثقَلون بأفكار مُتصوَّرة قَبلًا.
غالبًا ما نَسير بسرعة فائقة من مرحلة المُلاحَظة إلى استنتاج الفروض، ونَضَع
تَنبُّؤات ونُجري التجربة الدقيقة. ويَتطلَّب هذا إيمانًا قاطعًا في قيمة العملية
لِيؤيد النتائج التي ننتهي إليها ويُسمح للاحتمالات الأخرى بأن تطفو على سطح اللاوعي.
وتصف سيجريد ميردال الباحثة في السرطان مُقارَبتها «ليس بأن أُقرِّر الأمر أولًا بصورة
صحيحة تمامًا، بل فقط مُجرَّد نمط من الإنصات — فقط الإنصات — بغير أن تعرف كيف أنَّكَ
تُنصِت.»٨
لسوء الحظ، يَعتمد نظامنا في تَمويل العلم على خُطط تجريبية تَفصيلية على مدًى
يَمتدُّ من ثلاث إلى خمس سنوات، وقائمة على سلسلة من التَّنبُّؤات حول كيف سَتسير
التجارب. وهذا يجعل العلم أقربَ إلى نَوبَة العمل المُخطَّطة منه إلى رحلة الكشف.
وغالبًا ما يَشعر الباحثون الذين لا تسير مشاريعهم في الجهة المقصودة بما يُشبِه الفشل.
أما تحت راية الحرية في مزيد من الاسترخاء، والمُقارَبة مفتوحة النهايات، فحتى النتائج
«السلبية» تُخبرنا بشيء ما عن الطبيعة. في الصناعة، عادة ما تَحتَجِب «الآفاق
المترامية» للبحث، تحت وطأة المُطالَبة بموقع في السوق، وصُنْع أرباح فورية. الشركات
الكبرى؛ مثل شركة إيه تي آند تي AT&T هي فقط
التي تستطيع سَد نفقات مؤسَّسات البحث الكبرى المُكرَّسة للمزيد من النهايات المفتوحة
والاستكشاف طويل المدى. والآن، كنتيجة للتَّنويع أصبحَتْ مُختبَرات بِل
Bell أيضًا أكثر انسياقًا لدوافع السوق؛ حيث إن
نجاح التجربة يتحدد نهائيًّا بخط النهاية فيها. وكما قال أحد العلماء بعد أن انتقل من
العمل الأكاديمي إلى شركة للتكنولوجيا الحيوية: «النتائج السلبية ليست هزلًا فارغًا كما
جرَت النظرة إليها.» إن التركيز على المُنتَجات سَريعة التطوُّر لا يَترك إلا وقتًا
ضئيلًا للتَّلقِّي. وإذ يَجري العلم في حلبته حَامية الوطيس تَتضاءَل مُرونَتنا
وقُدرتنا على الاستجابة للطبيعة.
الإنصات إلى «جَلَبة» الطبيعة
عادة ما تدخل المُعْطَيات المأخوذة من الطبيعة إلى الآلات وأجهزة الكمبيوتر، لا تراها
عيون الإنسان. ومع نمذجة الكمبيوتر، يُمكن لجَلَبة الطبيعة أن تَتبَرْمج حرفيًّا.
مثلًا، يكتب جيمس لافلوك J. Lovelock كيفَ أعاق «العِلم
الجسيم» سبيل اكتشاف ثُقب الأوزون. لقد أُنفِقَت أموال طائلة على قياسات القمر الصناعي،
والبالون، والطائرة ونماذج كمبيوترية باهظة الثَّمن للإستراتوسفير٩⋆
تَحسَّن معها إلى حدٍّ بعيد فَهمُنا للغلاف الجوي. للأسف، كان مُنمذِجُو الكمبيوتر على
يَقين من أنهم عَرفوا كل ما يخص الإستراتوسفير، حتى بَرْمَجوا أجهزة القمر الصناعي بحيث
ترفُض المُعْطَيات التي تَختلِف جوهريًّا عن نموذج التَّنبُّؤات. طَالعَتِ الأجهزة ثُقب
الأوزون، ولكنَّ أولئك المَسئولِين عن التجربة تَجاهلُوه، قائِلين بانفعال: «لا تزعجنا
بوقائع. نموذَجُنا يَعرف أفضل.» وخِلال بعثة في الأنتركتيكا، رأَى ثُقْبَ الأوزون
مُلاحِظان وحيدان استعمَلَا أداة رخَيصة الثمن عَتيقة الطراز.١٠
حين يحصل الباحثون على النتائج التي يَتوقَّعونها، فالأرجح أن يَثِقوا في
المُعْطَيات، أما حين يَصِلون إلى نتائج شارِدة فالأرجح أن يُعيدوا التجربة. وعلى وجه
الخصوص، يَغْدو عسيرًا أن تَحتفظَ بعقلك مُتفتِّحًا بعد أن تَسير الأشياء في اتَّجاه
مُعيَّن، ويغدو المطلوب تجربة واحدة لكي تقول «أَجَل، هذه هي الإجابة النهائية.» أما
حين لا تَتَّفِق النُّتفة الأخيرة مع الأُحبُولة، فإنه من السهولة تحديدًا أن تتجاهلها.
إذا وقعَتْ نقطتان خارج المنحنى البياني، فثمَّة ما يُغري بتصوُّر أن هاتين النقطتين
عن
مُعْطَيات سيئة، وهذا ما يحدث غالبًا. ولكن الحق الصراح هو أن مُعْطَيات هاتين النقطتين
تُحاول أحيانًا أن تُبلِّغنا بشيء ما ذي مَغزًى في مباراة (حَزَّر فَزَّر) التي نلعبها
مع الطبيعة.
كيف يَتصرَّف العلماء حين يصلون إلى نتائج غير متوقَّعة، مُعْطَيات غير متوافقة؟
العلماء النابهون المُدقِّقون يعيدون التجارب كي يكتشفوا ما إذا كان الشرود «حقيقيًّا».
فإذا كان هكذا، يطرحون جانبًا أفكارهم المُسبقة ويَشرعون في التساؤل عن تَضمُّناته.
العلماء النابهون يكافِحون دائمًا للاحتفاظ بتفتحهم العقلي حتى لا يفقدوا مفتاحًا من
مفاتيح الحل. ويبتهج أفضل العلماء حين يحصلون على نتائج لم يَتوقَّعوها … وذلك بعد
مراجعة الأجهزة المعملية، ومُراجعة مُضاعَفة للأخطاء البَلْهاء، والتأكُّد من أن
التجربة أُجرِيت بالطريقة الصحيحة. النتائج الشاردة تُفضِي بهم إلى اتجاه جديد، وهذا
أمر مُسلٍّ. وها هي ذي عالِمة الحيوان إنجريث ديرب-أولسن I.
Deyrup-Olsen، بدلُا من أن تَصرف النظر عن المُعْطَيات المُعارِضة
بوصْفِها شاردة، بوصْفِها استثناءً، فإنها تَتضاحَك بحُبور أمام مَشهد الحصول على
مُعْطَيات تُناقِض نظرياتها أو تَنبُّؤاتها. وحين تكشف لها البَزَّاقات العريانة التي
تدرسها عن نتائج غير مُتوقَّعة، تقول:
هذا هو أفضل ما يمكن أن يَحدُث؛ لأنه يُبيِّن لك أن ما كنتَ تُفكِّر فيه خطأ أو قاصرٌ
للغاية، وأن الحيوان يُخبرك أن تلك ليستْ إطلاقًا الطريقة التي تسير. لا بُدَّ من
المُجاهَرة بأني وجدْتُ هذا يدفع الطلاب كثيرًا، فحين يأتون وَيجدُون نتيجة لم
يَتوقَّعوها، ويسألون لماذا كان ما يفعلونه خطأً، تكون الإجابة أن أي شيء يفعله الحيوان
صواب. ودائمًا يكون هذا عيدًا من أعياد الظهور بالنِّسبة لهم، وبالنسبة لي أنا أيضًا.
إنه بالضبط واحد من تلك الأشياء المُدهِشة التي تَتعلَّم أنك لا تعرفها، وأن الحيوان
أو
الكائن العضوي يعرفها.١١
وبدلًا من فرْض إجابة على التَّجرِبة، والنظر إلى المُعْطَيات المُنحرِفة عن مسار
الإجابة على أنها غَلطة لا بُدَّ من مَحوها، نَجد المُقارَبة الأُنْثَوية المُتَّسِمة
بالتَّلقِّي هي «الإنصات إلى المادة» وبهذا يغدو العلم حوارًا مع الطبيعة بدلًا من أن
يكون محكمة تفتيش. تَصِف باحثة السَّرطان سيجريد ميردال كيفية إنصاتها إلى
تجاربها:
هناك سؤال عن كيفية تَصرُّفك حين لا تسير مُعْطَياتك في الطريق الذي تريدها أن تسير
فيه. ثمة احتمال بأن تُفكِّر «آه كلَّا، حدَث شيء ما خطأ، لقد فشلت تجربتي»، أو «هل
طرحتُ السؤال خطأً؟» وتضع المُعْطَيات في الدُّرج. وأعتقد أنَّ المُقارَبة الأُنْثَوية
هي أن تسأل «ماذا تُحاوِل هذه المُعْطَيات أن تُخبرني به؟» وتأخذ في حُسبانك أن الطبيعة
قد تَكون مُشوِّقة ومُعقَّدة أكثر مما توقَّعت، ولكن ربما كانت بالتالي أكثر أناقة إلى
حد ما. لقد وصلتُ إلى تفسيرات مختلفة بالكلية عن طريق التعامل الفِعلي مع المُعْطَيات.
وإذا انقلب شيء ما إلى حمق صراح، أمنحه فُرصة. ولربما كان إعطاء شيء ما فرصة لهو مَزيد
من الأُنْثويَّة.١٢
الاستعداد للتضحية بالأفكار المُسبقة وبالنظريات الأثيرة يَتطلَّب تواضعًا. بعض
الناس
يحبون أن يكونوا على صواب دائمًا، خصوصًا إذا كانوا يَرمُون إلى موقع في السُّلطة.
وهكذا يَتحدَّون بأفكارهم عن كيفية عَمَل الطبيعة حتى يصعب اعترافهم بأن الفكرة خاطئة؛
لأن هذا يعني أنهم هم الخاطئون. الأَنَا المُتضخِّمة تنطوي على ارتهان الباحثين في
مَحبس أفكار، ويَشعرون بتواضُع الشَّأن إذا ثَبَت أنها خاطئة، على الرغم من أن تَقدُّم
العلم يَتطلَّب تَفنيد نظريات. تقول سيلفيا بُولاك S.
Pollack يَصعُب أن تتذكَّر «الإنصات إلى المادة» لأنه لا واحد
مِنَّا كان سيخوض غِمار العلم من دون أن يَتزوَّد بأَنَا مُترعرِعة تمامًا.١٣
فَرضَت المُعْطَيات المُعارِضة على عالِمة البصريات دافيدا تيلر D.
Teller أن تعيد التَّفكير في بِنْيَتها النظرية، وقبل كل شيء
مُبرِّراتها لوضع التَّنبُّؤات. غَرَضُ العلم، بالنسبة لها، هو تطوير توصيفات دقيقة
للظواهر الطبيعية، وتطوير نظريات يمكن رفْضُها في المستقبَل.١٤ ومن أَجْل إنجاز هذا آمَنَت بأن القدرة على الإنصات إلى ما تُخبرك به
مُعْطَياتك هي قُدرة ذات أهمية حاسِمة. وحين يأتي دور الإنصات إلى الطبيعة، تقول تيلر:
«إذا كان أبعد هَدَف لك هو أن تكتشف كيف هذا الكون في واقع الأمر، وإذا لم تأتِ
المُعْطَيات بعدَ هذا مُتَّفِقة مع تَنبُّؤاتك، فهذا شيء مَقبول تمامًا؛ لأنك أردْتَ
اكتشاف ما كان صادقًا.»١٥
حين تَنطلِق استكشافاتُنا مدفوعةً بدافع الفضول، من دون أية تَصوُّرات مُسبقة،
تُدهشُنا أعاجيب الطبيعة وبَراعتها.
نظريات نُعرِض عنها
إن الجهد والإثبات المطلوبين لإقناع الناس بتغيير عقولهم يَفُوق ما هو مَطلوب
لجَعْلِهم يَتقبَّلون نظرية جيدة تُطرَح لأوَّل مَرة. وأنا أعرف مِن خِبْرتي في الصناعة
أن الناس يَطلبون المَزيد من البيانات ومن الإثبات لإحلال التَّغيير في جُزئِيَّة
مُعيَّنة أو في إجراء من إجراءات التَّصنيع يفوق ما يَطلبونه من أَجْل تَبنِّي عملية
جديدة أصلًا. ويَعرِف أهل التسويق أن طرْح المُنتَج لأوَّل مَرة في حَيِّز تسويقي
مُواتٍ يَقطِف ثمار القصور الذَّاتي للمُستهلِك. يَعتاد المُستهلِكون على المُنتَج
ويصبحون في حاجة إلى دافِع وطيد لكي يَتبَنَّوا بديلًا له. ولأنهم مُنشغِلون بأشياء
أخرى، فلا وقت لديهم لتقييم جهاز جديد إذا كان القديم يُلبِّي مُعْظم احتياجاتهم.
وبالمثل تمامًا، حين تُفسِّر النظرية مُعْظم الظواهر وتُعطي بعض التَّنبُّؤات، يَتجاهل
مُعْظم العلماء «الجَلَبة» ولكن، من أعطاف جَلَبة اليوم يخرج النموذج الإرشادي القياسي
[البراديم] الجديد في الغد.١٦
من الناحية التاريخية، تُواجِه الأفكار والنظريات الجديدة عمومًا مُقاوَمة: بعض
العلماء رَفَضوا مُجرَّد النظر من مِقْراب جاليليو. وحين قام بتدريس نظرية كوبرنيقوس
عن
الكواكب التي تدور حول الشمس، احْتجَزَته السُّلطات في منزله على مدى السنوات الثماني
الأخيرة من حياته. وفي خواتيم القَرْن التاسع عشر انتَهك اكتشاف الأشعة السِّينية
توقُّعات حَصِينة وفَتح أبواب ذلك العالَم الغريب حتى جاهَر عالِم بارز كاللورد
كَالْفِن بأنَّ الأشعة السِّينية خُزَعْبلات مُتْقَنة.١٧ ونحن نعزو اضطهاد جاليليو إلى سيادة الدوجما١٨⋆
الدينية ونعتقد أن عقولنا أصبحَتْ أكثر تَفتُّحًا في العصور الحديثة. ومع هذا، فما أكثر
الأمثلة على المُعْطَيات والنظريات التي قَبعَت عقودًا من السِّنِين حتى يسمعها أحد؛
لأنها تُعارِض الدوجما العلمية السائدة. لقد تَهكَّم الفَلكي البارز آرثر إدنجتون
A. Eddington من نظرية سابراهمنيان تشاندراسِكار١٩⋆ عن
علاقة الكتلة بخسوف النجوم، وانقضَت عشرون عامًا قَبْل أن يتم قبولها. وفعلًا عَمِلت
عالِمة الوراثة بربارة ماك كلينتوك على انفراد لِمَا يربو على ثلاثين عامًا، مُستَمسِكة
برؤيتها لتَعقُّد التنظيم الوراثي الذي يختلف عن الدوجما الأساسية في علم الوراثة، وذلك
قبل أن يتم الاعتراف بعملها: صَمَدت على مدار العقود بالحد الأدنى من التَّمويل.
وتسلَّمت العام ١٩٨٣م جائزة نوبل لاكتشافها العناصر الوراثية المُنتقِلة المعروفة باسم
«الجينات المُتنقِّلة».
وفي وقت أحدث، صرَّح أحد مُحرِّري مَجلة «نيتشر»؛ أي أحد حرَّاس بوابة المعرفة
العلمية، بأن كِتَاب عالِم الكيمياء الحيوية روبرت شلدريك R.
Sheldrake عِلم جديد عن الحياة: فرض السببية التكوينية لهو «عمل
يثير الغيظ» وجاهَر بأنه «أكثر ما رآه خلال سنوات عديدة استحقاقًا للحَرْق».٢٠ لقد رفَض الكِتَاب بوصفه «علم زائف» على أساس أن شلدريك لم يُصوِّر بِدقَّة
مَعالم التَّشكيلات الجينية التي يَصفها. وعلى الرغم من أن صحة فَرْض شلدريك تَظل غير
مُثبَتة، فإن العالم الحائز على جائزة نوبل بريان جوزيفسون B.
Josephson عارَض الرَّفْض الصريح للمحرِّر. أشار جوزيفسون إلى أن
ظَواهر الحرارة والضوء والصوت والكهربية والمغناطيسية قد دُرِست طويلًا قَبْل أن يكون
ثَمَّة أي فَهْم لطبيعتها الحقة. أما دَعْوى المُحرِّر أن الفُروض القابلة تمامًا
للاختبار هي فقط التي نَعتبِرها نظريات، فكان رَدُّ جوزيفسون عليها بأن هذا المعيار
يَحُول بيننا وبين اعتبار الثقوب السوداء، والنِّسبية العامة نظريات علمية مَشروعة. وفي
ختام رسالته، يُدافِع عن اتجاه أكثر نزوعًا نحو تَلقِّي التطورات المُستجَدة كما أنه
يوبخ المحرِّر قائلًا:
الضَّعَف الأساسي عند المُحرِّر هو الإخفاق في الاعتراف بمجرَّد إمكانية أن توجد
وقائع فيزيائية أصيلة خارج نطاق التوصيفات العلمية السائدة. والحق، أن نوعًا جديدًا مِن
فَهْم الطبيعة ينبثق الآن، ذا مفاهيم تَجنح نحو الدلالة على واقع يعتمد على الذات
(والآن نقول ربما تكون السببية التكوينية). هذه التطورات لم تَقتَحم بعدُ المجلَّات
العلمية الرائدة. ولا يملك المرءُ إلا أن يأمل في أن يتوقَّف المحرِّرون قريبًا عن
عرقلة الطريق الواعد للتقدُّم، وبدلًا من هذا نحثُّهم على متابَعة المجال.٢١
يعتمد قبول مُعْطَيات أو نظرية جديدة على توافُقِها مع الرؤية السائدة لكيفية سَير
العالَم. وتُبيِّن دراسات الغش والخداع في العلم أنه من الأيسر أن يُؤخَذ في الاعتبار
عَمل مُخادع إذا كان مُتفقًا مع نظريات يَسود الأخذ بها.٢٢ وعلى العكس من ذلك، نجد الإنصات العميق للطبيعة يدفع العلم إلى مراجعة
توصيفاته للحقيقة.
إن الإنكار آلية سيكولوجية مُفيدة في حماية أنفسنا من التعامل مع أشياء تُهدِّدنا.
ببساطة نَدَّعي أنها لا توجد. ولكن الإنكار لا يَصلُح في خاتمة المَطاف. وعن طريق شجاعة
الترحيب بالتَّلقِّي يستطيع العلماء أن يَروا أشياء جديدة، أشياء كانت هنالك على طول
المدى، من قَبِيل التَّغيُّرات في السموات، التي أنكرها آخرون بوصفها مستحيلة. وعلى
الرغم من أن العلم بِصَميم تعريفه يَستكشِف المجهول، فإن دلالات ما نكتشفه ربما تكون
أكثر مما يرغب الناس في التعامل معه.
استقبال هولات الطبيعة
إن العلم في نُزوعه لفَرض النظام على الطبيعة، بدلًا من الإنصات إليها، قد تجاهل
الخَامة الغُفْل الفَوضَوية، الهُولات، جَلَبة الطبيعة. وعلى أساس من الإيمان بكونٍ
نظامي، حدَّد العلماء قيمة النَّظرية تَبعًا لقُدرتها على تفسير العِلَّة والمَعلول.
ناضَل العلم لجَعْل الطبيعة أكثر قابلية للتَّنبُّؤ. وعلى مَدار القرون، انزَوى جانِب
الشَّواش من الطبيعة في غياهب النِّسيان تمامًا مِثلما انزَوَت الأُنْثَوية.
وكما قد ينبذ العلماء إحدى المُعْطَيات، أو كما قد يَقمَع مُحرِّرُو المجلة العلمية
نظرية ما، بالمِثْل تمامًا انتظَم العلم الغربي على تَجاهُل الشَّواش المُحيط بنا في
صورة شَلَّالات المياه، صُنْبور تتساقط منه القطرات، والزلازل، والدخان المتصاعد من
غَلْيُون. وبدلًا من هذا، بذل العلم قصارى الجهد لاختزال الطبيعة في فئة من المعادَلات
الخَطِّية، وملاحَظة تناسُب العلاقات بين القوة والعَجَلة، بين المادة والطاقة، بين
الكهربية والمغناطيسية. المُعادلات الخَطِّية من قَبيل () تسير جِيِّدًا، يُمْكن أن تَتبدَّى من خط على رسم بياني، يمكن أن
نأخذها على حِدَة أو نَعود لنُضِيفها معًا مجددًا، ونستخدمها في التَّنبُّؤ بحصيلة
الفعل أو تفسير عمل الساعة. المعادَلات الخطية يمكن حَلُّها: بالنسبة لكل هناك إجابة واحدة صحيحة ﻟ ؛ حيث إن ( و). هذه القُدرة على تفسير الطبيعة والتَّنبُّؤ بها دَفعَت الفيزيائي
بيير سيمون لابلاس (١٧٤٩–١٨٢٧م) إلى أن يَنتَفِخ زَهوًا وهو يؤكِّد أنه إذا أُعطِي
الشروط الأولية والقدرة على إجراء الحسابات، لاستطاع أن يتنبأ بحالة الكون في أية لحظة
مُستقبَلية.٢٣
وفي الوقت نفسه، نَظروا إلى طائفة كاملة من المعادَلات — هي المعادَلات اللاخَطِّية
—
بوصفها غير طبيعية لأنها تُمثِّل أبنية رياضية لا تَتلاءم مع نماذج الطبيعة كما وصَفها
إقليدس ونيوتن. نظَر علماء الرياضة إلى المعادَلات اللاخَطِّيَّة بوصفها «مَرَضِيَّة»
تُمثِّل «مَعرِضًا لهولات الطبيعة».٢٤ وقَطْعًا لا تسير هذه المعادَلات جَيِّدًا. مُعادلة لاخطية تبدو بريئة مثل () لا يُمكِن حلُّها لنحصل على إجابة واحدة صحيحة؛ لأن الحدود مَضروبة
في ذاتها عَدَّة مرات (ويُعْرَف هذا بأنه حَلقات لَولَبِيَّة من التغذية الاسترجاعية).
وبالتالي، يَتضخَّم أي تَغيُّر طَفيف في أحد المتغيِّرات ولا يتناسب مع المتغيِّرات
الأخرى، أحيانًا يكون له تأثير وَبِيل عليها. وحين تضع النقاط في رسم بياني، لا تُمثِّل
المعادَلات اللاخَطِّيَّة خطوطًا منتظِمة أو مُنحنَيات سَلسة؛ إنها تُمثِّل حلقات
لولبية، ارتدادًا معاكسًا، وانقطاعات. قد يسير الخط بشكل جيد إلى حد ما، ثم يتفرع فجأة
إلى خطين. وبينما نجد حَل معادَلة خطية تُمَكن العالِم من التعميم والتَّنبُّؤ بحلول
أخرى، تجنح المعادلة اللاخَطِّيَّة نحو عدم اتباع طريق ثابت وإلى معالجَتها فرادى.
المنظومات اللاخَطِّيَّة غير قابلة للتَّنبُّؤ.
ومع هذا قَد تُدهِشُنا بِنيات عميقة من النِّظام تَقبَع في داخل منظومات الشَّواش.
وهذه واحدة من الاكتشافات التي تُمثِّل مفتاحًا في علم الشَّواش science
of chaos. أجل لا يمكن التَّنبُّؤ بحلول المعادَلات اللاخَطِّيَّة
ولا يكون لها حل واحد هو الصحيح، ومع هذا ليس ثَمَّة عشوائية كاملة. وعلى الرغم من أنه
لا يمكن التَّنبُّؤ بدقة بكل تكرارية لمعادَلة خطية، فإنها ترسو داخل حدود مُعيَّنة
كذَبْذَبات البندول. ويمكن بشيء من التَّلقِّي أن نَنتظِر حاصل العملية أو نَتفاعَل
معها، ولكن لا يمكن أن نُحدِّدها قَبلا أو نُنظِّم لها نتيجة مُعيَّنة.
حين بدأتُ أقرأُ لأول مَرَّة عن علم الشَّواش الناشئ، راعَنِي على التَّوِّ
تَماثُلاته مع الخصائص المَعزوَّة للأُنْثَوية: عدمُ القابلية للتَّنبُّؤ، والعملية
اللاخَطِّيَّة، وأهمية السياق، وترابطية الأجزاء مع الكل غير القابلة للانفصام.
ويُذكِّرنا هذا بملاحَظات جيليان وبِلنكي وزميلاتهما ومُفادها أن النساء يَجنحن إلى
النظر للمَعرفة وللموقف الأخْلَاقي في صميم الحركية المُعقَّدة للموقف بدلًا من إقامة
النظرة على أساس فِئة من القواعد. وسوف نَستكشف في الفصل السادس المزايا التي تَهبُنا
إياها المنظومات اللاخَطِّيَّة والتي تَنبُع من حساسيتها المُرهَفة للسياق.
من المثير للفضول، أن لغة نظرية الشَّواش تَستعير ألفاظًا من عالَم المرأة والمَنزل.
وفي تَعارُض مع لغة الرياضيات ذات الدقة الصارمة والكفاءة العالية، تُوصَف المفاهيم في
علم الشَّواش بأنها رماد ونَسْج العنكبوت، وأقداح، ورغوة، ورقائق الفالوذج، والمِنْشَفة
المطوية، والأشكال الملخبطة، والخرائط الغُفْل الهَيِّنَة، وخُثَارات اللبن ومَصْل
الجبن. وبدلًا من عالَم إقليدس المثالي، عالَم النقاط والخطوط والمُربَّعات
والمُكعَّبات، تَكشِف نظرية الشَّواش عن المدى المُمتَد بين الخطوط أحادية البُعد،
والمُربَّعات ثنائية البُعد، والمُكعَّبات ثلاثية البُعد، وتستخدم هندسة الفراكتال٢٥⋆ من أجل
نَمْذَجة الأشكال غير النظامية للسُّحب والجبال والأشجار والسواحل (مثلًا، ساحل
بريطانيا له بُعْد كَسْرِي هو ١٫٦٢.) وكما أوضحت كاتِبات نسويات من أمثال إيفيلين فوكس
كيلر، المَجَاز واللغة يُشكِّلان تفكيرنا ويُؤثِّران على الخطاب العلمي. يُبدِّل عِلْم
الشَّواش من طريقة رؤيتنا للعالَم، وبوصفه صوتًا أُنْثَويًّا، يُغيِّر العلم حتى أعمق
جذوره، عن طريق تغيير لغته، لغة الرياضيات.
من الشائق أن عِلْم الشَّواش نَشأ عن الرياضيات، التي أصبحت تَفُوق سائر سُبُلِنا
في
اختزال النَّظرة إلى العالَم: يختزل البيولوجيون الحياة إلى فِئة من التفاعلات
الكيميائية، ويُفسِّر الكيميائيون الحياة بمعادَلات كيميائية ترسم صورة التفاعل
الذَّرِّي، ويختزل الفيزيائيون المادَّة إلى مَصفوفة من المعادَلات الرياضية. وحينما
تُوصَف الظاهرة بِفئة من المعادَلات، فهي «معروفة». فقد بات من الممكن التَّنبُّؤ بها
ومُضاعفتها والتَّحكُّم فيها. وفي الوقت نفسه، أَمعَن علماء الرياضيات في أن يَنأَوا
بأنفسهم عن أي تطبيقات لعَملِهم على العالَم. وبأنماطهم في التفكير البحت، استنبطوا كل
شيء من مَبادئ أوَّلية مُستخدِمين التحليل المنطقي الصارم. لقد آمَنوا بأن الرياضيات
مُكتفية بذاتها، هي في حد ذاتها كل شيء.
وإذا بالكمبيوتر، وهو أكثر اختراعات الإنسان إيغالًا في المنطق، يدفع على حين غرة
من
حدود المنطق، ويَفتح الباب أمام ما لا يمكن التَّنبُّؤ به. وعن طريق فَتْح المجال
لممارَسة الرياضيات كما يُمارس العلم التجريبي، أَخرجَت أجهزة الكمبيوتر علماء
الرياضيات من دائرة التَّجريدات التحليلية والمُبرهنات المُثْبتة منطقِيًّا والأبنية
النظرية. والآن استطاع الباحثون أن يَتلاعبوا بالمعادَلات الخَطِّية، ويتفاعَلوا معها،
ويَرقُبوا نماذج غير مُتوقَّعة تتطوَّر وتتحوَّل على الشاشة. استطاعوا أن يبحثوا عن
تَفهُّم مَسلك كان بالِغ التعقيد بالنِّسبَة للمناهج المألوفة في الرياضيات. ومن أجْل
نشأة علم الشَّواش الجديد اجتمع معًا الباحثون في عِلم المناخ، وعِلم السُّكان،
والبيولوجيا، والفيزياء، والفَلك، والديناميكا الحَرارية، والبيئة، والاقتصاد، وعلم
وظائف الأعضاء، والرِّياضيات. ولكن عندما أصبح هذا العلم ذا شَعبية، فضَّل الكثيرون من
مُمارِسيه أن يَتجنَّبوا كلمة الشَّواش chaos
المُفْعَمة بالأحاسيس مُفضِّلِين ما هو أكثر دقة «علم التعقيد science
of complexity».
تطوَّرَت دراسة الفراكتال بصورة مُستقِلَّة عن «نظرية الجواذب الغريبة والتطوُّر
الشَّواشي (أو المُتَّجِه لأكثر من مَرمًى
stochastic)». لقد نشأ اهتمام بنيو مندلبرو
B. Mandelbrot بالفراكتال، بِشكل رمزي، حين التقط
مراجعةَ كتاب من سَلَّة مُهمَلات أحد علماء الرياضيات «البحتة». وعن تلك المراجَعة
المُهمَلة لكتابٍ انبثقت هندسة الفراكتال التي شَغلَت مندلبرو طوال حياته. على مدار
سنوات عديدة لم يُشاركه أحد البتة اهتماماته. وكشأن سِنجَاب يجمع جزئيات مِن رقائق
مَصقولة، كان مندلبرو يبتهج حين يجد إشارات مُبهَمة في أعمال قديمة تَبرُق بومضات خاطفة
لمَشاغِله واستبصاراته شأن ما هو مُفتقَد في الهندسة. ودائمًا أُلْقِي بعملهم على جانِب
الطريق ولم يَتقبَّله أحد وبالمِثل، جهود مندلبرو لوصْل الهُولات الرياضية بأشكال في
الطبيعة واجَهتْ مقاوَمة عتيدة، بينما يتم قبول الأشكال المجرَّدة بهدوء. راقَ لعلماء
الرياضيات البحتة الاعتقاد بأنهم يَتعالَون على حدود الطبيعة.٢٦
لاحَظَ يونج أن شيئًا غريبًا يحدث، حينما يُهيمِن على الحياة الواعية حدٌّ أقْصَى،
اتجاهٌ أُحادِي الجانِب (من قبيل التأكيد الأقصى لعلماء الرياضيات على المنطق). تُناضِل
النَّفس لتَعويض أُحادية الجانب. ومع مُرور الوقت، يَبنِي المُقابِل المُتساوي قُوةً
في
اللاوعي، وشيئًا فشيئًا يُثبِّط من أداء الوعي، حتى يَقتحم في النهاية سيطرة الوعي لكي
يَستهِل حياة خارِجة من ظلال اللاوَعي المُعتِمة. حينئذٍ تَستطيع المقابِلات أن تُشكِّل
شريكًا مُساهمًا. يَستعمِل يونج مصطلح سُبل الأضداد
enantiodromia لانبثاقة المُقابِل اللاواعي بِمرور
الوقت. لقد استعار المصطلَح من هيراقليطس حاملًا الفكرة القائلة إن كل الأشياء تَتغيَّر
إلى النَّقيض مع مرور الوقت، كدوْرَات الميلاد والفَناء، البِنَاء والهدم. وعلى سبيل
طرح الأمثلة، يُشير يونج إلى التَّحوُّل الذي طَرأ على القِدِّيس بولس في طَريقه إلى
دمشق، والتَّحوُّل الذي طرأ على سويدنبورج من دارِسٍ مُبحر في المعرفة إلى عَرَّاف راجم
بالغيب.٢٧ والآن، يَتبدَّل مَعنَا علم الرياضيات البالِغ من الدِّقة منتهاها، وبشكل
من أشكال سُبُل الأضداد، يَتحوَّل إلى بُؤرة غير القابل للتَّنبُّؤ واللاخَطِّي
والشَّواش، إلى «هولات» الطبيعة الفَوضَوية. وكمُحصِّلة لهذا، انبعثَت الحياة في أعطافِ
تَماثُلات الهندسة الإقليدية الباردة الجافَّة وذلك بفعل الجمال الأخَّاذ
للفَراكتلات.
إن استكشاف الثَّراء الكامل لنظرية الشَّواش يَتجاوَز حدود هذا الكِتَاب، إلا أن
ثَمَّة توازيًا مُثيرًا بين القيم والمَنظورات التي يَهبُنا إيَّاها عِلم الشَّواش وبين
الأُنْثَوية، وتَماثُل الأسباب التي جَعلت الثقافة الغربية الأبولونية تُنحِّي
كِلَيْهما جانِبًا. ووفقًا للمنطق الغربي؛ أي منطق إما/أو، إذا كان النظام خيرًا، فإن
الشَّواش شَرٌّ؛ لأنه المُقابِل للنظام. لقد عَزا الرومان الكتلة المُختلِطة في بداية
الخَلْق إلى رَبَّة تُدعَى كايوس (Chaos). وصَوَّر
البابليون الشَّواش على أنه من هولات الطبيعة، إنه الشيطانة «تيامات»، التي ذبَحها
«مردوخ» المحارِب من أجْل تأسيس الحضارة. يُسوِّي أرسطو بين السماء المُذكَّرة وبين
النظام والثَّبَات، ويربط بين الأرض المُؤنَّثة وبين التَّغيُّر والفساد. وفي مُقابِل
النَّظرة الغربية للشواش كنَظرَة باغِضَة له تَوَّاقة للانتقام منه، ميَّز
الطَّاوِيُّون في الصين الشَّواش (هَن-تون) بأنه سَخِي٢٨ بينما كان ينظر في الماضي إلى المنظومات المُعقَّدة على أنَّها شواش لا
سبيل البتة إلى تنظيمه، يُساعدنا عِلم الشَّواش الآن على أن نَتصوَّر المنظومات
المعقَّدة بوصفها «ثَريَّة في المعلومات كأحرى من أن تكون مُفتقِرة إلى النظام».٢٩
من نواحٍ عديدة، آمنتُ بأن علم الشَّواش يَتحدَّث بلسان الأُنْثَوية، ليس في أنه
يرفع
شأن القضية النِّسْوية مُباشرة أو أنَّ النساء ساهَمْن بقِسط وافر في إخراجه (وحسب علمي
قِلَّة من الرُّوَّاد العِظام فيه كانت من النساء) ولكن لأنه يُسلِّط الضوء على صواب
سِمات جعلت لها الحضارة الغربية قيمة سلبية. يُؤكِّد إلِيَّا بريجوجين
I. Prigogine، وإيزابيلا ستنجر I.
Stengers — وهُما مؤلِّفا كتاب: «النِّظام يَخرُج من الشَّواش:
الحوار الجديد بين الإنسان والطبيعة» — أن «الشَّواش يَتمثَّل ظواهر لم نَتعرَّف عليها
حتى الآن، ليس فحسب بل يَتمثَّل أيضًا فئة من القيم أُهمِلَت ظلمًا وبُهتانًا.»٣٠ أعتقد أننا نستطيع أن نظفر باستبصار لصميم قيمة الأُنْثَوية إذا استكشفْنَا
الأدوار البنائية التي يَلعبُها اللانظام، واللاخَطِّيَّة، والجَلَبة في المنظومات
المُعقَّدة. لقد نُحِّيَت المنظومات اللاخَطِّيَّة جانبًا، مثلما نُحِّيَت النساء
جانبًا وأُبْعِدنَ إلى مَكاتب في الأدوار السُّفلِية حتى لا يُشوِّشنَ نظام الخطاب
العقلاني. وكما أُطلِق على النِّساء عالِمات الرياضيات الهُولات،٣١ فإن الهُولات التي جُلِبَت تحت مِظلة نظرية الشَّواش قد خرجَت من ظلِال
العلم المُعتِمة، وقَدَّمَت إسهامات مُفيدة في فَهمِنا للطبيعة.
على الرغم من أن الديناميكا اللاخَطِّيَّة كانت مَعروفة في القرن التاسع عشر، كان
يَسود الاعتقاد بأنها غير مَستَصوَبة في العلم؛ لأنه لا يُمكن حلُّها، تمامًا كما وُصِم
الشعورُ والوُدُّ بأنهما غَير مُستصوَبَين. كل ما في الأمر خلفية من «الجَلَبة»
تَتخلَّل التجربة، تمامًا كما يُمكِن أن يتخلل الشُّعور عملية صارمة لحساب المُعْطَيات.
والآن يُنصِت علم الشَّواش إلى الجَلَبة ويَجِد مستويات من النظام داخل التَّقلُّبات
البادِيَة للمصادفة. بصميم التعريف، يعني إحراز «النظام» تصنيفًا وترتيبًا وتنسيقًا
وتحليلًا، كلها عمليات لوظيفة التفكير. وفي المقابل، يبدو الشعور مُشوَّشًا؛ لأنه ينشأ
عن التقويم الشخصي الجُوَّاني لا عن التحليل المنطقي. ولأن وظيفة الشعور ذاتية، قيل
عنها إنَّها غير قابلة للتَّنبُّؤ، ولكن إذا أَخضعْنَاها للفحص؛ نَجد بها تنظيمًا
جُوَّانيًّا خاضعًا للقيمة. تُؤكِّد وظيفة الشعور على السياق وعلى أهمية التقييم الشخصي
وهذا يَرتَد صَداه في علم الشَّواش. وبدلًا من المُعدَّلات الإحصائية ثَمَّة التأثير
الذي يُحرِزه الشخص، ويكشف علم الشَّواش عن أن ما يُحدِثه الفرد من تَغيُّر طفيف في
«الظروف الأولية» للموقف يمكن أن يكون له تأثير هائل على المُحصِّلة النهائية. وتمامًا
كما أُعيدَ تَصوُّر الشَّواش على أنه معلومات مُتناهية التعقيد، يمكن بالمِثْل أن نُعيد
تقييم الشعور على أنَّه عملية مُعقَّدة من فَرْط ثرائها. وكمِثْل حالة حل المعادلة
اللاخَطِّيَّة، لا تُعطِينا وظيفة الشعور في العادة إجابة مُنفرِدة هي «الصحيحة» بطريقة
رَتيبَة. وكما عرَضْنا في الفصل الثالث، كلٌّ من وظيفة الشعور وفينوس، إلهة الاضطراب
وليدة المحيط، إلهة الحُب والجمال، كلتاهما لديها ما تَمنحُه للعلم.
على مدار تاريخ العلم، جرَى التماثُل بين النساء وبين «الطبيعة الأم» من حيث الدائرية
واللاخَطِّيَّة واللاعقلانية وعدم القابلية للتَّنبُّؤ. والآن تُبيِّن دراسة الديناميكا
اللاخَطِّيَّة أن هذه الصفات في واقع الأمر جوهرية للحياة. مثلًا، يُوحِّد علماء وظائف
الأعضاء الآن بين الشَّواش والصِّحة؛ لأن اللاخَطِّيَّة في عملية التغذية الاسترجاعية
تفيد في التنظيم والتحكم. بعبارة أخرى، العملية الخطية تدفع برفق، وتجنح بخفة إلى أن
تسير مع المَسار، أما العملية اللاخَطِّيَّة فتُعطِي الدفعة نفسها، وتجنح إلى أن تعود
إلى نقطة بدايتها. درس أرنولد ماندل A. Mandell
المنظومات الدينامية في المخ، ويقول ببساطة وهدوء: حين تَصل إلى التوازن في البيولوجيا؛
فإنَّك مَيِّت.٣٢ المنظومات البيولوجية مَنظومات مَفتوحة تحتفظ بالتوازن الدينامي في حالة
انسياب وتبادُل مع البيئة. إن المثال الأرسطي الذُّكُوري للنظام الكامل، حيث يظل كل شيء
في مكانه إلى الأبد، يُؤدِّي للموت. وتضخ الأُنْثَويةُ الحياةَ في أعطافِ العلم بأن
تَصُبَّ الاتِّقاد والمرونة في صميم المُقارَبة الخَطِّيَّة التقليدية للبحوث.
نَفَر من المُتحمِّسين لهذا العلم الجديد وضَعُوه في مَصافِّ التَّطوُّر،
والنِّسبِية، وميكانيكا الكوانتم من حيث تأثيره على العلوم الفيزيائية، وعلى ثقافتنا.
فضَّل آخَرُون الإبقاء على المفاهيم العلمية في حَيِّز العلم، ويَنزعِجون حين تَتراءى
لهم النتائج المحتَمَلة لتلك التطورات من مسائل فلسفية أو ثقافية. مِثل هذا التَّوجُّه
نَوع من الفضول يبديه أولئك الباحثون؛ لأن المنظومات اللاخَطِّيَّة تُلقِّنُنا التواصل.
من الناحية الرياضية، أثبَتُوا أن كل مستويات المَنظومات الديناميكية تتفاعَل ولا يمكن
الفصل بينها في مُقاطعات مُحْكَمة. هذا الإدراك يُبدِّل أُسس كل نظام علمي. وفي الفَصْل
العاشر سوف نَستكشِف بمزيد من التَّعمُّق كيف مَزَّق علم الشَّواش نَظرَتنا الاختزالية
للعالَم بوصْفِه ساعة، وبِفضلِه انهمر علينا فَيْض من الاستعارات ومن الكُلَّانية
كشَلَّال دافق.
ولكن، بِنُضْج علم الشَّواش يَشتَدُّ عُود الحس الأصلي بالانفتاح والتركيب في شَكْل
حقول مُنفصِلة لا تستقبل استبصارات الآخَرين. وبينما يفضل مُمارِسو الديناميكا
اللاخَطِّيَّة أن ينظروا إلى أنفسهم بوصْفِهم يَحلُّون مشاكل عملية وفنية ولا شأن لهم
بالقاعدة الثقافية، نجد إِلِيَّا بريجوجين الحائز على جائزة نوبل يمد من نطاق تَضمُّنات
المنظومات التي تُنظِّم ذاتها بذاتها وصولًا إلى المجالات البيولوجية والاجتماعية.
وبدلًا من التركيز على النظام الخبيء في الشَّواش، نَستكشِف مع بريجوجين كيف يخرج
النظام والتعقيد معًا من الشَّواش في آنٍ واحد. وعلى مُستوًى أساسي، يَتحدَّى بريجوجين
النَّظرة المصطَلح عليها بشأن تأثير اللانظام على الكون. النظرة التقليدية للقانون
الثاني للديناميكا الحرارية (الذي ينص على أن الإنتروبي يميل دائمًا إلى الازدياد في
أي
منظومة مُغلَقة) هي أن الطاقة في الكون تَتناقَص. وأدَّت هذه النظرة إلى النَّتيجة
التَّشاؤمية القائلة إن الكون سوف يبرد حتى يصل إلى النُّقطة التي تَغدُو الحياة فيها
مُستحِيلة. بَيَّن بريجوجين كيف أن المنظومات اللاخَطِّيَّة تسير عَبْر عملية سيميائية
من الاضطراب والاختلاط، وتنبثق بمستوًى من النظام أعقَدُ وأكثَر دهاءً. وفي الفصل
التاسع سَوف نَستكشِف معًا كيف يَغوص الحَدْس في شواش اللاوعي لِيتشرَّب العلم
بالإبداعية. وأخيرًا، بالإنصات إلى بعض من جَلَبة الطبيعة، وبالاعتراف المُتلقِّي
لهُولات الطبيعة في قَلْب المجال النظامي للعلم، إنَّنا نُبدِّل منظورنا للعالَم
تبديلًا جوهريًّا. ودَعُونا نستكشف الآن التَّفاعُل المُعقَّد بين المجتمع ونَفسيَّة
العالِم والعالَم الموضوعي للعلم.
١ ⋆ السِّلْتي
Celtic؛ أي المنسوب إلى السِّلت أو
السِّلتِيِّين وهم سُلالة هندوأوروبية سكنَتْ قديمًا في مساحات من غرب أوروبا.
(المترجمة)
٢ Brain Easlea, Witch Craft, Magic and
New Philosophy, p. 214. كان روبرت بويل واحدًا
من مُؤسِّسي الجمعية الملكية في لندن. وقد وصَف العلاقة المُختصَّة بانضغاط الغاز
وتَمدُّده ودرجة الحرارة في القانون المَعروف الآن باسم قانون بويل.
٣ Thomas Kuhn, The Structur of Scientific Revolutions, p.
116.
٤
في مقابَلة مع باولا سزكودي، أُجْرِيت في أول فبراير العام ١٩٩١م، وهي أستاذ
باحث في قسم الفَلك بجامعة واشنطن في سياتل. حصلت على درجة الدكتوراه عام
١٩٧٥م. تشمل مجالات أبحاثها مُتغيِّرات الجوائِح، وقياس الشِّدَّة الضوئية،
والدراسات الطَّيْفيَّة.
٥
في مقابَلة مع إبرهارد ريدل، أُجْرِيت في ٢ يناير العام ١٩٩١م.
٦
في مُقابَلة مع إيمي باكن، في ١٧ يناير١٩٩٠م، وهي أستاذ مشارك في قسم علم
الحيوان بجامعة واشنطن في سياتل. حصلت على درجة الدكتوراه العام ١٩٧٠م
وتخَصَّصتْ في البيولوجيا الارتقائية وبيولوجيا الخلية، والارتقاء الوراثي،
وبنية ووظيفة الكروموسومات في تَكوُّن البويضة وتَكوُّن الجنين.
١٢
مُقابَلة مع سيجربد ميردال أُجْرِيت في ١١ فبرابر ١٩٨٩م.
١٣
مُقابَلة مع سيلفيا بولاك أُجْرِيت في ١١ نوفمبر ١٩٨٩م. وهي أستاذ باحث في
قسم البيولوجيا بجامعة واشنطن في سياتل. حصلَتْ على درجة الدكتوراه العام
١٩٦٧م، وتُدرِّس المناعة الخَلَوية. بدأَتْ في سبتمبر من العام ١٩٩٠م تعمل
للحصول على درجة الماجستير في عِلْم النَّفْس.
١٤
أعلن كارل بوبر، في جامعة لندن، مبدأ القابلية للتكذيب؛ حيث لا يمكن أبدًا
إثبات صدق النظرية، يمكن فقط تَفنيدها، وتُترَك النظرية حالمَا يتم
تفنيدها.
١٥
مُقابَلة شخصية مع دافيدا تيلر، في ١٤ يناير ١٩٩٠م. وهي أستاذ في قسم علم
النَّفْس، وتعمل أيضًا في قِسمَي الفيزيولوجي والفيزياء الحيوية، وتعمل أيضًا
في برنامج دراسات المرأة، وذلك في جامعة واشنطن في سياتل. حصلت على درجة
الدكتوراه عام ١٩٦٥م، وهي تدرس الإبصار وفلسفة العلوم البصرية.
١٧ Thomas Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, p.
59. يُعطي كُون عددًا كبيرًا من الأمثلة التي تُبيِّن كيف
أن النظرة إلى العالَم السَّائدة تَحُول بين العلماء وبين رؤية الطبيعة.
١٨ ⋆ الدوجما
dogma هي المُعتَقد اليقيني المُتصلِّب
المُغلَق، فَتسلَّط على العقل فلا يَقبل نقاشًا أو تعديلًا أو تطويرًا.
(المترجمة)
١٩ ⋆ سابراهمنيان
تشاندراسِكار S. Chandrasekhar (١٩١٠–١٩٩٥م):
عالِم هندي درس الفيزياء في الجامعة بمِدْراس، تخرَّج عام ١٩٣٠م، حصل على منحة
للدراسة بكمبردج فنال الدكتوراه عام ١٩٣٣م. وسافَر إلى أمريكا حيث عمل في جامعة
شيكاغو. كانت له رؤية تجديدية في فيزياء الفَلك وبِنْية النجوم وتركيبها
وإشعاعاتها. حصل على جائزة نوبل عام ١٩٨٣م. (المترجمة)
٢٠ “A book for Burning?” Nature 293 (24 September 1981), pp.
245-246.
٢١ Brian Josephson, letter to the editor in Nature 293 (15
October 1981), p. 594.
٢٢ William Broad and Nicholas Wade, Betrayers of the Truth
(New York: Simon & Schuster, 1982), pp. 141-142.
٢٣
منذ العام ١٧٧٣م، بدأ لابلاس يَتكرَّس لتطوير تفسير ميكانيكي مُكتَمل للنظام
الشمسي، مُستخدمًا قوانين نيوتن للجاذبية. وأيضُا أرسى لابلاس الأُسس الرياضية
للدراسة العلمية للحرارة، والكهربية، والمغناطيسية.
٢٤ Benoit B. Mandelbrot, The Fractal Geometry of Nature (New
Yok: W. H. Freeman, 1977), p. 3.
٢٥ ⋆ الفراكتال
fractal شَكل هندسي يتكوَّن من تكرار
نَسَقي ولكل جزء من أجزائه التي قد تُعدُّ بملايين الملايين الصفات الإحصائية
نفسها التي للشكل الكلي، ويتميَّز بأنه كَسْرِي الأبعاد. (المترجمة)
٢٦ Mandelbrot, The Fractal Geometry of Nature, pp. 20, 193,
422.
٢٧ C. G. Jung, Psychological Types, vol. 6 in The Collected
Works of C. G. Jung, a revision by R. F. C. Hull of the translation by
H. G. Baynes (Princeton: Princeton University Press, 1971), pp.
426-427.
٢٨
للمقارَنة بين الأقصوصة البابلية عن تيامات، والأقصوصة الطَّاوِيَّة هَن تون،
انظر: Eugene Eoyang’s, Chaos Misread:Or, There’s a Wonton in My
Soup,” Comparative Literature Studies 26. no. 3 (1989), pp.
271–284.
٢٩ N. Katherine Hayles, Chaos and Disorder: Complex Dynamics
in Literature and Science (Chicago: University of Chicago Press, 1991),
p. 6. Hayles quotes Ilya Prigogine and Isabelle Stengers, Order out of
Chaos: Man’s New Dialogue with Nature (New York: Bantam,
1984).
٣٠ Discussed by N. Katherine Hayles, Chaos and Disorder, p.
18.
٣١ H. J. Mozans, Women in Science (Notre Dame, Ind.:
University of Notre Dame Press, 1991), pp.
162-163.
٣٢ James Gleick, Chaos: Making a New Science (New York:
Viking, 1987), p. 298.