الرعاية مُقارَبة طويلة المَدى
في هذه الأجواء المحيطة بي تَعلَّمت أن حياة المرء الشخصية لا مكان لها في العالَم الأصغر للعلم. وأحس خيالي بلافتة فوق باب المُختبَر تعلن «لا تُدخِل هنا إلا أشياء العلم» أفْصَحت قواعد غير منطوقة عن أن تعليق صور أو لوحات على كُتل الحوائط الرمادية مُنافٍ لقواعد المهنة:
بدَت هذه القواعد أكثر صراحة في خِبرة مرَّت بها إحدى صديقاتي. ففي يوم من أيام الربيع وضَعتْ وردة في أسطوانة مُدرَجة على منضدتها في المُختبَر. ولما رأى المشرِف هذا اعتبره إساءة بَالغة وقام بتعنيفها على ذلك الاستخدام غير الملائم للأواني الزُّجاجية. ببساطة لا ينبغي وضْع الزهور في الأسطوانات المُدرجة. فليس هذا هو الغرض من أواني المُختبَر الزجاجية. صُعِقتْ صديقتي بِرَد فِعْله. حين نَبَذ المُشرِف الوردة، وهي رَمْز كوني للجمال، والحب، والأنوثة الخالدة، كان ينبذ أيضًا الأُنْثَوية في العلم. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، عُنِيَت صديقتي بِفَصل أشياء العلم عن الأشياء الشخصية.
أتساءل الآن، وأنا واعية بالنفوذ الذُّكُوري على بيئة المختبَر، ما إذا كانت النساء الأخريات يُشاركنَنِي الحاجة لإضفاء الطابع الشخصي على الأجواء المحيطة، الحاجة إلى جلب الدفء والجمال إلى داخل المختبَر، إلى خَلق بيئة الرعاية. يعكس المُختبَر، بوصفه بيت العلم، عديدًا من قيم العلم؛ ولعل العلم، بدوره، يتأثر كذلك بتلك الأجواء المحيطة. وبهذا المغزى، يمكن أن ننظر للبنية الفيزيقية للمختبَر بوصفها عالَمًا مصغرًا لنضال الجانب النِّسْوي كي يتلاءم مع العلم، أو بوصفها، في أحيان أخرى، رَحابة العلم للاحتفاء بالأُنْثَوية. لماذا نثبط الأجواء المُحيطة الباعثة على الراحة التي تجعل الشَّخْص رَخِيَّ البال وبالتالي تقلل الإجهاد؟ تُبيِّن دراسات لا حصر لها أن الناس أكثر إنتاجية وإبداعية على مَدى فترات أطول من الزمن حين يكونون مُرتاحِي البال.
وعلى الرغم من أن «تزيين المُختبَر» قد يبدو مسألة تافهة؛ فإن بيئة المُختبَر التي هي من الناحية التقليدية بيئة لا شخصية إنما تعكس الانقسام الشديد في العلم ذاته، حيث المُختبَر على وجه الحصر مكان لجمْع المُعْطَيات العلمية. أي شيء آخر يُعدُّ غير ملائم يُشتِّت الانتباه وفي غير محله. لاحظَت الأنثروبولوجية شارون تراويك في دراستها للفيزيائيين المتخصصين في الطاقة العالية:
أي شيء شَخصي يُعتبَر منافيًا لقواعد المهنة. يهتف الصوت الذُّكُوري في رأسي، «تعليق الأشياء على الحائط، عَبَث ومضيعة للوقت». ليس للفن أو الأسرة أو المجتمع أو الهوايات أو المسائل السياسية مكان في المُختبَر، إنها دخيلة على مسار العلم. «فالعلم مشاغل جادة». وكذلك نجد فَتْح الباب لما هو شخصي يجعلنا نشعر بأنَّنا عُرضة للطعن، ما دام التَّحكُّم في حياتنا العاطفية أصعب من التَّحكُّم في المُناقشة المنطقية للمُعْطَيات والنظريات. لقد دَبَّرتُ حيلة لكي أرى كيف شَيَّد الآخَرون بيئة عملهم، فقمتُ بزيارة عدد من العلماء في مختبَراتهم بجامعة واشنطن في سياتل.
ولأني وصلتُ إلى مبنى عِلم الحيوان مبكرًا، رحتُ أتجوَّل حول القاعات وأنا أنتظر مجيء الموعد المُحدَّد للقائي مع إيمي باكن، وهي مُتخصِّصة في بيولوجيا الخلية. تُشكِّل النساء قطاعًا من هيئة التدريس في هذا القسم، وحوالي خمسين في المائة من طلبة الدراسات العليا فيه من النساء، وقد لاحظتُ في قاعاته أن لوحات النشرات تعكس تكاملًا بين العِلم والمجتمَع: في غمرة إشعارات عن حلقات دراسية، كان ثَمَّة بيان عن فريق خَلاص لمساعَدة المُشرَّدين مُجنَّد لتبني أُسرة، والتماسات لمبادَرات من أَجْل الاختيار المُسبق، وإقامة مراسم الموت الكريمة، وبيان تَطوُّعي عن برنامج لنصح وإرشاد طالب دراسات عليا.
تبادَلْنا حديثًا حول عملها، تناثَرت في ثناياه تأمُّلات في ارتقائها السيكولوجي الشخصي، وكيف نَمَّى علاقاتها وعلمها، وبعد هذا أخذتَني باكن إلى داخل مختبَرها. وعلى الفور لاحظتُ أن هذا المُختبَر قد رُتِّب وفقًا للوظيفة الخاصة بطائفتها، أماكن لوضع المَجاهر، والرحلان الكهربائي، والنظائر المرقومة، وما إليه. شعرتُ بأن المُختبَر مُتَّقِد بالحياة ومُنتِج. كانت الحوائط بين رُفوف الكُتب والمَراجع مُرقَّطة بمُلصقات، وبطاقات تُصوِّر الحياة في البَراري. وعنكبوت أرجواني من البلاستيك يلتصق متلاعبًا على وصفة صُندوق لمُفاعلات الكشف بواسطة جهاز قياس الرقم الهيدروجيني. تَداخلَت النباتات على أعتاب النوافذ مع أشجار الطُّرقات خارج المُختبَر.
إن مُختبَرًا على شاكلة مُختبَر باكن يُهيِّئ المجال لنمط مختلف من التفاعلات بين البشر، مثلما يعكس هذا النمط عَملتْ باكن على تنمية علاقات شخصية مع الناس الذين يعملون في مُختبَرها، علاقات تحتوي الشخص ككل، وليس فقط المخ واليدين اللتين تباشران التجارب. وبصوتها ذي النبرة الناعمة لاحظت:
يستطيع موقف الرعاية أن يوازن من جَهامة التركيز على الفاعلية التي تُجرِّد الحياة من عُذوبَتها. هذا العالَم اللاهث الذي نَحيا فيه جَعل الصدارة للفاعلية حتى باتَت بعض المُختبَرات مَصانع للبيانات، كما أن الضغوط من أَجْل الإنتاج دفَعت بعض الناس إلى طريق الخِداع. وفضلًا عن حالات قليلة من الغش لدينا الوثائق عليها، تَكاثرَت الخدع الماكرة كشكل من أشكال المقاوَمة السلبية. في واحد من المُختبَرات، على سبيل المثال، كان الكثيرون يَصِلون في الصباح بشكل روتيني، ويقومون بتشغيل جهاز الفرز بالطرد المركزي وهو خالٍ (لكي يوهموا المُشرفِين عليهم بأنهم كانوا يعملون)، ثم يَذهبون لاحتساء القهوة.
كثيرًا ما جرى إهمال عملية الرعاية؛ لأنها ليستْ درامية. ومع هذا، فهي ليست سلبية. إنها إيجابية بصورة بالِغة، بيد أنها ذات إيقاع مختلف، إيقاع دائري ورَتيب، تُواظِب على مُهمَّتها ساعةً بعد ساعة، ويومًا بعد يوم، وعامًا إثْر عام. وفي تواصلها غالبًا ما تغدو غير مرئية. لا تخلق الرعاية مردودًا فوريًّا؛ إنها عملية لا تنتهي أبدًا. تتطلب الصبر والعمل الحاني، الارتباط بموضوع الحُنُو، الانشغال الحميم بعملية التعلُّم، الإرشاد الدمث، التغذية والحماية. وتقليديًّا تضطلع النساء في حضارتنا بوظيفة الرعاية؛ حيث يَعتبِرنَها في المقام الأول مسئولية العناية بالأطفال وتعليمهم، وتمريض المرضى. بيد أنها وظيفة يمارسها الرجال أيضًا حين يقومون بمهمة نصح وإرشاد الطلاب.
رعاية الطلاب
إن عملية تغذية عقول ونفوس الطلاب جانِب آخَر حيوي من جوانب الرعاية في العلم. والمُعلِّمون، مِن حيث هم رعاة، مُرشِدون كأحرى من أن يكونوا مراكز سُلطة. إنهم يُوفِّرون فضاء آمنًا من أَجْل ارتقاء وتَميُّز الفرد الفريد المعهود به إليهم. يَمنحون الطالب الأدوات الضرورية للإسهام في المجتمَع العلمي. قامَت عالِمة الحيوان إنجريث ديرب-أولسن بتدريب الطلاب في قاعة الدرس وفي المختبَر لما يَنُوف على أربعين عامًا، وهي تُعْنى عناية بَالِغة بدرسها:
يلتحم طلبة الكلية بالجانب البارد من العلم حين تواجههم عقلية «أن تنجز — أو — أن تفنى» التي تسيطر على العديد من مقرَّرات العلم الدراسية. وغالبًا ما يتم تصميم المقرَّرات التمهيدية في العلوم بوصفها طقوسًا افتتاحية لاستبعاد غير الجديرين. وكما يحدث في الجيش، الموضوع هو فَصْل الرجال عن الصِّبْية. ويُعد الاستمرار في المُقرَّر الدراسي إنجازًا بُطولِيًّا. وبدلًا من تشجيع الطلاب عن طريق جعل العلم مثيرًا وجذَّابًا، يُعلن أساتذة العلم للطلبة المُستجدين، «أتيتم إلى هنا لكي نُغَربِلكم.»
وقد التحمتُ ببيئة مُماثلة لهذا الأسلوب، أسلوب إن لم تَسبح ستَغرق، وذلك حين كنتُ أُعد بحثي للتَّخرُّج. نادرًا ما استلَّ المُشرِف عليَّ وقتًا من كتابة تقرير المِنحة الدراسية لكي يُعلِّمَني الأساليب الفَنِّية للمُختبَر، ولعله لم يفعل هذا أبدًا. انتظَر مني أن أتعلمها بمجرد قراءة الإجراءات في مَقال منشور بمجلة علمية. وليس هذا أمرًا يسيرًا بالنسبة لطالبة مُستَجدة في الميدان، ما دام المؤلِّفون عادة ما يُضمِرون بضعة افتراضات، ويستخدمون رطانة لا يعرفها المبتدئ، ويَتركون التفاصيل الدقيقة للأساليب الفَنِّية من دون شرح. إن هذا يُماثِل تَرْك شخص مُبلبلًا في المطبخ ومعه كِتاب طهي أعَدَّه خَبير في صنوف الأطعمة، ولكن بغير أن يكون لدى هذا الشخص أدنى فكرة عن كيفية إعداد البيض في المقلاة بقليل من الدهون، أو طَيِّه، أو فَصْل صفار البيض عن بياضه.
من الناحية الأخرى، تأتي الرعاية من موضع الحب. وفي الأعم الأغلب نُفكِّر فيها في حدود العناية بالصِّغار وبالمَرضى. ليست الرعاية مسألة بطولية أو درامية أو مثيرة، بل هي عملية وَديعة متنامية، مثلما تَنْحتُ الريح صخرة، تنبني الرعاية، من حيث هي علاقة ثقة وارتباط، بواسطة الآمال والتوقعات. إنها جانِب حميم من الحياة يَتألَّف من أفعال صغيرة لتركيز الانتباه. الرعاية تَتطلَّب التلقِّي. وكما يعتمد الشكل النهائي لصخرة نَحتَتْها ريح على طبيعة الصخرة، بالمثل تمامًا تعتمد شاكِلة العالَم على الطبيعة الفَريدة للفَرْد. إن الرعاية تُنمِّي وتكشف الإمكانية المتلألئة الكامنة في لُب كيان الطالب، تجلو هذه الإمكانية حتى تَسطعَ ببريق خاص بها.
يُقدِّم مُقرَّر علم الحيوان الذي تدرس إيمي باكن نموذجًا لرعاية الطلاب يَستثير عقولهم بينما يُنتَظر منهم أداء عالي المستوى. إن مُقرَّرها يتحدَّى طلابها، وفي الوقت نفسه تَشُد أَزْرهم من خلاله. ويأتي مردود جهودها حين يخبرها طلابها، «هذا أصعب مُقرَّر درستُه طُرًّا، ولكني تَعلَّمتُ منه الكثير. شكرًا لك.»
وأيضًا تَكد باكن من أَجْل توفير مناخ الرعاية في مُختبَرها. يقول طلابها من باحثي ما بعد الدكتوراه إنها تفعل هذا بطريقة تمنحهم الفرصة لكي يَتطوَّروا ويعملوا من أَجْل أنفسهم، ولكي يَستقِلُّوا. تعتقد باكن أن الشخص إذا أحب ما يفعله، فسوف يمتلك الدافع الذاتي. إنها لا تعمل على دَفعِهم بأن تَقف أعلاهم لتُفَرقِع بالسَّوط في الهواء وتنظر في الساعة، ولكن بدلًا من هذا تُبدي اهتمامًا بمشاريع طلَّابها، وتُقدِّم الإرشاد الدَّمِث. وإني لأغبط الاهتمام الذي تمنحه باكن لطلابها فردًا فردًا تقول:
وعندما تُبيِّن باكن لطالبها الأسلوب الفني المَعملي، تُوضِّح أن ثَمَّة عدة أساليب مختلفة لمعالَجة الأشياء، وأن الناس المختلفِين في مُختبَرها قد يَعرضون عليه أسلوبًا يختلف بعض الشيء لأداء هذا العمل. وهي تُخبر طالِبَها بالأسباب التي تَجعلها تُعالج الشيء بأساليب معيَّنة وتسألهم أن يَتعلَّموا هذه الأساليب قبل أن يتلاعبوا بالأساليب الفنية المعملية. وقد لاحظَتْ:
بهذه الطريقة تُشجِّع باكن طلابها بدلًا من أن تكسر شوكتهم؛ لأنهم ارتكبوا خطأ غبيًّا. لقد عانت، في مرحلة مبكِّرة من حياتها، من جرَّاء نقد انطوى على أنها كانت غبِيَّة؛ لأنها فعلتْ شيئًا غبيًّا. تستبقي خِبرَتها في ذهنها وهي تُدرِّب الآخَرين، وتَعتني بكيفية ما يشعرون به. إنها تُجاهد لانتزاع سُمِّ العقرب من النَّقد، وتُعيِّن الأخطاء من دون هجوم شخصي على الطالب. وتعلم أنها تُزيح كثيرًا من التَّوتر النفسي حين تقول: «آه، لقد أصبح العامود يدور وهو جافٌّ» بدلًا من أن تقول: «لقد تركتَ العامود يدور وهو جافٌّ».
إن الحلقات الدراسية في الإدارة تأخذ بأسباب هذه الأساليب الفنية لإعمال التغذية الاسترجاعية في الناس (نقد المَسلك وليس نقد الشَّخص)، وعلى الرغم من هذا، قِلَّة من العلماء هم الذين يَتلقَّون تدريبًا في الإدارة، أو ينشغلون كثيرًا بسيكولوجية العلاقات. ويبدو أن النَّقد الصارم هو القاعدة. ثَمَّة فَنِّي مَعمَل مُستجد في مُختبَر باكن ارتكب بضعة زَلَّات خطيرة ولا يَزال يُساوِره الشك حول كيفية رَد الفعل إزاء أسلوبها. وحين سألتْ عمَّا إذا كان قد تَقدَّم في عمله، بدا للوهلة الأولى مرعوبًا، يتوقع أن تُطبِق على عنقه. ولم تفعل ذلك، حينئذٍ لم يَدرِ تمامًا ماذا يفعل حيال هذا الموقف. أَجَل كانت باكن على وَعْي بأخطائه، إلا أنها كانت أيضًا ترقب إلى أي حد يتعلَّم.
وهاك طالبة دراسات عليا، يتعاقَب تَردُّدها على مُختبَر باكن وتَستدعِي التقابُل بين مُختبَرين عملت فيهما، أحدهما تَسوده الرعاية والآخَر ليس هكذا:
في أحد هذين المُختبَرين كانت رئيستي في العمل على وعي بكل ما كنتُ أقوم به، وكيف ينتقل من خطوة إلى ما يليها. كان شيئًا عظيمًا، حين تَهلَّل وجهي، وعرفتُ على الفور ما قد اكتشفته؛ لأنها كانت على وعي بما كنتُ أقوم به. كان موقفها هو موقِف الدَّعم والتشجيع إلى أبعد حَدٍّ. لقد تعلَّمتُ قدرًا هائلًا من المادة العلمية بوجودي في مُختبَرها.
كان الأستاذ في المعمل الآخَر مُثقلًا بالعديد من المسئوليات الإدارية والتعليمية، وبالتالي لم يكن يهتم كثيرًا بما كنت أقوم به. لم تكن هذه خِبرة تعليمية كبيرة. لم أعرف ما إذا كنتُ أتعلَّم. قرأتُ أبحاثًا، ونظرتُ إلى الخلايا، ورأيتُ أشياء مختلفة، ولكن لا أزال حتى يومنا هذا لا أعرف أبدًا هل ما كنتُ أرصده باهتمام بالِغ هو بالفعل شيء يَستحق أن تلتفت إليه. إن المبتدئ في العلم سوف يراقبُ شيئًا ما يستطيع الشخص الذي راقبه لفترة طويلة أن يقول لك «عنه لقد راقبتُه من قَبل، وهذا في واقع الأمر لا يهم كثيرًا، إنه غير ذي دلالة كبيرة» لم أكتسب ذلك النوع من التغذية الاسترجاعية، ما دامَت الأشياء التي كنتُ أنفق عليها وقتي وجهدي قد تكون وقد لا تكون حقيقية.
وأيضًا نجد باكن واعية بطلَّابها وزملائها من حيث هم بَشر بالمعنى المتكامل، وليس بوصفهم علماء فحسب. تَتضافر في حواراتها المجالات الشخصية والمجالات العلمية. إنها تعمل على انسجام أمزجة طُلابها. وإذا لاحظَت واحدًا منهم يتثاقل أو يَتغيَّب عن المُختبَر، تسأل، «لا أراك كثيرًا في المُختبَر، فهل أنتَ عاجز حقًّا عن مواصَلة مَسار العمل، وإلا فماذا يحدث؟ هل يَنتابك الإجهاد؟ هل تشعر بزيادة كَمِّ العمل الإضافي؟» وغالبًا ما تُمهِّد لسؤالها بالآتي، «خذ بالَك، أنا لا أحاول اقتحام حياتك الشخصية، ولكن التجارب لا تَسير جيِّدًا، وأنا أريد أن أعرف ما إذا كان هذا بسبب خطأ ما فيما يتعلق بالمنهج، أم أنك لا تملك وقتًا لمتابعتها الآن، أو ما إذا كنتُ أستطيع أن أساعدك بطريقة ما؟» وقد وجدَت أن الطلاب يُقدِّرون انشغالها بهم وينفتحون عليها ويخبرونها بما يحدث في حياتهم.
وخلال العشرين عامًا التي قَضيتُها في رحاب العلم لم أشعر أبدًا بارتياح في تبادُل الحديث مع أساتذتي ورؤسائي حول مشاكلي الشخصية، كنتُ أشير إليها باقتضاب في الحدود المتاحة لامرأة. كان هذا يُعتبَر منافيًا لقواعد المهنة. لا أحد يريد أن يسمع أعذارًا، لا يهم ما كان يحدث في حياتي، بدءًا من ضغوط الامتحانات ووصولًا إلى فُقدان أو مَوت أحد أفراد أُسرَتي. ينبغي ألَّا يتدخل شيء في مسار العمل. ببساطة يجب إهمال أو تَجاوُز المشاكل الشخصية. لا يهم إلا النتائج. ولكن ما يحدث على الإجمال هو أن العلم يتباطأ في مَساره حتى يتم الاهتمام بالبُعد الشخصي وحل المشاكل.
ولأنه يمكن التواصل مع باكن من حيث هي كائن إنساني، نجد الطلاب في فصولها الدراسية تدفعهم غريزتهم إلى البحث عنها حين يقعون في مَتاعب. وتتذكر باكن:
الخوف من الورم القتاميني أَعجَز كاتي. وقف خوفُها عائقًا في سبيل أي عمل مُنتِج، حتى كان حوارها مع باكن. لقد عُنِيَت باكن بمشاعر كاتي وشاركتها خبرتها، وبهذه الطريقة ساعدَتْها على تَدجين مخاوفها، حتى استطاعَت كاتي أن تواصل طريقها في الحياة.
مثل هذا الانشغال بالحياة الشخصية للطلاب والزملاء غير شائع في العلم، إلا أن النُّصح والإرشاد يحدث أيضًا عن طريق التقديم إلى شبكة عَمل خِرِّيجي المدارس الثانوية، والتوصيات بمراجَعة الأبحاث، والإحالة إلى مُختبَرات أخرى، ولكن هذا يتطلب في بعض الأحيان أن «يؤمن» شخص ما بنا، أن يعترف بمواهبنا ويُشجِّعنا على تجاوُز الرؤية الخاصة بنا.
تشعر عالِمة الفيزياء الحيوية سينثيا هَجِرتي أنها محظوظة جدًّا؛ إذ وجدَت اثنين على الأقل من الأساتذة المُرشدِين رائعِين ليَرعَيَا انبهارها بالبيولوجيا. لا أحد البتة من عائلة هَجِرتي التحق بالجامعة، ولذلك لم يكن لها مثل هذه التَّطلُّعات حتى تَبيَّنت مُدرِّسة البيولوجيا في مدرستها الثانوية اهتمامَها بهذا العِلم. أَمدَّت هَجِرتي بالتشجيع والاعتراف الذي لا تستطيع عائلتها أن توفِّره. ركَّزَت اهتمامها على تَسكُّع هَجِرتي واقترحَت عليها أن تدخل مَعرض العلوم الإقليمي، وهذا شيء لم يَخطر على بال هَجِرتي أن تفعله. وما أدهش هَجِرتي كثيرًا أنها ظَفِرت بمنحة دراسية لمدة عام في الكلية من أَجْل مشروعها. وعلى مدار الأعوام، أصبحَت مُعلِّمتها صديقَتها الحميمة وظلَّتَا تُحافظان على اللِّقاء عدة مَرَّات كل عام. وثَمَّة أيضًا أحد أساتذتها الذين دَرَّسوا لها البيولوجيا في الكلية شجَّع عمَلها وزَيَّن لها أن تواصله. وفيما بعدُ سهَّل لها الالتحاق بالدراسات العليا ولا يزال هو الآخَر صديقًا لها. ومن دون هذا الاهتمام الشخصي والرعاية، ما كانت هَجِرتي لِتذوق أبدًا رَوعة الكشف العلمي.
رعاية الأفكار
إن الأفكار التي تَتجاوز النموذج الإرشادي العلمي [البراديم] الجاري عادة ما يقابلها المجتمَع العلمي النَّقدي والشَّكَّاك بالسُّخرية أو الرفض الناعم. الأمثلة على هذا كثيرة، من قَبيل عمل بربارة ماك كِلينتوك في جينات النبات المُتحرِّكة، وفرض السببية التكوينية لروبرت شيلدريك (الذي ناقشناه في الفصل الرابع). العديد من الباحثين الأقل شجاعة يَهجرون عملهم حين لا يلقى تأييدًا، ويَئدون حياة الفكرة. وعندما يجلب المفهوم سخرية الزملاء، مثلًا وصَف المحرِّر كِتاب شيلدريك بأنه «أكثر ما رآه خلال سنوات عديدة استحقاقًا للحرق»، يميل علماء آخَرون إلى تَجنُّب هذا أصلًا بدلًا من أن يُخاطروا بسمعتهم ويَشيع عنهم أنهم يرتبطون «بعلم زائف».
وبينما يمثل البرهان الدقيق مُرتكزًا في العلم، تحتاج بذور الأفكار والنظريات الجديدة إلى بيئة آمنة وواقية يمكنها أن تَنضُج فيها قبل أن تواجَه ضوء النقد الكاشف. غالبًا ما شعر مُناصِرو الأفكار الهَشَّة غير مكتملة التكوين أنهم عُرضة للطعن. ويَتردَّدون في جعْل أنفسهم مُعرَّضين للسخرية لطرحهم تصورًا أبْلَه. ومن الناحية الأخرى، نجد أن ما يُعِين الأفكار على أن تُزهر وتَتفتَّح أكمامها هو عَرْض ما يخطر في البال بين الزملاء الذين يَشدُّون الأَزْر بغير الحساب العسير. يَستطيع العلماء مُساعدة زملائهم على التَّلقُّح بأفكار جديدة، وذلك عن طريق المُوازَنة بين النَّزعة الشَّكِّية، والنَّزْعة النَّقدية، وبين المُعتقَد التجريبي، وموقِف الرعاية. ثم يتطلَّب الأمر وقتًا وجهدًا ومالًا من أجل الحصول على مُعْطَيات لتغذية وتدعيم أفكار جديدة. ومن المؤسف حقًّا، أن الحصول على تمويل لِمَد نطاق معارفنا عن أشياء نعرفها بالفعل أسهل من الحصول على تمويل من أَجْل اقتحام آفاق جديدة.
تبحث سينثيا هَجِرتي بحثًا ناشطًا عن زملاء تَتداول معهم الأفكار، عن ناس يهتمون بعملها لينصتوا إليها ويَلمع ذِهنهم فجأة بخواطر. خبراتها السابقة بالمُعلِّمَين اللَّذَين شجَّعاها وشَدَّا أَزْرَها في المدرسة الثانوية وفي الكُلِّية، قد عَلَّمتْها القيمة العُظمى للتَّواصل مع الآخَرين من أَجْل رعاية الأفكار. تقول هَجِرتي:
والزملاء من سائر أنحاء القُطر، بِدورهم، يَتَّصلون بها تلفونيًّا ليتَحدَّثوا عن أفكارهم أو عن صُعوبات حين تُصادفهم مُعْطَيات مُثيرة للحَيرة.
تنطوي مُقارَبة الرعاية على استبقاء الانفتاح على احتمالات عَديدة، وطُرق مُختلفة للتنمية. إنها تفتح الباب لعَملِيَّات لا شعورية، لحركة الرُّوح، ولصوت النَّفس وهي تُنادي بدلًا من أن نَحصر أنفسنا في المعلومات الآتية من مصادر عقلية فقط. دخول هذه المنطقة الواقعة على عَتبة الشعور، هو حالة شواشية إلى حدٍّ ما تُتيح لنا مُباحَثة مَعانٍ وارتباطات جديدة. أما البحث عن الوضوح والإدراك الناصع أو الأفكار الثابتة قَبل الأوان فهو أشبه بإجهاض النَّمَاء المحتمَل لنَبتة بازغة عن طريق تقليب التربة في وقت مُبكِّر جدًّا، تَتفاعَل الرعاية مع الطالب، أو مع فكرة، أو مع الطبيعة ذاتها. إنها مَسار – مسار تِكراري وتَستجيب للتغذية الاسترجاعية.
تُقِيم باكن مُلتقَيات مَعملية أسبوعية لكي تعطي الناس في مُختبَرها فُرصة لعَرْض مُعْطَياتهم، وتَلقِّي تغذية استرجاعية من زملائهم، وأفكار تَبرُق في الأذهان بشأن التَّضمُّنات المحتمَلة للنتائج. وبالْتِفافِهم حول الدائرة، يَصِفون تجاربهم ويَطرحون المُعْطَيات التي توصَّلوا إليها. تَطلُب باكن من باحث تفسير النتائج، ثم تطلب من آخَرين في المجموعة أن يُدلوا بتعليقاتهم قبل أن تَتقدَّم بملاحظاتها. تَبتهِج بمراقبتهم وهم يَصِلون تدريجيًّا إلى مَغزَى المُعْطَيات. قالت: «أحيانًا تلمحُ الضوء ينبعث في الأرجاء، وهذا مدهش حقًّا». تَقدَّمت طالبة دراسات عليا تعمل في مُختبَر باكن برؤيتها لعملية استكشاف الأفكار:
إنها حقًّا تسير بشكل جيد مع إيمي ذات مرة شَعرتُ بأن لدي فكرة مهمة جدًّا بشأن النتيجة، سرعان ما الْتَمعتْ عيناها وتَفكَّرت فيها، وقالت: «يمكن أن تكون هكذا». كان لهذا مَغزاه. أما عن بقية الأمر، فهو أنَّنا كنا نمارس العمل بالفعل حين نفكر في المسائل النظرية في العلم، والمُعْطَيات التي كنا نحصل عليها فعلًا، عادة ما نحاول تحديد لماذا جاءت غريبة هكذا وما هي المشاكل.
مُشرِفون آخَرون قد لا ينفتحون هكذا على تَطوُّر طلابهم. وكما لاحَظ طالب دراسات عليا في الميكروبيولوجيا يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا.
أولئك الذين يعملون في مُختبَر ستيفن هوكنج في قِسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء البَحْتة في جامعة كمبردج يَعتبرون التفاعلات والأفكار التي تَخطر ببالهم مُهمَّة لدرجة أنهم يُحدِّدون لها وقتًا في صميم تنظيمهم لليوم. كلهم يَجتمعون مرَّتَين في اليوم في غُرفة التفاعلات من أَجْل الشاي والنظرية.
المُؤسَّسات
وفي مُقابِل هذا، تتذكر كريستينا كَتزاروس، أستاذ العلوم الجوية في جامعة واشنطن، كيف لاقى اهتمامُها بعلم الأرصاد الجوية رعايةً مبكِّرة في مَسارها المهني، كانت آتية من السويد في بعثة لتبادُل الطلاب، حين مَشت يومًا ما عند مَبنى علم الأرصاد الجوية في سياتل، وفي دفعة واحدة قَرَّرتْ أن تدخل وتكتشف المزيد حول هذا المجال:
حين استمعتُ إلى قصص الأساتذة المساعِدين الشُّبان وهم يحاولون إثبات ذاتهم، هالَني كيف أن الدَّعم والرعاية يمكن أن يَساعدَا كثيرًا في مثل تلك الآونة. النموذج النَّمطي هو أن كل شخص غارِق في البحث الخاص به حتى إن مسألة دَعم الآخَرِين نادرًا ما تَشغلهم. ومع هذا، سوف يعني الكثير لو أن الزُّملاء رحَّبوا فعلًا بالوافد الجديد وساعدوه في إعداد وتجهيز المُختبَر، مثلما نُساعد صديقًا ينتقل إلى مسكن جديد، أو نُسهم بجهد لمساعدة جارٍ يملأ مُخزنَه بالغلال. لعل أحدهم يهتم اهتمامًا شخصيًّا بأن ترسخ أقدام الوافدين الجُدد، بأن يُعلِّمهم أصول العمل، ويساعدهم على الإبحار في غياهب البيروقراطية. ثَمَّة سُبل عديدة لاندماج العلم في العمليات التي طَوَّرتْها النساء من أجْل العمل المتشابك ودعم كل الجهود ورُؤى الآخَر في النظام الجاري، إذا لم يَقم شخص بعمل ما، يُوجَد آخَرون على أتم استعداد لأن يَحلُّوا مَحلَّه. وثمة تناقُض ذاتي حقيقي، وذلك في أن المَعاهد العلمية تجأر من واقعة مفادها تناقُص عدد الناس الذين يَلتحقون لدراسة العلم، وفي الوقت نفسه لا تفعلُ شيئًا لتشجيع الناس على المُكوث في عالَم العلم.
في يومنا هذا، حين يَرتطم علماء شُبَّان بمشكلة الحصول على تمويل، فإن ما يَعوزهم هو اكتساب الثقة بالنَّفْس لكي يَقولوا «هذا ليس عدلًا» بدلًا مِن «أنَا غير جدير». بعض العلماء الشبان يَعوزهم الشعور بأن أحدًا يُؤمِن بهم. وحين يَظفرون بشخص يَتقاسمون معه الإحباطات يمكن أن يُساعد هذا في الحيلولة دون اعتبارها إحباطات شخصية، الحيلولة دون أن يَقْسُوا على أنفسهم ويفكروا «ثَمَّة شيء مَغلوط فيَّ، وقد فَعلوا هذا لأني غير ذي أهمية ولا أستحق دعمًا.» وبدلًا من الشعور بأنهم مُهيَّئون للقتال ومن تبديد الجهد فقط لينقذوا أنفسهم من الغَرق، يمكن أن يكونوا أسعد وأغزر إنتاجًا إذا اهتم زملاؤهم بوجودهم في الميدان وعملوا على تشجيعهم. وبعد ذلك يمكنهم أن يَبذلوا جهودهم في بحوثهم ويُرجئوا شيئًا ما يمنحونه للطلاب ويَستثمرونه في الجانب الشخصي من حياتهم. في بعض مجالات العلم الآن يَتطلَّب الأمر أن يكون المرء أنانيًّا ليبقى. لاحظَت كتزاروس:
إن العالِم الأكاديمي يَقضي ما يناهز خمسة وعشرين عامًا في التعليم (تتضمن أربع سنوات في الكلية الجامعية، ومن أربع إلى ست سنوات في كلية الدراسات العليا، ومن سنة إلى أربع سنوات مُنشغلًا بأبحاث ما بعد الدكتوراه)، وبعد هذا يَظفر العالِم الأكاديمي أخيرًا بالتَّعيِين في الجامعة ويبدأ في تجهيز المُختبَر الخاص به. يَنتقل الأساتذة المُساعدون الشُّبان مرة أخرى إلى مكان جديد، عادة بعد أعوام من الحياة بأسلوب مُتشظٍّ، ويَضطلعون بمسئوليات تدريسية جديدة، يَعملون في لجان القِسم ولجان الجامعة، بينما يَكتبون تقارير المِنَح الدراسية، ويُحاولون اجتذاب طَلبة الدراسات العليا، ويطلبون مُعدَّات وإمدادات وتجهيزات لإعداد المُختبَرات. الضغوط هائلة في هذه الآونة. أداؤهم خِلال العامين الأوَّلَين يُحدِّد وضْعَهم طوال البقية الباقية من مَسارهم المِهَني. إذا لم يحصل الأستاذ المساعد على تمويل لبحوثه لثلاثة أعوام مُتوالية، فليس من المحتمَل أن يبقى في جامعة رائدة. لا يزال الأستاذ المساعد يواجه من جديد موقف أن يَسبَح أو أن يغرق.
تُعاني مؤسَّسات العلم، من قبيل الجامعات ووكالات التمويل، من افتقاد الرعاية. النظام يُكافِئ العلماء على عدد الأبحاث المنشورة، والعروض وبراءات الاختراع، وليس على التدريس أو المساهَمة في الأنشطة التعاونية. تَولِّي المَنصب يَكفُل للأساتذة راتبًا مَدى الحياة ما لم يَرتكبوا انتهاكًا خطيرًا للقواعد. الظَّفَر بالمَنْصب الثابت يَقتضي أن يَنشر الأستاذ عددًا كافيًا من الأبحاث كي يُقنِع لجنة من وُلاة الأمر. أن تنشر أو أن تَهلك. ولا تُعتَبر نوعية التدريس ذات أهمية. مُشكلة الظَّفر بمنصب دائم تَخلق ضغطًا كبيرًا على الأساتذة الشُّبان لدرجة لا تستطيع معها الجامعات أن تقوم بالوظيفة التي بُنِيَت من أَجلِها؛ أي التدريس للطلاب.
إن نظام المكافأة القائم على الكُمِّ بدلًا من الكَيف يُثبِّط العزم على الدراسات طويلة المدى والتأليف بين خطوط عديدة من البحث لتكوين صورة أرحب. ينتج عن هذا عرض مَتشَظٍّ للبيانات وبرامج البحث. إنه يدفع بالعَرَبة إلى استهداف السُّرعة والجدارة لكي تكون في المقدِّمة، ولا يهم كيف، مهمَا تطلَّب الأمر. الغاية تُبرِّر الوسيلة. إن التشديد على أهداف يمكن أن ينزع عن المُغامرة طابعها الإنساني. ولا يمكن أن يكون المرء عُرضة للانجراح في نظام على هذه الشاكلة.
ومن أجل الوقوف في وجه مثل هذا الإنتاج المُتوالي للأبحاث، تبدأ بعض المؤسَّسات الآن في تحديد عدد الأبحاث التي سوف تَقبلُها للتقويم. تنشد المؤسِّسة القومية للعلم التشديد على جَودة الأبحاث المنشورة، وذلك بألَّا تسمح للباحثين بأن يتقدَّموا بأكثر من خمسة أبحاث مُرفَقة بطلبات الترشيح للمِنَح، وبعض الجامعات المرموقة مثل كلية طب هارفارد لن تُحَكِّم إلا عددًا يتراوح بين خمسة وعشرة أبحاث من ضمن أهم أبحاث المُرشَّح.
ومجددًا يُناضل العلماء من أَجْل المنزلة، غير مُبالِين كثيرًا بالرعاية، وذلك حين يَئُون أوان عرْض نتائجهم. يجري تنظيم مُعظَم المؤتمرات بسلسلة من الجداول الدقيقة تعطي الفرد من عشر إلى خمس عشرة دقيقة للعَرض، حيث يُقدِّم المرء عمله في قاعة مكتظة بالناس. كل امرئ جالِس مُيَمِّمًا وجهه ومُنصتًا إلى الشَّخص الذي يعتلي المِنصَّة. أما التفاعلات، فإن الجدول يفسح لها مساحة ضئيلة أو لا يفسح وفي العادة، تَمتد الكلمة إلى فترة وجيزة من ثلاث إلى خمس دقائق لطرح الأسئلة. وثَمَّة مُلصقات الإعلان عن جلسات القِسم الدورية (حيث يضع الباحثون مُعْطَياتهم على لوحات النَّشَرات ويناقشون النتائج التي تَوصَّلوا إليها مع العلماء المَعنِيِّين بها الذين استوقَفتْهم المادة المعروضة) أجل هذه المُلصقات مَدعاة لتفاعُل أكثر، إلا أنها لا تُعتبَر وجيهة كإلقاء كلمة في مؤتمر. وعلى الرغم من أن الكلمة قد تُوجِز عملًا أنتجه فريق من الباحثين، فنادرًا ما يُذعِن من يعرضها لزميل من الجالِسِين في القاعة ويجيب عن سؤاله. لا أحدَ يجرؤ على الاعتراف بأنهم لا يَعرفون كل شيء عن الموضوع وحتى مُلتقًى صغير لسِتِّين باحثًا من أعضاء الاتحاد الأمريكي للجيوفيزياء نَجِده يَتبع النموذج الذي أَرسَتْه المُلتَقيات الكبرى لاحَظ واحد من طلبة الدراسات العليا في عِلم البحار:
غالبية الناس من المُستمعِين كانوا معًا في البحر لعدة أسابيع، عملوا سويًّا تحت ظروف صعبة. أفكر في هذا؛ لأنَّنا كُنا جميعًا نعرف بعضنا في أجواء منفتحة وأقلَّ تكلُّفًا بالرسميات، ولكني صُدِمت بأنهم لكي يَلتقوا معًا كان ينبغي عليهم ارتداء الملابس الرسمية ورابطة العنق، ويَتكلَّفون في جلستهم ويطيلون في مناقشة الكلمات كي لا تنتهي إلى شيء، وكأن الواحد منهم يُدْلي بالبيان الخاص به عن طريق نَقد عَمَل الآخَر، ليس من الضروري أن تتخذ المناقشات العلمية شَكْل المواجَهة.
كثيرات من النِّسوة عَلَّقن على الحماسة التي يَنقضُّ بها الباحثون الذُّكور على الناس، بمَن فيهم من غير المُتمرِّسين والباحثين الأصغر الذين لا يُشكِّلون تهديدًا. وبينما يطرح بعض العلماء أسئلتهم من أَجْل استيضاح نُقطة ما، فإن علماء كُثرًا يطرحون أسئلتهم أو يُعيِّنون ثغرات في مُعْطَيات المُتحدِّث لكي يُبيِّنوا مَدى حِدَّة أذهانهم. ولكي يَردَّ المتحدث اعتباره، بعض المُتحدِّثين يُحاولون أن يَجعلوا طارِح السؤال يشعر بأنه يبدو كالأبْلَه، لكي يَردُّوا اعتبارهم. وفي غضون هذا، يَتُوق كثيرون من طلبة الدراسات العليا وباحِثي ما بعد الدكتوراه إلى تكوين مُنتديات في المُلتقَيات العلمية حيث يمكنهم عرض أعمالهم السائرة قُدمًا لكي يَظفروا بالتغذية الاسترجاعية؛ حيث يمكنهم عَرْض المُعْطَيات لِتتلقَّى المقترَحات، والتأويلات التي تخطر بالأذهان، والتفاعل بأسلوب خِلْوٍ من التهديد.
المُقارَبة طويلة المَدى
أصبح المنظور التكويني لصيقًا بالأُنْثَوية، بسبب يعود إلى مسئوليات الحَمل وتربية الأطفال طويلة المدى. والآن فقط نُدرِك الثَّمن المدفوع في الخفاء للمقارَبة قصيرة المدى في العلم وتَنمية التكنولوجيا، ثمن من قبيل تأمين التَّخلُّص من الكيماويات السَّامَّة والنُّفايات النووية، وإنهاك التربة، وتبديد الموارد الطبيعية. وما دُمنا نبحث عن أرباح قصيرة المدى، فنادرًا ما نأخذ في الاعتبار صحة وازدهار أجيال المستقبَل. وعلى الرغم من أن مُقارَبة الرعاية في جوهرها عملية مُتأصِّلة، فإنها تَرنو دائمًا إلى نتائج ومُحصِّلات طويلة المدى.
وبينما تعترف باكن بأهمية النَّشر والمشارَكة في نتائج عملها، فإنها تُحب المَسار ذاته أكثر ما تحب النتائج. وحين تقضي وقتًا طويلًا على مكتبها، تشعر بالحزن والاكتئاب. إنها تُفضِّل أن تكون بالأحرى في المُختبَر تمارِس العمل وتَرْقب الخلايا. وعلى الرغم من أن النتائج الإيجابية تأتي الهُوينى، فإن العمل يمنحها إشباعًا طويل المدى. ومثلما تَعشق حل ألغاز الصور المُتشَظِّية، فإنها تحب أن «تأخذ كل الشظايا وتضعها معًا، وترى بماذا تحاول أن تخبرها.»
وكشأن أية خاصية من خواصِّ الذُّكورِيَّة أو الأُنْثَوية، فإن الرعاية لها — هي الأخرى — جانِبُها المُظلِم. وتمامًا مثلما نَجِد مُقارَبة الكفاءة الذُّكورِيَّة — التطرف الأحادي الجانب في إنجاز العمل ولا يهم كيف — تُجرِّد الحياة من العذوبة، نَجِد المُقارَبة الأُنْثَوية الأحادية الجانب لها مَخاطرها. تَخنق الرعايةُ الزائدة الإبداع والابتكار كشأن إفراط الأمومة في حماية الأطفال، الإسراف فيها يَعوق سبيل العلم. وبسبب من نُدرة الرعاية في العلم، فإن أولئك الذين يَتحلَّون بها يمكن أن يُثقِل كاهِلَهم كثيرًا بحث الطلاب عن الإرشاد الأكاديمي أو مَتاعب الزملاء الذين يحتاجون إلى مَن يبادلهم الحديث، وإلى درجة تعوق إنتاجية مَن يتحلَّى بالرعاية. وإذا لم توضع حدود، يمكن أن ينتهي المَطاف بِقِلَّة من الناس وقد تَكفَّلوا بأداء وظيفة الشعور نيابة عن القسم بأسره. مثلًا، حين يأتي وقتُ احتفالات رسمية للقسم كحفل الكريسماس السنوي، يطلبون مِن باكن تنظيم الاحتفال أكثر كثيرًا من أن يَطلبوه من الأعضاء الذُّكور في هيئه التدريس.
إن العلم عملية تَعلُّم واكتشاف، ونحن مُستضعَفون حين نَتعلَّم. ومن أَجْل إطلاق حرية البحث والاستكشاف يجب أن نَتقبَّل الاستضعاف فِينا وفي الآخَرين. ومن دون التعاطف مع مَواطن الضعف فينا واحترامها، لن نصل إلى مجتمَع التَّعلُّم. الموقف الأكثر نزوعًا إلى الرعاية في العلم يسمح لنا بالكشف عن جهلنا من دون خوف. فَدعُونا نتعلَّم تقدير قيمة القُدرة على أن ندعم الآخَرين مثلما نُقدِّر قيمة التَّقدُّم، والاعتراف بأهمية الأفعال الجماعية الصغيرة مثلما نعترف بأهمية الأعمال البطولية.
فيما هو آت، سوف نستكشف معًا كيف يمكن أن تَتبدَّى رؤية جديدة للطبيعة من خلال النظرة الأُنْثَوية، وكيف أن العلم ينحسر مع المنافَسة التي تَلتهم كل شيء.
ما هي العشبة الضَّارَّة؟
إنها النبتة التي لم نستكشف مزاياها بعدُ. (المترجمة)