الذاتية أن نكتشف أنفُسنا من خلال التجربة
ميكانيكا الإدراك
مثل هذه الدراسات المُثيرة للقلق تؤكِّد أن جهازنا الحسي وروابطنا العصبية الداخلية تتطور كنتيجة لخبراتنا الحسية الأولية، وكيف أنَّنا نَتعلَّم أن نُؤَوِّلها. ثم إن جهازنا العصبي لا يستقبل إلا ما تَمَّت برمجتنا على رؤيته، يستقبل فقط تلك المُثيرات التي تعزز ما نعتقد أنه موجود. وبطريقة أوتوماتيكية نحجب تقريبًا كل المُثيرات المحيطة بنا إلا النَّذْر اليسير. وهذا ما يسميه علماء وظائف الأعضاء الإحالة المعرفية السابقة على النُّضْج. هذا الواقع المَعرفي نتيجة لحدود في المفاهيم كنا قد شيَّدناها في وعينا، وبعدها يعمل جهازنا العصبي على تعزيز تلك الحدود.
على أن المُستقبلات الحسية البشرية تكاد تُدرَك بطريقة واحدة مُعيَّنة. فحين ننظر إلى زهرة، نرى ألوانًا تتراوح بين الأحمر والأرجواني. لكن المستقبِلات في عيون النَّحلة لا تستطيع رؤية الأحمر، وتستطيع رؤية الأطوال المَوجِيَّة فوق البنفسجية. حين تنظر النَّحلة إلى زهرة بعيونها المُكوَّنة من عدسات قرنية ترى شكلًا يختلف عن الشكل الهندسي البسيط الذي نراه نحن. أما الخفاش فيدرك الزَّهرة من حيث هي صدًى لموجات فوق صوتية. يشعر بها الثعبان من حيث هي أشعة تحت الحمراء. تَتحرَّك مُقْلتَا عَيني الحرباء على مِحورَين، ولستُ أستطيع أن أتخيل كيف لها أن تُوحِّد ما تراه. ليس هناك طريقة واحدة هي الصحيحة للنظر إلى العالَم «الواقعي»، بل بالأحرى عدد كبير من العدَسات نستطيع أن نُدرِك الواقع من خلالها، كلها تَتعايَش معًا في الوقت ذاته، بعضها أكثر فائدة من البعض الآخَر في تحقيق أغراضنا. ونحن نقوم بتقليص ذلك المَجال من الإمكانيات اللامحدودة إلى واقع إدراكي معيَّن، وكنتيجة حرفية لمعرفتنا، التي هي نتيجة لإحالة معرفية سابقة على النُّضج.
وحتى بين البشر، تتفاوت حِدَّة أعضائنا الحسية، بالإضافة إلى مَرَد واسع لتأويل المُثيرات. وبشكل أو بآخر، يخلق التوزيع الأوركسترالي مستوًى لمجال العزف، ولكن، في واقع الأمر، ليست كل الآلات مُتصلة أو مستوية بصورة ملائمة. ومُجرَّد استعمال الآلات يستلزم مهارة، ومن المطلوب إعداد نماذج للفحص بعناية.
مثال الموضوعية
من الفروض الأساسية للعلم أن هناك كَونًا موضوعيًّا، منفصلًا ومستقلًّا عن الملاحَظ، ويمكن استكشافه عن طريق البحث العلمي. ونُعِتَت العلوم الطبيعية بأنها التَّحقُّق الأكمل للموضوعية، على الرغم من أن الموضوعية لها أصولها في فلسفة الأخلاق وعلم الجمال. يُجاهِد العلم ليكون آية من آيات العقلانية، ولا يُضمِّخُه انحياز ذاتي أو شَخصي أو سياسي. إن الموضوعية العلمية تدرب العقل على رؤية العالَم بطريقة تحليلية مُجرَّدة. مثلًا، تُناضِل عالِمة البيولوجيا إنجريث ديرب-أولسن بثبات لكي تَكُون موضوعية حتى إنها تظل مُهيَّأة لاستقبال مُعجِزات الطبيعة:
يُشدِّد العلم على البحث «الموضوعي» الذي هو نَزيه غير مُنحاز ومُتجرِّد وخِلْو من الأنا، وذلك من أجْل إتاحة التشارك في المَعرفة العامَّة ومن أجْل تشييد بِنية راسخة للواقع. يَتبنَّى العلماء مِثال الموضوعية؛ سعيًا للتحصين ضد المَصالح الذاتية والتفكير التَّوَّاق والرَّأي الشخصي. إن يقين الحُجَج العلمية وتجريبية البراهين يَكفُلان للعلماء في أنظار العالَمِين تَجرُّدًا مُعيَّنًا يُحسَدون عليه. وبالثقة في الدليل الموضوعي، يستطيع الباحثون أن يَنعَموا بهدوء البال في مُواجَهة اللامبالاة أو الاستخفاف العام.
عَمَّ الاعتقاد بأن دافِع «المعرفة من أَجْل المعرفة» إنما لتحصين العلماء من التشرب بالدوافع الشخصية والمالية لإيجاد نتيجة مُعيَّنة. من الناحية التاريخية، خدَمَت الموضوعية أيضًا في فَصْل العلماء عن هيمنة الكنيسة وعن جَذْب القوى السياسية. أَتت المِصداقية من غياب المَصْلحة في الكذب. ومن أَجْل تأكيد الموضوعية والتعويض عن راسب الخطأ من قبل الأفراد تلجأ المُمارَسة العلمية إلى فَرْض وصاية الضوابط التجريبية والاختبارات المُعمَّاة وعشوائية مَواد التَّجريب وتَعزِيز النتائج بواسطة الباحِثِين الآخَرِين والتحكيم الدقيق.
إن التحكيم الدقيق، بوصفه حارِسَ بوابة المعرفة العلمية، يتقدم بنظام مُرتَّب لتقويم العمل العِلمي ومَنْح التمويل للبحث، والتصديق على صَواب الإجراءات وإرساء سلامة النتائج والحكم بسلامة المَخطوطات ومَنْحه درجة الشرف. التَّحكيم الدقيق يجعل الدَّعاوى أكثر مصداقية بالنِّسبَة لغير العلماء، وذلك عن طريق دَمْغها بالموافَقة على أنها معرفة جديدة. بَيْد أنَّ نظام التَّحكيم الدقيق أيضًا مَوبُوء بمُحاباة الأصدقاء، ومُحاباة النُّخبة، وبصراع المصالح، وهو يَكبِت الابتكار. وفي مسح للمتقدِّمِين عام ١٩٨٢م لمنحة المعهد القومي للسرطان، تَمسَّك ستون في المائة من العلماء بأن المُحكِّمين عازِفون عن دعْم البحث الذي لا يتبع الأصوليات التَّقليدية، وينطوي على مُخاطرة كبيرة. ثَمانية عشر في المائة فقط لم يُوافقوا على هذا الإقرار. سُجِّلت الاستجابات في تعليقات من قَبيل:
أي شيء جديد يجب أن يُولِّي الأدبار.
لا ينبغي أن يقول المرء أي شيء جديد في طلب التَّقدُّم لمنحة.
المُقترَحات التي تظفر بالتمويل هي بشكل عام المُقترَحات الأكثر إثارة للمَلل، والأكثر ارتباطًا بوقائع الحياة الدنيا.
في هذا النطاق يستطيع العامة أن يمارسوا تأثيرًا على اتِّجاه البحث وذلك عن طريق دعم الاستكشاف في المُقارَبات المُستجَدَّة، من قَبيل نواتج الإجهاد والتلوث الكهرومغناطيسي على الصحة. ومؤخَّرًا دفعَت ضغوط عامة الناس مَكتب متابعة التكنولوجيا في الكونجرس إلى البحث عن أشكال بَديلة لعلاج السَّرطان في الولايات المتحدة الأمريكية. وأثار هذا مِن الجدل السياسي ما لم يُثِره أي من المشاريع التي اضطلع بها المكتب.
المعرفة البِنائِيَّة
بدلًا من أن تقبع بولاك في انتظار أن تَتكشَّف القصةُ كاملة في المُعْطَيات، شَعَرت بمزيد من الحُرِّيَّة إذ تتخَلَّق القصة على يديها من شظايا كائنة، قصة «من صُنع يديها» بينما تَظلُّ مُتساوِقة ومُتلائمة مع كل الأجزاء الأخرى من المعرفة المُتعلِّقة بالمنظومة، وهي تعرف تمامًا أنه ما زال من الممكن صُنْع عدد كبير من التأويلات الأخرى. هذه المُقارَبة مَنحَتْها تفويضًا شخصيًّا بوصفها صانعة للمعرفة، وليست مُجرَّد مُستقبِلة لها.
يُزوِّدُنا المُعتقَد التجريبي بأداة لتحدِّي الإحالات المعرفية السابقة على النُّضج. إنه لا يُحيل المُنصِت إلى المُعتقَد، ولكن بدلًا من الدفاع ضد فكرة جديدة أو إرغامها غلى التلاؤم مع إطار المفاهيم القديم، يُجرِّب المُنصِت المُعتقَد، وبطريقة من طُرق انعكاسِ الذَّات يسأل: لو أن هذا كان صحيحًا، فماذا إذن؟ عَلامَ يدلُّ ضِمنًا؟ ما هي مُحصِّلات هذه الفكرة؟ لماذا أجِد هذا المفهوم مُقَلقلًا هكذا؟ ماذا يعني بالنِّسبة للطريقة التي أنظر بها إلى العالَم؟ مَن يمارس الاعتقاد التجريبي يَختبر الفكرة بأن يَحتويها، ويَنظر إلى ما تُبشِّر به في مُواجهة المُعتقدات السابقة أو بالتكامل معها.
يدرك البنائيون أن إجابات الأسئلة سوف تختلف، اعتمادًا على السياق الذي تُطرَح فيه الأسئلة، وإطار مرجعيات الباحث وتَغدُو أهمية فَحْص الفروض الأساسية والظروف التي تَترعْرَع فيها المشكلة على قَدَم المساواة مع أهمية جَمْع المُعْطَيات. وليس من الخير العميم أن نجمع كمِّيَّات كبيرة من المُعْطَيات إذا كان السؤال المطروح خاطئًا، أو إذا كان السؤال خارج السياق. يَتفهَّم البِنائيون أن النظريات نماذج مُبسَّطة للواقِع، وليسَت الحقيقة المُطلقَة.
تَعلَّمتُ في تدريبي العِلمي كيف أنتَقِي المناهج التجريبية، وكيف أُصمِّم الضوابط التَّجريبية التي تُقلِّل الحيود في نتائجي إلى حَدِّه الأدنى. ولكن لم يناقش أحد البتة كيف تأثَّر عِلمي بمعتقَداتي وفروضي اللاواعية بشأن العالَم. والحق أن مُعتقداتنا بشأن طبيعة الواقع تُحدِّد أين نَبحث عن الإجابات مثلما تُحدِّد كيفية تَأويلنا للمُعْطَيات. مثلًا، يَعتقد علماء الجهاز العصبي أن المكان الذي تَسكنه الذاكرة لا يُمكن أن يُوجَد إلا في المخ. وهذا يعكس مُعتقَد المادية الغربية في أنه لا شيء يُوجد سوى تلك الأشياء التي يُمكن قياسها بحواسِّنا الخمسة، أو بواسطة الآلات التي هي امتداد لتلك الحواس. ويُؤَوَّل دَمار جزء من المخ على أنه دَمار في وحدة المَخزون.
ومن الناحية الأخرى، نجد العالِم الهندوسي الذي يُؤمِن باستنساخ الأرواح سوف يتناوَل المُشكِلة بنظرة للعالِم تختلف تمامًا، وسوف يبحث في مكان آخَر ليجد الحَيِّز الذي تُختَزن فيه الذاكرة. وما دام بعض الناس يتحدَّثون عن إعادة تَذكُّر حَيَوات ماضية، كان على النظرية الهندوسية أن تُفسِّر كيف تُسْتبقَى تلك الذِّكريات بعد موت الجسد. قد يطرَح هذا العالِم تنظيرًا مفاده أن الذاكرة مخزونة في قاعدة كهرومغناطيسية تَعود لِترتَبط بالجسد، وأن المُخ هو الوحدة المُستقبِلة للمعلومات المَخزونة في تلك القاعدة. في هذه النظرة إلى العالَم، يمكن أن يقوم المخ بوظيفته كما يَستقبل جهاز التلفزيون إشارة. وفي هذه الحالة، سيكون دمار مناطق مُحدَّدة من المُستقْبِل له التأثير نفسه الذي لدمار وحدة المخزون ذاتها.
وقد يَنظر آخَرون إلى الجسد بوصفه حيِّزًا تُختَزن فيه الذاكرة. إن المُعالِجين النَّفْسيين والمُعالِجين بالتَّدلِيك على وَعْي بالذِّكريات التي تَبدو مَخزونة في عَضلات الجِسم وأربطته. مثلًا، حين يَنطلِق عن إحدى المُتردِّدات للعلاج فُحْش في القول المكبوت، فهذا يَقدح الزِّناد لكي تَتذكَّر أنها تَعرَّضت لاعتداء جنسي في الطُّفولة، شيء كانت قد نَسِيَتْه منذ ثلاثين عامًا. يعتمد راقصو الباليه على ذَاكرة الجسد لِيَسترجِعوا الخُطوات من رقصة تَعلَّموها من سِنين خَلتْ. هناك أرقام هواتف غابَت عن ذهني، لكن يُمكن أن تَستعيدها أصابعي على جِهاز هاتف يعمل بلمس الأزرار.
وبسبب من إحالتنا المعرفية السَّابقة على النُّضج، الإحالة إلى مُقارَبة مَذهَب المادِّية الغربي، لا يُوضَع مُجرَّد تخطيط لتَجارب للبحث عن ذاكرة في قاعدة كهرومغناطيسية؛ لأنها خارج نَظرتِنا الجَمعية للعالَم. لن تظفر مثل هذه النظرية بدعْم مِنحة دراسية؛ لأنها تبدو مُفرِطة الشُّذوذ وسِحرِيَّة عجيبة، وغَير مُستصوَبة. يُوصَم مثل هذا العمل بأنه عِلم زائفٌ، ويُخاطر علماء الأعصاب بِسُمعتهم في مُتابَعة خط للبحث على هذا النحو.
ثمن الموضوعية المدفوع مُبكِّرًا
حتى أواسط القرن التاسع عشر كانت مُعظم تقارير الملاحَظة والتجربة تُروَى باسم الفَرد الفَريد الرائد، والمكافأة من نصيب السِّمات الشخصية كالمهارة في المُعامَلة اليدوية لآلات صَعبة المِراس، أو الحُكم ذي النَّكهة الخاصة. وبينما كان يُراعَى كثيرًا ثِقَل المَنزلة الاجتماعية للمُلاحِظ، بَرزَت كفاءة وإخلاص المُلاحِظ في تشكيل الحُكم على جَدَارة المعلومات. كان الباحثون يَفخَرون بمؤهِّلاتهم صَعبة المَنال، ويُنبهون إلى الفوارق الدقيقة في مُؤهِّلات الآخَرين. وعلى الرغم من أن الأكاديميات العلمية كانت تَنشُر المتابعات، كان التواصل العِلمي الحقيقي يَحدُث من خلال المراسَلات المستفيضة بين الأنداد التي قد تَستمِر طوال العمر. وعلى الرغم من أنهم قد لا يلتقون أبدًا ظَلَّت رسائلهم في مبادَلات حميمة، مع التجليات الشخصية المجدولة في كشوفهم العلمية.
وخلال العقود الوسيطة من القرن التاسع عشر تنامت مَحكَّات العمالة العلمية والمنظَّمة العلمية وازدادت تعقيدًا. الأكفأ من الأنظمة البريدية، والسكك الحديدية، والتجهيزات المعملية الجديدة، والمناهج الجديدة لتحليل المُعْطَيات، والوحدات القياسية، والتعريفات المُوحَّدة المتجانِسة، كلها عاونَت في تبادُل المعلومات. التَّوحيد والتَّجانُس المتزايد يَسَّر سُبل الاتصال العلمي عَبْر حدود القوميات، وحدود التدريب والمهارة. حلَّت الاتصالات الرسمية غير الشخصية مَحل الذكريات العلمية والمراسَلات الشخصية. على أن مُتطلَّبات الاتصالات مدت الجسور بين مسافات أبعد، ومزيد من الباحثين قَوَّضوا دعائم الثقة والمهارة كلتيهما.
إن اتخاذ تقنيات قياسية، وأدوات قياسية، واتصالات قد شَدَّ أزر العلماء في بحثهم عن الإجماع بشأن الواقع. نشأ الإجماع أيضًا عن اتفاق ضِمْني لقَصر اهتمام العلم على تلك الظواهر التي يمكن إخضاعها للضابط التجريبي المتين. بعص الظواهر بَدَت شديدة التَّغيُّر والتَّقلُّب حتى تَعذَّرت مُجابهتُها للصلابة المطلوبة للانتقال من مُختبَر إلى آخر. حل العلماء مشكلة تكرار إجراء التجربة عن طريق العزوف عن العوارض الخارقة، والتقارير الفذَّة والأحداث النادرة، وما يحدث خارِج العالَم من أسرار مُلغِزة. ومنذ البداية في أواسط القرن السابع عشر، يَتزايد اقتصار العلم على الظواهر التي تَسير بشكل جيد داخل المختبَر، أو البراهين النظرية المنطقية التي تسير بشكل جيد على الورق.
تحمل الموضوعية، من حيث هي بديل للثقة، سيماء المهابة في مجتمع تُعدُّدي. إن التكميم يفرض نظامًا على التفكير الغائم، بَينما يعطي أيضًا ترخيصًا بحذف كثير مما هو عسير أو غامض. يستطيع الإحصائيون أن يَستبعِدوا مُحصِّلات كل شيء عرَضي أو تَصادُفي أو غير قابل للتفسير أو شخصي. وبدلًا من مهارات الباحث المِهنِيَّة الدقيقة، باتت جَودة التجربة تُقاس بمعدَّلات الدلالة الإحصائية. مثلًا، إذا ورد في دراسة سيكولوجية مستوى الدلالة الإحصائي اثنان في المائة (يبين أن نتيجة المُصادَفة قليلة الحدوث فقط مَرَّتين من بين مائة مرة) فإنه يجعل القُراء يَقبلون نتائج البحث. في غياب العلاقات، تحل المقاييس العامة والمعرفة الرسمية محل الحكم الشخصي والحكمة الخاصة. وبينما يعرف العلماء المُحدَثون كثيرين من الباحثين في مجالهم التخصصي الضَّيِّق مَعرفة شخصية، فإن مُعظَم العمل الفعلي يقوم به الآن طلَّاب دراسات عليا وفَنِّيون.
ومهما يكن الأمر، فإن خلق واقع مجمع عليه من خلال الموضوعية لا يعادل بالضرورة «الحقيقة» أو «الواقع» ولئن ترنَّحَت بعض الظواهر لتسقط في ظلال العلم المُعتِمة، فإن افتقارها إلى التوحيد القياسي لا يجعلها أقل واقعية. وعلى الرغم من تنحية هذه الظواهر جانبًا لأسباب كانت صحيحة في حينها، فإن العلماء الذين يُحاولون الآن دراستها هم محل ازدراء وسخرية. ولكن بعض المجالات الهامشية، من قَبيل المعادَلات اللاخَطِّيَّة في علم الشَّواش والتغذية الاسترجاعية الحَيوية في العلوم الطبية، تَشق طريقها ببطء عائدة إلى التيار الرئيسي، فقد وجد العلم سبلًا لتفسير، أو معالجة، أو قياس، أو تكميم المختلف والعيني.
حدود الموضوعية
إلى أية درجة تكون الموضوعية ممكنة فعلًا؟ لقد تحدَّى لَفيف من الدارسين صورة العالِم حبيس المختبَر المُتكتِّم. بَيَّن علماء الاجتماع كيف أن العِلم يُبنَى بصورة اجتماعية. وكشفَت النِّسْوِيَّات عن الانحياز الذُّكُوري للعلم. وأظهر مُؤرِّخو العلم كيف أن القيم الفلسفية والدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية يمكن أن تُشكِّل ملامح الحُكم العلمي. يناقش توماس كون باستفاضة القاعدة الاجتماعية والعقلية التي تكتنف العلماء ونظرياتهم، وأوضح كيف تَتبدَّل النماذج الإرشادية خلال الثورات العلمية. ولكن بالنِّسبة لكثيرين من العلماء والدارسين، الموضوعية — يقين المُعْطَيات الصُّلبة — تُرسِي دعائم العلم في الواقع. مثلًا ينزعج فيلسوف العلم إزرايل شيفلر من الهجوم الذي بات مستهدِفًا الموضوعية:
إذا لم يكن العلم موضوعيًّا تمامًا، فإنه يَتركنا في وسواس الشعور بعالم مراوغ نِسبي ذاتي. ومن دون أن نُمسِك بجمع اليدين على ما هو واقعي، نَخشَى أن ينزلق العالَم الصلب من بين فروج أصابعنا كحبَّات الرمل.
يلاحِظ إيان ميتروف في كتابه «الجانب الذاتي من العلم»، أن المعرفة العلمية ذاتها تُنال من خلال عملية مُعارِضة. وكما يَتمثَّل المحامون بحماس مَشبوب جانبهم في القضية، يُناصِر العلماء نَظرِيَّاتهم ويُدافِعون عنها. وكما لاحظ أحد العلماء:
بحث يحاول أن يَلفِت الانتباه لأثر يعتقد أنه مهم | بحث يحاول تبيان أن الأثر نفسه غير ذي أهمية |
---|---|
الساتر الأوزوني | طبقة الأوزون |
وطأة ن أس | مقدار ن أ |
تهديد أ٣ في الإستراتوسفير* | يتفاعل معه، وبالتالي يضعفه |
يسمح للإشعاع الشديد … بالنفاذ إلى طبقات الغلاف الجوي السفلى | الإشعاع يصل إلى سطح الكوكب |
وفي الاعتراض على دراسة مارتن، شدَّد كِلا المؤلِّفَين على إنكار أنهما قد مارسَا «قسرًا». ونحن كهذين المُؤلِّفين، طالما بَقِينا على غير وعْي بافتراضاتنا وانحيازاتنا، يَبقى مفهوم «الحرية العلمية» وهْمًا خادِعًا. قبل أن نستطيع التَّحرُّر، يجب أولًا أن نكون قادِرِين على رؤية السلاسل التي تُقيِّدنا. يجب أن نَعِي إحالاتِنا المعرفية السابقة على النُّضج في صورة افتراضات، والحدود التي نَقبل بها من دون تساؤل.
قد لا تكون الموضوعية في واقع الأمر مُمكِنة، ومع هذا تَبقى راسخة بثبات كمثال نَزود عنه. هذا المثال من القوة بحيث إن نُقَّاده كأنصار الحركة النِّسْوية يُدافعون عن الوعي بالتأثيرات الذَّاتية لكي يَجعلُوا العلم أكثر موضوعية. بعبارة أخرى، الوعي بانحيازاتنا سوف يَرقى بالعلم، ويُضفي عليه مزيدًا من الثقة.
في مناقَشات الذاتية مُقابِل الموضوعية، يُقِيم الكثيرون الحُجج من أَجْل أحد الطرفين الأقْصَيين. وبينما أوافق على أن المُقارَبة الذاتية تمامًا للعلم ليست مُفيدة؛ لأنها لا تسمح بالتشارك في المَعرفة، فإني مُعنِيَّة باستكشاف «الوسط المُمتنع». ماذا لو نَظرْنا إلى مَجالَي الموضوعي والذاتي من حيث يخترق الواحد منهما الآخَر، أين يتفاعلان ويُبصر الواحد منهما الآخَر؟ ماذا لو أن النظرة الموضوعية للطبيعة استضاءت عن وعْي بما هو شخصي، وأقيم الشخصي على أساس الموضوع؟ ما هي المَنافع التي نجنيها من جرَّاء ارتباط شخصي بالمعرفة؟ من المنظور الأُنْثَوي، كل حقيقة كائنة في سياق. ولكن كشأن الشَّواش، الحَقائق المُختلفة العديدة محصورة داخل حدود. وعلى الرغم من أننا قد لا نعرف الحقيقة أبدًا، فإننا نستطيع استكشاف الوجوه المختلفة للواقع، ونطوف نحو الحقيقة، نُصْلَت إليها كما لو كانت جاذبًا، بطريقة دوران البندول حول نقطة مركزية، مع كل دورة نَجتاز نواحي مختلفة ونَقترِب أكثر من المركز.
نظرية الكوانتم في الفيزياء، ونظرية الشَّواش في الرياضيات تَطرَحان عددًا من القيود النظرية والعملية للموضوعية. وحالَمَا نَعترف بالقيود النظرية والعملية للموضوعية، سنتمكن من استكشاف كيف تستطيع الذاتية أن تقوم بدور في العلم بأسلوب بنائي.
نظرية الكوانتم بوصفها صوتًا أُنْثَويًّا
بينما تنطوي نظرية الكوانتم على أن الواقع لا يمكن أبدًا وصْفُه بدقة، بدَت التأثيرات محصورة ابتدائيًّا على مستوى الكوانتم. واصَل الفيزيائيون الاعتماد على الميكانيكا النيوتنية لحساب الأحداث على المستوى الأكبر، من قَبيل حركة كرة البلياردو. الآن تكشف نظرية الشَّواش كيف أن اللايَقينِيَّات والتَّقلبات الصغيرة على مستوى الكوانتم يمكن أن تَتضخم بعمليات تكرارية (كالفاندة المُركَّبة على حساب البنك) حتى يصبح لها تأثير جوهري على العالم الأكبر. يُمكن أن يطفو تَقلُّب الكوانتم ليصل إلى مستوى واقع الحياة اليومية بطريقة يوصِّفها المَثل الشائع «حرصًا على الظُّفر خَسِرْنا الحِذَّاء؛ وحرصًا على الحِذاء خَسِرنا الفَرَس، وحرصًا على الفَرَس خَسِرنا الفارس، وحرصًا على الفارس خَسِرْنا الحرب». في الطقس نُلاحِظ هذا النَّمط من التَّغيُّر بصورة درامية (منذ أن ذهبتُ إلى سياتل وأنا مقتنِعة أنهم يرسلون العامِلين في توقُّعات الطقس إلى شَمال غرب المحيط الهادي لتعلُّم التواضع).
الذاتية في نظرية الشَّواش
يقوم العِلم على المُلاحَظة والقِياس. وبالنِّسبة للعالِم ذي النظرة المادية الخالصة، إذا لم يستطع المرء أن يُعيِّن شيئًا ما بإحدى الحواسِّ الخمس، أو باستخدام الأجهزة التي تَمُد مجال عمل تلك الحواس، فإن هذا الشيء غير موجود. قياس الشيء يُثبِت واقعيَّتَه. العلم «لا يؤمن بالعفاريت» لأن أحدًا البتة لم يستطع أن يقيس عفريتًا. إلا أننا نستطيع الآن أن نقيس أشياء غير مرئية من قَبيل الكهربية، والمغناطيسية، وهي أشياء بَدَت للأعضاء المُؤسِّسين للجمعية المَلكية في لندن واقعة في دائرة السِّحر. وإذ تصبح الأجهزة والأدوات أكثر دهاءً وتعقيدًا، يمكن إجراء قياسات أدق وأدق. ولكن هل تعطينا الدِّقَّة الأعظم توصيفات أصوب للطبيعة؟
وحتى الشيء البسيط كقياس طول خط الساحل يَعتمِد على منظور استشرافي للمُلاحِظ. وخلافًا مع بحث يُجرَى لإثبات تَفوُّق ذكاء الرجل على ذكاء المرأة، ينبغي أن يكون قياس طول خط الساحل عملية أمينة صريحة، خِلْوًا من أي تورُّط عاطفي، أو ضغط سياسي، أو انحيازات لاواعية من قِبَل الباحث. ولكن عن كَثَب أكثر يجد الفحص عددا هائلًا من القرارات لا بُدَّ أن يَتخذها الباحثون قبل أن يَمتطُوا صَهْوة مَشروعهم. لا بُدَّ أن يَفْصل الباحثون في مستوى الضَّبط الضروري وأن يَختاروا أدوات القياس، وكِلا الأمْرَين يعكس المقصد من القياس.
أي غرض سوف تفيد فيه المعلومات؟ هل هي من أَجْل تشييد طريق على طول الساحل يربط المَجاري المائية بالوديان؟ وفي توصيف نزهة سيرًا على الأقدام بطول الشاطئ، يغدو خط الساحل طويلًا بطول ما يرتاده المُتنَزِّه من جلاميد وخلجان وثغور. وتقريبًا يغدو طول خط الساحل لا متناهيًا بالنسبة لنملة في اجتيازها المُضجِر للحصى والصخور على طول الشاطئ. أين تبدأ الأرض؟ وأين ينتهي المحيط؟ أكان مَد البحر عاليًا أم واطئًا ونحن نُجْري القياس. وسوف يغدو خط الساحل أطول كلما كان القياس أدق، حتى إننا نَعْنِي بأن نأخذ في اعتبارنا الشقوق بين حبَّات الرمال، ومن ثَم محيط الجزيئات التي تُشكِّل الرملة. ولكن هل تُعطينا الدِّقة المتزايدة إجابات أصوب، لزامًا علينا أن نجيب بالنفي؛ لأن كل خطوط السواحل حينئذٍ سيكون لها الطول اللامتناهي نفسه، وليس لهذا «مغزى»، ولا هو مفيد. يجب أن تُجرَى كل القياسات داخل سياق. مجددًا، ترتبط نقطة استشراف الباحث ارتباطًا وشيجًا بالنتائج المُتحصِّلة.
اكتشاف أنفسنا من خلال التجريب
إن العلم بِتوجُّهِه نحو الموضوع والمُعْطَيات الموضوعية، إنما يتخذ رؤية انبساطية للعالم ويَنحاز ضد الانطواء، حيث تكون الذات هي العامَل المُحرِّك الأول والموضوع ذا أهمية ثانوية. وبالإعلاء من قيمة قُدرتِنا على الإحاطة الموضوعية بالعالَم، نَقمَع أهمية إسهامات العوامل الذاتية، واصِمين إياها بأنها «محض ذاتية».
ولما كنتُ منطوية على نفسي، فقد دار اهتمامي بالعلم حول ما يخبرني به من سُبل جديدة لرؤية الواقع. وعن طريق مواجهة فروضي عن العالم، أكتشف كيف أصنعُ لنفسي حدودًا. توسيع رُؤاي للعالم أتاح لي أن أوسع نطاق ممكناتي. وهذا يستلزم فعلًا من أفعال الإرادة، إرادة أن «أرى»، أن أتغلَّب على التَّنوِيم المغناطيسي الذي يمارسه التوقع. وأندهش: ماذا لو كان هذا صادقًا؟ وماذا يعني بالنسبة للطريقة التي أرى بها العالَم وأعيش بها حياتي؟ كُلَّما أتعلم أكثر عن العالَم، أتعلَّم أكثر عن نفسي. وكلما أتعلم أكثر عن نفسي، خصوصًا من خلال التحليلات اليُونجِيَّة [نسبة إلى يونج]، أتَعلَّم أن أسترجِع الإسقاطات التي أُقولِب فيها العالَم.
لكي نستمسك بالإسقاط لا بُدَّ أن يكون ثَمَّة مِشْجَب نعلقه عليه. وهكذا تغدو مَكنونات الإسقاط مُشتبِكة مع الموضوع الخارجي، ومن ثَمَّ يجب أن نَتعلَّم تمييز الموضوع عمَّا نَتعطَّش إليه. التوقُّعات المُحبطة، التَّنافر بين ما نَتخيله حقيقيًّا وبين الواقع، هو ما يومئ إلى حدوث إسقاط. ونستطيع أن نَتبيَّن الإسقاط حين نَحذر الانفعال بمشاعر قوية مُعيَّنة من الانجذاب أو النُّفور، تُحرِّك المشاعر بصورة لا تتناسب مع الموقف. وإلى أن ينسحب الإسقاط، تكون العلاقة مع الموضوع في أحد جوانبها وهمية خادعة، وتميل إلى عَزْل الذَّات عن البيئة. انسحاب أو ذوبان الإسقاطات يَفتح الباب لعلاقة واقعية مع العالم.
إن الجانِب اللاواعي من نُفوسِنا الذي يبحث عن تَجلية يستخدم آلية الإسقاط ليجعلنا نتفاعل معه. حين يقع رجل في حُب امرأة، يُسقِط الجانب الأُنْثَوي من ذاته على تلك المرأة ويَشعر أنه يعرف كل شيء عنها. بعضٌ من تلك الخصائص تكون ماثلة، فعلًا، في المرأة، بما يكفي لتعليق الإسقاط. وينكشف حجاب الفِتنة حين يبدأ الرجل في تَمييز حقيقة المرأة كفَرد عن المخزون الكُلِّي من الخصائص التي أسقطها. حين نأبَه بالأمر، يُفيد الإسقاط كخطوة أولى نحو معرفة الذات. ومن الناحية الأخرى، نجد أن رفْض الاضطلاع بمهمة سَحْب الإسقاطات له عواقب وخيمة. إن الإصرار على الاستمساك بخصائص لا نمتلكها خارج ذواتنا يَنجُم عنه التعصُّب والمَحْرقة والحرب.
أدرك يونج في دراسته للسيمياء أن السيميائيين كانوا يُسقطون خصائص نفسانية، وعَملِيَّاتهم الجُوَّانية على المواد الفيزيقية والإجراءات داخل المُختبَر. لقد وصَفوا، بُلغة رمزية وخيالية، الظواهر كما لو كانت تَحدثُ خارج نفوسهم في المواد التي يُعالجونَها. وفي الآن نفسه، وجد يونج عبارات عن حقائق رُوحية وفلسفية ضمن توصيفاتهم للإجراءات السيميائية، بما يدل على أن السيميائيين أقَرُّوا بالمستوى السيكولوجي لعملهم.
وبالمثل، يومئ عملُنا — سواء أكان في الفن، أو في الأنشطة الاقتصادية، أو في العلم — إلى مسائل شخصية. وبِوصْفِنا علماء، نُسقط مكنونات نفوسنا الفردية على موضوعات الطبيعة وظواهرها التي ندرسها. أكَّدَت مناقشات الذاتية، حتى الآن، كيف أن الوعي بالآثار المُنحازة للقيم الشخصية والقيم الحضارية يمكن أن يَرتقِي بالعلم. والآن دَعُونا نُقلِّب الأمر على وجهه الآخر ونَتساءل عن الدور الذي يلعبه البحث العلمي في الارتقاء الشخصي للعالَم.
بينما كنتُ أعمل في هذا الفصل، حضَرتُ ورشة للكُتَّاب لكي أواصل الارتقاء بأدائي المهني. وطَلب منا المتحدِّث أن نأخذ إحدى المسائل التي نُعْنى بها كثيرًا ونَنسجها في حكاية شخصية. جلستُ على مقعدي أتأمَّل كيف يعكس بحثي العلمي مسائلي الشخصية، على طريقة إيمان السيميائيين بأن حدوث التفاعلات في الأنبيق، الوعاء السيميائي، يعكس ما يدور داخل نفوسهم. وتبعًا ليونج، يميل اللاوعي إلى أن يَحيَا بذاته مُتخارجًا في أفعال فيزيقية تحمل علاقة رمزية بما تريد النفس أن تجلبه إلى الوعي.
وحين تَفكَّرت في بحثي احتقن وجهي. شعرت أنَّني أنفضح. لقد أدركتُ أن بحثي يُومِئ إلى مسائل سيكولوجية باتَت جوهر تحليلاتي اليُونجِيَّة على مدار السنوات الخمسة الماضية. في الكُلِّية، درستُ تأثير المواد المُخدِّرة على خلايا نَسيج مُستنبَت من قلب نابض، وعلى سبيل المَجاز كانت نفسي تُومِئ إلى مشاعر خَدَّرتُها لكي أبقى على الحياة بَينما تعرضَتْ طفولتي للانتهاك. وفيما بعد أَجريتُ بحثًا في مجال المرض الذي ينتقل عن طريق العلاقات الجنسية، بما يشير إلى شئوني الشخصية المتعلِّقة بانتهاك جنسي إبَّان الطفولة. هل هذا أمْر بعيد الاحتمال؟ ربما. ولكن بينما كنت جالسة على مقعدي أصطنع هذه الترابطات في ورشة العمل، شعرتُ بأنها قريبة جدًّا من الحقيقة التي ينشرح لها الصدر. وفي إنكارٍ دفاعي، اعترضَت العالِمة داخلي بأنني كنتُ أفعل ما هو أكثر من هذا.
أردت أن أكتشف ما إذا كان العلماء الآخَرُون وجَدُوا أنماطًا مماثلة في عملهم. بَيْد أنَّ هذا كشَف عن صعوبة كبرى. مُعظم العلماء مِثلي، ليس لديهم فكرة عن أنهم يكشفون عن أنفسهم في عِلمهم. كثيرون نظروا بازدراء إلى علماء النَّفْس واستَخفُّوا بهم، قائلين «إن علماء النفس في هذا عليهم أن يضطلعوا فقط بمسائلهم». يؤمن العلماء الذين يُمارِسون العلم الصُّلب — العلم «الحقيقي» — أنهم جميعًا «يد واحدة» ويُمارسون عملًا منتجًا وله مَغزاه ويُؤمِن مُعظَم الباحِثين أنهم يُمارسون عملًا موضوعيًّا للتنقيب عن الحقيقة بشأن العالَم، ولسوف يُنكرون أنهم في المُختبَر يعملون في مسائل سيكولوجية. إن عملهم مُختص بكشف الطبيعة كأحرى من أن يكشفهم شخصيًّا، ومَغزى الانفصال عن العمل، التَّجرُّد من الوعي بالذات أو بالآخَرين، يَمنحهم الشعور بالعِزَّة. يرفض مُعظَم العلماء بِعناد الاعتراف بأنهم يُمارِسون أي شيء سوى العمل العلمي الخطير.
وبينما لا أشك في أنهم يُمارِسون علمًا مُهمًّا، تَعجَّبتُ مما إذا كان يمكن أن يوجد أي شيء من قَبيل التجربة الموصومة. وفضلًا عن قناع الإنكار هذا، ببساطة لم يتوافر لمعظم العلماء الوقت أو المَيل للتأمُّل الشخصي أو الاستبطان. إنهم (غير مُدرَّبِين على التفكير بلغة عِلْم النَّفْس وظَلُّوا على غير وَعْي بأمورهم المُعلَّقة ومسائلهم. في ثقافتنا، نظل ننظُر إلى الشخص الخاضع للعلاج على أنه مريض بدلًا من أن ننظر إليه على أنه ينمو ويرتقي. مثل هذه الديناميات تجعل الدراسة العلمية مُستحيلة تقريبًا. على أية حال، وجدتُ فعلًا عالِمات، وعلماء كُثر يشعرون بالارتياح لاستكشاف المسألة. وما داموا قد أشركونا في قصصهم عن ثقة، ولامسوا أخصَّ الجوانب في حياتهم وأكثرها تعرُّضًا للانجراح، فلن أذكر أسماءهم.
ها هي ذي عالِمة متخصصة في بيولوجيا الخلية بدأتْ مهنتها كباحثة بالعمل في تكوين الأبواغ في البكتيريا، تدرس الأسباب التي تجعل البكتيريا تلتزم بالتغيُّر، بأن تَصطنع طبقة من البروتين تُزوِّدها بدفاع ضد ظروف غير مؤاتية. بالتزامن مع هذا (؟)، تركَّزَت إحدى مسائلها حول الموعد الذي تخلف فيه، علاقات ووظائف ومواقف أخرى باتَت لاذعة. إنها تميل إلى التعلُّق بالأشياء طويلًا. تَندَّرْنا بحافظة نقودها العتيقة التي يَتَّصل نِصفاها معًا فقط بخيط منفرد. في فترة لاحقة، أنجزَت مشروعًا حول تأثير عوامل النمو على التصاق الخلايا. وتُحدِّثنا حول مَشروعَي البحثين وكيف يَتبَع كلاهما أطروحة الارتباط نفسها ومتى يكون الالتزام بالتَّغيُّر. وبعد هذه المُناظرة ببضعة أسابيع، تحدثتُ إليها عن مشروعها الجديد. قالت: إنها تخطط لدراسة انتقال مرض السرطان من عضو إلى آخَر، وخصوصًا حركة الخلايا وما الذي يُنشِّط تَحرُّكها، وحين ذكرَتْ كيف أنها تُواصل الأطروحة نفسها التي ناقشناها سابقًا، ضحكتْ وقالت: «هذا حق. بعبارة أخرى، أنا أسترسل وأنطلق قُدمُا. هذا مُسلٍّ! أنتِ تعلمين أنه حق، أليس كذلك؟ أنا لم أفكر في تلك المناظرة التي كانت بيننا!» وفي الوقت نفسه، كانت تَتَّجه إلى تَرْك الشركة التي عَمِلت فيها ما يربو على ثمانية أعوام.
وكانت عالِمة تدرس سرطان الثَّدْي وهي تَخوض مَعركَتها الثانية مع هذا السرطان في جسدها. وحين فازَت بعمل في دراسة في علم الأوبئة على سرطان الثَّدي، قالت مازحة: إنها أرادت أن تُمارِس عملًا في سرطان البروستاتا، «شيء ما لا يمكنها أن تَحظَى به أبدًا».
وانجذبَت عالِمة في المَناعة إلى العلم تعويضًا عن طفولتها المُشوَّشة. بدا العلم في ناظريها الشيء الوحيد الذي له أية صحة واقعية، المكان الوحيد الذي يمكن أن تَجد فيه الحقيقة الواقعية. وفي مُقابِل واقِعها الذي لا يمكن التَّنبُّؤ به، شعرتْ أنها يمكن أن تَجد النظام والصدق في القوانين العلمية. عَمِلت لما يزيد على عقد من الزمان في مَجال المناعة الذاتية، تدرس كيف يُباشر الناس الاستجابة المناعية ضد أنسجتهم هم. ومنذ ثلاث سنوات مَضت ونَيِّف واجهت عن وعي مسائل سيكولوجية عميقة. وحين كُنَّا نتجاذَب أطراف الحديث، كانت تربِط عَملَها في المناعة الذاتية بِمغزًى عميق لرفض الذات أحسَّتْ به لِمَا يقرب من خمسين عامًا من حياتها. قالت:
كانت المسألة الكبرى لي طوال حياتي هي أنني لم أشعر أبدًا بأن لي الحق في الحياة. إنها لَحِقْبة. ويحسن أن يكون هذا رفض-الذات، وإذا طرحته بهذا الأسلوب يُكوِّن مناعة ذاتية. إنه يتلاءم حقًّا هكذا؛ لأن الرفض كان ينبعث من الداخل أكثر من انبعاثه من أي مكان آخر، وكان بي مثل هذا في ذلك الوقت العصيب. كان الذي يُثقِل كاهلي رفض، رفض شخصي، رفض لذاتي. النباتات والحيوانات والبشر من حولي لم يَتساءلوا أبدًا عمَّا إذا كان ينبغي أن يظلوا على قيد الحياة، وأنا طرحتُ هذا التساؤل كل يوم حين كنتُ طفلة. لم أمسك فعليًّا على هذا التساؤل أبدًا، فقط كان ثَمَّة ذلك الشعور الغامر. ولم يَتصوَّر عقلي أبدًا أين يُمكِن أن أُعالجه، ما دام كان عميقًا هكذا، أساسيًّا هكذا، مُبكِّرًا هكذا، وأن أَقْبَل نفسي ولا أرفضها تطلب جهدًا كبيرًا. والآن تَجاوزْت هذا وقرَّرتُ أن لي الحق في أن أعيش، وليس لي أن أكون بهذه القسوة على نفسي. وإذ اجتزتُ كل هذا، كادَت تنتهي حاجتي للعمل في المناعة الذاتية. وأريد الآن أن أمارس عملًا يُدواي.
في مسار إجراء الأبحاث، تَتبدَّى مشاريع مُعيَّنة ولكنها لا تكون «شيِّقة» وبالتالي لا تتم متابعتها، بينما تغدو مشاريع أخرى محورًا لعمل يدوم طوال الحياة، كبحث هذه المرأة في المناعة. إن الارتباط بالشأن السيكولوجي يَهَب العمل العلمي الطاقة النفسية. المشروع شائق لنا لأنَّه يُهمُّنا على مستوى سيكولوجي عميق. الشخصي والذاتي يُمثِّل قوَّة دافعة للعلم؛ لأننا نقوم بإسقاط شئوننا الذاتية ونحاول حلها داخل المُختبَر. وهذا يبث النشاط في أعطاف عَملِنا ويُنير له الطريق. إننا نصبح الوعاء السيميائي الذي تَحدُث فيه التفاعلات، وإذا نَجحْنا سوف ينبثق شيء جديد.
في بعض الأحيان يرى الآخرون شئوننا وأمورنا المُعلَّقة أوضح ممَّا نراها نحن أنفسنا. أخبرتني باحثة عن زميلة كانت تعمل في الآثار الضارة لقطع القنوات. تَندَّر عليها رفقاؤها في العمل بأنها امرأة تَخصي. وكانت كزوجة هكذا بالفعل، لامَستْها هذه الدعابة عن كَثَب، وأثارت ثائرتها.
لا تعطينا الأمثلة السابقة برهانًا حاسًّا على أن الشئون السيكولوجية تدفع البحث العلمي، ومع هذا آمل في أنها قد تَشحذ همم الآخَرين ليشرعوا في الاندهاش كيف أن مسائلهم الشخصية قد تنعكس في العمل الخاص بهم. وقد تتساءلون، إذا كان عليكم أن تنظروا إلى بحثكم نظرة مَجازية، فهل سَترَون أيَّة علاقة بينه وبين الشئون السيكولوجية التي تَشغلكم، أو مجالات في حياتكم تحجبونها؟ أعتقد أيضًا أن هذا ينطبق على المستوى الجَمْعي في اختيار العِلم الذي يجري تمويله. مثلًا، مشروعات العلم الكبرى؛ مثل: الدفاع الحربي، ومشروع الجينوم البشري، وبرنامج الفضاء، ومُعجِّلات الجُسيمات.
ولكن هل تعطينا النظرة إلى العلم بوصفه أداة لمعرفة الذات علمًا أفضل؟ ورأيي المنحاز أجل، العلماء الأكثر وعيًا ينجزون علمًا أفضل، والأمران كِلاهُما يُسهمان في تطوير الوعي. إذا وعَينَا كيف يكون بحثُنا رامزًا لأنفسنا، نستطيع أن نطرح حلولًا في المختبَر كما نعمل على تَكامُلها مع حياتنا. تغدو حياتنا الجُوَّانية وحياتنا الخارجية مُتوشِّجتَين. وخلال مَسار البحث، نجد الارتقاءات السيكولوجية والتَّطوُّرات العلمية يُبصر كلاهما الآخر. حلول المشاكل الفنية يمكن أن تتكشف حتى في أحلامنا. ولكن حينما نحل المسألة الجُوَّانية، تبدو الطاقة وكأنها قد انسحبت من الأوج يغدو العلم مُملًّا، ونبحث عن مشروع يستثيرنا أكثر.
إن معرفة الذات، من حيث هي عملية تكرارية تفاعلية، تَهبُنا استبصارات للعلم، والعلم يُلقي الضوء على المسائل الشخصية. وكلَّما اكتشفْنَا أكثر عن الطبيعة، اكتشفنَا أكثر عن أنفسنا. وإذا نَكون على وعي بالرابطة بين النَّفْس والتجربة، نستطيع أن نطرح على أنفسنا أسئلة مختلفة حين يبدو العمل غير هادف. وحين تُخيِّبُنا تجربة أو مشروع بحث، أو حين يتواصل ظهور المَشاكل، يمكن أن نقطع خطوة إلى الوراء ونَتدبَّر ما إذا كان ثَمَّة شيء ما ذاتي، ربما تشير التجربة إلى الحاجة لتبديل منظورنا في المَجال الشخصي وبالمِثل تمامًا في البحث العلمي، كليهما. نستطيع أن نتساءل، إذا صغتُ هذه المشكلة بصورة مَجازية، ماذا سيحدث هنا، وما هي الديناميات الكامنة في الخَلْف؟
Table 4–14 compiled by the Natioal Research Council, in Vetter and Babco, Professional Women and Minorities: A Manpower Dtat Resource Service, p. 10.
475 Gate Five Record, Suite 300, Sauslito, CA 94964.
Gribbin, In Search of Schrödinger’s Cat: Quantum Physics and Reality, pp. 227–231.